يقدم لنا الكاتب والناشط الحقوقي السوادني هنا كتابا مهما صدر حديثا في ألمانيا ينتقد السياسات الغربية وسياسات دولة الاستيطان الصهيوني في فلسطين، ولاقى نجاحا كبيرا لكشفه عن حقيقة اغتصاب الأمريكيين والبريطانيين للمنطقة وعما سببته تلك السياسات الجائرة من ظلم ودمار.

زراعة الريح وحصاد العاصفة

فشل السياسية الغربية في الشرق الأوسط

حامد فضل الله

صدر عن دار بيك الألمانية للنشر هذا العام 2015 كتاب حظي بالاهتمام والتعليق من قبل السياسيين والمختصين والمستشرقين الألمان عن فشل السياسة الغربية في الشرق الأوسط تحت عنوان "زراعة الريح: الآثار المترتبة علي السياسة الغربية في الشرق1"، للدكتور والكاتب السياسي ميخائيل لودرز2 الباحث في الشئون السياسية والاقتصادية. يتميز الكتاب بجرأة وشجاعة في نقد توجهات السياسة الغربية نحو الشرق الأوسط ويتناول بالتحليل آثار السياسات الغربية وما سببته من اضطرابات وحروب في افغانستان والعراق وسوريا وليبيا وبقية المنطقة العربية، كما انتقد السياسة الإسرائيلية وحروبها علي غزة. حظي الكتاب بأربع طبعات متوالية في وقت قصير مما يدل علي عظم الاهتمام به والإقبال علي قراءته وتحليله.

يضم الكتاب مدخل و ثمانية محاور.

جاء في المدخل: "عندما اخبرت صديقا في بودابست عن رغبتي  على إصدار هذا الكتاب ، فهم ذلك على طريقته وأردف :" كيف اغتصب الأمريكيون والبريطانيون الشرق الأوسط ولايزالون يمارسون ذلك بلذة". ان هذا التعليق في الجوهر ليس بعيداً عن الصواب.

ان هذا الكتاب يهدف الي اجراء جرد حساب للآثار الناجمة علي السياسة الغربية التي تدعي بفخر بأنها "مبنية على قيم" ولكنها في الشرق الأدنى والأوسط  تترك في الغالب أرضاً محروقة.

والفاعلون هم ، امريكا اولا ثم  وحليفتها الحميمة بريطانيا ومؤخراً منذ 11 سبتمبر 2001 ايضا بقية دول الاتحاد الأوروبي وليس أخراً المانيا.

الذي يريد فهم الازمات الحالية ومنها تقدم و زحف "الدولة الاِسلامية"، وأزمة السلاح النووي مع ايران و الحرب في سوريا، يجب عليه أن يدرس سياسات الغرب وممارسته  لنفوذها على المنطقة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

يشير لودرز الى ما يسيمه (الخطيئة الأولى) ويقصد قلب نظام الحكم في ايران بمساعدة اجهزة المخابرات الأمريكية والبريطانية والذي ادى في 19.أغسطس 1953 الى ابعاد رئيس الوزراء محمد مصدق الذي جاء الى الحكم عبر انتخابات ديمقراطية. ثم عودة الشاه للسلطة من جديد ليقوم بتنفيذ السياسة الغربية في المنطقة ورعاية مصالحها على حساب مصلحة شعبه ومصلحة المنطقة. ويرى مثل غالبية المؤرخين بأن الثورة الاِسلامية 1979 واستلام الخميني للسلطة ما  هي الا الرد المتأخر على انقلاب 1953.

يكتب لودرز بتفصيل عن الحرب الافغانية ،  بدءاً  بدخول الجيش السوفيتي الى افغانستان وأهمية موقعها الجغرافي السياسي ( جيوبولتيك ) وصراع المصالح المتنافسة بين الكتلتين الشرقية والغربية بقيادة روسيا وأمريكا.

ويشير باختصار الى تاريخ المملكة العربية السعودية والفكر الوهابي السلفي الذي عده تيارا متطرفا  ومحافظا داخل الاسلام. و اتهم الكاتب السعودية بتمويل كل الاحزاب السلفية في تونس ومصر وحتى اندونيسيا منذ اندلاع الثورة العربية 2011 لمنع و تقويض التطورات الديمقراطية في المنطقة. ويذكر ايضا تحالف السعودية مع امريكا لخدمة المصالح الامريكية و الغربية والتمويل السعودي للحرب ضد السوفييت وتجنيد الافغان العرب . حتى بداية الهجوم الأمريكي على طالبان  وأسامة بن لادن في 7. أكتوبر 2001.  ويشير لودرز بنظرة ثاقبة، بأن انقلاب 1953 ومناهضة الثورة الايرانية بكل السبل من أجل انهيارها والجهاد الأفغاني كحرب بالوكالة، ظهر كنجاح نموذجي، بشر امريكا بنصر قصير وفي نفس الوقت وضع اللبنة لفواجع أخرى. انهيار دول كاملة وانتصار للإسلاميين المتشددين.

ثم يتعرض الكاتب للحرب العراقية الايرانية والعراقية الامريكية. ويقول بان صدام حسين بلا شك حاكم مستبد أثيم ومع ذلك مدين لصعوده الى الدعم الحاسم من امريكا واوروبا ودول الخليج. و عاب عليه  تجاهله للحقائق وسوء التقدير واعتقاده بان الثورة في ايران تعاني من اضطراب ظاهر، وانها ضعيفة و تصورها غنيمة سهلة ليورط نفسه وشعبه في حرب عقيمة وطويلة وكانت كارثية للبلدين.

منذ فوز جورج بوش عام 2000 وصعود المحافظين الجدد بدأ التفكير في تغيير النظام في العراق واسقاط صدام وبدا التدخل الأمريكي  بالفعل في 19. مارس 2003 . ويشرح الكاتب بتفاصيل دقيقة عن مسار الحرب والأخطاء البالغة التي ارتكبتها الإدارة الامريكية في العراق . وتحطيم المجتمع العراقي وانهيار الدولة المركزية وفساد وعجز حكومة نوري المالكي، ادي الي خلق تربة خصبة لنمو ونجاح المقاومة الشعبية السنية والشيعية والمنظمات الارهابية. ويرى ان الوضع المأسوي والمثير ليس فقط في العراق لوحده وانما في كل العالم العربي ، إما بانهيار دول بالكامل وخاضعة تحت تأثير المقاومة الاسلاموية الارهابية كما في ليبيا او سوريا او اليمن والى حد ما في لبنان أو السودان واما في حكم فردي استبدادي جامد، في مقدمتهم مصر وبلدان الخليج  ومشيرا الى الوضع المأسوي في كل من سوريا وليبيا. ويرى لودرز في تونس التي بدأت منها الانتفاضة العربية في ديسمبر 2010 مثالاً يحتذى، لأنها ذهبت الى طريق أفضل و اختارت وسائل بناءة أكثر. وثمن دور حركة النهضة كحزب إسلامي بقيادة راشد الغنوشي وخاصة في إقرار الدستور الجديد.            

والذي اعتمد في يناير/كانون الثاني 2014.هذا الدستور هو من دون شك الأكثر تقدما في العالم العربي والإسلامي. وهو على وجه التحديد مؤسس على نص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بوصفه واحدا من أركانه. ولم تذكر فيه عمداً الشريعة كمصدر قانوني أو أساس التشريع، بينما حددت نصوص الدستور الفصل بين الدولة والدين، وتعزيز حقوق المرأة. وأيضا ردا على قتل السياسيين المعارضين وضعت عقوبة جنائية تجرم التكفير الشائع بين السلفيين والجهاديين.

يتعرض لودرز الى حرب غزة 2014 وعلاقة المانيا بإسرائيل والقضية الفلسطينية. قتل في حرب 2014 - 2200 فلسطيني غالبيتهم من المدنيين منهم 500 طفل. من الجانب الإسرائيلي قتل 71 منهم 6 مدنيين فقط. وبالرغم من ان عدد الضحايا يتكلم عن نفسه، جاء حكم المستشارة الألمانية ميركل: " اسرائيل تدافع عن نفسها ضد ارهاب حماس". وهى نفس التصريحات التي اصدرتها في حروب غزة 2008 \ 2009 و 2012 وكذلك في هجوم اسرائيل على لبنان 2006 والحديث عن مافيا الارهاب والمقصود هنا حزب الله.

يتساءل لودرز:" هل مسموح اساساً بنقد اسرائيل؟ وكألماني خصوصاً؟ أو ان "نقد اسرائيل" طبعة جديدة لمعاداة السامية ، بصورة أخرى؟. يصف المؤرخ الاسرائيلي توم سيجف بحزن، "بأن الموقف الغير نقدي  إزاء السياسة الإسرائيلية، كجبن امام الصديق". أن الانحياز الدائم الى اسرائيل له عواقبه. فهو يقلل من قيمه المفاهيم مثل الديمقراطية وحقوق الانسان في الشرق، التي تعتبر مترادفات للنفاق والكيل بمكيالين. ويضعف موقف المعتدلين وسط العرب، ويقوي الحركات الاسلاموية وتدفع الى التطرف وسط المهاجرين المسلمين."

يختتم لودرز كتابه بفقرة هامة متسائلا " هل توجد دروس يمكن الاستفادة منها عبر التاريخ المستمر، من سقوط مصدق 1953 حتى حرب غزة 2014 ؟ بداية يلفت الكاتب النظر الي الهوة بين الحرية التي تبشر بها الديمقراطية الغربية وأثر الدماء الممتدة عبر الشرق، كنتيجة للتدخلات العسكرية الغربية، والاختناق الاقتصادي والتعاون الوثيق مع أسوأ الدكتاتوريين الموالين للغرب. دول انهارت، نشأت حركات جديدة بعضها ارهابية. و في الموازي يعيش العالم العربي الاسلامي تغيير جلده و ينطلق الى شواطئي جديده ، وتائهة حتى الآن وسط ضباب من العنف و الخراب. هل تلعب السياسة الغربية في هذه الفترة الانتقالية دوراً بنّاء اليوم او غداً لتحالف القوى الديمقراطية في المنطقة؟ الإجابة بالتأكيد بلا .  فأمريكا والاوروبيون يتعقبون مصلحتين اساسيتين: امدادهم بالطاقة من البترول والغاز الطبيعي وضمان طرق النقل وأمان اسرائيل ، والذي يعني مواصلة التسلط على الفلسطينيين."

يكتب لودرز:

"لنبدأ بخطوات قصيرة. لا نعتمد على السياسيين والكتاب لوحدهم، الذين تجمدوا منذ زمن في دوائرهم. لنأخذ المسؤولية بأنفسنا، وبوعى بامتيازاتنا الكثيرة. لنتعلم التواضع والقناعة والاعتزاز بثقافتنا. وعلى قدر ما ندرك، بان ملايين من البشر من الشرق الأدنى والاوسط يجاهدون فقط من اجل البقاء، فهذا يسهل علينا الوقوف بجانبهم، للتأقلم مع بيئتنا و خاصة اولئك الذين حضروا الينا كمهاجرين، فهم باقون بيننا. علينا تحريم معاداة السامية وكراهية الاسلام. علينا اظهار القوة امام الذين يستغلون حريتنا. وخاصة أولئك الذين يزرعون الريح ويحصدون العاصفة، وليس هم وحدهم في الشرق. وأخطر ما يستخلصه الكاتب عن مسؤولية قادة امريكا عن التدهور الكارثي في الشرق الاوسط هو مطالبته بمحاسبتهم امام المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي. يكتب ميخائيل لودرز "ان اليوم الذي يوجه  فيه الاتهام ضد المفسدين الكبار ومجرمي المكاتب أو على الأقل البعض منهم وفي مقدمتهم جورج دبليو بوش، دك شيني، توني بلير و دونالد رامسفلد، تصبح كلمة " مجتمع القيم الغربي " مليئة فعلاً بالحياة."

يقدم لنا لودرز بصورة مكثفة مسار التاريخ السياسي الحديث للشرق الأوسط، سارداً ومحللا بلغة واضحة وبشجاعة نادرة، بعيدا عن الدبلوماسية التي نجدها احياناً عند بعض الكتاب الغربيين عندما يتعرضون الى مشاكل العالم العربي والاسلامي. فهو يقف بوضوح مع القضايا العادلة في منطقة الشرق الأوسط خاصة عن الفلسطينيين وعدالة قضيتهم ولا يخشى ان يتكلم "عن ارهاب الدولة الاسرائيلي".

لاشك ان هنالك بعض النقاط التي تحتاج الى توضيح ومناقشة. مثل تقييم الكاتب للثورة والحرب السورية، صحيح ان المعارضة الوطنية السورية منقسمة ولكنها في نفس الوقت لم تجد الدعم الكافي، اما القول لا حل بدون الأسد بعد كل هذا الدمار والقتل، وجهة نظر يصعب قبولها، رغم الاتفاق على ان وقف الدمار ونزيف الدم والحفاظ على دولة سوريا يتطلب حلا سياسيا.  كذلك تحليله المتجزأ  للوضع السياسي في مصر وقضية الإخوان المسلمين وقصة (" الانقلاب" على "مرسي أول رئيس ينتخبه الشعب" ) لا يتسق مع تصريحات عديدة له يُحَمل فيها الفكر الوهابي المعادي للديمقراطية والتقدم مسؤولية الدمار الذي يعم المنطقة يحتاج الى مراجعة.

بعد هذا العرض الموجز استطيع أن اقول أن هذا الكتاب الذي يصدر في طبعته الرابعة خلال أشهر قليلة يبرر مضمونه ومحتواه تزايد الاهتمام السياسي والإعلامي بالقضايا التي ناقشها بالدراسة والتحليل والتي انتهي فيها الي أن الاضطراب الذي يعانيه الشرق الأوسط يعود في الأساس الي السياسيات الغربية الخاطئة في منطقة الشرق الأوسط ونتائجها الكارثية علي شعوب المنطقة. وقد نجح الكاتب في تقديم تحليل موضوعي عميق ومناقشة علمية هادفة عاكسا رؤياه وقناعاته وكان اميناً مع نفسه وقرائه فاستحق التقدير والاحترام.

 

طبيب اختصاصي وكاتب وناشط حقوقي سوداني، يقيم في برلين

 

هوامش:

1- Michael Lüders, Wer den Wind Sät. Was westliche Politik im Orient anrichtet . Verlag C. H. Beck München, 2015    

2- د. ميخائيل لودرز، درس الأدب العربي والدراسات الاسلامية والعلوم السياسية والصحافة في سوريا والمانيا، كاتب وروائي ومحلل سياسي في الشؤون السياسية والاقتصادية، يقيم في برلين.