تستخدم الكاتبة في نصها الساخر العامية العراقية وترسم صورة بائسة لكاتبٍ يدعي الثورية يكتب عن الطبقات المسحوقة لكنه بنفس الوقت يترفع عليها، والسرد على لسان صديق الكاتب الذي يصور انطباع هذا النمط من المثقفين عن عامة الناس وبالعكس.

عشرة بفلس

ميسلون هادي

اسمي همام. وصديقي كاتب معروف اسمه مقدام .. يكتب كثيراً عن الفقراء والبسطاء والمحرومين .. يسافر مع الجيوش إلى تلفات الدنيا.. وينزل تحت الأرض مع عمال المجاري.. وأحياناً يتنقل بين مكاتب هدم الدور وتفليش العمارات، أو يبذل ما في وسعه من أجل الصعود إلى سيارات دفن الموتى.. وفي الصباح يصب جام غضبه على ألوان القطارات البطيئة لأنها رمادية اللون.. أو على إشارات المرور الضوئية لأنها ثلاثية الألوان.. وبدون أن يتحرك من مكانه يهتز كأعنف شجرة مشمش تصارع الريح العاتية، أو قد يثور على جميل وكميل وعبد الجليل لأنهم لا يقدمون خدمات جليلة للسلام على الأرض.

جميل بائع خضروات أخرجه مقدام من طوره، وجعله يتعارك مع القصاب الحباب.. وكميل صاحب محل للعُدَد والكهربائيات، لا يبتسم عند السلام أو رد السلام.. وفقط عبد الجليل هو من (كعد حظه) مع مقدام لأنه يبيع له السكائر والخمور، ويمنح للأرض أكثر مما ينبغي من سلام وانسجام.

كثيراً ما استحوذتْ فكرة قصة جديدة على عقل صديقي الكاتب مقدام  إلى الحد الذي يجعله يسهو عن النزول من القطار في المحطة التي يريد الوصول إليها، أو يتأخر في الاستلقاء داخل بانيو الحمام فترةً أطول من اللازم.. هذا ما يقوله هو بطريقة مقنعة للغاية، وأصدّقه أنا دائماً على الرغم من اختفاء القطارات من المدينة، واعتقاد والدته الأكيد بأن البانيو هو طبق من أطباق مرق الخضروات الصيفية.

هذا لا يمنع أني كلما نظرت إلى مقدام كأنما نظرت إلى كل  شخص لا أعرفه في  العالم، ولم ألتقِ به في يوم من الأيام، لأن قصة واحدة من قصصه المذهلة تجعلني أشعر بأني قد قلَبت صور ذلك الشخص القديمة، ورأيته يلعب كرة القدم في الشارع، بل ذهبت معه إلى المدرسة، ورافقته في الخدمة العسكرية حتى أصبح على الصورة التي يرسمها له مقدام الكاتب.

وبطريقة مذهلة أخرى أقنعني صديقي مقدام في روايته الأخيرة بضرورة فناء الجميع، فلعن سلف سلفاهم في الشتاء والصيف، وشعل أجداد أجدادهم  طوال الليل والنهار، ما عدا طبعاً عبد الجليل بائع السكائر والخمور، والذي نجا من الدهس والخطف والقتل، وهو الوحيد الذي جعله صديقي الكاتب يعيش إلى الأبد، لأنه منح السلام للأرض ومن عليها.

يستخدم مقدام كثيراً أدوات الشرط من أجل أن يحث أبطاله على التقدم والنجاح.. إذا سهروا نجحوا، وإذا اتّبعوا الحمية نحفوا، وإذا بالوا على أيادي المجروحين طابت  تلك الجروح.. بل إني  وجدت بعض شخصياته أكثر أُلْفة وقرباً لنفسي من أخوالي وأعمامي وأهلي جميعهم.. لماذا يحدث هذا؟ أنا لا اعرف الإجابة، لكنّ مقدام يعرفها، ويجعلني أشعر بأنني مبلل بماء المطر الأسود الذي نزل في عقابيل الحرب.. وجالساً في الباص الأحمر (أبو الطابقين) قرب ساحة الطرف الأغر في لندن.. أو واقفاً في طابور السائحين أمام متحف اللوفر بانتظار دوري في الدخول إليه.

هذا لا يعني أن رواياته كاملة الأوصاف، أو أفضل من روايات زملائه المفجوعين مسرور ومغرور وعبد الصبور، ولكن كما يبدو، وبحسب النقاد أيضا، فإن تراجع السرديات الصغرى، قياساً بسرديات كبرى لا تنسجم معها، ترك أثره على مجمل عناصر الرواية، وأدى ببعض الكتاب، ومنهم صديقي مقدام، إلى التمويه على السلطة، وبالتالي جعل النهايات المفتوحة هي الطريق الآمن في تحديد مصائر الأبطال من جميع الفئات والمذاهب والمهن اليدوية، وأنا لا أحب النهايات المفتوحة، أموت منها، وأشعر بالضياع مع أية نهاية مفتوحة تنسف النصف الثاني من الرواية، إذا لم تقضي على نصفها الأول أيضاً.. أفبعد كر وفر وتعب ومرار وعذاب في تقليب الرواية للوصول إلى جمالها المنجز والمكتمل، ينتهي الأمر إلى ضرب أخماس بأسداس، وأشعر بأني كالطرطميس.لا سبت ولا جمعة ولا خميس.

على كلٍّ، حضرتُ بعض الندوات التي أقله إليها بسيارتي، وأجلس مندهشاً كيف يغادر خجله وهدوءه الشديدين، لكي يترك أثراً لدى الجمهور عن الشخصيات التي  يتحدث عنها ويسميها بالعفاريت.. يقول لا تصدقوا لطافتها أو براءتها المزعومة، لأن البراءة لو كان لها مكان على الأرض، ما قام الطفل الرضيع بالبكاء لإيقاظ أمه من النوم،  فيحصل على الحليب مقابل سكوته.

إلى هذا الحد هو حسه النقدي، وإلى هذه الدرجة هي براعته التي تفصح عن نفسها في بحثه عن أتعس الأماكن للكتابة عنها، وأنحس الشخصيات للحفر في نفوسها المنكسرة، والظروف التي ترعرعت فيها.. حتى أعمالهم الشاقة هو الذي ينجزها بدلاً عنهم.. وأحلامهم  هو الذي يحققها عشرة بفلس.. شلون أحلام هي.. صعبة وتلعب النفس... بس مقدام مستعد لأن يقتل نفسه لكي يجعلها تتحقق.

شكد يبحث عن أخوات كان وأنّ.. وشكد يخليها في جمل مفيدة وجديدة.. وشكد يدخل درابين القواميس القديمة والمعاجم النادرة وشرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك... وشكد يمشي بين أدوات التعليل والنصب والاستفهام... حتى لام الجحود استعملها.. ولام المزحلقة هم.. ولام القسم همين. ما بقت لام ولا فاء ولا باء ما استعملها..كل شوية لازم يختار اقتباس أو هامش حتى يطولها للقصة، ولهذا عادة ما تُنشر بالملحق الأسبوعي للصحيفة اليومية لأنها تقع بأكثر من ألف كلمة..

طبعاً اسمه كان يتصدر أسماء يابو أسماء وقامات يابو قامات من شعراء وروائيين وفنانين.. ولا يوجد من لا يعرفه داخل الصفحات الثقافية أو خارجها.. وكان يُعَرّفني بهم باعتباري صديق طفولته وطبيب أسنانه... وعندما يقدمني إليهم فلا أتوقف عن الابتسام مع نفسي بدون سبب واضح، لأكتشف أنهم مثلنا يردّون السلام، ويتبادلون الابتسام.. ولكن لا أحد منهم عرفني أو أعارني اهتمامه، أو تذكر أنني طبيب أسنان معروف.. ولا انقهرت بسبب ذلك. أو شعرت بالحزن، فأنا أقضي عمري ويدي محشورة في أفواه الناس، بينما هم يقضون أعمارهم وأيدهم تتنقل بين الأوراق والأقلام.. 

أمامهم اعتقد بأني إنسان نياندرتال، وهم من كوكب فضائي يومه أطول من يومنا بكثير، أو تشرق عليه شمس مجرة أخرى.. هكذا هم دائماً غير شكل.. يرتدون سراويل الجينز واللفافات الملونة حتى وإن  شابت شعورهم، ويصطحبون معهم النساء الفاتنات في جميع الصور التي يلتقطونها، بل أرى أن ملامحهم التي ولدوا بها في طفولتهم، تكاد تكون هي نفسها التي يبقون فيها إلى الأبد.. صديقي مقدام الكاتب كان  يعزو ذلك كله إلى عنصر المفاجأة الذي يستعملونه في حياتهم من أجل استباق صفوف الجماهير بخطوة إلى أمام، خاصة عندما يدخلون بناية خالية من الناس، ولا شيء فيها سوى الصدى والفراغ، فيجدون تلك الجماهير أمامهم فجأة على السلالم أو في المصاعد الكهربائية.

جاء موعد الذهاب إلى عرس دُعينا إليه من قبل صاحبي كميل السمكري صاحب محل العُدَد والكهربائيات.. صحيح أنه لا يبتسم ولا يرد السلام أحياناً، لكنه، على الأقل، يعرف الأصول جيداً ودعا صديقي مقدام الكاتب لعرس ابنه الكبير، فهو شخصية من شخصيات روايته الأولى التي كان عنوانها "شرشف لنفر واحد".

لدى مقدام عشرون رواية أخرى أدخل أليها أبو مخلد الصيديلاني وأبو منشد الدلال وأبو محمد الكهربائي.. وهناك في العرس التقى بهم جميعاً فرحبوا به ترحيب الأبطال.. ولكن أين يجلس مقدام؟ الكراسي كانت صدئة والمناضد غير ممسوحة من الغبار، مما جعله يتقافز في جلسته مثل قطة تمشي فوق قير ساخن.. والمكان أيضاً كان عبارة عن ممر تحت الدرج جلس فيه مقدام على مضض، وعندما جاؤوا بالطعام لم تكن هناك خواشيك أو جطلات، فراح يتلفت ويتأفف بدون توقف. أحسستُ بمعاناته وابتسمت له بإشفاق من طرف غير خفي، ولكنه كان قد لبس وجه الجينكو، ووضع على رأسه تاج الملوك.

اكتشفت أنه كان يتأوه ويتنعوص طوال الوقت نيابةً عن العمال والفقراء والمحرومين، وأن مسعود ومحمود وعبد الودود كانوا يبذلون قصارى جهودهم ويتصببون عرقاً بين الصخور، وهو الذي يتأفأف نيابة عنهم وعن باقي العاملين في المطابع والمخابز ومحلات الحلاقة، ومَن لفّ لفهم من الصيادين والبقالين والصيادلة.. اكتشفت أيضاً أنه عندما يتأفف فإنه لا يقول أوف، ولكنه يقول إف تلفظ على شكل ألف مكسورة  يمدها على شكل ياء متبوعة بفاء..

ظل طوال العرس يتأفف ويقول (إيف يا ربي).. مرة بسبب جلوسه في ممر تحت الدرج، ومرة بسبب الكراسي الصدئة، ومرة بسبب غياب الملاعق عن مائدة الطعام، إلى أن أغارت علينا طائرات التحالف الدولي، فاتخذ مقدام لنفسه ساتراً قبل الجميع، واختفى عن الأنظار بلمح البصر.

 مرت دقيقة ونحن نسمع دوي الانفجارات، ومرت دقيقة أخرى ونحن نسمع أصوات الصياح والصراخ، وبعد أقل من خمس دقائق أتضح أن أصدقاء العريس يطلقون بعض الصعادات والألعاب النارية احتفاءً بالمناسبة، فطلبتُ من صديقي الكاتب  مقدام أن يخرج من تحت الدرج، وقلت له:

-                      ماكو شي...

رفع رأسه، وقال:

-                      لعد هذا الضرب شنو.

-                      قلت له:

-                      صعادات.

نفض التراب عن سرواله الأنيق، وقال:

-                       إذا هاي صعادات .. لعد طائرات (الإيف)ستة عشر شلون.