تستبين الناقدة أهمية ديوان الشاعرة دلياس من خلال معالجته الدالة لمعنى الجرح العميق في الإنسانية، وترى أن القارئ يتماهى مع فعل القراءة إلى الحد الذي يجد نفسه في كل قصيدة، ويعود ذلك لشعرية معالجة تيمات قصائد مثل: الحرية، الحلم، الأسر والحصار، الطفولة والحرمان، السلام.

التيمات الموضوعاتية في ديوان كريمة دلياس

عائشة سجـيد

يعتبر ديوان الشاعرة كريمة دلياس من أهم الدواوين وأفضلها، ولعل من أهم ما يجعله كذلك؛ كونه يعالج الجرح العميق في أعماق الإنسانية، فمستحيل أن يقرأه قارئ دون أن يجد نفسه في صفحة من صفحاته أو في قصيدة من قصائده بل في الديوان كله مادام الجرح واحدا والإنسانية جسدا واحدا. وهذه عبارة عن قراءة بسيطة في التيمات المهيمنة على ديوان الشاعرة أضعها بين أيديكم لا أدعي فيها أني استنطقت ما يجب استنطاقه لأن الشعر بحر لا يبلغ عمقه لكنه يبقى نزهة بين دروبه واستراحة من حين لآخر في فيئه. وأول تيمة هي:

الحرية:
في الديوان تيمة كبرى تبسط جناحيها على طول قصائد الديوان وعددها.. إنها تيمة "البحث عن الحرية والثورة على الظلم" إذ تتراوح بين قهر الحرية وانتصارها، فتارة تلتحف الحرية لحاف الجراح والعجز والعذاب، كما نجد في قصيدة أنا الإنسان مثلا:
أنا الحرية
أنا الطائر الجريح
أتعثر في مهب الريح
أشلائي بين قتيل وطريح
أشتاتي بين معطوب وقريح

وهنا تقر الحرية بجراحها وتناثر أشلائها وتشتت كيانها، بل تسقط مستسلمة في قبضة الظلم متعرية من كل أوراقها لترسم لها مصيرا يجرها إليه، وهذا ما نجده في قصيدة أنا:
تعرت الحرية
وتجردت
من كل الأوراق
وغدت أغصانا
باردة من الأعماق
تجرا أشباح القبور
إلى الانزلاق
تاركة آثار حوافر
خلف الانسياق

هنا تتعرى الحرية وتستسلم لأشباح القبور .. للمنية.. للرحيل، فالظلم والحصار وما جاورهما يأبى إلا أن ينثر ريش الحرية ويمزق هناءها:
الحرية
كانت الحرية ترفرف هنا
باهية النقاء
طلقات رصاص تمزق
أجواء السماء
ظلام دامس يطبق
على كل نداء
تناثر ريش الحمامة البيضاء
يا حسرة على من نزع أوردة الوفاء

"ياحسرة على من نزع أوردة الوفاء"... وتتحسر الشاعرة لما حل بالحرية التي كانت ترفرف متشبتة بالحياة، تبعث النور في كل مكان قبل أن يتهاطل الرصاص ويخيم الظلام في كل الأرجاء، وفي مقطع آخر تخنق الحرية في ثوب ملطخ الدماء:
"الحرية لم تعد تناظر بفروعها
رحاب الفضاء
اختنقت في ثوب مرقع
ملطخ بالدماء"

إنها روح الشهيد التي تزف كل يوم على بساط تزينه شقائق النعمان. وفي أسطر أخرى تبحث الحرية عن الحياة لكن المصير يسرقها من مهد الحلم لبراثن المأساة حيث تجرع الاحتضار والموت البطيء:
"بذور الحرية
تبحث عن معالم الحياة
بذور الحرية
تتخبط في جب المأساة
بذور الحرية بلا شمس
تناجي الأناة
بذور الحرية بلا ماء
تحتضر ساعة الغداة

هذا وتموت الحرية في قصيدة "أنا بوغريب" حيث تقول الشاعرة:
"ولدت الحرية
من رحم الحياة
وماتت بعقم الطغاة
ولدت الحرية
بأجنة الحور
وماتت بقبو الجور"

وفي قصيدة "أنا ابن الحصار" تقول الشاعرة:
"الحرية
حرية مصلوبة على أعمدة النيران
تأكل الغربان على رأسها المهشم
بين الأشلاء والدمار"

لكن الحرية أقوى من هذا وذاك، فهي التي رفض إلا العزة والإباء، إنها تأبى إلا البقاء على وجه الحياة كريمة مهما كان الثمن:
"حرية تتحرك
في قنينة زجاج منسية
(...)
الحمامة جالسة القرفصاء
بانتظار عملية قيصرية"

وإنما يدل ذلك على إصرار الحرية على البقاء لتصرخ في وجه العدو وتقول بعدا لكل منعرج يبخسها الكرامة والشرف، فنصادفها ثائرة في قصيدة "الإنسان المرهب" قائلة:
"الحرية
لا تقبل القرابين
لا تقبل القرابين
لا تقبل القرابين"

ويدل هذا التكرار على الإصرار والعزيمة التي تزينها الأنفة والعزة، إذ تقول الشاعرة في قصيدة أنا الطفل:
"الحرية ليست ثوبا
مرقعا بحسب الأهواء
الحرية أزكى وأرقى
من كل إغواء"

وفي مقطع آخر:
"الحرية ليست حشوا
معبأ بالأحشاء
الحرية أرض
وسماء وماء"

لتجمع في جوهرها كل معاني الحياة وكأنها تقول "أنا الحياة". هكذا لتضع الشاعرة آخر سطر في قصائد ديوانها "وظلت مبتسمة في الظلام"، لترسم الخلاص رغم أنف القهر وتنحت الابتسامة الخالدة في دياجير الظلم والعدوان.

الحلم:
وبما أن الحرية هي تلك الحمامة الأسيرة المشتاقة لمعانقة السماء؛ فإن الحلم يبقى خيوطا ذهبية تنشق من صلب الأفق الرحب تتخلل شباك الأسر لتنسج الحلم النابض بين زواياه. وبهذا نجده حاضرا منذ أول قصيدة في الديوان "حوار الإنسان والحرية":
"أنا الإنسان
أحمل معاني البشر
أحلم بعيش كريم وقر
أرسم لوحات فائحة العنبر..."

لقد صار الحق في زمن الحرمان مجرد حلم صعب المنال، فالعيش الكريم ما عاد حقا متاحا للجميع بل حلم بحاجة لأخذ ورد وصبر كبير وطول عزيمة. والحلم أيضا ما عاد ذلك الومض الذي يخطف الأمل بسناه من كثر ما استعمره الظلام فأخمد نجمه، وتقول الشاعرة في قصيدة "أنا":
"تائه يتفقد شرود الظلام
في مقلة الأحلام"
ليغرس الظلام جذوره في مقلة الحلم ويسافر في عوالمها غير آبه لقلب أنهكه الدجى وزاده التعطش للمنى ظمأ، ومع ذلك يصر الألم على اغتصاب هذا الحلم رغم رغم الجرح الذي ينخره، وتعبر الشاعرة عن ذلك في قصيدة "أنا لاجئ" بقولها:
"أحلامنا مغتصبة صودرت
مع أشلاء الخطايا"

الأسر والحصار:
تصور الشاعرة في معظم قصائدها تفاصيل من لحظات مؤثرة تعبر عن الحصار والحرب والأسر وما تحمله هذه العناصر من معاني المرارة والألم والخوف والجزع:
"هزتنا انفجارات
تقشعر منها الأبدان
تناثرت الأشلاء المفحمة
في كل مكان
(...)
فقدت أغلى ناسي
في ليلة سوداء
مليئة بالأحزان"

ليضم الجرح الحرمان فينسجان أسطورة تنضح بالآهات. وتتساءل الشاعرة على لسان المحاصر:
"إلى متى
يحاصرنا الدمار والطوفان؟
إلى متى تبقى مدارسنا
ثكنات وغيران فئران"

ويحاصر الإنسان كبيره وصغيره.. يحاصر الطفل الصغير وتسلب مدرسته ليظل العزاء دفترا ملطخا بالدماء ولون الواقع المر،و لأن مما يشد انتباه القارئ تكرار مقطع يعري واقع الإنسانية .. هذا العالم الكئيب بالحصار والأسر والحرمان:
"أنا الإنسان
أمكث خلف القضبان
أخشاب بين المطرقة والسندان
ضاع الإنسان
ضاع الإنسان في براثن القهر والحرمان"

الحصار والحرب والضياع وما لف لفها تجمعها قصيدة "أنا ابن الحصار" التي تصرح بالجرح النازف وتصف واقع الحصار بدهاليزه المظلمة، وما تعصف به من رعب وخوف، وتقول القصيدة واصفة الموت الذي يصر على التهام الأجساد المحاصرة:
"أقنعة الموت ترصد أنفاسي
تلتهم بقايا جسدي المحروق
كإسفنجة تلعق الدم الأسود
المتخثر بأنابيب الزؤام
تذكرة الموت تتبعني كظلي"

الحصار موت، الحصار انتحار، الحصار دمار وخراب، الحصار إصرار على وضع نهاية مأساوية لروح تساور الاستسلام بذرات أمل تلوثها الحقيقة المرة. الحصار عنوان، والسجن عنوان.. "أنا السجين" قصيدة محبوكة من خيوط الألم من ألوان الأسر والقهر. وبلسان الأسير تقول كريمة دلياس:
"أنا السجين
سلطان القهر يزمجرني بعقلية همجية
قتل وقهر يندى له جبين البشرية
أسير أنا
أسير أنا"
لتقول بعد ذلك: "أنا الإنسان" فتتدارك "عفوا بقايا إنسان" فأي إنسان هذا الذي يغمض جفنيه على القهر وعلى وجهه المتهجم يفتحها؟!

السلام:
وفي مقابل الحرب وتفاصيله نجد "السلام"؛ أنشودة المظلومين والمنكوبين ومن ينهش الحصار والحرب أجساد أحلامهم، وقد وردت قصيدة في الديوان باسم "السلام" وكأنه قطرات مطر شافية من الظمأ، أو أنشودة تنادي الحياة وترقب جود السماء عساها تسقي القلوب الكليمة جرعة من السلم والارتياح، لكنها تأبى إلا أن تجود بما ألفته من قنابل تزيد الأحداق الراهبة ألما، والظمأ تجدرا والشفاه شحوبا:
"السلام أصبح أنشودة
على الشفاه الشاحبة
تحجرت الدموع
في الأحداق الراهبة
أفواه مفتوحة
في اتجاه السماء قاطبة
عطاشى تنتظر بوجل
قطرة ماء تائبة
فلم تمطر عليهم
إلا وابل قنابل صائبة"

الغربة والتهميش
ما أقسى الغربة!.. هكذا تقولها الشاعرة:
"ما أقسى الغربة
في عيون الأبرياء"
فالمقلة مرآة تعكس الباطن بلواعجه وآهاته، فإذا لاح في مقلة الحلم سواد الظلم ترجمة لحاله؛ لاح في أعين الغريب ما يكتم أنفاس الألفة والأنس، إنه الاغتراب الذي يسكن الأبرياء وينوح في أعينهم لأجل غير مسمى.

"أنا بوغريب" قصيدة أخرى يعري عنوانها جوهر الألم وحقيقته منذ الوهلة الأولى، ففي هذا المكان كل شيء يفقد معناه؛ لا كرامة ولا إنسانية، لا عدل ولا مساواة، لتصبح العنصرية وجها من أوجه الاغتراب والتهميش الذي يتعرض له الإنسان على أرض البساط المنكوب أو خلف القضبان.

وتلح الشاعرة على ما تحمله كلمة الاغتراب والغربة من معاني فتكررها:
"غريب أنا
غريب أنا
في مطاحن العنصرية
تلحفني سياط الرهبة
تصلبني بقيود لافحة
وسط طقوس المجون البربرية"

إن الاغتراب ألوان والعنصرية لون من ألوانه فنكران الآخر تهميش وحرمان ما بحسه بالاغتراب والانطواء. وهذا مظهر آخر من مظاهر الاغتراب.. "أنا الآخر".. الآخر الذي يسير عكس التيار، تتلاعب به رياح الجبروت، فكما أن الريشة لا وزن لها، تأخذها الرياح حيث شاءت؛ فإن الآخر أيضا يحضر بهذه الصورة كالقش الذي تعصف به كل ريح.

وفي قصيدة "ابن الهامش" تقول الشاعرة:
"أنا ابن الهامش
أجنحة منكسرة على أرصفة الأمنيات
البؤس تربى على كفوف يدي
ما أقسى غربة الأوطان في وطني"

وكل الصفات التي نسبتها له الشاعرة تعبر عن حالته، فهو المنكسر الذي خابت آماله فلم يلفي غير البؤس قرينا له وهو يتربص في دياجر الغربة في حضن الوطن. وتبقى العيون شرفة كل آه:
"آه ويا آه
نزيفي لا يتعدى صورة
على شاشة غائمة
ما أقسى الغربة
في الأحداق السائمة"

لقد بخس ثمن الإنسانية والعاطفة والإحساس حتى صار دم الآخر عبثا لا يحرك الساكن، فيمر محض صورة على شاشة تلفاز أو صفحة جريدة دون أن تئن لها القلوب.

الطفولة والحرمان:
لا يسلم من وطأة القهر الطفل الصغير:
"أنا الطفل الصغير المتعثر
يلعب في بركة ماء مكدر
ممزوج بنفط أسود ودم أحمر

ولربما هي صورة كفيلة بإدماء أفئدتنا حين يحرم الطفل من حضن الأبوين ومن اللعب كباقي الأطفال فيصير اللعب ألما في حد ذاته.حين يلعب الطفل في بركة كدر الدم لونها يكشف الستار عن بشاعة الجرائم المرتكبة في أمر الانسان عامة والطفل خاصة. وفي قصيدة "أنا" يحضر الطفل مشردا مختفي المعالم يكسوه الغبار، حيث تصف لنا هذه القصيدة الطفل المشرد بصفات تنحث الصورة بخناجر من ألم معنونة بالطفولة البائسة التي لا تعرف معنى الحق بل تراه حلما لتصبح الهوية أيضا شيئا مجهولا، فمن تكون الأنا؟ هكذا تتساءل الشاعرة ليكون الجواب: "ذلك بقايا طفل مشرد" لتأتي سلسلة من الأوصاف الكئيبة التي تشي بما لا يمكن أن يصفه قلمي، فهو مختفي المعالم، هائم، صريع بين الحطام، عار، يكسوه الغبار، حافي القدمين، تراكمت عليه طبقات من الوحل، يلتقط فتاة الخبز المعفن، تائه، ينام في الشارع... فأين الطفولة؟

عندما يصير الحلم مظلما يبقى السؤال معلقا، وهنا يأتي قول الشاعرة "كأنه يتفقد شرود الظلام/ في مقلة الأحلام". وليس "الدرة" إلا مثال لطفل خانته الأحلام وهو يحتمي بأبيه، ليخطفه الرصاص من سواد قلب أبيه.

"أنا الدرة" تقولها الشاعرة وهي تتحدث باسم هذا الطفل الذي اقتنصته أيادي الغدر وانتشلته من أبيه فسقط طريحا مودعا حقه في الحلم بالغد الأفضل.

ولا يشفي هذا القدر غليل الشاعرة، فالطفولة عنوان لكل الأحلام، وتقول الشاعرة في إحدى قصائدها "أنا الطفل". إذا كانت القصائد التي قبلها قد صورت لنا الطفل اليتيم، الطفل المتشرد، الطفل الشهيد، فهذه جاءت لتصور الطفل المعطوب الذي فقد أطرافه في إحدى الغارات. وتقول الشاعرة على لسانه:
"كنت أصيح وأركض
في كل الحارات
فقدت أطرافي
في إحدى الغارات
فقدت ولم أكمل بعد
زهرة الطفولات"

وفي نفس القصيدة يحضر الطفل المغترب في وطنه، يتيم الأهل، المحروم من الأحضان واللعب.. المحروم من كل شيء؛ لتجمع شتات الأحزان في آه عميق عمق المدى.
الألم

عندما تحضر قصيدة كاملة بعنوان "آه ويا آه" .. فهنا نهد الألم، وهنا الجرح بعمقه والوجع بعلقمه، إنه لجرح غائر سببته الغربة بقساوتها والكون ببرودته ولا مبالاته، بحيث تقول الشاعرة:
"آه ويا آه

من خفقات قلبي الجاثمة
ما أقسى الغربة في العيون القاتمة"

ولا تعدم أية قصيدة من قصائد الديوان هذه التيمة حيث تظهر منذ أول كلمة فيه وهي العنوان إلى آخر حرف سطر في ثناياه يصر على احتلال كل الكلمات، يلف الحلم المنكسر والطفولة المسلوبة وكل ما يخطر على البال مما راح مع بقايا إنسان محاصر، سجين، مغترب، لاجئ ومهمش.