ذاكرة الوقت المتوّج بالقصيدة

 (سعاد الصباح.. ذاكرة الوقت المتوّج بالقصيدة) اصدار جديد لعضو اتحاد كتاب مصر الكاتب والناقد والشاعر العراقي عِذاب الركابي الذي يتخذ من القاهرة مقرا له ومنطلقا لنتاجه الابداعي حيث يقوم بدراسات مستفيضة للنتاج الأدبي العربي.

 

جاء الكتاب في مايقارب الـ 120 صفحة من القطع المتوسط مقسما إلى عدة فصول ومحتويا على حوار طويل مع الدكتورة الشاعرة سعاد الصباح يكسر الإطار التقليدي للحوارات ويلج إلى حميمية الكلمة ولجة الشعر وفلسفة التعاطي مع اللغة والموروث والحياة.

ويفتتح المؤلف كتابه بقول لموريس بلانشو هو: (السؤال هو رغبة الفكر، والجواب هو نضج السؤال)..

وتقول الشاعرة من ضمن الحوار الذي يضمه الكتاب: (الشعر حياة أخرى.. بالشعر يمكنك أن تتكرر، وتستعصي على الفناء، أن تقفز من سفينة المرور العابر إلى جزيرة الخلود، أخذ مني الشعر كل عواصفي وعواطفي، وأخذت منه كل آفاقه)

وتقول: (الشعر صاغني، وكنت دوما طوع اوامره وجنونه وحنانه وغضبه، فهو ذاته القلق الذي ركبه ابو الطيب.. فكأنما ركبنا الريح)

وتقول د. سعاد الصباح أيضا: (كتبت قصيدة النثر واستهواني أفقها الفسيح.. لكنني على المنبر يصبح صوتي أكثر اكتمالا بقصيدة تحقق شروط الشعر الأصيلة)

 ومما جاء في دراسة عذاب الركابي عن الشاعرة:

العروبة عند الشاعرة سعاد الصباح هيَ كلّ العشق، وكلّ الحياة، وأنّها نزيفُ الكلمات، إذا ما بدا إيقاعُ همّها العروبيّ عالياً، وذلكَ لأنَّ نبضَها القوميّ يتجدّدُ في كلّ كلمةٍ..وكلّ قصيدة..وعلى ضوء كلّ مدينةٍ.. وعلى رقصةِ كلّ قطرةِ مطرٍ عربيةٍ دافئة.. فهذهِ مصرُ - النخلة الباسقة، والغيمة الحبلى بالماء، ولآليء اللقاء.. هيَ البداية!! وهنا الرمز - الثائر وهوَ يُؤسّسُ للألفةِ.. والمحبةِ.. والوحدة، ويضعُ حجرَ الأساس للمودةِ، واللقاء العربي الحميمي الأبدي، ويُؤرّخ للحظةٍ عربيةٍ خالدةٍ، رتّبتها القصيدة، وشمس النضال القومي، والتربة النابضة بالحُبّ.. والدفء.. والأمان:
لا تقولي..سقطَ الفارسُ عنْ ظهرِ الجوادْ
وسجا الحُلمُ المرجّى، وهوى الصرحُ ومادْ
إنّهُ كانَ النبض الّذي يغذو الفؤادْ
إنّهُ كانَ الّذي علّمنا معنى الجهادْ
بيدٍ تبني وتُعلي.. ويدٍ فوقَ الزنادْ
إنّهُ استشهدَ كيْ يُصبحَ للجرحِ ضمادْ
باذلاً في جهدهِ من دمهِ الغالي مدادْ
لوفاقِ العُربِ بعدَ المحنِ السّودِ الشّدادْ
أروِ عنهُ.. أنّهُ قرّبَ أيّامَ الحصادْ
لقيامِ الوحدةِ الكبرى..وتحقيق المرادْ
سائراً في دربِ عمرو.. وطريق ابنِ زيادْ.
قصيدة «عندما رحل عبد الناصر» ص34
ـ والقصيدة عندَ الشّاعرة سُعاد الصّباح إيحاء..!! فهذهِ الرموز العربية الّتي سطّرتْ أنصعَ.. وأخلدَ الصفحاتِ في التاريخ العربي والإنساني هيَ مصدرُ الإلهام وعصب الرؤيا.. وهيّ الهاجس العروبيّ الكبير.. هيَ الثروة، والمجد، والتاريخ،والنبض الحي، هكذا ترى الشاعرة، أنَّ الماضي البطولي سلاح، وأنّ الذاكرة العربية تقاوم الخضوع والكسل بذلك الماضي الجميل، فهوَ الهاجس، والدليل،
وباقة النجوم إنهاء سلطة ظلمة الحاضر.. والتخلص من سهام مستقبلٍ غامضٍ.. مُرعبٍ.. ومخيف:
أجّجوا الحقدَ أيُّها الأشقّاءُ
لمْ تَمُتْ في عروقنا الكبرياءُ
من حنايا عروبتي رضعَ المجدُ
وكانَ العُلا، وهانَ الفداءُ
أنا أُمّي الغرّاءُ فاطمةُ الزهراءُ
وأُختي العظيمةُ.. الخنساءُ
وأبي يعربُ الّذي باركَ الأرضَ
وقامتْ في ظلّهِ الأنبياءُ
وأخي قاهرُ الغزاةِ الصّليبيين
يا ليت تنطقُ الأشلاءُ
هؤلاءِ الكرامُ قومي، فقولوا
مَنْ همو قومُكم؟ ومِنْ أينَ جاؤوا؟.
قصيدة «صيحة عربية»ص36ـ 
4
ـ والقصيدة نغمةٌ..!!
فهذا الإيقاع الصّادر من تربةِ همّها القومي ليسَ تقليدياً. ولا مُكرّراً، إنما هوَ إيقاع جديد، دافق بالحياة بكلّ صدقٍ، وشفّافيةٍ، وحرارةٍ،
والشاعرة إذْ تبدو مُستسلمة لهمٍّ إنسانيّ يُؤرّقها، ويسقيها عذابَ اللحظةِ المشتعلة بالأحلام، ذلكَ لأنّها صَبورة، مُطيعة، خاشعةٌ في حضرة القصيدة الّتي فوضت الشاعرة لها أمرَها، وبدتْ هيَ والقصيدة كعاشقين أسطوريين، قاموس عشقها الشعريّ أبجدية لعصرٍ جديدٍ ـ ـ ووطنٍ جديدٍ..وحياةٍ لا تُعاشُ إلاّ شعرياً:
إنّ في قلبي جواداً عربيّا
عاشَ طولَ العمر في الحُبِّ أبيّا
فإذا عاندتهُ، ألفيتهُ
ثارَ كالماردِ جبّاراً عَتيّا
همسةٌ تأتيه عنْ غيرِ رضاً
يملأُ الكونَ ضجيجاً ودويّا
فحنانيكَ.. وحاذرْ غضبتي
إنّ في قلبي جواداً عربيّا..
قصيدة «جواد عربي» ص43ـ 
5
ـ والقصيدةُ لُغةُ الجسدِ الحالمِ..!
وأصابعُ الشاعرة الّتي ترتعشُ حُبّاً، لمْ تخط شيئاً غير قلائد الحُبِّ.. والانتماء لهذا الوطن، في قلبها خوفٌ، وحزنٌ، وقلقٌ، ويأسٌ، وأملٌ نحيلٌ.. خوفٌ من أنْ يديرَ التّاريخ ظهرهُ للبطولات.. والأمجاد العربية.. خوفٌ من أنْ يحزنَ السيف العربي، ويُسلّم بريقه للصمتِ والضجر والكآبة.. خوفٌ من أنْ تهجرَ الجيادَ خطواتها الشجاعة.. خوفٌ مُزمنٌ يعقبهُ غضبٌ شرسٌ، وهي ترى الوطنَ كمريضٍ في سرير اليأس، تغزو جسده الأوهام.. والذاكرة مُحاصرة برياح البلادة والذبول..من أجلّ كلِّ هذا تبكي الشاعرةُ.. تمرضُ.. تتحطّم، ولكنّها لاتُهزم، بلْ تزدادُ انتماءً للوطنِ، وهي تنتظرُ - كلّ صباحٍ - الفارسَ.. والمنقذ الّذي تشرقُ فوقَ كفّيه الودودتين شمس الولادة.. والخلاص.. والانعتاق:
كُلّما مَرَّ ببالي عربُ اليومِ.. بكيتْ
كُلّما أبصرتُ هذا الوطنَ الممتدَّ
بينَ القهرِ والقهرٍ.. بكيتْ
كُلّما حدّقتُ في خارطةِ الأمسِ 
وفي خارطةِ اليومِ.. بكيتْ!!
٭٭٭
هلْ منَ الممكنِ إلغاءُ انتمائي للعربْ ؟
إنَّ جسمي نخلةٌ تشربُ من بحرِ العرَبْ
وعلى صفحةِ نفسي ارتسَمتْ
كُلُّ أخطاءِ، وأحزانِ، وآمالِ العربْ!!
سوفَ أبقى دائماً..
أنتظرُ المهدي يأتينا،
وفي عينيهِ عصفورٌ يُغنّي.. وقمَرْ
وتباشيرُ مَطَرْ..!!.
قصيدة «إنّ جسمي نخلة تشرب من بحر العرب» ص94ـ 
6
ـ والقصيدة رؤية..«vision رؤية ما لا يُرى وسماعُ ما لايُسْمَع»-
آرتور رامبو، وفي شعرِ سُعاد الصّباح الوطنُ هوَ النبضُ، وتربتهُ الرؤية، وإنسانهُ الشريانُ الّذي يحملُ الدمَ والحياة، ومن هُنا يظلُ الثائرُ - الرمزُ شريانَ هذا الوطن المُصادر، وانتظاره كمُحرّر،  تُنبيء بهِ قصيدة - الصّباح، وتُبرّرهُ، وترصدُ خطواته الملائكية في الحضور والغياب، كعاشقٍ جديدٍ، يأخذُ من الكواكبِ علوّها وبريقها، ومن الشمس ضوءها وهندسة ضفائرها، وهوَ حُلمُ الإنسان الجديد، المشدود لضوء نهارٍ ليسَ ككلّ النّهارات:

كانَ هوَ المهديَّ في خيالِنا
وكانَ في معطفهِ يُخبّيءُ الأمطارْ
وكانَ إذْ ينفخُ في مزمارهِ..
تتبعهُ الأشجارْ