لقصة العراقي الناجي من ميتات عديدة، جعلته يهرب طوال حياته ليجد نفسه يقصها لمنصت غريب في وطنٍ غريب، بينما في الثانية يتناول شخصية عراقي أخر في منفاه ملّ من أبناء جلدته وقصصهم المكررة عن الموت والخراب، ليدخل تجربة ويحاور قضية جوهرية إلا وهي الموت وطقوسه.

حكاية الرجل الذي قصّ عليّ حكاية يعتقد أنها تهمني

عبدالهادي سعـدون

زرت مرة بيت صديقين، كنت قد تعرّفت عليهما في تجمع تكريمي لا أذكر الآن حول أي شيء لطالما مناسبات التكريم شبيهة الواحدة بالأخرى. أحياناً أشك بأنني تعرفت عليهما في مناسبة تكريمية، ولكن يجب أن ترضى بما أقصّه عليك، لأنني لا أجد مخرجاً محكماً آخر غيره. في تلك المناسبة، ما أن عرفوا أنني عراقي حتى ألحوا علي بزيارتهم نهاية الأسبوع وأخبرني الزوج وزوجته (لم أسألهما عن اسميهما، أو أكون قد سألت ونسيت، طالما أن ذاكرتي تحتفظ بالهيئة أكثر من الأسماء؛ ألم يقل أحدهم أن الأسماء غباء، شبيه بغسل الأحجار المبتلة في الماء). لم أكن بالمرة مولعاً بتلبية الدعوات أو من هواتها، ولكنني لسبب أو آخر بقي في بالي نهاية جملة الدعوة وهما يكرران: "سترى كم هو مميز. نبيذ طاجكستان!".

التفكير الآن بعلاقتهما بطاجكستان، لا يمنحني أي تخمين معين (ثم من أين لي معرفة أين تقع طاجكستان؟)، ولكن كلمة نبيذ السحرية علقت برأسي مثل تعلق خيط بالبكرة، فقررت تتبعه.

ما أن وصلت بيتهما (شاليه، فيلا، قصر أو بيت ضخم أكثر قرباً له من كلمة بيت) حتى دخلت دون طرق الباب، لأنني وجدته مشرعاً. لم يستقبلني أحد، فقد كان هناك حشد هائل من الناس، تجمعات صاخبة، يتحدثون بينهم، يتصارخون أو يشربون من كؤوسهم فحسب على خلفية موسيقى تضارب طبول، ظننتها أفريقية. فكرت بالاقتراب من طاولة المشروبات لعلي أجدهما، لم أعثر عليهما. تناولت كأس نبيذ وانتحيت جانباً أقصى الصالة، جلست في أريكة مريحة وشرعت بالتمتع بتذوق النبيذ. قبل أن أصل لمعرفة الطعم الغريب وتمييز نوعيته وكيفية صناعته، مفكراً باحتمالات متعددة ـ لطالما أصبحتُ خبيراً فيه منذ مدة طويلة ـ حتى سمعت صوتاً أجشاً يصدر عن رجل جلس بالطرف الآخر للأريكة وهو يعلق:

- أنت جئت من أجل النبيذ كالآخرين؟

نظرت باتجاهه ولم أحر جواباً، فالمسألة أنه تدخل في اللحظة التي بدأت فيها بمداورة النبيذ في فمي لتحسس تلك الرائحة المغرية للشراب.

- لا تقلق، أغلبنا جاء للسبب نفسه. قال الرجل الأشيب دون أن ينتظر إجابتي.

لكنته بدت لي من جنوب أسبانيا، ولكنه دون شك أسباني وليس أجنبياً مثلي ومثل آخرين حضروا حفل النبيذ هذا. مددت يدي ليده الممدودة وهو يقدم نفسه، قلت له أسمي المزيف، من أسماء عديدة مزيفة أستخدمها بمناسبة وغيرها.

- اذن أنت من طاجكستان.. أسماؤكم تعجبني ففيها رنة غريبة نفتقدها نحن الأسبان.

سألني بعدها عن النبيذ وكيفية عمله في بلدي (المخترع من قبله)، فشرحت له بزيف لا مثيل له عن طرق تحضيره في طاجكستان، وأحلته لتذوق النبيذ في تلك اللحظة لتمييز ثلاثة أصناف من الفاكهة المختلطة في برميل المنشأ، والطعم المر في نهاية التذوق أثناء اندلاقه في البلعوم، يعود لبراميل الحفظ المصنوعة من خشب الأرز المشبع بالدم، دم أضاحي حيوانية ممزوجاً ببضع قطرات بشرية، التي غالباً ما تعود لفتيات عذراوات.

رأيته يبتسم بدهشة ويجلس بقربي حتى يكاد يمسني بأكتافه، يغمض عينيه ويتمضمض بفمه، غرق بعدها في غيبوبة تامة لا تفرقه عن ميت سوى تعابير ارتياح علت وجه، كأنه بها أكتشف سر الأبدية.

للحظات نسيته واقتربت من الطاولة لملء كأسي مجدداً. ما أن عدت حتى رأيته مسترخياً بانتظاري.

- سر نبيذك لا مجال لاكتشافه دون تفسير.. أريد أن أشكرك لكشفك السر. قال بجدية تامة.

- النبيذ سر بحد ذاته، وما قلته يعرفه الجميع. كذبت

- لا.. لا تقلل من قيمة معلوماتك.. ولكن..

صمت ولم يكمل جملته. لم أعرف كيف أرد عليه.. فشربت كأسي الثانية.

- .. ولكن دعني أقول لك.. ما أريد أن أقصه عليك ليس بأهمية سر النبيذ، ولكنني لا أعرف غيرها.. سأهديك هذه الحكاية.

في مرات عديدة أكتشف أن كل الذين تعرفوا عليّ للمرة الأولى أرادوا قصّ حكايتهم، ولم أعرف سبب ذلك. فكرت بأنني ربما أكون أذناً سميعة بامتياز، ولكنني توصلت في النهاية أن لي وجه شخص انعزالي مفضوح، فيظن الآخرون باستحقاقي لحكاية تنتشلني من وحدتي. مشاركة غير مباشرة تطيل رمق حياتي الخاوية. في كل مرة ـ أيضاًـ رفضت عروض الحكواتية، ولكن رفضي لم يجد نفعاً. في الواقع لم ينتظر أحدهم رأيي أو رغبتي بسماعه، فما أن ينطقوا بجملتهم، حتى يكونوا قد بدأوا السرد.. ومنهم بالطبع مشاركي بالنبيذ والأريكة المريحة.

(استمع إذاً..) قالها ومرر لسانه على شفته العليا.. ثم حكى:

 - .. في الواقع لست أسبانياً، لكن الجميع يظن ذلك، وفي كل مرة أعتقد بما يعتقدونه. جربت العديد من هذه الأسماء المنتحلة حتى صدقت أنني أسباني بالفعل، ولصقت بي الأسماء أكثر من اسمي أو هويتي الحقيقية. أنا من جنسية أخرى (لا أجدك متحمساً لسؤالي عنها، فلننسها) وصلت وعائلتي عندما كنت ما أزال صغيراً، ولكنني لليوم أرفض أن أقول جنسيتي وأسمي الحقيقي. تنتابني الرغبة في بعض المناسبات بأن أسر جلسائي بذلك، وما أن أتخلص من الثقل حتى أخرج خاوياً، فقيراً لسبب ما، فأقع فريسة العزلة والأيام الطويلة بلا معين.. ما أن تعافيت للمرة الأخيرة من كشف سري حتى قررت المضي بلعبة انتحالي المعتادة.

كان قد مر عليّ وقت طويل يتلبسني أسمي وجنسيتي المنتحلة، ففكرت أن الوقت حان لكشفه لأقرب صيد.

كنت أجلس في أحدى مقاهي الشوارع الصيفية في وسط مدريد وأقترب مني شخص يسألني أن كنت أسمح له بالجلوس معي على نفس الطاولة.. قبل أن أعرف مرامه، قال مشيراً بيده:

- كما ترى فالمناضد مشغولة، ووجدت أنه من الممكن أن أجالسك.. هذا أن وافقت، وأعدك ألا أزعجك إطلاقاً!

وافقت دون تحمس، فلم يكن وجهه يوحي بأنه سيكون واحداً من معارف سري، ولكنني قبلت على مضض، معتقداً أنه لا مجال لرفض طلبه. في الواقع كان رجلاً ودوداً، متكلماً من أولئك الذين تشعر بأنك تعرفهم منذ وقت طويل. لهذا السبب أو لغيره بدأنا الحديث كأصدقاء قدامى.. دعني أوضح أمراً.. ففي الحقيقة، كان متعطشاً للحديث، ولا بد أنه قد وجد ضالته بشخصي، لهذا السبب وليس لغيره، بدأ يحدثني عن روعة الشمس في الصيف ولكنها ليست الشمس ذاتها في بلده. وقبل أن أسأله من أي بلد هو، قدم نفسه بكونه هارباً من العراق أوصلته قوارب المهربين من المغرب لأسبانيا، وبقي في البلد لأنه أكتشف في الشهر الأول أن ساحة بوابة الشمس وسط مدريد تذكره بالباب الشرقي وسط بغداد، فظل مداوماً فيها ولم يفكر بالبحث عن بلد أوربي آخر. كانت المرة الأولى التي التقي بها بعراقي منذ سنين طوال، وكانت المرة الأولى التي بقيت فيها مشدوداً لكلام شخص لا أعرفه حق المعرفة. عندما طلب قهوة من النادل، استمع لنصيحتي بإضافة قطرات من عرق الشينشون المحلي لقهوته، فأعجبته الفكرة وكرمني بأن دعاني لشرب قهوة على حسابه، فهززت رأسي بالموافقة. كان يتلذذ بشرب قهوته عندما نظر لي بتركيز وقال: "لأنك علمتني هذه الوصفة السحرية لشرب القهوة، لتسمح لي أن أحكي لك حكاية لم أحكها لآخر، أنت الأول بسماعها من فمي".

تصور مسألة أن تجالس شخص لا يعرفك ولا تعرفه، ويهديك بأريحية حكاية خاصة بك، فلا بد أنني لم أجب لحظتها وبقيت منصتاً لما سيجيء به كأي واحد منا عندما يقتله الفضول. ابتسم مغمض العينين وسرد ما أحكيه لك الآن، إذ قال:

- .. كنت طوال حياتي أخشى الموت. عرفت هيئته منذ اليوم الأول لولادتي. أهرب منه قبل أن يصل حدود مكاني. أغافله وأتلاعب به كي لا يصيدني، ونجوت منه كما ترى. لم يكن لي مهنة في بلدي غير الزوغان والهروب حتى أصبحت لصيقة بي، ويعرفني الناس من خلالها. لكن كما تعرف وأنت سيد العارفين، فالموت يجيء خلفنا بأردية وهيئات مختلفة، ما أن نكتشفها حتى يكون قد فكر بغيرها. لست شجاعاً صدقني لأنتصر على الموت، بل كنت أكثر عائلتي خوفاً ومحترساً من وصوله عتبة بابي، لذا كنت أسرع منه بالاختفاء. ولادة متعسرة وخروج للعالم بوجه مزرق. في طفولتي غرقت ورأيت الموت ينشر أسماله حولي، فتصارعت مع الموج وقررت الوصول للجرف، ولو تعرف لتعجبت إذ أنني لم أسبح بحياتي لمرة، ولكنني حينها تعلمت السباحة. ضربتني سيارة مسرعة في مراهقتي، وقبل أن تشرق ابتسامة الموت الملاحق لي، فكرت ألا أنام في غيبوبة، فبقيت صاحياً متحملاً الآلام وأنا أرى قدمي مسحوقة تماماً والناس تهرع لنقلي للمستشفى. في شبابي طردوني من الجامعة ولم يتركوا لي فرصة أخرى غير أن أكون جندياً في حرب ثمان سنوات متواصلة. شاركت في كل معاركها، رأيت الموت يحصد أصدقاء لي بالألوف، يحرق مدناً بالكامل ويحيلها رماداً. كنت وقتها لا هدف لي غير مراوغة الطائرات والمدافع والرشاشات وهي تحاول تمزيق جسدي، فكنت أتقيها بخفة مهرولاً بينها، متفادياً رصاصها المنهمر، الذي أكل من جسدي أشلاء متفرقة، دون أن ينال مني كلياً.. لم أكن ساحراً، ولكنني فهمت أن مهمتي في الحياة، لم تكن مثل الآخرين، كان لي مهمة واحدة هي البقاء على قيد الحياة. قررت المواصلة ومباغتة الموت بالهرب، قبل أن يباغتني بشراسة عضاته. كان الانتصار الأكبر لي على الموت، فقد انتهت الحرب ولم يصرعني. تقاويت عليه وفكرت أنني لن أموت كما يرغب سارق اللذات ومفرق الجماعات، وتأكدت من جديد بأنني نجحت بمهمتي. لم تمر سوى أشهر حتى ساقوني جندياً في حرب أخرى. كنت واقفاً عند ساتر يحمينا إذا ما بقينا في الأسفل، ولكنني توصلت إلى أن الموت قد تركني حراً ولم يعد يجري ورائي. في تلك الساعة تماماً رأيته واقفاً عند الساتر المقابل، لم يتغير، الوجه نفسه متورداً والابتسامة التي رأيت آخر مرة هي نفسها، كان متأهباً للقائي وكأنه يحضر لخشبة إعدامي.. قلت بصوت عالٍ، صارخاً بوجهه:

"ولا هذه المرة سأسمح لك بأن تقتنصني"، فأعطيته ظهري، ولم أتوقف عن الجري.

هربت مرة أخرى، محترساً من كل شيء، حتى فقدت أثره. أيام طويلة بلا توقف. هربي أوصلني أرضاً لم أرها بحياتي، فعرفت أنني قد تركت البلد، ولم يعد هناك من يتعقبني. جربت المشي للأمام بلا توقف، اجتزت جبالاً، ومررت بأراض بور، وعبرت بحاراً بقوارب متهالكة، انتحلت كل شيء وزيفت كل شيء حتى أسمي وهويتي، امتهنت ما لا يمكن تصوره، وصنعت ما لم أعرف أنني أستطيع صناعته.. لا تظن أنني أمر بسرعة على الأشياء المهمة في حياتي بعد فقدي لأثر الموت من خلفي.. أنا أعرف بأهميتها أكثر من الآخرين، ولكن معاودة تذكرها لا فائدة منه هنا لطالما سردها أحدهم قبلي، منتحل مثلي ومهرها باسمه على أنها قصصه وحكاياته في كتاب أظن أن أسمه (انتحالات عائلة وبعض من حيل ووصفات أخرى) فكما ترى أنه لا يحق لي تذكرها كحياة خاصة بي طالما التصقت باسم وانتحال آخر، ليس مهماً بالضرورة أن نذكر كل شيء مر بنا، كما أن كل ما مر بي، لا بد أنه قد مر به غيري، فلماذا عليّ التفكير بأن قصص الكتاب قصصي حتى وإن كانت شبيهة تماماً بقصص حياتي التي سردتها لصاحب الكتاب وانتحلها.. المهم أنني لا أريد تكرار القصص نفسها، على الرغم من أننا نكرر القصص ذاتها من موقع لآخر.

لذا فكرت حينها، بأنني قد انتصرت.

للمرة الأولى منذ سنين أشعر برغبة أن أستريح بإغماض عيني ولو لساعة. كانت تلك ساعتي الأولى بالاسترخاء منذ ولادتي. استيقظت دون رعب، فقررت أن أعاود النوم إلى ما لانهاية.

ينام الواحد منا وهو لا يفكر متى يستيقظ، وأظنني شبيهاً بالجميع. استيقظت عندما رأيتني مستيقظاً وحسب، ولم أعد للتفكير بملاحقة الموت لي. منذ تلك اللحظة لم أعد أرى الموت. لم يعد يتبعني، ولم أشعر بخطواته ولا أحس بشراشيب ثوبه وهي تخط الأرض مقترباً بوجل وخفة كي يجثم على جسدي ولا أجد منفذاً أو فرصة لمقاومة بعد ذلك.. ها أنا أمامك بلحمي ودمي، لم أترك فرصة دون تجريب، ولم يترك الموت فرصه دون تجريب، لكنه فشل بملاحقته لي، بينما نجحت بمهمتي الوحيدة في الحياة: الهرب والنجاة... يمكنك أن تعتبرني الوحيد الذي لم يهزمه الموت...الآن أعيش وحسب بلا خوف من ملاحقته. انتهى كل شيء.. أنا حر!

عندما انتهى رفيق الطاولة من حكايته، لم يزل بعد مغمض العينين. لم يفتحهما لمرة أثناء حكيه وكأنه أراد أن يستذكرها كما هي بلا نقصان ولا تغيير.

اقتربت أكثر من الطاولة وهززته من كتفه. عاد لوضعه الأول ولكن بعينين هادئتين، لامعتين دون أثر لدمعة واحدة. كنت مستغرقاً بتفاصيل ما سرده لي، ولكني بدلاً من أن ينتابني الفرح والدهشة، كنت قد غرقت بحزن لم أعتده منذ زمن. طرقت على الطاولة بأصابعي وطلبت منه أن يقترب أكثر. انحنى تاركاً الكرسي للخلف، فتلاقى رأسانا وكأننا على وشك التناطح. فقلت له بصوت واهن ولكن واضح النبرة دون أن يفارقني الكدر المرتسم على الوجه:

- تقديراً لكرمك، فلتسمح لي أن أقص عليك شيئاً.

بحت له بسري في أذنه وخدانا ملتصقان الواحد بالآخر.

بقيت أنظر في وجهه لأرى أثر ما كشفته له. لم ينظر لي ما أن قلت جملتي الأخيرة، بقي مطرقاً ونظرته تواجه الأرض. قام بعدها، وضع نقود ما شربناه على الطاولة وتركني دون كلمة. أبتعد حتى زاوية الشارع وتوقف، لكن دون أن يلتفت ولو لمرة واحدة. أحسست أنه يفكر بكلماتي، الرأس مطرقة وأصابع يديه وحسب تتحرك بتشنج غريب لا تراه سوى لدى راقصي الفلامنكو. حدة وتصميم بتوجيهها. لم أستطع ترك نفسي دون مراقبته وهو يبتعد، ثم يتوقف عند زاوية الشارع، أسفل بناية تجارية. للحظات فكرت انه لم يعد يتنفس أو توقف عن تحسس ما يحيطه. كنت موجهاً بشدة لمراقبته وتقدير حركاته. لمحت خيط تغير بحركة أصابعه من التشنج للارتياح وتركها تنفرج وتسقط كخرقة مبلولة، شبه زهرة عباد الشمس منكسة الرأس.

انتفض رأسه فجأة بحركة واحدة وأرتفع كلياً ليبقى مركزاً نظره للأعلى حتى أبعد نقطة من البناية.

كنت الشاهد الوحيد لما حصل، قد لا تصدقني، ولكن ليس المهم أن تصدق ما أقول، فهو ما حصل بلا أي تزويق ولا أية إضافة مني، كما أنه يمكنك أن تحذف من الآن فكرة الحظ أو القدر، فلست بالذين يؤمنون بذلك.. ما حصل لا يحتمل مخرجاً آخر غير الذي أقول والذي رأيته لوحدي من كرسي المقهى كمشاهد شاشة كبيرة بلا قدرة على تغيير البرنامج ولا تجاهله. رأيته للمرة الأخيرة برأسه المنتصبة، وبتسارع يخالف حركاته المعتادة، يرفع يديه للأعلى لتكون بانتصاب رأسه وكأنه يشد السماء إليه.. دون أن يسمح لي الوقت بفهم وقفته، رأيت كيف تنفطر شرفة البناية بسياجها الخارجي لتقع بلا ضجة كبيرة فوقه وتتمدد على كامل جسده الذي اختفى كلياً من مشهد نظري ومن شارع سقوطه، وكأنه قد وجد أخيراً ما يقنعه كشاهدة تعلن عن وجوده الأخير. ما أن انتبه الناس حتى هرعوا ليقتربوا من مكان الحدث، فرغ المقهى وبقيت وحدي بلا حراك في نفس الكرسي الذي شهد حكايته منذ لحظات.

توقف الرجل الأشيب عن الحديث. شرب القطرات الأخيرة من كأسه. نهض ومضى باتجاه طاولة قناني النبيذ ليملأ كأسه دون أن يسألني شيئاً أو ينتظر رد فعلي على حكايته، واختفى في الجموع.

حاولت البحث عنه من مكاني ولكنني لم أعثر له على أثر وكأن جموع الحاضرين قد أغرقته في فوضاها.

لم يعد لجواري ولم أره بعد ذلك.

 

مأتم عراقي
مات منذ سنتين رجل عراقي في مدريد.

كنت قد سمعت بالخبر وأنا في محل طارق (عراقي آخر) في وسط المدينة، عندما مررت للسلام وشراء أغراض من محله لصديقتي الإسبانية التي اكتشفت أن محل طارق لبيع الجملة، يبيع بضائعه بنصف سعرها في المحلات الأخرى. فكانت ما أن تتذكر شيئاً حتى تبعث بي. كنت أغلب المرات أرفض بشدة بعد أن قطعت علاقتي بالعراقيين وأخبار العراق. لم يعد هناك ما يهمني في بلدي، لا صديق ولا أهل، فهل أحن إلى تراب معفر بالدم والبارود فارقته منذ أكثر من عشرين عاماً؟

بالطبع كل أعذاري لا تقنع صديقتي، وعدم إرضائها، يعني ما يعنيه، حرمان من الفراش وزعل لا أول له ولا آخر قد ينتهي بطردي من جنتها، وهذا يعني شهور حرمان طويلة حتى أعثر على من ترضى برفقتي. لذا تعلمت أخيراً ألا أناقش طلباتها وأمضي مثل خروف مقاد من حبله حتى منصة ذبحه. لا تظنوا أنني أبالغ في الوصف، فالحقيقة أن التعذيب أفضل لي من الوصول بقدمي حتى محل طارق.

الواقع أن المعضلة ليست في طارق ولا في الآخرين، فأنا أعترف أنني لم أعد أطيق لغو الآخرين، خاصة أبناء بلدي. ما أن يروني حتى يبدأون بفتق خاصرتهم الحكائية ويرموني بكل ما عرفوه وسمعوه وقرأوه أو شاهدوه. مرة اعترفت أمام مجموعة من العراقيين أنني لا يهمني سماع أي شيء عن البلاد، كما أنني لا أتابع ما يدور في العراق. فقد نبذت التلفزيون منذ فترة طويلة، ليست القنوات العراقية والعربية على الستلايت، بل جهاز التلفزيون نفسه لم أعد أقترب منه في بيت صديقتي وكنت قد تخلصت منه ومن الراديو في غرفتي المتواضعة التي استأجرتها مع عائلة تايلندية لا أفقه منهم حرفاً ولا هم يهتمون بوجودي سوى في يوم دفع الإيجار الشهري. ولكن أن تعترف لهم، كنت أتصور أنهم سيعتقونني ويدركون عدم اهتمامي بكل هذا. لكن الحال انعكس وبدأت ما أن التقي بأحدهم حتى يفاجئني بكل تفاصيل الشهور الماضية، مفصلاً رأيه وما سمعه وقرأه وشاهده. كل واحد منهم (لا يعطي فنتك) كما يقال عندنا، أي لا يمنح متنفساً للتساؤل أو إبداء الرأي أو الهروب حتى.

لأكن صادقاً في وصف لقائي الأخير هذا بطارق. لم أره على عهده، كما كان منشغلاً بمكالمة هاتفية مع شخص عراقي آخر من اللهجة التي كان يتكلم بها، ثم بدا حزيناً وساهماً. ما أن انتهى حتى رأيته يسلم عليّ بعجالة ثم يأمر عماله ببعض الأشغال ويخبرهم أنه سيغيب حتى العصر لأنه سيمضي خارج مدريد، مضيفاً أنه سيحضر عملية دفن عراقي في مقبرة البلدية. وقبل أن يخرج ناداني (هي ساعتين وتفض، ومن الله الثواب)، قلت له ولكن من هو هذا العراقي، أنا لا أعرفه؟ وقف بوجهي وقال: الله يخليك يا صديقي، هو الموت له صاحب.. كلها ساعتين نؤدي الواجب ونرجع، لا تقل لي عندك شغل، ترى اعرف سوالفك؟!.

لم تفد احتجاجاتي ولا قسمي بأن صديقتي تنتظرني في البيت، فكان أن أمسكني من يدي ومضى بي حتى سيارته، هناك وجدت سيارات أخرى لعراقيين ينتظرونه، دفعني لأرافقه في سيارته، شغل كاسيت قرآن ولم يسمح لي بأي تساؤل سوى التنصت والاستماع لصوت عبد الباسط عبد الصمد وهو يتلو سورة يوسف الذي أكله الذئب ظناً أو حقيقة.

أفضل شيء في الموت، أو عملية المشاركة في الدفن هذه، أنني لم أسمع أي كلام ولا تعليقات ولا تساؤلات من طارق ولا من أي عراقي آخر سلم علي قبل أن يمضوا بسياراتهم الشخصية على أمل أن نلتقي جميعنا في مدخل مقبرة (المودينا) المدريدية.

عندما وصلنا بعد أكثر من ساعة، طلب مني طارق أن أنزل وأنتظره قرب الاستعلامات حتى يركن السيارة في الكراج الغاص بالسيارات. جلست عند دكة قرب شجرة كانت بمثابة علامة للمدخل، دخنت سيكاراً أحمله معي عندما أخرج كي أعاقب نفسي بعدم تدخين الغليون الذي لا ينزل من فمي. حاولت التفكير طوال الوقت بمن يكون هذا العراقي، وحاولت مع نفسي أن أصنع له تاريخاً طالما أن طارق لم يحدثني عنه، كما أن تساؤلي عنه لم يحظ بأي إجابة سوى أنه عراقي وصل قبل أشهر عن طريق المغرب في قوارب الموت، الذي أهداه موتاً مؤكداً، لأنه مرض فجأة ما أن حطت قدماه أرضاً إسبانية ولم يجدوا علاجاً له، وأشاروا في أوراق وفاته بأنه أصيب بنوبة تشنج غريبة لم يألفوا مثلها أطلاقاً، سببت له تخشباً جسدياً وتحنطاً دون العثور على أية مواد غريبة في معدته. مات وحيداً في غرفة في مستشفى مدريدي. أخبرني أيضاً أن الوحيد الذي صلى على روحه، قس عجوز كان هناك بالمصادفة وظنه مسيحياً، يبدو أن الممرضة أخبرت القس بأن الرجل عراقي ومسلم أيضاً، لكن القس كما حكوا لهم (أقصد لطارق نقلاً عن آخرين، وبدوره أخبرني بذلك) لم يجب الممرضة بشيء، بل هز رأسه وبقي بصلاته خاشعاً لخمس دقائق قبل أن يربت على صدر العراقي ويمضي خارجاً.

طال انتظاري ولم ألمح أثراً لطارق ولا أي عراقي آخر. فكرت أن أمضي للبحث عنه في الكراج، ولكنني بتجوالي فيه لم أر أياً منهم ولا عثرت على سيارة واحدة لهم، فكان أن عدت من جديد لمدخل المقبرة وقررت الانتظار خمس دقائق. لم يأت أحد، فكرت أن أعود للبيت وحدي ولكن موظف الاستعلامات في المقبرة أخبرني أنه عليّ المشي لربع ساعة أو أكثر حتى أقرب محطة وحيدة، وهناك عليّ أن أنتظر باص المساء. قررت إذا الدخول والبحث عنهم في المقبرة، طلبت معلومات من الموظف، وعندما دقق أوراق دفتر (واردات الموت لهذا اليوم) أشار إلى الجهة المقصودة وترك بيدي مخططاً بإشارات وأسهم ليساعدني الوصول السليم لهدفي ودون ضياع في عالم القبور المتراصة.

كأي تلميذ نجيب اتبعت تعليمات الخريطة حتى وصلت النقطة المشار لها، وهناك عثرت على الجمع الذي فاق أكثر من مائة شخص. اقتربت وجمدت حركتي احتراماً لطقوس الموت، ولكن من زاوية متاحة لي حاولت تصفح الوجوه المحيطة بي لأرى أين يكون طارق أو أي من العراقيين الآخرين. ولكن زاويتي كانت ضيقة لم تتح لي سوى متابعة حركات الدفّان وتأوهات الأقرب مني. كانت تند بين حين وآخر تنهدات نسوية مما جعلني بشك من أنني عند قبر العراقي لأنني لم أعلم بحضور امرأة معنا. خمنت أنها لا بد وأن تكون زوجته أو ابنته أو امرأة أحدهم. لكن مكاني في الخلف وعدم قدرتي على رؤية الوجوه والتمعن بها جعلني خانساً في مكاني. ركزت كل طاقتي على التأكد من حركات الدفّان والتوصل لمعرفة إلى أية مرحلة من الطقوس قد وصل. لم يكن لي من مخرج حتى الانتهاء من المأتم كاملاً لكي أستطيع العثور على طارق ومرافقته في العودة. في الوقت نفسه كنت أشعر بحضور آخرين من الخلف، بعضهم يقف أبعد مني بمتر أو اقل. بدربكات وأصوات متنافرة سمعت صوت رجل يأمرنا بالخشوع وبدأت صلاته مردداً جمله الأولى باللاتينية وبعد لحظة صمت أخرى سمعته يردد صلاة مريم العذراء والجمع من ورائه. في تلك اللحظة وحسب عرفت أنني لم أكن عند النقطة الصائبة، والقبر الذي أنا بقربه ليس بقبر العراقي، والجمع المحيط بي لا يعرفون عن العراق أكثر من معرفتهم بالعربية.

حسبت وأنا أتابع العملية كاملة متأملاً العثور على فرصة للتراجع والهرب، ولكنني بعد فترة التفات لأراقب عملية انسلالي بأنني في الواقع كنت وسط الحشد تماماً ولا مجال للخروج دون أن أضايق الجميع وأثير انتباههم، فقررت الاستمرار حتى النهاية.  مع مرور الوقت كنت أشعر بتدافع الناس من خلفي وكلهم يرغب بالاقتراب أكثر، بينما آخرون قد اتخذوا مكاناً قصياً لهم وصمتوا مثلي في انتظار التالي. بينما كنت أتابع ما اعتقدت إنها حركات الدفان أو أحد مساعديه، سمعت من ناحية كتفي الأيمن أحدهم يقول (البقاء لله)، صاح بها بأعلى صوته بإسبانية لا غبار عليها. بعد صمت لفترة، أعاد الرجل جملته بصوت أعلى. حينذاك التفت لأرى وجه صاحب الجملة. لم أتعرف عليه. بعد حين صرخ بصوت اعتقدت انه قد خرج من مكبرة صوت لأن الجميع قد التفت أما ليرى مصدر الصوت أو ليؤنبوه بالنظرة الصارمة. حينذاك وحسب لمحت أكثر الوجوه الحزينة ولم أعرف أي واحد منهم. لكن بعد ذلك لم يعد الرجل الذي على يميني إلى الصراخ بل خنع قربي حتى أنني لو كنت في موقف آخر كنت سأظن بأنه يرغب باحتضاني.

بصوت أقرب للهمس سألني: رجاء، هل هنا مأتم السيد تشيمو؟

قلت له: الحقيقة أنني لا أعرف أسمه، ولكنني لا أعتقد بان اسمه تشيمو فقد سمعت القس يردد أسماً آخر.

زفر الرجل في أذني وخرجت كلماته ممطوطة: يا للكارثة!

- عذراً؟

- لا شيء، فقط ألعن ساعة حضوري، هذا هو المأتم الثالث الذي أحضره، دون نجاح بأن أصل لغايتي.. لا بد أنهم قد دفنوا السيد تشيمو منذ فترة طويلة، أعتقد أنني أخطأت بمجيئي وحدي.

طمأنته قائلاً: لا تظن أنك الوحيد، أنا كذلك هنا بالخطأ، جئت لحضور دفن رجل عراقي ويبدو أنني في مأتم آخر ليس لي علاقة به!

- آه أنت واحد منهم... رأيت أصحابك قبل ربع ساعة، هناك في الجانب الآخر وشاركتهم الدفن.

- إذاً انتهوا من الدفن؟

- أعتقد ذلك.. هل تريد أن أقودك لقبره، أعرف الطريق؟

- لا.. لا أعتقد أنني أرغب بذلك، سأستمر مع هذا الميت الذي لا أعرفه.

ثم سكتنا. فكرت أن الرجل الذي على يميني سيتركني ويمضي بحاله، لكنه بقي صامتاً جواري. سمعت من الوسط صلوات القس ودعاءه ووصل لسمعي تنهدات ونحيب بالكاد يتعالى شيئاً فشيئاً، لولا أنني شعرت بالرجل جواري يدفعني للأمام والحشد الذي من خلفنا يتحرك باتجاه القبر. مضيت معهم بصف نسير كرتل عسكري. ما أن وصلت حتى وجدتني قرب النعش الممدد في الحفرة والمغطى ببعض الأزهار وحفنات تراب منهارة فوقه. بحركة لا إرداية انحنيت وقبضت على حفنة تراب ورميت بها على الصندوق وبقيت للحظة مراقباً الخشب اللامع للنعش وامتدت نظراتي للصف المقابل الذي اتشح بالسواد وتميزت من بينهم المرأة التي اعتقدت أنها كانت تبكي منذ لحظات لأنها كانت تراقبني بعينين دامعتين ومنديلها بيدها. شعرت بلكمة لقلبي ولم أستطع السيطرة على قدمي لكي انهض فساعدني الرجل الذي جاء من خلفي. تقدمت وقبلت السيدة واحتضنت البقية ومشيت بعيداً عنهم لأنني في تلك اللحظة وحسب شرقت بغصة لم أتوقعها وبدأت الدموع تنهمر على وجهي دون أن يكون لي قوة على كظمها ولا معرفة تعليل لها. بينما كان هواء المقبرة يلطم وجهي مجففاً دموعي، كانت قدماي قد جابت القبور كلها قبل أن تجد طريق الخروج والمضي مشياً حتى أقرب محطة باص والهرب من هناك.

ما إن وصلت البيت (بيت صديقتي وليس غرفتي في الدار التايلندي)، وقبل أن أسمع تنهداتها التي ستجرني للفراش كعادتها، أو تساؤلاتها عن البضاعة التي أرسلتني لشرائها، دخلت الصالة وأغلقت بابها عليّ وتمددت في الأريكة ورحت في نوم عميق لم أحس فيه على أي صوت. نهضت مع الفجر، لم يكن خيط ضوء قد بان بعد. دخنت وشربت قدح قهوة. لم يكن لي قدرة على متابعة أية فكرة، فرحت أنتظر متابعاً السماء من النافذة وهي تبدل ألوانها كحرباء في صحراء. بعد قليل فتحت جهاز الكمبيوتر لأتلهى بتصفح الانترنيت قليلاً لخشيتي من أن تداهمني الأفكار نفسها التي أخرجتني باكياً من المقبرة. دخلت بريدي الالكتروني ووجدت بانتظاري من ضمن رسائل أخرى وإعلانات ودعايات، رسالة من صاحبي الشاعر المصري أحمد يماني، يخبرني فيها بأنه مر اليوم بتجربة غريبة عن الموت، ليس هنا مجال لذكرها وسيقص علي حكايتها ما أن يراني، وفي الوقت نفسه يرسل لي قصيدة يطلب رأيي فيها كتبها من وحي الحادثة التي يؤجل روايتها لي (وبعد أن احتسى كأس نبيذ من القنينة التي جلبتها له من شمال أسبانيا في سفرة أخيرة) يقول.. والقصيدة بعنوان (الجنازة) وهي التالية:

مات تشيمو هذا الصباح.

تشيمو ليس صديقي. لكنه مات.

كان يتحدّث بلا انقطاع كمن يسدّد ديناً قديماً للكلمات

التي على وشك أن تهجره.

غدا سألبس معطفي الأسود وأمضي إلى الجنازة

وعندما أعود إلى البيت سأبتسم لنفسي.

اليوم مات تشيمو،

أحد معارفي،

وها أنا لم أعد غريباً في هذه البلاد.