يقدم الباحث المغربي هنا قراءته في تلك الرواية المغربية الجديدة، يتناول فيها أدوات التخييل التي جلبتها إلى عملها من حقل الشعر الذي تمرست الكاتبة به، وعلاقاتها التناصية الفنية مع النص الشهرزادي الأم، وكيفية صياغتها لعالم حلمي فيه كالأحلام الكثير من سمات الواقع، ولكنها واقعية تتعدى الواقع وتحاوره.

واقعية تتعدى الواقع

قراءة في رواية (ليالي الحرير) للكاتبة المغربية عائشة البصري

عبداللطيف الزكري

تنهض رواية (ليالي الحرير) على صنعة التخييل الذاتي، وهي صنعة تتيح للساردة أن تبث في ثنايا مروياتها الحلمية (أشياء معتادة) في حياة المبدعين، وخاصة الشعراء، تقول وهي في أوج مروياتها هاته: "يحدث أن أؤثث قصائدي، بشخصيات غريبة عن عالمي. مرة كتبت قصيدة تتحدث عن جندي عائد من الحرب برِجْلٍ خشبية. لا أذكر عنوان القصيدة بالظبط، لكن صورة شعرية تحضرني الآن: رجل يضع رجله الخشبية عند عتبة الباب، كل مساء، قبل أن يذهب إلى سريره لينام. من أين جئت بهذه الصورة؟ أبحث في ذاكرتي. لم أصادف يوما شخصا بهذه المواصفات، أو رأيت مشهدا سينمائيا يشبه ذلك. هل حلمته بنفس القوة التي أحلم بها الآن، فحققته في الشعر، كما أحقق هذا الحلم بواقعية تتعدى الواقع" (1) .

على وتيرة هذا الدفق الحكائي، المفعم بالتداعيات الحلمية، مع ما يخاصرها ويصاحبها من ذكريات أو استيهامات روحية أكثر منها نفسية، يتدرج الحكي في هذه الرواية، منسابا من حلم إلى آخر. فالحلم هو روح هذه الرواية وهو مادتها أيضا، إن الساردة تحكي بحيوية مُجَنحة لا نجدها إلا في الأحلام، أحلام يقظة أو منام سيان، وهي أحلام تنبلج من الواقع وتتعداه بالمتخيل الروائي، الذي يضفي الحياة على كل ما يلامسه، من شخوص ومشاهد وأشياء وحيوات، بهذا المعنى تكون واقعية رواية (ليالي الحرير) تتعدى الواقع المألوف لدينا، لأنها بكل بساطة تخلق واقعها الخاص، وهذا واحد من بين أسرار كثيرة، تُسِرها لنا الساردة وهي تحكي حكيها الفياض الملآن بالأسى والشجى والشجن والفرح الذاوي أو الملتهب حسب الوقائع والوضعيات والمواقف والحالات الحياتية.

رواية (ليالي الحرير) هي رواية ليالي الحلم الذي تنسجه بخيوط حريرية، تصبح في نهاية المطاف نسيجا وهاجا منمنما بمشاهد واقعية تتجاوز الواقع المعتاد، ولعل في هذا ما يُعْدي القارئ بالحلم بما هو أفضل وأجمل، لأن الحلم-في أصله-تجاوزٌ لما هو كائن، وانبثاق حيوي لما هو ممكن. والممكن في التخييل الروائي في (ليالي الحرير) لا يقف عند حد، إنه مفتوح على المحتمل، على الآتي، لذلك فهذه الرواية هي (كتاب الآتي) مثلما هي كتاب السرد الممكن، فهذا وذاك شيء واحد، والسرد الممكن كما نعرف هو لقاء حميم مع الجديد، والجديد هنا قائم على الحلم وكامن فيه، وما الأحلام إلا وقائع كامنة في الروح، وعندما تعتلج فيها، تحكيها هذه الروح الأسيانة، الملآنة بالرغبات المتوهجة، والمندهشة مما هو كائن، مطلة على ما هو ممكن، ها هي الساردة تقول مصداقا لهذا الذي نذهب إليه: "ففي اللحظة التي أنا هنا في هذا البيت، أنا هناك بعيدا، في مكان ما. ربما مستلقية على سرير أو غافية على كرسي، أبحث عن مخرج لي من هذا الحلم. سالكة حلما آخر أكثر متاهة."(2) بيد أن أحلام الساردة، آتية من الآلام التي تكتنفها، ولذلك ينبغي النظر إلى الأحلام باعتبارها ثمرة الآلام التي تعانيها الساردة، معاناة قوية ترج كيانها، فتعيش الحياة لحظة بلحظة، إلى درجة تبوح فيها بما يعتورها فتقول بصيغة البوح والتسآل:"لكن أين الإجابة عن سؤال اللحظة: ماذا أفعل في هذه العلية؟ من أين جئت؟ ثم ليس عليَ أن أنسى السؤال الأساسي هنا: ما اسمي ومن أكون؟ لست سوى كومةٍ من الأحاسيس والذكريات."(3) هكذا تتساءل الذات الحالمة عن ذاتها، تتساءل عن كينونتها، فلا تنتهي إلا إلى الأحاسيس والذكريات، وفيهما شَبَع الحالمة وما تجنيه الذات المرتجة من كينونتها المتألمة، وكأن الحلم شرفة الكينونة تطل منها، بألم على الوجود الشجي الأسيان. ولقد نجد عند غاستون باشلار ما يفسر هذه الوضعية التي تتقلب فيها الساردة، وهي تحكي عن حالها ومآلها. عن عيشها [كأنه الموت] وخيالها [الذي يخرج الحياة من الموت]، عن رغباتها واستيهاماتها، بكلمة عن كينونتها. لكن، ليست أي كينونة، بل كينونة ذات متألمة تعاني المرض= الموت السريري، ومن معاناتها تجترح أحلام حياة ممكنة، منداحة من هذه الحياة الكائنة، وكأننا بالساردة تروم القول دائما، في كل ما تحكيه: "إن الحياة هي في مكان آخر. . . وليس أبدا في المكان الذي تحيا فيه"، وهذا ما يجعل أحلامها فاعلة في خلق دينامية التخييل والتأويل معا.

فيم تفكر الرواية إذن، إنها ليست ليالي، فيما اعتدناه من الليالي-أن تكون محتشدة بالأحلام والرؤى والمنامات وحكايات السهرات، إنها ليالي مفعمة بحرير التخييل، ولذلك فهي ترينا أن الرواية تفكر، بعمق، في جوهر الحياة، فيما يجعل الحياة حياةً، إنها أبدا ليست الحياة المعتادة، المألوفة، الملأى بالضجر، بل هي حياة تستشرف الآتي والممكن، حياة مزدانة بأحلام يقظة واعية وغير واعية، أحلام من كل الصنوف والألوان، تخلق من الألم الحلمَ، ومن الحلم الحيوات الممكنة، وفي هذا كلِه ما يحقق لهذه الرواية بعدها الفانتاستيكي الحلمي، فانتاستيك من صميم بويطيقية (ليالي الحرير) ، وإدراجها في هذا الصنف من الكتابة، يقرب القارئ، بمهل، من فهم دينامية التخييل، هذا التخييل الذي تشتعل فيه الذات الساردة، فتراود الأحلام وهي راقدة [رقدة أهل الكهف] على سرير المشفى الباريسي: آلام وأحلام يتزاوجان ويتمازجان، فيتخلق منهما فكر الرواية، أعني عمقها الدلالي الثاوي في الأحلام بصنوفها. ويحول الحلمُ المشفى إلى دارة عامرة بأهلها، والساردة في كل حلم تكتشف تفاصيل الدارة وتكشف عما تشف عنه الحياة هنالك، يتم هذا بشكل بطئٍ، يجعل المسميات تنهمر على الأشياء فتخلق منها رؤىً نافذةً عميقةًتستبطن الأغوار وظواهر الوجود في كليته الحياتية. إن هذه المخلوقة (الساردة) تغذينا من ماهيتها الخاصة، و"تسم بطابعها الذي لا يمحى صورا متنوعة شديدة البعد، وخارجية للغاية، وأن هذه الصور لايمكن أن تكون محللة بشكل صحيح من خلال الموضوعات المعتادة للخيال الصوري."(4) بل من خلال الموضوعات الفانتاستيكية التي تجعل المألوف عجيبا، والعجيب معتادا، في اندفاق حكائي تدعمه الذات الساردة في رؤيتها إلى ذاتها، وإلى ما يحوط بها من أشياء وناس ووقائع وأحداث وأمكنة متفردة فرادة الخيال الذي ينتجها، الخيال الروائي المفعم بالفكر العميق. يتجلى هذا الفكر الروائي العميق، في خلق مكان داخل المكان المُؤثث للعملية السردية، فالساردة توجد [ميتة] على سرير بمشفى باريسي، لكنها تتحدث عن وجودها في دارة بمواصفات مغربية. كما يتجلى الفكر الروائي العميق في خلق شخوص فانتاستيكية، منها بالأخص شخصية (خوان رودريغو أُميا) الموزع أو المنفصم إلى أربع شخوص لها صفات فيزيونومية متشابهة، لكن كل واحدة منها تؤدي دورا في مسرح الأحداث، وهي شخوص منسابة من مراتع الأحلام التي تخصب به الساردة حكيها، هذا الحكي الشبيه تِقَنِياً، بأصل العمل الفني لألف ليلة وليلة-الكتابُ الأسطورةُ في السرديات الكونية الإنسانية. وهنا يلزمنا أن نتحدث عن التناص الجمالي بين رواية (ليالي الحرير) و(ألف ليلة وليلة) . ونعني بالتناص الجمالي، تمَثُلَ الروائية عائشة البصري للبذخ الفني لكتاب ألف ليلة وليلة وصب آلياته في مرويات روايتها هاته، وآليات ألف ليلة وليلة وتقنياتها الجمالية تقوم على مبدأ هام هو مبدأ التمازج والتداخل الحكائي في مستوياته المختلفة أحداثا وشخوصا وأزمنة وأمكنة، هذه التقنية الفنية الجمالية، بثتْ في رواية (ليالي الحرير) روحا شفيفة من جمالية (ألف ليلة وليلة) ، لكن ذلك تم ببراعة التورية والتمويه الفنيين، وهنا ينبغي الاعتراف بتمكن الروائية عائشة البصري من الصنعة الروائية-منذ روايتها الأولى هاته، وهي المعروفة مغربيا وعربيا وعالميا بدواوينها الشعرية فقط-هذه الصنعة الظاهرة في حذق المحكيات الحلمية، وفي مرويات الشخوص بطريقة فانتاستيكية. ألا ينبغي أن نقول بعد هذا كله، مع ساردة (ليالي الحرير) بأننا إزاء واقعية تتعدى الواقع وتتخطاه إلى حياة أخرى هي دائما في مكان آخر.

في واحدة من التماعات البوح، تقول الساردة الحالمة، رداً على أمر أبيها بعدم فتح رسالة لآخر غيرها:-"لكن، أبي، إنها مسألة هوية، أنا الآن، لا أتجسس على أحد بل أبحث عني. " (5) ، إنه بوح حميم، فيه من أصالة السردية والجمالية، ما يكشف عن حقيقة التخييل الروائي في (ليالي الحرير) ، إنه حقيقة الهوية بما هي كينونة تدأب بإصرار السرد على الحفاظ على كينونتها رغم تمزقها الأليم ما بين واقع الألم الناجم عن الموت السريري (هو بصيغة أخرى موت خرجت منه حياة هذه الرواية) ، وما يتعدى هذا الواقع في أحلام تعانيها الذات الساردة. وإذا كانت شهرزاد-في ألف ليلة وليلة-تحكي لتحافظ على وجودها، أي كينونتها، فإن ساردة (ليالي الحرير) تحلم لتحافظ على هذه الكينونة أيضا، ولتتجاوز الواقع الأليم-بسبب المرض[الموت السريري]والحلم المهيمن المشبع بالرؤى والإشراقات، يتجاوز الواقع وما يتعدى الواقع. ويتأصل عالم رواية (ليالي الحرير) تأصيلا يجعل من هذا العمل الفني كتابا للهوية المفتونة بذاتها، افتتان الكائن بديمومة حياته إزاء الموت المُهدِدِ. إنها محبة حياة هي"في مكان آخر". هذا ما تهجس به رواية (ليالي الحريري) في عمقها الرؤيوي والجمالي، وتلك ميزتها الكبرى لأنها جاورت بين حيوات مألوفة وأخرى عجيبة جوارا مندغما متناغما التناغمَ الكلي، مما حقق للرواية هارمونيتها وإيقاعها السرديين المُشَوِقَين. إنها رواية واقع يتعدى ذاته، بأحلام تبث التوتر الدرامي في السرد، والذي ينتج عنه انتساج الحبكة الروائية مع الحركات الغنائية للروح، ومع تموجات أحلام الساردة وهواجسها واستيهاماتها وانتفاضة وجدانها. إنها رواية الحياة، بمَثَلِها الأعلى الآسر الملح عندما يولد خاصة من ارتياد الأمكنة الحلمية الهائلة بأشواقها الطائرة، وعلاقات مخلوقاتها العادية والخارقة في آن، إنها أغنية الحلم التي تتغناها البطلة (الميتة) الحالمة لتشفى! ولتحقق هويتها الهاربة كضوء النهار عند الغسق، إنها رواية الإيحاءات الشافية من هلوسات الضياع والفقدان: رواية آسرة بأحلامها المتآصرة، رواية حاضر في مرايا متاهات الضياع والفقدان والحلم، ومن هنا سعي الذات إلى استرداد هويتها وكينونتها، رغم محن الموت السريري الذي تعانيه وتكابده.

(ليالي الحرير) رواية الآتي المفعم بالحاضر الشجي، رواية الممكن الذي يجعل الذات تتوحد بذاتها بعد بحث مضن عن هويتها. إن أعظم شرف للروائية (عائشة البصري) -هو أنها أنجزت صنيعا روائيا اعتزمت ساردتها القيام به، عندما قالت للمسرود له:"تكون العودة من الحلم دائما أصعب من سابقتها. إحساس بأنني على حدود كل الأشياء. . . على حدود حياة، في المابين، حيث يصعب التمييز والاختيار. وأنه كلما ابتعدت ستكون الصورة أصعب. ففي قرارة نفسي أريد العودة لعالم لا أذكره."(6) هذا العالم الذي لا تذكره الساردة، ترتاده رغما عنها، باحثة فيه عن حياة واحدة اقتسمتها أربع شخوص روائية، تتماهى معها الساردة جميعها في حيواتها الأربع وكأنها بذلك تلملم حياتها المنفلتة منها بفعل معاناتها كطبيبة للأمراض النفسية- العقلية، وكمريضة (مرض الموت السريري) طريحة الفراش في مشفى باريسي، أو وهي سائحة في مدريد، إنها في كل الأمكنة [تعيش] (حياتين) :واحدة واقعية، وأخرى تتعدى الواقع، ولعلها أكثر واقعية من الواقع ذاته المألوف المعروف. وقد عملت تقنية الطباعة على إبراز هاتين الحياتين المتوازيتين، فكانت الكتابة بالأحرف العادية مواكِبَةً للحياة العادية، أما الكتابة بالأحرف السوداء المضغوطة فهي تواكب الحياة النفسية المأزومة المضغوطة، عالم الحلم المشرَعِ على حيوات سابقة، تستعاد وتعاش في تلك الاستعادة، إنها حياة الزمن المستعاد بلغة الروائي الفرنسي بروست. هناك إذن في هذه الرواية زمنان، يتم البحث عنهما (زمن ضائع) يتم البحث عنه بأحلام تقارب الكوابيس الطازجة، وزمن مستعاد أو موجود، زمن تم العثور عليه بعد ضياع (temps retrouve) . ما بين الزمنين تعيش الساردة في المابين، وعبر ذلك كله تبوح بما يعتلج في دواخلها، لتجعل حياة الداخل، معادلة بنوع ما من المعادلات لحياة الخارج، والرواية في حكيها وسردها تُناوِب المحكي ما بين الخارج مرة وما بين الداخل مرة أخرى، فهل نحن إزاء حقيقة روائية هي حقيقة الحياة ذاتها، الحياة التي يتلازم فيها الداخلي مع الخارجي، ليشكلا معاً هوية الحياة. إذا كان هذا ما تقوله الرواية، فهو يكفيها، عمقا، للكشف عن رؤية للعالم باذخة بمسروداتها ومحكياتها المتقاطعة، المتداخلة والمتواشجة بوشائج فكرية جمالية، تحقق للرواية تماسكها الفني-الجمالي، وذاك هو مبتغى أي روائي فنان.

 

الهوامش:

 (1) عائشة البصري:ليالي الحرير. القاهرة. مكتبة الدار العربية للكتاب. الطبعة الثانية. أغسطس. 2013. ص54.

 (2) نفسه. ص54.

 (3) نفسه. ص55.

 (4) غاستون باشلار:الماء والأحلام. الترجمة العربية عن دار المنظمة العربية للترجمة. ص ص 173. 174.

 (5) عائشة البصري. المصدر السابق. ص60.

 (6) نفسه. ص ص 101. 102.