في نص حواري يعود القاص إلى مرحلة الحرب العراقية الإيرانية وحياة الجنود وما يكتنفها من متاعب وأحلام، فالحدث يشبه حلم يقظة طويل بالمرأة الجسد والحضن الذي توفر للجندي الأمان والخلاص من الموت في الجبهات في حلم شارد لجندي ملتحق بوحدته وهو في حافلة مكتظة بالجنود.

مكــيـدة

صـلاح زنكـنه

التقيتها في كراج النهضة، امرأة جميلة وأنيقة بفستان أسود وكأنها في حداد وسط حشد من الجنود الذين يرومون الالتحاق بوحداتهم العسكرية في مدينة البصرة، كنت الشخص الوحيد بينهم أرتدي ثيابا مدنية في انتظار الحافلة، اقتربت مني وطلبت أن أحجز مقعدا لها بجنبي. حجزت مقعدين مجاورين، شكرتني كثيرا واسترخت قليلا ونامت فيما رحت أقرأ رواية (وداعا للحرب) لهمنغواي، توقف الباص قرب مطعم على الشارع العام في مدينة العمارة. نزل الجنود فنزلت أنا أيضا، سمعتها تنادي خلفي، اجلب لي سندويشا وزجاجة بيبسي كولا معك، وفتحت حقيبتها اليدوية لتعطني النقود، لكنني رفضت بشدة. جلبت لها ما أرادت وشكرتني ثانية.

تحرك الباص بعد أن صعد الجنود تباعا منطلقا صوب البصرة.

سألتني فجأة :

- هل أنت طالب ؟

- كنت طالبا، والآن أنا جندي مثل هؤلاء.

- لا يبدو عليك جنديا، تبدو أنيقا ومهندما.

سألتها :

- هل أنت من البصرة؟

- لا أنا من بغداد.

- أذن أنت ذاهبة لأقربائك.

- لا، ذاهبة أبحث عن زوجي.

- وأين هو زوجك؟

- في الجبهة، لم يعد منذ ثلاثة شهور، سأذهب إلى وحدته.

- في أي لواء هو زوجك؟

- في لواء 45.

- أنا في لواء 45، في أي فوج هو؟

- في الفوج الخامس.

- لا يوجد فوجا خامسا، في اللواء ثلاثة أفواج فقط .

- لا أدري، لكنه في لواء 45 .

- حسنا، سأساعدك في مسعاك .

- الله يخليك . أنت إنسان شهم .

حين وصلنا البصرة، حل الظلام على المدينة، فقلت لها:

- لقد حل علينا الليل .

- لم أتوقع أن البصرة بعيدة جدا.

- نعم أنها بعيدة.

ثم تحدثت بحيرة وقلق:

- لا أدري كيف أتدبر أمري.

أجبتها بثقة من وجد الحل:

- سأحجز لك غرفة في فندق يعود لخالي.

تهللت أساريرها وقالت بغبطة:

- كم أنت شريف وشهم وابن حلال.

أخذتها إلى الفندق، وحجزت لها الغرفة، وحين هممت بتوديعها توسلتني أن أبقى معها

كونها تخاف المبيت لوحدها في فندق، وهي غريبة في مدينة غريبة والدنيا (مو خوش دنيا

فدوه، فدوه، الله يستر على عرضك)

- علي أن التحق بوحدتي، سيارات الأيفا تنتظرنا الآن.

اذهب صباحا كي أرافقك إلى اللواء، أكمل جميلك معي.

قالت ذلك وهي على وشك البكاء، تعاطفت معها ورضخت لمطلبها:

حسنا، سأنزل إلى السوق كي أجلب العشاء وبعض الحاجيات.

عد مسرعا، سأنتظرك، والله أخاف وحدي حباب.

خرجت وأقفلت عليها الباب حسب طلبها، واقتنيت العديد من زجاجات البيرة الباردة

والكرزات والسكائر والمشويات، وعدت إلى الفندق، وحين دخلت الغرفة وجدتها جالسة

على السرير مرتدية ثوبا داخليا شفافا يظهر مفاتن جسدها غضضت الطرف عنها

فبادرتني بالكلام :

- هل تخجل مني؟

- لا، لكن ثوبك فاضح ومثير.

- ألا تحب الإثارة كبقية الرجال؟

- بت أشك بأمرك وحكاية البحث عن زوجك.

كركرت وكركرت طويلا:

- أنت (على نيتك) حقا.

ثم أردفت:

- لو قلت لك الحقيقة، تعذرني وتبقى معي؟

- في كل الأحوال أنا باق معك.

حسنا، أنا أعمل هنا في البصرة.

- وماذا تعملين؟

أعمل في ملهى، ارتست، راقصة، فنانة.

- ولماذا كذبت عليّ ؟

- كي أرد لك الجميل، أنت شاب ظريف، شهم، عجبتني جدا.

ثم أردفت بغنج :

- هيا افتح زجاجات البيرة، لنحتفل بهذه الليلة حبيبي.

قاطعتها مستفسرا :

- لماذا قلت أنه في لواء 45 ؟

- أنت قلت لأحد الجنود بأنك من هذا اللواء.

- يا لك من شيطانة .

قلت ذلك وأنا كلي أعجاب ورغبة بها.

هكذا أخذتني لجنان جسدها ومرغتني في شهد أنوثتها، ولقنتني درسا في لذائذ الحياة، كنت تلميذا مدللا على السرير وكانت معلمة ماهرة .

استيقظنا وقت الظهيرة، واخبرتها:

- عليَّ أن أغادر، لقد تأخرت.

- إلى أين؟

- إلى الجبهة.

- أرجوك لا تذهب، أخاف أن تقتل.

ثم أردفت:

لقد أحببتك، حرام أن تموت، لا تلتحق من أجلي.

- تريدينني أن أهرب؟

- نعم أهرب، وتعال أعمل معي.

- ماذا أعمل، قواد؟

- حاشاك حبيبي، سأجعلك حارسي الشخصي، وأعمل لك هوية مزورة كي تفلت من الحكومة.

ووضعت رزمة من النقود في جيبي:

- وهذا عربون العمل.

ولما انتهت الحرب، التي التهمت العشرات من أصحابي، شكرتها ممتنا لأنها أنقذتني

من موت محتم، لكنها صعقتني حين قالت:

- أنا فقط أديت مهمتي على أكمل وجه، أمك هي التي كلفنني بهذه المهمة، حتى الأموال كان من عندها يا شاطر.