يشير الكاتب المغربي إلى أن الفتوى ضد رشدي أسست للصراعات السياسية الراهنة والتي تجد مبرراتها في أسانيد دينية وحضارية، أو إثنية وقومية، وتستهدف تطرفاً يهدد العالم الإسلامي والغربي معاً. ويبين أن رشدي يرى أن التصدي للخطاب الفاشي لم يغيير من آلياته التي تعتمد على التهدئة، والتسوية.

سلمان رشدي: هل اغتالته «رمزيا» آيات شيطانية؟

سعيد بوخليط

سنة 1989، استفاق العالم بغتة، وبالأخص المجموعة العربية-الإسلامية، على واقعة متفردة في حيثياتها ومخلفاتها. تعلق الأمر وقتها بإقرار آيات الله الخميني مرشد الثورة الإيرانية، لفتوى دعت إلى قتل الكاتب الهندي-الإنجليزي سلمان رشدي، لأنه أصدر (سنة 1988) روايته المعنونة بـ"آيات شيطانية"، رأى فيها  الملالي شتما وإساءة في حق الإسلام والرسول محمد، وتحريفا لمضامين القرآن.

فتوى أدت إلى زوبعة من الاضطرابات الهائجة، بحيث أخرجت متظاهرين نحو الشارع، فأحرقوا مكتبات وقتلوا مترجما يابانيا بطعنة سكين، واحتراق سبعة وثلاثين شخصا خلال تظاهرة استهدفت مترجما تركيا: أضحى سلمان رشدي أشهر كاتب على وجه البسيطة، لكنه في ذات الوقت أكثرهم رعبا وتعاسة لأنه الوحيد الذي استحال عليه الاستمرار وفق وتيرة حياة عادية، فبقي زمنا طويلا متواريا عن الأنظار، منحصرا بين الحراسة الأمنية اللصيقة أو السرية.

طيلة سبعة وعشرين سنة، إلى درجة أن اسمه أصبح نسيانا منسيا، ولم يستدرجه ثانية صوب الواجهة سوى الحوار الطويل "الاستثنائي" الذي أجرته معه مجلة "ليكسبريس" الفرنسية (شهر يوليوز 2015) بمناسبة الارتجاجات المزلزلة المرتبطة بالعملية الإرهابية، التي أودت بحياة أربعة رسامين كاريكاتوريين مثّلوا علامات بارزة ضمن طاقم الصحيفة الفرنسية الساخرة شارلي إيبدو.

هكذا، قررت جمعية الكتّاب العالميين في نيويورك منحها جائزة الشجاعة وحرية التعبير، غير أن مائتي كاتب ضمن الأعضاء قرروا توقيع عريضة، يشهرون من خلالها رفضهم لتتويج من هذا القبيل، متهمين بالعنصرية الصحيفة الساخرة، لاسيما نحو الأقليات المسلمة. سلمان رشدي، المشرف على تنظيم الأمسية مدركا أكثر من الجميع، كما وضح ذلك، مصير الصحافيين الأربعة المغتالين، لا يريد لموقفه أن يكون متخاذلا، كما حدث معه من لدن الآخرين، وبعد تأكيده، أن رقم مائتين ضمن خمسة آلاف، أي العدد الإجمالي لكتّاب الجمعية، ليست بالنسبة التي بوسعها خلق الجدل، سينفي عن شارلي إيبدو تهمة العنصرية. دليله موقفها المعارض من حزب الجبهة الوطنية، كما أظهر إحصاء لجريدة لوموند أن سبعة افتتاحيات فقط لجريدة شارلي إيبدو تطرقت للإسلام من بين 523 أخرى على امتداد عشر سنوات، في حين انصبت باقي الموضوعات على البابا وإسرائيل واليمين المتطرف الفرنسي وساركوزي وثقافة العنصرية.

طبعا، لا يمكن مطلقا غض الطرف، بأي وجه من الوجوه، عن المشاكل المجتمعية واللا-عدالة والاحتقار التي تحكم ظروف أبناء فئة المسلمين في فرنسا، مع كل ذلك هم متمسكون بالاختيار العلماني. من بين أدلة هذا الإقرار، أن الصحفي الأمريكي جورج باركر مراسل صحيفة نيويوركر قضى زمنا طويلا وسط الضواحي الفرنسية بعد أحداث شارلي إيبدو، ولم ينته إلى سمعه أبدا، حسب روايته لسلمان رشدي، أن هؤلاء الشباب رددوا أقاويل أو شعارات، تتجاوز في راديكاليتها ما تفصح عنه الروائية فرانسين  برزو Prose، إحدى المحتجات على مبادرة جمعية الكتّاب العالميين.

إذن، من حكاية آيات شيطانية، أول نوتة دشنت حسب سلمان رشدي، هذه السيمفونية الجنائزية التي نتابعها حاليا، إلى شارلي إيبدو، مرورا بـ11شتنبر2001، والتكريس الإعلامي دوليا لتنظيم القاعدة ثم الرسوم الكاريكاتورية، وصولا إلى حقبة داعش. صراعات سياسية تتوخى بحثا عن المشروعية، وتغليف أسانيدها بمبررات دينية وحضارية، إن لم تكن إثنية وقومية. يستهدف التطرف فرض ديكتاتورية فاشية تهدد معا العالم الإسلامي والغربي معا. بيد، أن طبيعة العقلانيات، الجدير بها مواجهته، والتصدي لخطابه، لم تتغير حسب سلمان رشدي، بعد مرور ربع قرن عن لحظة آيات شيطانية، بحيث لازالت تستكين إلى منطق التهدئة والبحث عن مسالك التسويات والتنازلات وتبرير مواقف متخاذلة، تجاه تطورات في غاية الخطورة، يستشرفها الواقع الحالي باستمرار.

ينبغي، الانتهاء من هذا الطابور الذي يدعى الإسلاموفوبيا، وأن انتقاد المتطرفين وتقويض بنيات خطابهم، لا تعني بتاتا مواجهة مع الإسلام كديانة سماوية كبرى مقدسة. في نفس الآن، الحرص على الصمت لا يخدم المسلمين، بل على النقيض، يهيئ أرضية خصبة لاستفحال المشاكل وتعقدها.

تعيش البشرية في الوقت الحالي حقبة سوداء لم يسبق لها مثيلا، يجسد معها تنظيم داعش تجميعا تأسيسيا لتراكم بنيات من الارتدادات والإخفاقات، منذ انتهاء الحرب الباردة سنة 1989، بعد انهيار الإمبراطورية السوفياتية، وما أعقب ذلك من تشظية، أشعلت حروبا داخل أوروبا، وتبلور فاشيات صغيرة من بينها التعصب الديني. لكن، إلى جانب التعليلات التاريخية، هناك خطأ استراتجي قاتل ارتكبه الغرب، تمثل في دعمه لدولة كالسعودية ذات المرجعية الوهابية نظرا لثرائها المادي الهائل، مما فتح لها الأبواب على مصراعيها كي تبث طيلة أجيال وعلى امتداد العالم قاطبة رؤيتها للإسلام، دون أن ننتشل طبعا داعش من هذه البنية الفكرية.

لقد صار هذا التنظيم دوليا يضيف سلمان رشدي، لأنه يضم أفرادا قدموا من الشيشان وأستراليا وبلدان مختلفة. الراديكالية الدينية تخلق حولها نوعا من الجاذبية، فأن تمنح سلاح كلاشينكوف ولباسا أسود إلى شاب يكابد حرمانا وظلما مجتمعيا وسيكولوجيا، ثم لا يتبين أي أمل، وتترصده دعوات الكراهية داخل المساجد فسيغدو لديه القتل ممارسة تشعره بلذة خاصة. وقد لعبت مواقع التواصل الاجتماعي دورا مفصليا في تأجيج الخوف والاهتياج. منظومة التقنية هذه عبر الإيقاع السريع جدا لتغير عالم المعلومة، خلقت عموما في بعدها المعرفي اضطرابا لدى الناس، مما يجبرهم كي يلتفوا ويتمسكوا باليقينيات، في مقدمتها خطاب الدين طبعا عبر ثبات حقائقه الأبدية مما يمنحهم الاطمئنان.

يستحضر سلمان رشدي بحنين العقود السابقة، ليس فقط داخل بلده الهند، عبر جيل العلمانية بزعامة جواهر لال نهرو، بينما تتجه اليوم بحدة نحو التعصب الطائفي، والتوظيف السياسي للتمايزات الدينية، لكنه أيضا يرثي لمآل أمكنة أخرى مثل بيروت وطهران ودمشق، اشتهرت سنوات الستينات والسبعينات بانفتاحها وتسامحها وتعددها الفكري، بينما هي اليوم للأسف الشديد اتجهت ثانية نحو الانغلاق العقائدي وتحولت إلى فضاءات لنزاعات جسيمة.

هل اختُزل تاريخ الكتابة لدى سلمان رشدي بالنسبة للرأي العام، عند سنة 1989، مع عمله الرابع آيات شيطانية، نظرا لما أثارته جوانب من مضامينه، بينما بلغت حاليا إصداراته ثلاثة عشر مؤلفا؟ وضع يرفضه سلمان رشدي معترفا بانعكاسه السلبي على أطروحاته الأخرى، جازما بأنه ليس محللا سياسيا ولا كاتبا دينيا، بل هو كاتب للمتخيل. الخيال، بمفهومه الراديكالي، على منوال حكايات الطفولة وخرافات الكتاب الهندي "باشاتنترا" ثم ألف ليلة وليلة.

سلمان رشدي، الذي يزاوج بين التعليم القرآني والثقافة الأنجلوساكسونية، صاحب أصول إسلامية لكنه لا يتنازل أبدا عن توجهه العلماني، عاش متنقلا بين الشرق والغرب، مستلهما موضوعاته على مستوى الكتابة بين سان فرانسيسكو وإسلام أباد، ومدن أخرى، يتماهى مع تعدده الإثني والمعرفي، فيمتنع عن منح وظيفة ما للكاتب، أو تقديم الدروس والمواعظ، بين طيات النصوص الإبداعية. بالتالي، احتفى بنوعية وطبيعة الحكي، مثلما زخر بها كتاب تراثي إنساني هائل هو "ألف ليلة وليلة". النص، طافح بحقائق عن الطبيعة الإنسانية، لذلك يهز دائما العقول والأفئدة، في اتجاه هذا المنحى أو ذاك، حسب المرجعية التأويلية لكل واحد. هكذا، عشية الربيع العربي في مصر، طُرح السجال ثانية عندما تقرر إبعاد ألف ليلة وليلة، لأنه يزعج المتزمتين.

بعد روايته الأولى "أطفال منتصف الليل"، التي فتحت السبيل أمام باقي الكتّاب الشباب داخل بلده الهند، بحيث تتقاسمهم آنيا اتجاهات الأدب الجنسي والخيال العلمي وروايات الرصيف، ثم كتاباته المهتمة أساسا بموضوعات الهجرة وتصادم الثقافات والقضايا القومية، وبعد انكبابه لسنوات طويلة على تدبيج مذكراته المعنونة بـ"جوزيف-أنطون"، تحول سلمان رشدي إلى الأسلوب السوريالي، مع روايته الجديدة: سنتان، ثمانية أشهر، وثمان وعشرين ليلة. عمل، يفترض أن يخرج  إلى المكتبات شهر سبتمبر الجاري، استلهم الروح السردية لألف ليلة وليلة، كما تظهر صياغة العنوان كي يتناول حدثا عجائبيا متخيلا، يتمثل في وقوع نيويورك تحت سيطرة فئة من العباقرة.

الكرة الأرضية في طريقها بغير رجعة نحو التعدد الثقافي، المتسامي مفهوميا بدرجات عن النسبية الثقافية، ولا توجد قوة يمكنها أن تحول بينها وهذا السعي. من ثمة، لا يجوز يضيف سلمان رشدي، التفريط في حتمية سيادة منظومة قيم كونية، لا محيد عنها للبشرية جمعاء، تحت دواعي الخوف من كل تأثر سلبي يمس خصوصية الهوية المحلية لهذه المجموعة أو تلك. ليس المهم أن نكون متفائلين أو متشائمين في هذا الإطار، لكن أساس الحكمة، يدعو إلى إدراك تلك القيم والدفاع عنها حسب مقتضى الشجاعة اللازمة.

هناك تفسير طريف وغريب برّر به  سلمان رشدي تعرضه أحيانا لهجومات عنيفة جدا، من طرف بعض الصحف التي وصفها بالصغيرة، فقط لكونه تزوج امرأة فائقة الجمال، لذلك تناسلت حولهما مقالات "سخيفة" اشتركت في السخرية منهما بوصف: الحسناء والوحش.

إجمالا، الكاتب الذي طارده حنقا، لمدة طويلة، قسم كبير من ساكنة الكرة الأرضية، بسب ما اعتبره مجرد تفسير سطحي لفقرات وردت في عمله آيات شيطانية، فاغتالته رمزيا قبل كل شيء، ربما تحرر أخيرا، مع تقادم القضية من عبء ذلك، ويعيش حياة طبيعية في مدينة نيويورك منكبا على الكتابة أو مسافرا لحضور ملتقى معينا،لا يتطلع سوى لهدفين: نجاحه في تحقيق طبيعة الفنان الذي يسكنه، ثم أن يورِث خزانة من الكتب بعد مماته.

* * *

http://saidboukhlet.com