يخلص الناقد إلى أن تجربة صلاح بوسريف الشعرية، تجربة لها فرادتها وميزتها إبداعاً ورؤيا لكونها استطاعت أن تخلخل الثوابت الشعرية، وتعلن عن كينونتها بدون ادعاء، خالقة مشروعيتها الإبداعية داخل الشعر المغربي. فهي تجربة شاعر خبر مزالق الكتابة ومضايقها، إبداعاً ونقداً.

أفق الكتابة.. قراءة في ديوان «شرفة يتيمة»

صالح لبـريـني

الحديث عن الشاعر صلاح بوسريف حديث عن تجربة شعرية لها تجذر في تربة الإبداع الحق، وامتداد في حداثة شعرية منفلتة ومراوغة اختارت الكتابة أفقا لإعادة تشكيل العالم وفق تصور جمالي فني.مَحْتِدُهًّ التجاوز والخرق، وسٍمْتُهُ الكشف عن تضاريس جغرافية غامضة ومبهمة في النفس البشرية، وفتح نوافذ جديدة في الشعر المغربي المعاصر تروم خلق نص شعري يحمل جماليته وفنيته في ذاته، ويبدع لغته الشعرية التي تنبض بروح الوجود، وفي نفس الوقت تلتحم مع تجربة الشاعر على اعتبار أن الشعر بحث دائم، وتجاوز دائم، ومغامرة تبحث عن حقيقة خاصة بها -على حد قول كمال خير بك- ولن يتأتى هذا الخلق إلا بتساوق مع الإبدالات التي تمس كينونة الكائن، وتجعل الذات تحيا تشظيها في ارتباط بالوجود.

من هذا المعطى يمثل صلاح بوسريف صوتا شعريا له أصالته الخاصة في الكتابة، وفرادته التي تبرزها مجاميعه الشعرية التي تؤسس لمشروع شعري يتسم بعمق رؤياوي يفتق الحجب التي تخفي المكنون في أقاصي الإنسان والكون، وبحداثة شعرية اجترحت طريقها الإبداعي، لتنحت أفقا جديدا في الكتابة.وللإشارة فهو صوت شعري ثمانيني أعلن، من خلال، نصوصه الأولى عن ميلاد شاعر يرتاد آفاقا حداثية بيقين الرائي.هو شاعر يراهن على شعرية منبعها الداخل كمنطلق للعملية الإبداعية للبحث عن كوة للنفاذ إلى العالم ناحتا آثاره الشعرية التي لن يصيبها المحو والنسيان، بل ستظل ذات ديمومة شعرية تنماز بتكثيف اللفظ وتوسيع المعنى بتعبير القدامى، وعليه فتجربته الشعرية تطفح بنبض الذات وعنفوان الرؤى تصيخ الإنصات لارتجاجات العالم وتصدعاته وهذا ما يتجلى في ديوانه الشعري "شرفة يتيمة".

يجسد ديوان "شرفة يتيمة " للشاعر صلاح بوسريف (دار الحرف للنشر والتوزيع، 2009) إضافة نوعية للمشهد الشعري المغربي، لما يتميز به من رؤيا إبداعية تؤثث عوالم النصوص الثرية بتشكيلات جمالية ذات أبعاد عميقة تفجر اللغة الشعرية، وتؤصل للتجربة في الكتابة، كمقوم من مقومات الشعرية التي تجعله يبدع أشياء جديدة في لباس إبداعي تجلي صنعته وفطنته الذاتية التي أَصْلُهَا الإحساس والرؤيا ذلك " أن الإحساس هو المصدر الوحيد لمعرفة الأشياء في العالم"كما يرى ديمقريطيس، إلا أن هذا الإحساس يقوم على لسبر المغالق والولوج إلى مضايق الأغوار والكوامن إضافة إلى التماهي مع العالم بغية بناء نصية متفاعلة ومشرعة على المغايرة؛ ومن تم يمكن القول أن الديوان عبارة عن سيرة شعرية يحتفي فيها الشاعر بالذات في علاقتها بالوجود احتفاء يمجد المكابدات الوجودية؛ و يبتدع رؤاه التي تبايع الآتي ولا تلتفت إلى الخلف بقدر ما تشرع نصيتها على الحياة، وعلى الكتابة كأفق إبداعي يُكْسِب النص شعريته، ويؤسس لتجربة تحفر كينونتها الإبداعية في تربة الجدة والحداثة.إنه سيرة الذات وهي تعود إلى الينابيع الأولى التي تشكل القوة المتفجرة خلف ما يظهر ملتبسا؛ بتعبير هيدجر، وغمضا للقبض على المنفلت في الوجود، بل تكشف عن فيوض ذات تتلظى بجمر الكتابة كمؤشر دال على الاحتراق والمكابدة، يقول الشاعر:

"ولدت

لا

شيء

كان يشي بجمر نأت نداوته

أصابعي

حملت عني وزرا

لم

أكن بعد عرفت

أن جمره سيكون حارقا

وأن أصابني من دوار

ليس سوى أول القطر"(ص11).

يجلي الشاعر، في هذا المفتتح الشعري، أن الأنا تحيا بين الجمر كحالة اشتعال واحتراق وتوهج يضيء الذات في أوج انخطافها حيث تمة تماه تعيشه هذه الأنا مع نار البوح الباطني، والقطر الذي يحمل دلالة الخصب والحياة، فبين الولادة ولادات تشي بهذا الثقل الذي ينوء بكلكله على ذات مازالت تخطو أولى خطواتها في الإبداع والقابضة على جمر الكتابة. من داخل هذه الحال البينية تعلن الذات عن خلقها الشعري، وهي مفارقة تكشف أن من الاحتراق تولد الحياة، وفي الحياة، بدلالتها الأنطولوجية، يكون الأفق مفتوحا على الحلم والخلق؛ و الامتداد اللامتناهي في الماضي والحاضر والمستقبل كرؤيا تسيج أفق الكتابة وتؤسسها لأن " الشعر أفق مفتوح وكل شاعر مبدع يزيد في سعة هذا الأفق إذ يضيف إليه مسافة جديدة وكل إبداع هو، في آن، ينبوع وإعادة نظر"(1). هذا الأفق المشرع على اللامحدود يحول الكتابة إلى عملية كشف ما يتبطن الذات من حرائق وإشراقات وحلول مع العالم أي أن جدلية الذات والوجود هي جدلية تتخلق عبرها تشكيلات متعددة، بصوغ آخر، فالعالم يتشكل من تمجيد الاحتراق وتقديس المكابدة، ويقر بكينونة الذات في عبثية الوجود وبؤس المصير الإنساني. هكذا اليد تكتب سيرة الجسد ذاكرة وتجربة في الحياة والإبداع بحبر الحرقة وفيض الأسئلة، وبجدلية ما هو فكري وجمالي لتقول الكينونة التي تطوقها الخيبات والخسارات وضراوة العدم، حضورا وتجليا؛ لذلك يوجه الشاعر صرخة في وجه العدم.فاليد التي لا تكتب يد خرساء وعمياء عن فيض البواطن وبصيرة الحدوس، هذه اليد لا يرتضيها الشاعر بل ينذر ذاته ليد تكتب القلق والتوتر والترحال الذي يتلبسه في "مضايق الكتابة"، وبها تتأمل الذات وتتألم لتعيد تشكيل العوالم برؤيا تخرق الواقع وتتماهى مع الكون وتتوحد بأشيائه مما يعمق الارتباط بالحياة ويجسر الصلات بما هو مخفي ومجهول للكشف عن ماهية الوجود يقول الشاعر:

"من قبل أن يوجد الهواء كانت الأرض هباء

قيل: إن رجلا من فتق مجهول

 جاب الوجود بناي

في شعبه نفخ ريحا كانت أول الهواء

والنار أتت بعد ذلك بقليل "(ص18)

إن التأمل في الوجود يحتاج إلى بصيرة شاعر راء تنفذ إلى كنه الذات والأشياء، وتسبر أسرار البدايات لتكشف عن خفايا ملكوت في أَمَس الحاجة إلى كشف جديد وخلق متجدد حتى يتحقق ذلك التعالق العميق بين الوجود والموجود في وحدة متكاملة متماهية ولعل هذا ما يفصح عنه الشاعر وهو يصيخ السمع إلى نبض الكون ودفقه، من خلال تبصر تأملي في النسغ الأول للوجود وخلقه، ومن تم فحضور أقانيم النار والماء والتراب والهواء التي تشكل كينونة الوجود لم يأت اعتباطا بل منطلقه عمق معرفي ودراية فكرية غايته شحن النص الشعري بدلالات وجدانية وجودية.فالشاعر هنا شبيه بصوفي يحاول خرق الواقع والحلول مع الكون انطلاقا من رؤية ترى أن الوجود هو ذات الشاعر، وبالتالي فهذه الأقانيم ما هي إلا وسيلة يتوسل بها ليقول إنه جماع هذه العناصر، مقتفيا أثر خليله في الغربة والاحتراق جلال الدين الرومي الذي يقول: "إن الهواء الذي أنفخه في هذا الناي هو نار وليس هواء وريحا، كل ما ليس له هذه النار فليمت"(2) إن الشاعر الحقيقي هو الذي يظل رهين أنفاسه الباطنية التي تتحرق شوقا وتفكيرا في كون لا يكف عن تعميق غربة "أمراء الكلام " لذلك نعثر على الشاعر صلاح بوسريف من المشائين الذين يجرحون المسالك الضيقة بأسئلتهم ومكابداتهم دون رفع الصوت عاليا بل ينصت إلى دبيب الدواخل وآثار الذين تركوا أنفاسهم أسيرة التوه، والضياع في عالم الابتذال، وعلية فالشاعر يغتسل بنار برومثيوس عله يتخلص من ضحالة الحياة يقول:

"دمك

أيها الجسد البليل

كان كلما جلوته

أيقظ في دبيب جمر

موجه بددني "(ص21).

مكابدات تكتبها أبجدية الاحتراق الأزلي الذي يصادق الشاعر جرحا عميقا وانشغالا بهذا الوجود مادام دم الجسد حرقة واغتراب في مسالك الأسئلة التي تحاصر الخطو وتجعل الحلم متسعا للتأويل.

يقول أيضا:

"لا بأس إن كنت غير أليف بما يكفي

فيدي نأت بي إلى مجاهل

لن أكن أدركت ضراوتها بعد"(ص25).

فيد الكتابة تقود الذات إلى ارتياد المجاهل عبر شرفة يتيمة دلالة على الاغتراب القسري الذي تحياه الأنا في تماسها مع العالم لأنها لم تستطع خلق ألفة مع الأشياء المحيطة بها مما جعلها في صراع دائم وأبدي يبين حال التشظي والمفارقات التي تتكبدها داخل الكتابة كأفق شعري عبره تتخلق جماليته وامتداداته الدلالية يقول:

"يدي

كانت تزاول النسيان

ولساني

كان أوشك أن ينام في خرسه"(ص27).

إن اليد تزاول المحو عبر الكتابة وتعيده، وفي هذا موقف رافض لاقتفاء آثار الأسلاف الشيء الذي أدى بالذات إلى إعلان حقها في القول والتعبير بالخط /الكتابة لأنها قدره وسيرته في الوجود، واللسان يحمل رمزية الكلام كاد أن يصاب بالموت لو بقي مرتبطا بلسان الماضي كذائقة، لكن الشاعر اصطفى طريق الكتابة كتجربة وجودية تتحكم فيها ثنائية المحو والكتابة، الغياب والحضور، الحياة والموت، هذه الثنائيات تشكل فعل الكتابة الشعرية الذي يحفز الذات على المجاهدة والمغامرة خلقا وإبداعا مادام جرح الكتابة لصيقا به يقول:

"فادح

هذا الجرح الذي لازمني"(ص29).

إن صلاح بوسريف حمال أسراره، كشاف عن كلومه في حضرة الكتابة منها ينسج تجربة شعرية "تنفر من المنطقية العقلية، وتؤثر الفجوات والفراغات وتباعد العلاقات، وإذا كان السرد يستريح إلى الصياغة المسبوكة المحبوكة، فإن الشعرية تهز عنف عناصر السبك والحبك وتتمرد على عناصر الربط والارتباط"(3) وتنحو"صوب تخييل مفتوح وعلى تسرب المعنى لا على تركزه" لتخلق شعرية المفارقة والمغايرة التي تبئر المكابدة الذاتية التي تنتقل من تجربة في الحياة إلى تجربة في الكتابة، لتنصت لإيقاع الغامض والملتبس المتواري خلف مجاهيل الوجود والموجود.إنها شعرية تعزف سمفونية الذات المحمومة بحرق أرض تمور خسارات يقول الشاعر:

"رويدا

كانت الأرض تناهز خساراتها

من رفع السماء إلى أقصى تخومها

وألقى بكل هذا التعب

في رحابة أرض

ضاعف الألم أنينها"(ص35).

يأتي مؤشر الأرض لترسيخ هذه التجربة ضمن أبعاد وجودية تؤدي بالشاعر إلى الشعور بالتوتر والقلق وعدم اتضاح الرؤية ولعل طرح استفهامات من لدنه يعري حقيقة ذلك، وهذا ما يحقق شعرية الأهوال التي توقع إيقاعات كورالية تحيل إلى المكابدة والألم والغثيان.فالشاعر يخوض تجربة رهانها الشعري التعبير عن هذا القلق والتوتر الذي يجسد موقفه من العالم وتلك مأساة المبدع، ذلك أن صلاح بوسريف شاعر لا يركن إلى اليقين بل هو يرتضي الشك وسيلة للوصول إلى الحقيقة بلغة الشعر ورؤيا لا تهادن بقدر ما تستفز وأيضا لتشييد عوالم شعرية منسوجة بإبر الظنون والارتياب عبر متواليات لفظية وتركيبية وإيقاعية داخلية دالة على الخلق يقول:

"لم أكن

وأنا طفل في بداية شرري

آلف وضوح الأشياء

ولم أكن مطمئنا ليقينها"(ص81).

ثم يقول:

"هل أنت مشبع باليقين

أم

مازلت بعد لم تسلم

بغير الظنون"(ص42).

فهذان الشاهدان الشعريان يثبان أن الشاعر من سلالة الشعراء الشكاكين المرتابين الذين لا يهدأ لهم خاطر، ومن تم فهو لا يعرف التعب سبيلا إليه، وإنما يختار الإقامة في مضايق السؤال ليدنو من شغاف الداخل ويدون سيرته المفعمة بالجراح والاحتراق، حاملا تعبه صديقه في الحياة والكتابة يقول:

"أنا وحدي أزاول ألمي

ولا أتعب"(ص48).

إنه وِزْرُ الإبداع الذي يحمله الشاعر مثقلا بأفراحه ومسراته ليذهب بعيدا إلى أقصى الصمت متأملا مفردات الكون منصتا لارتجاجاته، ومواظبا على الحرقة ومنغمسا في طقوسية لا يبالي فيها بهذه الأعباء التي تثقل كاهل الوجود والكائن يقول:

"هل نضوت عنك وزرك

أم

ما زلت تواظب

اشتعالك بلا كلل

حفيف كل هذا العبء

ما دامت يدي تسير بي

صوب حتف معلوم"(ص50).

هكذا هي الذات مشحونة باغترابها لأن الأشياء المحيطة بها غدت في حكم الغياب، ليزداد القلق والتوتر حدة يكشف عن هذه التغيرات والتشوهات التي لحقت بالمكان، إذ يصبح الزمن لا معنى له في ظل ما آل إليه المكان الذي يمثل ذاكرة الشاعر الجماعية وموطن طفولته الذي يلوذ إليه يقول:

"لم يعد للشوارع نفس الهواء

حتى الضوء

لم يعد يناهز النوافذ كما كان

كانت أنفاسنا معدودة على رؤوس الأصابع

والبيوت لم تكن أبوابها توارب"(ص53).

هذا النفس الاغترابي ملمح من ملامح هذه التجربة ذلك أن الذات الشاعرة تشعر بغربة قاتلة جراء ما اعترى الأمكنة من تشويه وتغير كان له الأثر اللاحب على نفسية وذاكرة ووجدان الشاعر، ولعل هذا نابع من كون المكان بالنسبة إليه جزء من الكينونة، وهذا ما دفع به إلى وضع يده على قلبه خوفا عليها لأنها تحفظ نبض الأرواح وأنفاس البيوت التي كانت دوما مشرعة على المحبة والألفة والحياة يقول:

"يكفي

أن تضع يدك على قلبك

وتنصت

لما فيه من نبض

باغته النسيان"(ص55).

إنه خطاب يحث على ضرورة الإنصات العميق لما يشكل كينونتنا التي تعيش تشظيا قاسيا بفعل عوامل التغيرات الرهيبة التي تشهدها الحياة، وقد تم ذلك بلغة شعرية باذخة في صورها الشعرية التي ترتكز على مقومات استعارية ومجازية تربك الذائقة الشعرية التي ألفت الإنشاد، إنها لغة الداخل تتحدث نبضا ووجدانا يسمو بالذات الإنسانية إلى مراقي الطهر والصفاء. لغة تنماز بالسلاسة والتدفق المنساب الرائق والذي يوحي بدلالات تحاول القبض على المنفلت من التجربة والحياة والوجود.

خلاصة القول إن التجربة الشعرية التي يؤسسها الشاعر صلاح بوسريف تجربة لها فرادتها وميزتها إبداعا ورؤيا لكونها استطاعت أن تخلخل الثوابت الشعرية، وتعلن عن كينونتها هكذا بدون ادعاء، خالقة مشروعيتها الإبداعية داخل الشعر المغربي، إنها تجربة شاعر خبر مزالق الكتابة ومضايقها، إبداعا ونقدا، شاعر لا يقول إلا نصا ينبض شعرا وحياة.

(المغرب)

* * * *

الهوامش:

1- أدونيس: "مقدمة الشعر العربي"، دار العودة، بيروت، ط1، س1971، ص108.

2- عبد الحميد حيدة: "الاتجاهات الجديدة في الشعر العربي المعاصر"، ص101.

3- محمد عبد المطلب: "تحولات اللغة الشعرية الجديدة"، ندوة الشعر العربي الحديث، الجزء الأول، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 2009، ص116.