يكشف الناقد المصري في هذه الدراسة التفكيكية عن ثلاثية إدوار الخراط أن الهوية في نصه السردي الطويل ذاك تحت علامة كشط ومحو بالمعنى الذي بلورة دريدا في هذا المجال.

نسيان كينونة الذات

الهوية تحت علامة كشط: قراءة تفكيكية فى ثلاثية إدوار الخراط

حسام نايل

وقال لى: من سألك عنى فسله عن نفسه، فإن عرفها فعرفنى إليه وإن لم يعرفها فلا تعرفنى إليه فقد أغلقت بابى دونه.*

وأما ما كان بقول أو صوت فهو تمثيل.**

قال: "ماذا تفعلين"؟ قالت: "انتظر، سوف ترى".

قال: "يا ساحرة". قالت: "أسلم نفسك لى، تجد نفسك، وتجدنى".***

تمهيد

كنت قد حاولت مناقشة نص إدوار الخراط مستخدمًا استراتيجية التفكيك. وكانت ثلاثية رامة وميخائيل التى تتمتع بشهرة كبيرة فى الوسط الأدبى مادة شديدة الثراء فيما يتعلق بالممارسة التفكيكية. لكنى أحب أن ألفت الانتباه إلى أمرين: يتعلق الأول منهما بضرورة الأخذ فى الاعتبار أن الأدب ليس مختبرًا تفكيكيًا أو ساحةً يُظْهِرُ من خلالها الناقدُ الأدبىُّ قدراته النظرية، وإنما الأدب هو التفكيك ذاته، ولهذه العبارة شرح لن أخوض فيه الآن، ويكفينى هاهنا مجرد التذكير بها. ويتعلق الأمر الثانى بأنى سأعرض حاليًا كيف يفكك النصُّ نفسَه بنفسِه من خلال تجربة النداء، أى أن قدرة القراءة تتلخص فى إظهار الكيفية التى يتفكك بها النص من تلقاء نفسه. وما أقوم به الآن يشتغل ضمن افتراض عام تطرحه علينا ثلاثية رامة وميخائيل مؤداه أن النص يسعى إلى إنجاز كينونة الواحد الأحد من خلال الجسد على مستوى التجربة العشقية بين ميخائيل ورامة. وبطبيعة الحال يحتشد النص بكامله على مستوى بنياته الحرفية والمجازية من أجل تحقيق هذه الغاية. وللقارئ أن يعود إلى كتابى أرشيف النص: درس فى البصيرة الضالة (دار الحوار، سوريا، طبعة أولى 2006م) لو أراد مزيدًا من التفصيلات بخصوص تفكيك ميتافيزيقا الواحد الأحد فى نص الثلاثية سواء على مستوى الكينونة فى الذاكرة أو على مستوى التبادل الكلامى بين العاشقين أو على مستوى الممارسة الجسدية بينهما. أما هنا فسوف أعرض تفكيك مقولة الهوية من خلال الأداء الحرفى والمجازى لتجربة النداء فى النص.

لابد من الإشارة ـ مرة أخرى ـ إلى الافتراض الأولى الذى يصمم وضع ميخائيل الأنطوبلاغى، ولابد أيضًا من الإشارة إلى المؤديات المتضمنة فى هذا الوضع: إن "الكينونة فى الذاكرة" (= الذات التى تلوذ بـ"التذكر" وتلازمه بما هو مقر وسكن جدلى للوجود) هى الذات التى ترغب فى العودة إلى نفسها كما ترغب فى إتمام هذا الرجوع من خلال الصوت الباطنى الذى يتذكر، صوت من دون صوت لأنه مطبوع فى داخليةِ داخلِ الكائن. وهذه العودة وهذا الرجوع هما نهايةُ مطاف الرحلة الجدلية التى تبغى الالتئام الهادئ والتطابق المطمئن مع النفس فى عزلتها وسكينتها الشاردة بكل الرضى: الحصاد الأخير بعد الاختلاف المنهِك؛ اختلاف الذات عن الآخر، وفكرة الآخرية عمومًا، تلك الفكرة التى تأتى بالتنافر والشقاق وعدم التطابق. والكينونةُ فى هذا الوضع الأنطولوجى العام علةُ نفسها ومعلولةُ نفسها فى آنٍ معًا.

بعبارة أخرى: تسعى هذه الكينونة إلى التطابق مع نفسها من خلال صوت وكلام باطنيين يجعلان من الذات مبدأ نفسها. صوت وكلام منقوشان كلاهما فى داخلية الداخل، وهما اللذان يتممان "الهوية" وينجزان "الانغلاق ": الذات بعد أن ضمّت الآخر إليها، كوحدة منفصلة. وهذا معناه أن كينونة ميخائيل فى الذاكرة واعتياشه الدائم على هذا الوضع يجعلان من وضعه الأنطولوجى وضعًا جدليًا بامتياز- على طريقة هيجل- حيثما تنتصبُ الذاتُ فى عزلتها عن كل أحد سواها انتصابَ الحضور الذى يضمنه صوتٌ وكلامٌ باطنيان- داخليان ـ قد قاما بالانقلاب الجدلى وأتمَّاه.

ويأتى هذا الوضع الأنطولوجى الجدلى بـ"الآخر المعشوق" بعد إضفاء ألفة "الداخل" عليه: الآخر الذى يعود إلى داخلية الذات باستمرار ويشتق نفسَه منها على الدوام. وداخليةُ الداخل هذه التى تتحدث مع الآخر أو التى هى بالأحرى حديثٌ إلى الآخر- من دون انقطاع عن الحديث إليه- هى التى تأتى بـ"الآخر عاريًا عن الآخرية": آخر يعود إلى الذاتِ وتنغلق عليه الذاتُ دائمًا- "آخر من دون آخرية":

* لم ينقطع حديثى إليك، فى الحقيقة، منذ سنوات طويلة، منذ عرفتك، هل أقول قبل أن أعرفك؟ وجودك معى، منذ شفق الصبا المُحمَرّ المختلِط الغيام عبر الحوارى والساحات، على حافة الاسكندرية المُزْبِدة بغضب البحر وفى غيطان الصعيد، فى المعتقلات وعلى شط النيل فى الطرانة، فى منعطفات أحلام الشباب الفسيحة الخاوية وعلى تلال أندونيسيا، فى شوارع سنغافورة وعلى الثلوج فى اسكتلندة، تحت الأشجار الإفريقية العملاقة على المحيط الأطلنطى وفى سريرى الضيق فى ماريوبوليس، فى غرفة السطح المعلقة القديمة الطراز فى مون سكاريان وفى الزقاق المطل على خيام الغَجَر فى محرم بك، أتحدث إليكِ وأنتِ غير متحققة بعد ولكن موجودة، وأنتِ هناك حاضرة على الفُرقة، وأنتِ معى فى قمقم حبنا، على السواء.

وما زلت لا أعرف هل تضيقين بهذا الحديث المتصل الذى لا يكف أم تطلبينه، وهل يصل أو لا يصل، على كل تعثّره، وعَطَبه، ونُويَّاتِه العُقَدَية المتخثرة، وهَمَيانه المنسرب السلسال، وشطحه وتحليقه، وهُوِيِّه وانحطامه، الشئ الذى أعرفه تمامًا، أنه، منذ البداية وإلى نهاية غير مرئية ولعلها غير موجودة، حديثى موجَّه إليكِ أنت، وأنتِ وحدك. بيأس- له وجه الأمل المخفىّ- من أنه سيصل إليك، يومًا ما، وأنك ستعرفيننى. كان يقينى كاملاً أننى لن أتلقى ردًا، أبدًا، وأنه لن يحدث أبدًا، هذا الوصل الذى هو حبٌ ومعرفةٌ. معجزةُ الزمن الآخر أنه قد حدث، وأنه يبدو كما لو كان لم يحدث. بقعةٌ محرقةُ النور ستظل أبدًا فى بؤرةِ القلب، لا أكاد أستطيع أن أنظر إليها.
قلتِ لى: ليس موجهًا إلى (الزمن الآخر- 91 ، 92).

إن هذه "الداخلية" التى يدور فيها ومِن حولها كلُّ شئ هى "زمن آخر " يتفادى "الواقعة" و"حدوث الواقعة"- يتفادى الحدوث الفعلى لتجربة العشق. إنها "داخلية" تتفادى بوجه عام "آخرية" الآخر ولا تتفادى "الآخر"، وفى هذا التفادى المقرر بحكم الوضع الأنطولوجى لميخائيل تنبنى التجربة على مستوى "الكينونة فى الذاكرة": كينونة تعرف أن بوسعها ردم الاختلافات وتسويتها والعبور من فوق التشويشات المحتملة التى تعكر على الذات انغلاقها على نفسها ووحدتها الآمنة.

"الذات" هاهنا موصولة بـ"الآخر" على الدوام. وهذه الصلة، هذا الوصال الدائم، هى أو هو النتيجة الجدلية لـ"الكينونة فى الذاكرة" كانقلاب جدلى هذه المرة. وينكشف هذا الانقلاب الجدلى الذى نشير إليه من خلال تجربة النداء :

* الآن أمواج ثبج ليلى لا تحمل لى إلا جسمك الذى يطفو ويغوص أمام عينىّ الغارقتين وفمى الذى يملؤه عباب الرغبة الملح والأشواق المنهكة. أشهق بندائى (الزمن الآخر- 235).

صحيح أن "الواقعة" التى حدثت لن تحدث مرة أخرى لكن بقدرة "الكينونة فى الذاكرة" والاعتياش على ذلك، أن تأتى بها من "الداخل" مرة أخرى. والإتيان بها من "الداخل" تقوم به على المستوى التمثيلى تجربةُ النداء:

* قال لها: ندائى من غير صوت. مُلِحٌّ ولا يتوقف. الطلب الضارب فى العمق الغائر منى، من غير أن أتكلم، هذا هو الأول، هذا هو الأخير. هذا هو الذى يستدعِى، وكأنه يحتِّم الإجابة. ندائى وَجَدك، بل طلبى أوجدك، ووجدى بك هو وجودك، بمعنى من المعانى (الزمن الآخر- 363).

* * *

تمثل تجربة النداء بوجه عام ضفيرة جدلية تردم الاختلاف بين الذات والآخر، ففيها تأتى الذات بالآخر وتُوجده على صورتها حتى يتاح لها الانغلاق عليه فى وحدة كلية واحدة تنجز المعنى والحضور والحقيقة. "آخر" هو "الذات" نفسها: ينوجد بها وتنوجد به فى وحدة واحدة.

وتعتبر كتابة هذا الوضع إعلانًا شعاريًا عن هذا الانقلاب الجدلى: كتابة تنادى "الأصل" وترغب فى الاجتماع به والعودة إليه من خلال الكون فى الذاكرة والاعتياش الدائم على ذلك اعتياشًا يضمن للذات حضورَها إلى نفسها وإلى آخرها المعشوق بعد نزع كل آخرية عنه أىْ بعد نزع كل ما يسلب عن الذاتِ ذاتَها أو يشوِّش حدودَها الآمنة المنغلقة.

والكتابةُ على هذا النحو مفهومةٌ بوصفها تمثيلاً لـ"العودة الجدلية" مرة أخرى بعد الإنهاك الطويل الذى خَصَّب الذات وأنضجها فى الاختلاف الذى أفقدها براءتها الأولى: عودة نهائية وأخيرة إلى التطابق والانسجام داخل الحدود من خلال كتابة تعيد خطَّ الكتابة الداخلية المنقوشة فى الداخل الأليف:

* الوجد الذى لا ينتهى اضطرامًا، والجوى، انحسرت القسوة، وانكسرت أسنان التنين. فهل جاءت قسوات جديدة؟ الحب له لحم الرخام الأبيض الحىّ الغض الناضر، لا يموت، هل تذكرين وردته السوداء الناعمة؟ أضم جسدك الوثير فأعرف حلم جمال العالم وأعرف جسد الحقيقة، أقبّلك فلا يعود ظمأ، أقبّلك بكل الحنو والرقة والظمأ الذى أجد أنه لا ينتهى. عَبَق شعرك بحرافته الدسمة يجعلنى أحيا وأموت وأحيا وأموت فى إيقاع نبض الدم الذى لا يتوقف عن أن يناديك.

* * *

إن الفرض الذى نشتغل فى إطاره الآن هو أن "تجربة النداء" تنوب تمثيليًا عن "الكينونة فى الذاكرة" وعن "الوحدة الكلية" المنقوشة فى داخل الذات الأليف إليها، وحدة تنوى هذه التجربةُ إنجازَها وإليها يعود المعنى والحضور والحقيقة. والحق أن هذا الفرض يصوغه النص على هيئة أسئلة:

* قال: حبى لك- كاليأس- لا ينكسر، كلاهما، هل قلت لك ذلك من قبل؟ هل تعرفين الآن لماذا لا أناديك؟ فماذا يكون إذن هذا الشوق؟ كيف يمكن أن يكون النداء بلا صوت؟ لأنه أعمق، بما لا يقاس؟ وسطوته نهائية (الزمن الآخر- 321، 322).

ولعلنا من خلال الشواهد المقتبسة سابقًا نلمح لـ"تجربة النداء" وضعين: الأول هو "النداء بصوت وكلام"، والثانى هو "النداء من دون صوت وكلام". ومن المفترض أن تمثل هذه التجربةُ "ضفيرةً جدليةً" تجمع الذات العاشقة إلى آخرها المعشوق فى "وحدة واحدة" ينبع منها كل شئ.

1- الشقاق فى الحضور: تجربة النداء الذى يقول (أنا)

إن اللغة، وهى الشرط فى الحساب، لا يمكن تصحيحها بالحساب.
مصطفى صفوان*

يُمَثِّلُ النداءُ تجربةَ إظهارٍ للمنادِى والمنادَى عليه وإدلالٍ عليهما فى آنٍ معًا. يكتب صاحب اللسان: "نادى بسره: أظهره ... وفى التهذيب: قال، نادى ظهر"(1). النداءُ لذلك تجربةُ تخارجٍ وظهورٍ لما كان فى الداخل، ولذلك هو أيضًا دليل عمومى على الحضور: الحضور من خلال الصوت بوجه خاص. صوت يضطلع بتجربة ظهورٍ هو تخارجٌ من خلال النَفَسِ. إنه الصوت الذى يكشف عن الرغبة فى الآخر والحضور إليه من خلال إحضاره، بعد أن كانت هذه الرغبةُ معتمًا عليها فى الداخل. وليس النداءُ إعلانًا عن الرغبة فى مجالسة الآخر والاجتماع به والركون إليه فحسب وإنما هو إنفاذ عملى لهذه الرغبة وضمان لفورية تحقيقها أيضًا(2).

لا يعود النداء ـ بهذا المعنى إذن ـ مجرد دليل عمومى على الحضور فحسب بل يصير هو "الحضور" من خلال "ذات" و"آخر". وهذا الآخر يمكن أن يتضمن الآخر عمومًا إلا أن النص يقيد هذه الإطلاقية بالتجربة الحبية أو العشقية بين ميخائيل ورامة. ومن أجل فهم كيفية الحضور المخصوصة التى ترمى إليها تجربة النداء لابد من تدقيق وصف طبيعة العلاقة بين رامة وميخائيل، وبخاصة أن النصَّ نفسَه يراوح بين صفة "الحب" وصفة "العشق":

* لماذا لا أحب كلمة العشيقة بكل ما تحمل من إيماءات التحلل؟- هى أيضًا لا تطيقها- لماذا أقول دائمًا "الحبيبة"؟ (يقين العطش- 163).
* كان المكتب خاليًا، للحظة، فاقتربت منه ونفضت عن كتفيه شيئًا، بحركة أُلفةٍ كأنها زوجية، وإن كان فيها تواطؤ العشيقة.
العشيقة، كلمة لا تُطيقها، قال لنفسه، تَذَكَّرَ أنها قالت له فى أول أيامها باستنكارٍ نهائىّ: أنا؟ "عشيقتك؟" (يقين العطش- 187).

وهذا التدقيق لازم من أجل فهم الوضع الأنطوبلاغى لتجربة النداء وعلى أىِّ نحوٍ تشتغل هذه التجربة فى النص، حتى لا نقع فى الحياد الفارغ للدلالة المعجمية.

تتأرجج السلسلة الدلالية لمفردة "حب" بين علاقتين، الأولى هى علاقة بين إنسان وإنسان رجلاً كان أو امرأة: الرجل الصديق والمرأة الزوجة دون أدنى إلماح جسدى أو شهوى. والثانية هى العلاقة بين إنسان والله(3). ومن الواضح أن التجربة التى لها صفة "الحب" تنطوى على علاقة اجتماعية تتميز بالوداد والألفة: تجربة متعلقة بميل قلبى منضبط أخلاقيًا على النحو الذى يجعل منها تجربة مظللة بالشرعية والحقوقية التى تضبط العلاقة بالآخر. الألفة والوداد من أجل الرب، من أجل الله، بغية الوصول إلى العلاقة المقننة والمنضبطة بـ"الله". وعلى الضد من ذلك السلسلة الدلالية لمفردة "عشق" التى تتحدد أساسًا بأنها زيادة وفضلة، زيادة الحب وفضلته(4)، تهيجان كلتاهما شدة الهوى والتهتك الجسدى الملازم للشهوة المشتاقة(5): إنها الزيادة التى تفتح الجنون والصمت والموت. ومن الواضح أن التجربة التى لها صفة "العشق" هى تجربة ما لا ينضبط ولا يقبل التحديد شرعيًا ولا حقوقيًا بل وهى تجربة التهتك الجسدى المستمر. هى تجربة الزيادة فى الحب، تلك الزيادة التى تتضاعفُ باستمرار وتُوَصِّلُ إلى الصمت والجنون والموت، ولا تكف عن أن تزيد. هى تجربة مالا يقبل الانضباط بحالٍ، ويتأبَّى عليه. وعندما يستخدم النص مفردة "حب" أحيانًا لوصف تجربة ميخائيل ورامة فإنه يدمغها بهذه الظلال على النحو الذى لا يمكن معه فهم صفة "الحب" إلا فى الزيادة التى تنطوى عليها صفة "العشق". هناك إذن فى النص تخصيب دلالى لمفردة "حب"، وهو التخصيب الذى ينقلها من مجالها الدلالى المنضبط نسبيًا إلى المجال الدلالى اللامنضبط الذى ينطوى عليه "العشق": مجال التهتك الجسدى وشدة الهوى المشتاق، أىْ مجال الجوع المستمر لجسد لا يشبع أبدًا.

ويُلجِئنا النصُّ إلى ضرورة فهم تجربة النداء- من حيث هى تجربة أنطوبلاغية- فى صميم هذه التجربة المخصوصة: العشق أو الحب الذى يتهتك. تجربةُ النداء إذن تجربةُ اجتماعِ الذاتِ العاشقةِ بآخَرِها المعشوقِ والتئامِها به وإظهارٍ لألفةِ وصالِ جسدين وإدلالٍ على دفءِ القربِ الحاصل. هى تجربة الألفة القصوى التى تستجلب الحضور إلى الآخر المعشوق من خلال إحضاره، هى أيضًا تجربة القرب منه فى تهتك الحب والدفء الذى يتنزى(6) :

* أنين نداء للمرأة التى احتضنتها، وعشقتها، وكرهتها، وأحبها، وأخذتها إلى قلبى، وعرفت غور أغوارها، ودفء رحمها، ونعومة ثدييها، وقسوة عينيها، وشهقات شهوتها، ومجدها وانكسارها، وطعم دموعها، وأموت كل يوم، كل يوم، ظمأ إليها (رامة والتنين- 39).

غير أن النداءَ يصير أيضًا علامةً على قربِ الذات من نفسها ومن آخرها المعشوق فى آنٍ معًا، أىْ تستجلبُ تجربةُ النداءِ الحضورَ بما هو درجة الألفة القصوى من ناحيتين: أولاً من ناحية ميخائيل بخصوص نفسه، وثانيًا من ناحية المعشوق حيثما القرب منه فى تهتك الجسد:

* يجيئنى نداؤك، وأنت نائمة، بصوت شاك، طفلى: ميخائيل.. أين تذهب؟
ويشق النداء قلبى شقين لا التئام لهما.
ومع ذلك، فعلى شفتيك، أنتِ وحدك، أصطلح مع اسمى.
لا صلح لى مع غربتى عن نفسى.
إلا ولحم ذراعيك حول عنقى، وصدرك الناعم فى حضنى، وأنت تناديننى باسمى، الحب يتقطر من شفتيك. فى غورك وحده أعرف أننى أنا، ولست غريبًا عنى. ولكنه قال: إذا هربتَ من الرحمة، فالرحمة سوف تهرب منك (الزمن الآخر- 212).

لكن تجربةَ النداء تجربةٌ تكون فيها اللغةُ فعلاً أنطولوجيًا تنكشف من خلاله الذات التى تدرك نفسَها فى اتجاهها إلى آخرها المعشوق. ولذلك سنأتى الآن إلى تحليل كيفيات الاشتغال الأنطوبلاغى لهذه التجربة من أجل الكشف عن المستوى الخبئ من الافتراضات غير المعلنة التى تقوِّض تلك المعلنة.

* * *

* أهمس بصرخة خافتة أخاف أن يسمعها أحد، باسمك:
- رامة.. رامة..
بنداء لا سيطرة لى عليه، ينشق عن شئ آخر فى داخلى، شئ غريب عنى، هو أنا (رامة والتنين- 39).
* يناديها وفمه مسدود: رامة، رامة. وفى صدى ندائه ما يخيف (رامة والتنين- 191).
* كان نداؤه الوحشى باسمها فى كل مرة جرحًا جديدًا (رامة والتنين- 38).

فى اللحظة التى يُفترض فيها التأشير على القرب الملامِس، القرب القريب جدًا لكينونتين معًا أو بالأحرى جسدين معًا- تنطوى تجربة النداء بدلاً من ذلك على شئ من عنف مضاعف. فـ"النداء"- على مستوى تجربة العشق التى يستمدُ نفسَه منها- يفترض أولاً حضورَ المنادِى ويفترض ثانيًا حضورَ المنادَى عليه فى مستوى النظر والرؤية(7). وفى حالة اختفائه من مستوى النظر والرؤية فهناك على الأقل الإدلال عليه فى عبارة النداء، ذلك الإدلال الذى يأتى به طيفيًا من خلال النطق باسمه. وذلك تماشيًا مع الافتراض المعلن الخاص بأن تجربة النداء فى تجربة العشق بين ميخائيل ورامة هى تجربة الحضور بامتياز لكينونتين معًا حضورًا جسديًا بالدرجة الأولى. لكن المنادَى عليه (= الآخر المحبوب) يشرع فى الاختفاء حالما يظهر اسمه. حقًا يتكرر الاسم رامة إلا أن هذا التكرار يُعَرِّضُه لـ"محوٍ" غريب بدلاً من أن يكون ضمانة لحضوره، حيث يظهر الضميرُ "أنا" الدالُّ على الذات المنادية بدلاً من الضمير "أنتِ" الدالِّ على الآخر المحبوب المنادَى عليه. وقد كان هذا الإدلال الأخير بـ"أنتِ" يضمن على الأقل حضورَ الآخرِ المنادَى عليه فى القرب الملامِس الذى يُوَفِّرُهُ الطيفُ: حضور طيف الحبيب، حيثما يضمن الطيفُ فوريةَ حضورِ الآخر المعشوق ولو كان هذا الحضور على مستوى الخيال. الخيال يُوَحِّدُ المتفرِّقات، أليس كذلك؟ لكن هناك محوًا غريبًا حتى لهذا النوع من الحضور: الطيف. وهذا المحو يضطلع به ظهورُ الضمير "أنا" الدالِّ على الذات المنادية. وذلك ظهور يمحو الآخر المنادَى عليه، وإدلال يبتعد بالآخر المعشوق وطيفه فى آنٍ على الرغم من تكرار اسم الآخر. وليس هذا المحو مجازيًا: بمعنى أنه لن يمكن القول بأن هناك ردًا ظاهراتيًا أنطولوجيًا لـ"أنتِ" إلى "أنا". إن محوَ الآخر المعشوق محوٌ أصلى وابتعاد أصلى. هناك فى اللحظة المظنون فيها اجتماع الذات المنادِية بالآخر المنادَى عليه والتئامهما معًا، فى هذه اللحظة التى تُؤَمِّنُ درجةً قصوى من الحضور معًا، لحظة النداء من أجل اجتلاب أنس الذات بالآخر أنس ملاعبة- هناك نأىٌ بالذات عن الآخر، ترحيل للآخر ورحيل عن الآخر، محو للضمير الآخر الذى قد كان يضمن ولو المُلامَسة التى يوفرها الطيف فى هذيان العشق. فى لحظة النداء على الحبيب هناك فرار وانتشار وتفرُّق عن الحبيب(8). ينطوى النداء إذن على حركة ابتعاد عن الآخر وانقطاع عنه ومفارقته: رحيل. يصبح مكانُ الآخر فى النداء شاغرًا مثلما نهشة حية تشير إلى فراغ. وهى شاغرية تتعلق بالآخر وتخص الآخر كما تتعلق بمحو واستبدال غريبين. أىْ هى شاغرية سرعان ما تومئ إلى إحلال من نوع غريب.

إن هذه الشاغرية بمعناها المزدوج هذا، تشير إلى أمرين: يتعلق الأول بـ"محو" الضمير "أنتِ" الدالِّ على الآخر و"إحلال" الضمير "أنا" الدالِّ على الذات مكان الآخر، وهذا المحو والإحلال فى آنٍ معًا يشيران إلى الإشاحة عن الآخر المعشوق وإلى ابتعادٍ مطلق عنه. ويتعلق الثانى بالإيماء إلى رجوع الذات إلى ذاتها، وهو رجوع مدلول عليه بـ"ظهور" الضمير "أنا". إنه الرجوع الذى هو اعتزال للكينونة وانكفاء لها على نفسها. يقال: "ندا فلان... إذا اعتزل وتنحى"(9). وبذلك يصبح النداءُ مع هذا المحو الغريب ومع هذا الإحلال الغريب- تجربةً فريدةً لحضور الكينونة المنادِية وإحضارها إلى نفسها بدلاً من كونه تجربةً لـ"الحضور معًا": حضور الذات والآخر فى أنس العشق. وهذا النُدُوُّ وهذا الاعتزال بهذه الكيفية يجعلان من تجربة النداء علةً لاجتماع الكينونة بنفسها. إن الذاتَ المنادِية التى تعود إلى ذاتها فى النداء تصبح معلولاً لتجربة النداء. فى الصوت والكلام (= صوت النداء وكلامه) ترجع الذات إلى ذاتها وتنأى عن الآخر مما يجعل من هذه التجربة صوتَ المعتزل فى انضمام نفسه إلى نفسه والتئامه بنفسه مثلما نسيج الخلايا الذى ينضمُّ بعد هَتْكٍ. وفى اجتماع الذات هذا بنفسها يتحقق للوجود الذاتى أنسُه بهويته: عودتُه إلى نفسه حيثما يكون الموجودُ عينَ وجوده فى نسبته إلى نفسه(10). وإذا كان ذلك كذلك فإن تجربةَ النداء علةٌ لـ"الهوية" حيثما يكون ميخائيلُ أقرب ما يكون إلى نفسه فى النداء، وحيثما ترجع الذات إلى نفسها فتكون فى نسبةٍ واعتبارٍ ذاتيين. النداء لذلك هو الوجود، إذ إن ميخائيل يكون أقرب إلى نفسه مدركًا نفسَه بنفسِه. يكتب عفيف الدين التلمسانى: "لا شئ أقرب إلى شئ من نفسه إلا الوجود، ولذلك إنه إنما يدرك نفسه بالوجود، فالوجود علة اجتماعه بنفسه"(11). فى حركة نَفَسِ النداء، فى صوت النداء وكلامه يدرك ميخائيلُ وجودَه ويرجع إلى ذاته. هناك فى النداء- لذلك- اقترابٌ من باطن الذات، وليس آلف من هذا الاقتراب. لكن فى هذا الرجوع إلى الذات وفى هذا الاقتراب من الباطن الأليف- نكتشف الهزء والتلاعب بداخلية الكائن. هزء وتلاعب يسمحان ليس بـ"الآخر" وإنما بـ"الآخرية" وبـ"الغريب على الإطلاق" فى "الداخل الأليف" السماحَ الذى يتفرق بالذات عن نفسها ويبتعد بها عن نفسها و"ينتشر" بها عن نفسها. إن الرجوع إلى الذات فى تجربة النداء لا يضمن إحالة الذات إلى ذاتها، لا يضمن تطابقها مع نفسها ولا هويتها فى نسبتها إلى نفسها نسبةً ذاتيةً إذ هناك "آخرية" لا تنى تطل على الذات من داخلها الأليف. هناك انتشار

يصبح الإتيان بـ"أنا" الذى هو محو ٌ لـ"أنتِ"- وليس آلف من هذا الإتيان- يصبح "وجهًا للغرابة" وإشارةً إلى "الغريب على الإطلاق" فى الداخل الأليف: الآخرية ماكثة فى الباطن الأليف. ينطوى النداء إذن على شئ من العنف المضاعف: الابتعاد عن "الآخر المحبوب" والرجوع إلى الآخرية التى تنطوى عليها الذات نفسها- "أنا".

* * *

إن قول "أنا" أو النطق بها لا يعنى" سوى إحضار الذات إلى ذاتها. هذه الـ"أنا" إتيانٌ بـ"الذات" إلى ذاتها ولا شئ أقدر على هذا الإتيان سوى هذه العلامة "أنا" المقولة أو المنطوقة؛ ذلك أنها العلامة التى تُعَيِّنُ الذاتَ فى حضورها المشار إليه من خلال هذه العلامة الأليفة جدًا. علامة منطوقة يُفترض فيها أنها الدرجة القصوى من التأشير على حضور الذات، حيثما تدرك الذاتُ نفسَها بنفسِها عندما تقول "أنا". وهى لذلك علامةٌ على تمامية الحضور. وتمامية الحضور هذه هى التمامية من دون مواربة ولا مجاز. علامة هى دليل حرفى على الحضور من دون أدنى انعطاف. إن "الذات" من خلال هذه العلامة تباشر حضورها بنفسها دون وساطة، بمعنى أن العلامة "أنا" تبلغ درجةَ أنها ليست إشارةً إلى حضور "الذات" الناطقة بها ولا علامةً على هذا الحضور وإنما هى "الحضور" بذاته وقد حضر معلنًا عن نفسه صراحةً: تحديد الذات الحاضرة وتعيينها فى حضورها لحظةَ أن تنطق "أنا" مبينةً عن هذا الحضور. لكن عندما تكون العلامةُ "أنا" أو الإتيانُ بها وشايةً بـ"الآخرية" التى تنطوى عليها "الذاتُ" ووشايةً بـ"الغريب على الإطلاق" النابع من داخلية الداخل الأليف إلى "الذات"، وعندما تكون العلامة "أنا" هى الغرابةُ معلنةً عن نفسها وعن نشوئها من داخل "الذات" التى تقول "أنا"- فكيف نفهم حضور "الذات" إلى ذاتها فى قول "أنا"؟ وهل تصبح هذه العلامة منذ الآن حضورًا لـ"الذات" إلى نفسها؟ وإذا لم يكن فهل هناك لعبة مجازية لا ندريها تنحرف بالعلامة "أنا" عن أن تكون حضورًا لـ"الذى يقول أنا"؟ وإذا لم يكن فهل نحن مع "تجربة النداء" هذه أمام بنية حرفية "تضل" عن نفسها، أو بالأحرى تشتغل حسب ضلال أساسى فيها، ضلال ذاتى وصميمى يقودها فى كل خطوة وموضع؟

بكلام آخر: لماذا لا يمضى الامتياز المعقود للعلامة المنطوقة "أنا"- ذلك الامتياز الذى يربطها بالصوت بما هو تعبير مباشر عن الروح وبالنَفَسِ بما هو الإحالة على الداخلية والوعى- نقول لماذا لا يمضى هذا الامتياز نحو تجهيز تمامية الحضور بما هو نتيجة فورية ومباشرة لارتباط العلامة "أنا" بـ"مرجعـ"ـها- الذات الفاعلة؟

إن التعامل بجدية مع هذا السؤال يستلزم تحليلاً لتصور ميخائيل عن "موضوعة الحضور "، تلك الموضوعة التى تؤسس المعنى والحقيقة حسبما يراهما النص. وذلك حتى تتاح معرفة منزلة "الكلام" داخل هذه الموضوعة عمومًا.

ينبع "الحضور" من "أصل" يراه ميخائيل متحققًا فى نشوة "التبادل الجسدى الشهوانى" مع الآخر المحبوب (= رامة). ففى هذا التبادل، فى هذا الحضور الأصلى، ينعدم الكلام لكون الأصل قد حضر بنفسه، فما هذا الأصل الذى يحضر؟:

* ومن أمام زجاج هذه النافذة العريضة نفسها، المطلة على البلاط الأحمر القديم فى الشرفة الكبيرة على الكورنيش، كانت تمرق عصافير الجنة السوداء، مستدقة الذيل رفيعة الأجنحة ترفرف بنوع من اليأس، هل تريد أن تدخل عليهما إلى الدفء والكِنّ الكنين؟ بينما يتقلب الجسد بين اليدين الحاذقتين المُحييتين، تجوسانه وتتكشفان من جديد أغوار معرفةٍ لا تنتهى ومتعةٍ لا تغيض. وكانت القربى التى لا يمكن أبدًا أن تكون أوثق ولا أعمق، فى الغرفة العلوية المنيرة من الفندق الاسكندرانى على البحر، حيث كان الجسم الواحد المثنى الذى لا نهاية لأطرافه وجذوعه المتحركة التى تتماس وتتعانق وتتمرغ وتقوم وتتصلب وتتموج، ويسيل الحجر فى رفرفة الألوهية نفسها (الزمن الآخر- 192).

يعود "الحضور إلى الأصل" و"أصلية الحضور" إلى "رفرفة الألوهية" التى تكون متاحة فقط لحظة "التبادل الجسدى الشهوانى" بين العاشقين. إن موضوعة الحضور تدور بوجه عام حول الاجتماع الجسدى مع الآخر المحبوب فى عنف الشهوة المشتاقة ورقتها، فهذا وحده هو ما ينجز الحضور من حيث هو حضور إلى الأصل: كينونة الواحد الأحد. وامتيازُ الحضور هذا معقودٌ لـ"التبادل الجسدى الشهوانى" بين العاشقين على طول النص (وسوف نناقش طبيعة هذا الامتياز فى الفصل التالى). وداخل هذا الامتياز المعقود لـ"التبادل الجسدى الشهوانى" من حيث هو حضور إلى الأصل (= رفرفة الألوهية) تنعاش الكلمة (= المنطوقة أو المكتوبة على السواء)- طالما أنها غير مُهَيِّئَةٍ لهذا التبادل- بوصفها انفصالاً دائمًا بين "المدلول" و"الصوت"، بين "المفهوم" و"جسم الدال"، بين "الوجود" و"الكائن". وذلك فى اللحظة التى يصبح فيها التبادل الجسدى الشهوانى "كلمة أصلية" تضمن إمكان "التبادل الكلامى"- كما سنرى فى موضع آخر- المهيئ للنشوة الجسدية التى من خلالها ترفرف الألوهيةُ نفسُها. وتلك هى لحظة "الأصل" التى يستمد منها الوجودُ والكينونةُ معناهما وحضورهما وحقيقتهما على السواء. فى حين يصبح "الكلام" الذى لا يهيئ لـ"التبادل الجسدى الشهوانى" انهيارًا دائمًا لمعنى الوجود والكينونة ولفكرة الحضور عمومًا. وعند هذه اللحظة الحاسمة يفقد الكلام منزلته فى إنجاز موضوعة الحضور. ومن هنا شكوى ميخائيل الدائمة من الكلام والكلمات، فـ"الكلام بالطبع إفقار"(12) طالما أنه لا يهيئ مجئ هذا الأصل أو الحضور إليه. والكلمات هى "الكذبة التى لها وجه الحقيقة، ولها مع ذلك ألف وجه"(13)، وهى قرينة الأوهام التى تحتل الروح فتحول دونها والحضور إلى الأصل:

* قال: مهما لجَّ بى المسعى لا أَصِل. مازالت الأوهام- والكلمات الكلمات الكلمات- تحتل روحى: ومهما حاولت الإفلات أو التملص فإنها متلبّثة لا أعرف كيف أخلص. لا أريد أوهامًا. أريد أن أبلغ نقطة انعدام الأوهام (يقين العطش- 222).

ويُشَبِّهُ ميخائيلُ صراعَه مع الكلمات بصراع يعقوب مع الملاك، ذلك الصراع الذى يحول دونه والحضور إلى الله (= الواحد الأحد):

* صراع مع الكلمات، أليس كذلك؟ مرهِق إلى آخر حدود الإرهاق، ليس فيه انتصار ولا هزيمة. هل تتحقق فيه الوحدة والاندماج.. أصراع يعقـوب مع الملاك على سلم لا يصـل إلى السماء؟ (رامة والتنين- 138).

وترتبط هذه المنزلة المعطاة للكلمات- ومن ثم للدال بوجه عام- بتصور ميخائيل عن "جسده منعزلاً" فى قصوره عن مطاولة "خلجات الروح":

* قال: ليس الجسم هو مجرد الأداة والوسيلة للتعبير عن خلجات الروح، الجسم محدود ومحدد، كالكلمات، لا يطيق أن يحيط بما يحتويه، كلما اتسعت الروح ضاقت بها حدود الجسد (يقين العطش- 160).

و"خلجات الروح" التى يعنيها ميخائيل هاهنا هى "رفرفة الألوهية نفسها" التى تتهيأ بكاملها فى تبادل النشوة الجسدية. وتصل هذه الشكوى من الكلمات والتذمر من قصورها إلى الدرجة التى يتساءل فيها ميخائيل عن ضرورة الكلام:

* أضرورى الكلام، أصلاً؟ (الزمن الآخر- 316).

والحق أن هناك صياغة واضحة بخصوص "الكلام" تراه خيانة لـ"الأصل" ولـ"الحضور فى الأصل" كما يراه النص:

* وكان يظن أن الكـلام- مجرد الكـلام- مهما كان حارًا، أو نابعًا من أصل الحياة نفسها خيانة (رامة والتنين- 8).

إنَّ شجبَ ميخائيل الدائم لـ"الكلام"- وهو تهديد مُبَيَّتٌ لمفهوم العلامة من حيث هى وحدة مترابطة بين الدال والمدلول- راجعٌ إلى هيئة حضور أصلى منعقدةٍ حول "التبادل الجسدى الشهوانى" بين ميخائيل ورامة، وهى هيئةٌ تغذو فكرةً معينة عن المعنى والحضور والحقيقة سنناقش جديتها فيما بعد. الحال هاهنا أن أنموذج الحضور ينعقد بكامله حول "التبادل الجسدى الشهوانى" وليس حول "الكلام" ذلك الذى يستنزف الحياة بدلاً من أن يقدمها على مستوى الأصل. إن الكلام خيانة لأنه يأتى بـ"آخرية الأصل" ولا يأتى بـ"الأصل". الكلامُ آخريةٌ حادثة تجعل من الآخر قائمًا بإزاء الأصل. ليس الكلام إذن مظهرًا للحضور وليس حتى تمثيلاً نقيًا أو نيابةً صافية عنه. فالكلام فى تجربة هذا النص لا ينزع نحو اللوغوس وإنما هو حدوث جديد يأتى بالآخر مجابهًا الأصل. الكلامُ حدوثٌ، وليس الحدوثُ هاهنا صيرورةً بالمعنى الهيجلى ذلك أن الصيرورة بهذا المعنى تشتغل فى إطار نسق كامل من ميتافيزيقا الروح. وإنما الحدوث هاهنا يرتبط بـ"انتقال الأصل" فى كل مرة إلى وضع أصلى جديد... مما يجعل هذا "الانتقال" تهديدًا متواصلاً لفكرة "الأصل" ولـ"أصلية الأصل".

و"الكلام" بهذه الكيفية فى الاشتغال يفتح الاختلاف عن الأصل ويضع الأصل فى سلسلة كاملة من "الاختلافات المرجئة". و"الكلام" على هذا النحو- أىْ كونه الآخرَ الذى يحدث والحدوثَ الذى يقف بمواجهة ما قد حدث عنه (= الأصل)- يهدد فكرة الحضور المنعقدة حول "الصوت"، مثلما يهدد "الوضع التمثيلى" الذى يُقيِمُ الكلامُ فيه ومن خلاله:

فى الصوت والكلام نكون فى حضرة "التمثيل". الصوت والكلام "تمثيل" و"امتثال" لحضور الذات الفاعلة، وبقدر ما هما كذلك فهما يقومان بـ"إزاء" هذه الذات وإزاء حضورها النقى على النحو الذى يكونان فيه خيانة لهذا الحضور كاشفين موضع الاختلاف فيه. الصوت والكلام "محو" لأنهما "ابتعاد" عمَّا يكونان "نيابة" عنه. هناك فيهما "مسافة" مما يكون هو نفسُه بالنسبة إلى نفسه. إنهما التمثيل الذى لا ينوب عن أحد، والامتثال الذى لا يمتثل لأحد. إن إظهار الحضور والإدلال عليه بالصوت والكلام يمحوه لحظة هذا الإظهار وذاك الإدلال. هناك قطع وانقطاع- مثلما فى جرح- بسبب الصوت والكلام. لا يغيب هاهنا أن من ضمن دلالات مادة "كَلَمَ" الجرح. فى كل كلام هتـك وقطع- نهشة الحية(14)- ونقص وفساد(15) وتفرق عنيف(16) عن الأصل: وسمه وجرحه(17). الكلام "لا مطابقة" لأنه يعين فراغًا فى الحضور.

فى كل تمثيل (= نيابة) فراغ / مسافة فارغة / إعدام- يؤسس إمكان التمثيل نفسه. وهذه المسافة الفارغة التى هى إمكانه أو التى تتيحه بالأحرى، تستحضر "الغريب على الإطلاق" وتُجَذِّرُه فى ألفة الداخل الأليف. وليس هذا الاختلاف الذى تكشف عنه العلامة "أنا" اختلافًا فى الكينونة أو مسافة منها يؤسسان إمكان تطابقها فيما بعد- كما هو الحال فى الكوجيتو الديكارتى- وإنما هو "الاختلاف الذى يرجئ" انغلاق الذات على نفسها ويُحْدِثُ فراغًا فى حضورها يحول دون تطابقها مع نفسها. والعلامة "أنا" هى هذا اللاتطابق وهذا الفراغ، وكأن كل مرة نقول فيها "أنا" أو نرجع نحن إليها نكتشف الهزء والتلاعب بتمامية الحضور. إن الكائن الحى لا يحضر إلى نفسه عندما يرجع إلى العلامة "أنا" مما يحول دون لحظة اللقاء السعيد بالحضور النقى والصافى، أىْ يحول دون التطابق الذاتى أو التطابق داخل الذات. وعندما يُنظر إلى هذا اللاتطابق باعتبار مبدأ الهوية نكون أمام لا تمامية الذات. وعندما تعود العلامة "أنا" بـ"الذات" إلى غير نفسها فهذا معناه ضلال صميمى تنطوى عليه العلامة "أنا" التى قد كان يُرْجَى منها تجهيز تمامية الحضور إلى الذات. وعليه، تنطوى العلامة "أنا" بما هى عند هذا المستوى بنية حرفية تُدْرِكُ من خلالها الذاتُ نفسَها- على ضلال صميمى يحكم هذا الإدراك ويُوَجِّهُه على الدوام. إن الذى ينطق معلنًا عن حضوره بـ"أنا" يفقد هدفه باستمرار. وهذا الفقدان أو بالأحرى هذا الحود عن تمامية الحضور نسميه "الاشتغال الأنطوبلاغى"لتجربة النداء (كيف فى هذا الوضع نتكلم عن وحدة الذات أو عن وحدة نص أو عن فكرة الوحدة عمومًا). إن ما قد يترتب على النطق بـ"أنا" يحيد عن هدفه باستمرار وليس بقدرته أن يبنى استدلالاً من أىِّ نوعٍ كان.

إن الدليلَ لا يَدُّلُ.

و"النطقُ" لكونه يتعلق صميميًا بما يحدث أو هو بالأحرى حدوث- وليس نيابة صافية عن اللوغوس- يشى بالاختلاف الذى يأتى به هذا الحدوث. إن "أنا" ليست "علامة"- بالمعنى الذى يرجع إلى سوسير- على ما قد حدث. ليست علامة على "الذات"، وإنما هى ما يجعل من "الذات" حدوثًا مستمرًا يكشف عن "الاختلاف الذى يرجئ" وحدةَ الذات. ما من هوية ثابتة لأنه ما من تمثيلٍ صافٍ للوغوس. ومرة أخرى ليس الحدوثُ هاهنا صيرورةً بالمعنى الهيجلى الذى يشتغل ضمن حدود نسق ميتافيزيقا الروح بما هى الرغبة فى الحضور إلى الأصل، وإنما "الحدوث" هو ديمومة "الاختلاف المرجئ". عندما تكون العلامةُ على "الهوية" حدوثًا وليست نيابةً عن اللوغوس تفقد "الهويةُ" تمثيلَها على مستوى العلامة. إن العلامة "أنا" تنفكُّ عن مرجعها محيلةً إياه إلى كونه دالاً، وهذا معناه أن المدلول لا يمكن له أن يفلت من لعبة إحالات الدوال بعضها إلى بعض وهى الإحالات التى تقوم بتشييد اللغة تشييدًا جوهريًا. إن النطق بالعلامة يدمر مفهوم العلامة ومنطقها بكامله. وهذا معناه- لو توسعنا مع دَريدا- أن كل ما يجمع الكلام باللسان والصوت والنبر والنَفَسِ يكشف عن كونه قناعًا لكتابة أولى(18) .

وهذا الوضع الأنطوبلاغى العام الذى تشى به تجربة النداء حتى الآن يؤهل فكرة الهوية أن نكتبها تحت علامة كشط: الهوية .

وطالما أن النداء حتى الآن هو التجربة التى ترجع فيها الذات إلى نفسها من خلال الصوت والكلام فلا تلتقى بنفسها فإن تجربة النداء على هذا النحو تتجاوب مع فقرات مصوغة بخصوص رامة وميخائيل تقوم بالدور نفسه الذى تقوم به تجربة النداء. فالمرآة لا ترد صورة الشخص (ولنضع فى الاعتبار هنا الاستعارة الأولى التى ترى الكلام مرآة الذات التى تكشفها):

* خرجتُ بعد الظهر وحدى، تائهة، أرى صورتى يردها إلىَّ زجاج واجهات المحلات، مرة بعد مرة، موحشة قليلاً، فى الشوارع المزدحمة التى ليس فيها أحد. صورتى تتردد أمامى، يرسلها إلى هذا العالم المزدحم، لا أجد فيها شيئًا (رامة والتنين- 44).

وبخصوص ميخائيل:

* لم يعد يرى وجهه الساقط داخل صفحة الماء. ذلك هو الحل الناقص. ينظر إلى الماء فلا يرى. نرسيس المنقطع (الزمن الآخر- 124).

لا ترجع "صورة / الذات" بـ"الذات" إلى نفسها مثلما لا ترجع العلامة "أنا" بها. إنها تأتى إلى "الذات" بالإعدام. الاختلاف يُنشئ مسافةً تُبَاعِدُ بين الذات وصورتها مما يحول دون الرجوع الآمن الذى يُحْدِثُ التطابقَ والانسجامَ. ولا يَعِدُ به تاليًا.

فى كل "تمثيل" مُتَصَوَّرٌ أنه اتصالٌ بـ"الأصل" يؤكد أصليةَ الأصل وحضورَه إلى نفسه- انفصالٌ أساسى تشتغل حسبه أيةُ بنية تمثيلية؛ ذلك أن إزاحةً متواترة عن "الأصل" تقوم بها البنى التمثيلية التى تقف بمواجهة الأصل ولا تنوب عنه. إن "الصورة"- صورة المرآة (= الدال) والصورة الذهنية (= المدلول بالمعنى السوسيرى)- التى تردها المرآةُ والتى يُحْدِثُها الدالُّ "أنا" لا نجد فيها شيئًا مما يحول دون تَوَحُّدِ "العلامة"- أية علامة- وانغلاقها على نفسها. إن سرابَ المدلول مدفوعٌ دائمًا بحركة الدال على النحو الذى يجعل من "العلامة"- بالمعنى السوسيرى- مؤشرًا على هذه الحركة. العلامة تُعَيِّنُ اللاتطابق والاختلاف وليس الوحدة.

إن بنية الكلام- التى هى متصورة أنها بنية تمثيلية تعود إلى الأصل الذى تنوب عنه- تكشف عن الاختلاف القائم فى كل أصل. وبعبارة أخرى وأخص قليلاً: يتخلى تمثيل الذات عنها فبدلاً من أن يطابقها مع نفسها يكشف عن الاختلاف الماثل فيها: وجه العدم.

هناك إذن ارتباط بنيوى بين "الاشتغال الأنطوبلاغى" لتجربة النداء حتى الآن وما تطرحه بخصوص فكرة العلامة من ناحية، وبين رسالة رامة المكتوبة ونظرة ميخائيل إلى صفحة الماء، وذلك بالمعنى الذى لا يرجع فيه الدال إلى مدلوله (= موطن الدال الذى نبع منه). ويكشف هذا اللارجوع عن الاختلاف الأصلى الذى يؤجل التطابق، ذلك التطابق الذى قد كان مرجوًا منه أن ينتج الدلالة وتاليًا ينتج معنى الحضور وحضور المعنى. ويوضح الاختلاف بين العلامة ومرجعها وعدم إحالتها عليه أنه لا شئ يفلت من حركة الدال "وأن الفارق بين الدال والمدلول هو فى خاتمة المطاف لا شئ"(19).هناك حركة مشبعة للدال على النحو الذى يؤجل المعنى باستمرار، وبالضرورة معنى الحضور.

* * *

يشى "النداء" على الآخر المحبوب بإبعاد الآخر ومحوه، وينطوى بدلاً من الحضور إلى الآخر وإحضاره على الرجوع إلى الذات المنادية وَاسِمًا موضع الاختلاف فيها، الاختلاف الذاتى الذى تنطوى عليه الذات فيحول دون تطابقها. هناك انفصال داخل الكينونة المنادِية غير قابل للترميم، ويهيئ هذا الانفصالُ ويدعم كيفيةً أنطولوجية للوضع الميخائيلى تجعل مشكل الهوية غير قابل للحل:

* كيف أفسّر الفراق والنَأى، وقر النوى، أن تمرَّ سنواتٌ دون لقاء، كيف أفسر قطيعة بينى وبين جسدى نفسه؟ كيف أفسر أيضًا الانفصال؟ هل يمكن أن ينفصل المرء عن ذاته؟ (يقين العطش- 165).

فما النداءُ على الآخر المحبوب سوى عودةٍ أنطوبلاغية للشقاق داخل الذات التى تنادى، على النحو الذى يصبح معه النداءُ بما قد كان يفترضه من تماهٍ فى كينونة ترغب فى توسيع تماهيها بضم الآخر إليها- يصبح تهديدًا مبيتًا باستمرار لكل اطمئنان ماهُوىٍّ. هو بذلك يهدد إلحاق الذات بذاتها، ذلك الإلحاق الذى قد كان يبشر بإلحاق الآخر بها ويَعِدُ به تاليًا. تُعَيِّنُ تجربةُ النداء إذن الاختلافَ فى الهوية،وهو اختلاف ليس له الصبر الهيجلى (الرومانتيكى عادةً بمعنى ما) الذى يَعِدُ بالاطمئنان السعيد فى النهاية:

* نحن غريبان، أنا وأنا الآخر، نعرف أحدنا الآخر معرفة كاملة وتضرب بيننا حواجز غربة غير مرئية ولا عبور لها (رامة والتنين- 147).

وما من وعد بترميم الهوية المختلِفة مع نفسها، وإنما هناك حدوث دائم لـ "الاختلاف الذى يرجئ"الهوية الواحدة. ما من رفع جدلى وما من صيرورة تَعِدُ بأى انقلاب جدلى. إن "الاشتغال الأنطوبلاغى" لتجربة النداء ينشر نفسَه على النص بأكمله على النحو الذى يهدد به المبدأ الرومانتيكى الذى يرى وحدة المظهر والفكرة، تلك الوحدة التى كانت تجسيدًا دائمًا لـ"الأطوار المتواترة للروح الجميلة"(20). ففى الألفة القصوى، وليس آلف من داخلنا الباطنى، يكون "الغريب" باستمرار:

* فى طوايا الجسم الصغير المهدود المرفوض مثول حى لميخائيل آخر كامن... هذا التنين فى داخلى يخذلنى يفلت منى أحسه آخر وغريبًا وقريبًا لصيقًا بالكبد، كم حاولت أن أنكره. قال ميخائيل لنفسه: عند صياح الديك، ثلاث مرات. وضحك. مَن شنق نفسه؟ من بطرس؟ ومن يهوذا؟ تجاهلته ونسيته... قال لنفسه: هل تعرف كيف تحيا فيه، حياة امتلاء؟ الغريب الآخر لا يطيعنى، هو يعرفنى وأنا لا أعرفه... عرفته فى السورة الجنسية وتحت التعذيب السياسى وعلى حافة الموت، وفى قبضة الحب القاسية... انحسرت عنه الروح... أراه بعين خارجية. لا يعود هناك توحد بل اثنينية العذاب المطرود والتسليم الذى لا أمل له فى عزاء، يتحرك وينبض بإصرار لا أعرفه (رامة والتنين- 244، 245).

إن ميخائيل يمنح "آخر"ـه الغريب اسمَ الآخر بالإطلاق: التنين. وبهذا المنح تنعقد صلة أنطوبلاغية بين "تجربة النداء" فى النص حتى الآن وبين عملية كاملة من الاشتغال الرمزى الخاص بمفردة "تنين" (ذلك نقاش له موضع آخر). وذلكم هو العذاب. عذاب من دون عذاب حيثما لم يعد هناك مَنْ يتعذب. إنه العذاب الذى يصل من شدته إلى الدرجة التى لا يعود معها العذابُ عذابًا. تنفى ديمومةُ العذابِ العذابَ وتحوله إلى سرابٍ حيثما لم تعد هناك الذات التى تتعذب: السراب مقلوبًا . يقول ميخائيل:

* ليس اليأس إحدى الراحتين. بل هو تنويع على العذاب: فقدان كامل، حقًا، ولكنه مع ذلك غير مقبول، خيط الأمل المراوغ المخاتل الذى يبقى دائمًا مضفورًا بيأسه. عذاب حاد متقلب محرق ليس فيه نهاية. متى، متى يفرغ منه؟ تنبت له فى كل لحظة أنياب تغوص فى اللحم، بلذع جديد (رامة والتنين- 261).

تتحول الذات إلى سراب: تتبخر وتضيع باستمرار. ومع ذلك فإن وطأة العذاب شديدة.

2- النداء دون صوت وكلام: تجربة العدم من خلال النَفَس
إذا كان النداء على الآخر- حسب الفقرة السابقة- هو صوتٌ وكلامٌ خلال زمن النَفَس (والنَفَسُ هو زمن الكينونة الحى: زمن حضورها الأول) فإن العلامة "أنا"، هذه العلامة المنطوقة، هى زمن ظهور الحضور. وزمن العلامة "أنا" المثبتة هو نفسه زمن "أنتِ" (= الضمير الدالِّ على الآخر المنادَى عليه- الممحو). وهو أيضًا زمن الاسم (رامة) من دون مسمى، الاسم وهو لا يؤشر على المسمى. ومن خلال "الإحلال التبادلى" بين العلامة "أنا" والعلامة "أنتِ" تنكشف اللاتمثيلات التى تشى بـ"الثغرة / الفراغ / الشقاق" عمومًا داخل الكينونة المنادِية. وهو الانكشاف الذى يشى بوجه الغرابة فى الداخل الأليف. إن العلامة "أنا" لا تعرض امتثال الكينونة لنفسها بقدر ما تعرض اللاامتثال، واللاتمثيل: الشقاق.

إن (العلامة) تقوم بإزاء (الكينونة) وتناهضها.
وبوجه عام تشى تجربة النداء الذى يقول "أنا" بالشقاق فى الحضور كما تلمح إلى شاغرية مزدوجة: فالنداء الذى هو انضمام فورى إلى الآخر والتئام به واجتماع إليه فى أنس الدفء الذى يتنزى- هو فى اللحظة نفسها رحيل وتفرق عن الآخر المحبوب، وهو الرحيل الذى يتيح الفرصة للكينونة المنادية أن تعتزل وتنكفئ على نفسها فى عملية من الرجوع إلى الذات لكنه الرجوع الذى تصبح فيه الذاتُ غيرَ نفسِها بالنسبة إلى نفسها، فلا تعود هى هى، على النحو الذى يجعل من العلامة "أنا" وشايةً بأن أىَّ اعتبار وأية نسبة ذاتيين ينطويان على الإخلاف الذاتى، بل ديمومة الإخلاف.

* * *

العلامة تُقَوِّضُ الكينونة.

* * *

إن العلامة على حضور الأصل تكشف عن الاختلاف فى الأصل، وتجعل من الأصل حودًا دائمًا عن نفسه (لعلنا بذلك نلحظ أن النداء بصوت وكلام يتشابه بنيويًا من نواحٍ عديدة مع تجربة الغزل ونقضه من حيث كونها المجاز المُهَيِّئِ. وهذا التشابه يعزز فكرة أن البنيةَ المسمَّاة تمثيلية ونيابية (= بنية العلامة) بنيةٌ تنطوى دومًا على ضلال صميمى يحكم حركتها وإحالتها المظنون أنها حركة صافية ونقية وترجع إلى أصلها الذى تنوب عنه).

ولأن العلامة "أنا"- وإن كان مظنون فيها أنها العلامة على الحضور (= ظهور الحضور)- تشتغل بضلال فى تجربة النداء بصوت وكلام، فإن ميخائيل يلجأ إلى تجربة أخرى للنداء هى "النداء من دون صوت وكلام" رغبةً منه فى حيازة الحضور التام النقى والصافى حيثما يسمع فى هذه التجربة نفسَه تتكلم، وحيثما يمكن لـ"الذات الفاعلة"- لو سايرنا دَريدا فى قراءته لهوسرل- أن تتأثر "بنفسها وإلى نفسهـا ترجع داخـل عنصر المثالية"(21)، وحيثما يكون معنى حضور الكينونة والحقيقة التى بهما تحضر الذات إلى نفسها كامنين فى الكلام الداخلى أو فى المناجاة الذاتية، ففيها يكون الصوتُ والكلامُ- من دون صوت ومن دون كلام- المتوحدان مع الروح كافلين للمعنى الواحد الكلى وللحضور وللحقيقة على السواء. وإذا كان ذلك كذلك فهل يقترح النصُّ "الصمتَ" تجربةً لـ"الحضور الأصلى" أو لـ"الحضور إلى الأصل"، حيثما تتطابق الذات مع ذاتها وترجع إلى نفسها مُنْجِزَةً هويةً متناغمةً على نحو كامل. وإذا كان، فهل يكون بقدرة "الصمت" أن يضطلع بوفاء الذات لذاتها، أىْ هل يكون بقدرة "الصمت" أن يردم الشقاق فى الحضور الذى أحدثته العلامة "أنا" التى قد كان يُرْجَى منها أن تكون علامة على ظهور الحضور، هل يكون بقدرته أن ينجز معنى الكينونة الواحدَ الكلىَّ المنضمَّ إلى نفسه فى أنس الهوية؟

علينا الآن أن ندقق النظر بخصوص مفردة "الصمت":
لقد تضمن الفصل السابق الإشارة إلى "الضلال الذاتى" الذى تنطوى عليه تجربة "الكينونة فى الذاكرة" بوصفها وجهًا من وجوه وضع النص الأنطولغوى. وهى تجربة للكينونة "الصامتة" التى تعود (= لا تعود) فيها الذاتُ إلى ذاتها من خلال صوت وكلام باطنيين، أو بالأحرى من خلال كتابة منقوشة فى داخلية الداخل ستصبح هى نفسُها هذا النصَّ نفسَه. لكن ليس الكلام الباطنى الذى يتذكر هو الصمت وإنما هو السكوت، إذ علينا أن نلحظ أن ابن جنى يعارض "القول"- وهو صوت وكلام- بـ"السكوت" وليس بـ"الصمت" يقول: "إن معنى "ق و ل" أين وجدت، وكيف وقعت، من تقدم بعض حروفها على بعض، وتأخره عنه، إنما هو للخفوف والحركة"، ويقول فى "القول": "وذلك أن الفم واللسان إنما يخفان له، ويقلقان ويمذلان به. وهو بضد السكوت، الذى هو داعية إلى السكون؛ ألا ترى أن الابتداء لما كان أخذًا فى القول، لم يكن الحرف المبدوء إلا متحركًا، ولما كان الانتهاء أخذًا فى السكوت، لم يكن الحرف الموقوف عليه إلا ساكنًا"(22). إذن ليس النداء دون صوت وكلام إلا أخذًا فى تجربة "السكوت" وليس تجربة "الصمت"، وبخاصة أن النصَّ نفسَه يصل تجربة "الصمت"- كتجربة حضور أصلى- بـ"الإصمات" وبـ"المصمت"، لماذا لا نقول إنه يغذو تجربة "الصمت" بتجربة "الصمد":
* قال: نعم، جسدك خالص الجسدانية، لكنه غير مصمت، غير خالص الوحدانية (يقين العطش- 84).

(وهى تجربة لـ"الوحدانية" لن يراها النص إلا فى "التبادل الجسدى الشهوانى" وليس فى الجسد بمفرده). وفى هذه الصلة- التغذية- التى يعقدها النص مَنْ بقدرته الكلام عن "الصمت" من حيث هو تجربة للحضور الأصلى؟

إن انعدامَ الكلام- أىْ عدم الصوت- "سكوتٌ" وليس "صمتًا" على الأقل لو أخذنا فى الاعتبار هذه التغذية التى ينميها النص بين "الصمت" و"الصمد" مما يمكن معه القول إن "السكوتَ" صفةُ ما له جوف، أما "الصمت" فهو صفة- أو هو نفسه- ما لا جوف له: الواحد الأحد. (تجربة الصمت هى تجربة الصمد). وبصرف النظر عمَّا إذا كان أو لم يكن بالقدرة الكلام عن "الصمت" بهذا المعنى الذى يعقده له النص، أفليس السؤال عن "الصمت" يقطع "الصمتَ" نفسَه وبخاصة أن نسبة الوجود إليه أو حتى العدم أمر خارج القدرة طالما أن "الصمت" بهذه الكيفية التى يعقدها النص لا يتعين، كما يعلمنا هيجل. وليس بالقدرة أيضًا نسبة الصيرورة إليه لأنه عندئذ لن يكون "صمتًا" بالمعنى الذى يقترحه النص. وإذا كان ذلك كذلك فليس بالقدرة التساؤل بخصوص "الصمت". لكن هذا الكلام الذى نثيره بخصوص هذا "الصمت" المخصوص بقدرته أن يصف "الصمت" ومن ثم "الصمد" ولو بصفة واحدة على الأقل، وهذه الصفة هى "اللا متعين". الصمت مثلما الصمد هو اللا تعين. والمناقشة الوحيدة التى يمكن أن تنعقد حوله ستكون حول الواسطة إليه، أىْ حول "التبادل الجسدى الشهوانى" من حيث هو تجربة لـ "الصمت / الصمد " من خلال الشهوة.

وإذن، فالنداءُ على الآخر من دون صوت وكلام تجربةٌ للسكوت وليس للصمت، وهى تجربة يطمح من خلالها ميخائيل إلى إنجاز الحضور نفسِه وليس مظهره الدال عليه. فهل يرى النصُّ تماميةَ حضور الذات إلى ذاتها وتاليًا تمامية الحضور إلى الآخر وإحضاره- هل يراها فى النداءِ من دون صوت: مجرد النَفَس من دون صوت وكلام؟ هل يراها فى العودة إلى باطنية الباطن دون هتك أو قطع أو كلم (= كلام وجرح)، أىْ دون تمثيل أو إنابة، دون علامة؟

وإذا كان ذلك كذلك، أفلا تكون هناك شبهة- وعلى الرغم من الاستشهاد بابن جنى- تُحَوِّمُ حول "السكوت" مهيئةً إياه لـ"تجربة الصمت"؟ بخصوص هذا السؤال الأخير نحن لا نعرف، طالما أننا نتمسك بـ"النص" من حيث هو وضع أنطولغوى لتجربة "الكينونة فى الذاكرة" بما هى تجربة "كتابة": البديل الرمزى لـ"التبادل الجسدى الشهوانى" المؤدى إلى "كينونة الواحد الأحد"، بديل رمزى عن الجِماع يحوِّم ويغلِّف وينشر ظلاله على "النص/الكتابة" من أوله إلى آخره.

* * *

إن كلَّ صوتٍ جَرْسٌ ونداءٌ وفيه معنى الإجابة والإقبال(23)، إلا أنه لحظة الظن بالإجابة والإقبال يتكشَّف تباعد الآخر، تنكشف المباعدة: الفراغ، الهوة الفاصلة التى من دونها لن يكون صوت ولا كلام ولن يكون نداء. إن النداء بصوت وكلام يرغب فى إظهار الحضور، وهى الرغبة التى تهدد مبدأ الحضور نفسه، وذلك على النحو الذى يجعل من "العلامة" علامةً على عدمٍ حاضرٍ ينطوى عليه الحضور الحى للذات المنادية، ويحاول ميخائيل تجنب هذا "العدم" فيلجأ إلى تجربة "النداء من دون صوت وكلام" (والحق أن النص فى بنيته الأنطولغوية الكبرى يستبدل "اللاصوت" بـ"الصوت"- الكينونة فى الذاكرة):

* نداؤه باسمها، بلا صوت، يحجب عنه كل صوت آخر (رامة والتنين- 12).
* وناداها، من غير صوت،
وهى أمامه، تنظر إلى الأشجار على الشط الآخر: رامة.. رامة.. أريد أن أعرف.. أين الحقيقة؟ ما الحقيقة؟ (رامة والتنين– 27).

النداءُ دون صوت ودون كلام نداءٌ سرى وباطنى، يرغب فى الحضور إلى الباطن حيثما تتطابق الذات مع نفسها ومع آخرها المحبوب على السواء. وهو حضور باطنى يتفادى الاختلاف مع الآخر المحبوب ومع الذات نفسها، من أجل حضور باطنى تلقائى ومباشر فى الصفاء المطلق وفى السكوت المطلق، من دون اختلاف "أنا" عن "أنتِ"، من دون هذا الثنائى الذى ينطوى عليه تشكيل "الكينونة معًا"، ومن دون اختلاف "أنا" عن "أنا"، ذلك الاختلاف الذى يأتى بـ"العدم داخل الذات". هناك إذن من خلال نداء ميخائيل على رامة دون صوت وكلام رغبةٌ فى تفادى مظهر الحضور لأن مظهرَ الحضور نسيانٌ لتمامية الحضور نفسها. إظهار الحضور هو إعدامه. المظهرُ والإظهارُ كلاهما إعلانٌ عملى عن الشقاق فى الحضور، وعن القسمة والانقطاع والوحشة التى يَرِثُها "الحضورُ" عن "ظهوره". لأن كلَّ مظهر أو إظهار أو ظهور اعتبارٌ، وكل اعتبار نسبةٌ، وكل نسبة تؤسس الهوية فى الانفصال وتجذِّرها فى الاختلاف. والهوية القائمة على الاعتبار الذاتى وعلى النسبة الذاتية تجعل من تجربة عشق الآخر- تلك التجربة التى تطمح إلى كينونة الواحد الأحد- مجرد إضافة كينونة إلى أخرى، وهى إضافة تؤسس الاختلاف بين الكينونتين فى تجربة العشق، بل وتؤسس الاختلاف داخل الكينونة العاشقة. إن الاعتبار الذاتى والنسبة الذاتية يستجلبان العدم ويُظهران الحضورَ من خلال هذا المجلوب. يراهن النداء بصوت وكلام على أرضيةِ فَقْدِ الحضورِ التام، ويراهن "النداء من دون صوت وكلام" على أرضية المستحيل. كيف يصوغ النص هذه الرغبة فى المستحيل:

* أنت أنا، وأنا أنت، أريدك أن تقبلى هذا اليقين، يقين العطش، حتى عندما لا أراك، ولا أسمعك، حتى إذا لم أرك أبدًا بعد، فأنت معى، يقينى كامل رغم كل رمال الخماسين وترابها السخن الدقيق الخشن فى الفم والعينين. أحج إليك، قبلتى، مرة كل عام: كل شهر، كل يوم، مرة فى كل نبضة قلب، فى كل رنوة، ودفقة، ونَفَس (الزمن الآخر- 73).

يُقال إنه ليس أقرب إلى الإنسان (= الحاضر الحى) من نَفَسِه. النَفَسُ منتهى قرب الكينونة من نَفْسِها. ليس النَفَسُ علامةً على الحضور الحى ولا إشارةً إليه وإنما هو بحد ذاته "واقعةُ" هذا الحضور الذاتى الحى. ليس النَفَسُ مَظْهَرَ حضورٍ وإنما هو التعين الدقيق لهذا الحضور؛ ذلك أن النَفَسَ هو مطلق القرب الذى يُدنى بدرجة قصوى إلى حالٍ من التماهى فى الكينونة الحية المنادِية، أىْ فى نسبتها إلى نفسها. النَفَسُ هو النسبة الذاتية الأولى وهو الاعتبار الأول. النَفَسُ إمهال(24) وإطالة(25)، كلاهما يُعَيِّنان الكينونةَ فى حضورها الحىِّ المنضمِّ إلى نَفْسِه فى نسبته إليها دون غيرها، و"يرجئ" كلاهما "الغريب" عن هذا "الحىِّ المنضمِّ إلى نَفْسِه": يرجئ كلاهما "الموت". النَفَسُ لذلك هو "الزمن الأول" للحضور. و"العلامةُ" علامةٌ على ظهور هذا الحضور: الصوت والكلام هما "الزمن الثانى" لهذا الحضور لأنهما الإظهار له والإدلال عليه من خلال تعطيل السكوت النقى والصافى الذى تنطوى عليه حركة النَفَسِ وجريانه- إنهما الشقاق فى النَفَسِ. ومن هنا يجب ملاحظة أن العلامة "أنا"، هذه العلامة الغريبة والمخيفة والجارحة فى كل مرة، التى تظهر فى "النداء بصوت وكلام" ستكون "الزمن الثانى" للحضور الذى يعلن عن الشقاق فيه. ولذلك أيضًا لا يأتى "النداء من دون صوت وكلام" بالعلامة "أنا" وليس له أن يأتى بها لأنه يعاين الـ"أنا" حال كونها فى الداخل قبل أن تتخارج فى صوت وكلام: الصوت والكلام تَخَارُجٌ يخدش نسبة الذات الأولى إلى نفسها ويجرح اعتبارها الذاتى الأول ويهتكه، الصوت والكلام ابتعاد عن النسبة الذاتية الأولى وعن الاعتبار الذاتى الأول، هما التمثيل لهذه النسبة ولهذا الاعتبار، التمثيل الذى يبتعد متخليًا عمَّا يكون تمثيلاً له، فيقف بمواجهته مشاققًا إياه. أما انعدام الصوت (= النداء دون صوت) فهو إقرار للنسبة الذاتية الأولى وللاعتبار الذاتى الأول، إقرارٌ بقدرته استجلاب الآخر المحبوب إلى الداخل، إقرارٌ يقدر أن يستدخل الآخر إلى الذات جاعلاً إياه مشتغلاً حسب نسبتها الذاتية الأولى واعتبارها الذاتى الأول. من خلال "النداء دون صوت" يكون بقدرة الذات المنادية أن تُحِلَّ الآخرَ المحبوبَ داخلها وتُسْكِنَه فيها فيعود هو وإياها واحدًا. إن بالقدرة حين ينعدم الصوت وتلوذ الذات بصوتها الباطنى من دون تخارج أن نُحِلَّ الآخرَ فينا رادمين الاختلاف فنصبح نحن وإياه واحدًا، وهذا الإحلالُ والإسكانُ حجبٌ لكل آخر وإعدامٌ لكل صوت آخر. إن استدخالَ الآخر إلى داخل الذات هو أيضًا وفى اللحظة نفسها استدخالٌ للذات نفسها إلى باطنها الأليف بفعل النَفَسِ من دون صوت وكلام. (ولعل هذا الاشتغال الذى تنطوى عليه تجربة "النداء دون صوت وكلام" يتشابه بنيويًا من نواحٍ عديدة مع البنية الأنطولوجية العامة لـ"الكينونة فى الذاكرة").

النداء دون صوت هو التغذية المستمرة لداخلية الذات. هو لذلك صوت الكائن القريب جدًا منه قربًا يطيل الحياة ويرجئ الموت: هو النَفَسُ. ولأن "النداء من دون صوت" هو ما هو عليه أىْ هو النَفَسُ بما هو الحاسم فى تهيئة الحضور إلى الداخل فى عمليةٍ من السكوت-ل فإنه أيضًا الخدش الذى يجرح صمت الكينونة الحية، خدش يشى بالصدع فيها(26) وبالهتك فى داخلها الأليف. هو ما يخرج بالداخل نحو الخارج. النَفَسُ تخارجٌ للداخلية الأليفة نحو غيرها، نحو آخرها بالإطلاق. النَفَسُ هو الوشاية بالصدع الذى يتباعد بالكائن عن ألفة داخلية الباطن وتمامه فى انضمامه إلى نَفْسِه. هو تخارجُ الداخلية والوشايةُ بالفراغ فيها: فراغ يُجَهِّزُ الحضورَ الحىَّ المنضمَّ إلى نَفْسِه لـ"الموت" ولـ"الإعدام". هو قابلية تجهيز الداخل الأليف مسكنًا لـ"العدم". هو تهيئة أن يسكن العدم فى داخلنا:

* ها نحن نموت إذن إذ نعب الحياة فى كل نَفَس (رامة والتنين- 113).

بقدر ما يجهد "النداء من دون صوت" من أجل استدخال الآخر المحبوب وإسكانه فى داخل الذات مُجَهِّزًا بذلك الكينونة الواحدة لميخائيل ورامة- فإنه يجهد من أجل تهيئة الداخل لسكنى الفراغ والعدم: استدخال الموت. هذا معناهمطلق النسيان الذى ينطوى عليه الكائن. (من المثير هاهنا أن معجم "النَفَس" يتضمن بطرق مختلفة إشارةً إلى خمس فتحات فى الجسد: الأنف والفم والفَرْج وتجويف البطن والعين)(27): إن "النَفَسَ" ينطوى على كل ما يهيئ التلاعب بداخلية كائن هو مجوف. وهو تلاعب يهيؤه دومًا لـ"الموت" (من المثير هاهنا أيضًا إمكان فهم "التبادل الجسدى الشهوانى"بين ميخائيل ورامة على أنه التهيئة القصوى من أجل إنجاز "الإصمات" (= كينونة الواحد الأحد) من خلال اللعب الشهوانى الذى يسد كل الفتحات-ب فتحات الجسد).

"النداءُ من دون صوت وكلام" تجربةٌ لـ"استدخال" مطلق النسيان: الموت.قد كان هذا النداء الذى لا ينادى يحاول أن ينتقش قبل أىِّ نقش بل دون نقش، إنه يحاول بالأحرى المكوث فى الحضور إلى الباطن من حيث كونه "حضورًا إلى الأصل" و"أصلَ الحضور" لأنه يعرف أن كونه مناديًا يعنى كونه قد أخذ فى الظهور، ومجرد هذا الشروع ينقل الحضور إلى مظهره وإلى الإظهار الذى يفتح الاختلاف فيه، الاختلاف الذى يضحى بباطنية الحضور من أجل ظهور الحضور ويضحى بأصلية الحضور فى الباطن من أجل الحضور إلى الظاهر.

ومع ذلك، وربما بسبب من ذلك، يتضح الآن التشابه البنيوى بين تجربة "النداء من دون صوت" و"الشرود" بوصفه "كينونة فى الذاكرة"، وهناك فقرة يصوغها إدوار ببراعة توضح هذا التشابه البنيوى، حيثما يضيع الآخر المحبوب ويتوه فى جوف النسيان (= فى الذاكرة التى لا تحمل إلا النسيان):

* فى استراحة الآثار فى ماريوبولس، وحده، كانت مائدته العارية عليها كتب قليلة، ولفّة ورق الرسم الأسطوانية، ومصباح مكتب قديم. وكانت أمام النافذة فى مواجهته، حديقة رملية صغيرة مسورة. شجر الزيتون الداكن الورق، وخضرة شجيرات التين الشوكى المغلّفة على ثمراتها الصعبة، ثم تمتد الصحراء أمامه، والأطلال المحفورة الواطئة، يلوح بعدها بناء الدير الصغير المربع، مسدودًا فى لألاء الشمس، يرتفع منه برج الكنيسة المربع الأضلاع سامقًا من بين السحاب الرمادى الفاتح، اللؤلؤى النصوع، الباهت الرقيق الشتائىّ. السماء الزرقاء الناعمة وراء البرج الذى يكتسب منها نعومة، البرج القديم نفسه يصبح ناعمًا، جسديًا، ولكنه يطعن الزرقة التى تكاد لفرط شفافيتها أن تكون مشتعلة بيضاء. وهج الشمس منعكسًا على موج الرمل يحمل إلىَّ وجهك. يطفو، فى سكون. تنظرين إلىَّ. وصفحة الرمل كصفحة البحر. رصاصية. صلبة. جسمى لا يغوص، بل أراه، من هنا، يتعثر، يتدحرج، كومة من الحصى، على سطحها الصلد المشع، تحت وحشة سماء الألم الشاسعة. وهذا النداء المضلع الجوانب قائم أمامى، فى الصفاء المطلق، صامتًا. وجِرم الجرس يبدو صغيرًا محدد الجوانب قاتمًا فى الضوء الذى وراءه كأنه لن يقرع أبدًا بصليله البهيج (الزمن الآخر- 202).

إن "النداء من دون صوت"- ذلك النداء الذى يتفادى الاعتبار والنسبة الذاتيين اللذين تنطوى عليهما العلامة "أنا"، أىْ يتفادى مظهر الحضور ويتفادى الحضور إلى المظهر- يتشابه مع، أو يصبح هو بالأحرى، "الكينونة فى الذاكرة". إنه النداء الذى يتشبث بالحضور إلى النسيان حيثما يتوه الآخر ويصبح سرابًا مخايلاً، كما يتشبث بالحضور إلى "مطلق النسيان": تجربة العدم .

والحال هكذا فليس "النداء بصوت وكلام" هو ما يضطلع وحده بـ"الاختلاف الذى يرجئ" وحدة الكينونة فحسب وإنما أيضًا "النداء من غير صوت" (= النداء من خلال النَفَس فقط) يضطلع هو الآخر بهذا "الاختلاف المرجئ".

* * *

والآن يحق استحضار بعض المسائل:
تتعلق المسألة الأولى بأن تجربة "النداء بصوت وكلام" تأتى باسم الآخر المحبوب (= رامة)، ولحظة هذا الإتيان نكون مع الحياد الفارغ للاسم فى عدم إحالته على مسماه. ويتزامن هذا الإعدام مع الإتيان الطارئ والغريب للعلامة "أنا" التى لا تُعَيِّنُ ما قد كان يُظَّنُّ أنها تنوب عنه: الكينونة المنادِية، فلا تتطابق معها. "أنا" هى "آخر أصلى" داخل الذات، مما يشى بـ"الاختلاف القائم فى الأصل"، وفى كل أصلٍ مظنونٌ أنه متطابق مع نفسه. إنه "الاختلاف الذى يؤجل" انغلاق الهوية على نفسها فى وحدة واحدة. مثلما الاسم الذى يؤجل مسماه.

وتتعلق المسألة الثانية بأن النسبة الذاتية والاعتبار الذاتى يتحركان كلاهما فى العدم. كلاهما استدخالٌ للعدم وتَوَفُّرٌ على إسكانه داخل الحضور الحى. وكل ادعاء تمثيلى أو دعوى نيابية ليسا ما هما عليه إلا من أجل ردم هذا الاختلاف الأصلى والمتجذر، وهو الردم الذى يتيح إمكان ادعاء التمثيل ودعوى النيابة. (وهذا التمرير يمكن لمحه فى أىِّ ادعاء وفى أية دعوى من هذا النوع أو فى أية ادعاءات أو دعاوى تشتق نفسَها من التمثيل والنيابة مثل: الوكالة والتفويض والوصية أو التمثيل السياسى البرلمانى أو الحزبى... إلخ). إن التمثيلية والنيابية كلتيهما تتقوضان فورًا وليست لهما أدنى شروط الكفاءة لأنه ما من وضع أصلى يتماهى مع نفسه وينغلق على نفسه فى هوية واحدة كلية بحيث يمكن الإحالة الصافية عليه أو الرجوع إليه أو النيابة عنه.

وتتعلق المسألة الثالثة بأن تجربة النداء عمومًا تهدد المبدأ الرومانسى الذى يرى وحدة المظهر والفكرة، وهى الوحدة التى كانت تجسيدًا دائمًا لـ"الأطوار المتواترة للروح الجميلة". وقد اشتغلت اللغة على الدوام حسب هذا المبدأ الذى قد كان يحتم علينا ضرورة النظر إلى الكلام فى إشارته إلى مصدره نظرًا كنائيًا؛ فقد كان هذا المبدأ يجعل من علاقة الكلام بما يحيل إليه أو يرتبط به أو يصدر عنه علاقةً كنائيةً تستلزم على المستوى المنطقى ضرورةَ هذه الإحالة وهذا الارتباط وهذا الصدور. وقد كان هذا اللزوم المنطقى ذو الطبيعة الكنائية معززًا لمبدأ الهوية. وتجربة النداء بالنحو الذى كشفت به عن نفسها تهدد هذا المبدأ من خلال انكشاف الاختلاف الصميمى الذى يجعل من أية نسبة ذاتية وأىِّ اعتبار ذاتى نسبةً واعتبارًا عدميين، وهذا معناه أن تجربة النداء عمومًا تشى بالاستحالة الأُوْنطية(28) للسؤال الفلسفى: "مَن ينادى.. مَن هو؟" ذلك أن هذه التجربة لا تهيئ للذات المنادية أىَّ تطابق ذاتى يمكن تعيينه أو الإحالة صراحةً عليه. فما من أصل مفرد (= مستقل وثابت) يتيح إمكان الوصف فى حدود لغة واصفة تستمد أسسها من المنطق.

إن تجربة النداء بهذا النحو تقترح لغةً واصفةً تتجاوز أو تتغاضى عن سندها المفهومى المنطقى. ولن يمكن أن يكون هذا التجاوزُ أو التغاضى استثناءً أو شذوذًا ذلك أن الاستثناء والشذوذ لا يكونان ما هما عليه إلا فى حدود الأسس المنطقية وما تكفله هذه الأسس من إمكانية للوصف. وطالما أننا قد أتينا على ذكر اللغة الواصفة فلننظر الآن إلى لغة واصفة لتجربة النداء، وهى لغة تحاول- وتجهد فى محاولتها- ردم الاختلاف والعبور من فوقه، والتمويه عليه بلاغيًا.

3- حَدُّ "كأن": الإقرار الأنطوبلاغى بحضور العدم

وقال لى: إن لم تشهد مالاينقال تشتت بما ينقال... وقال لى: القول يصرف إلى الوجد، والتواجد بالقول يصرف إلى المواجيد بالمقولات.
النفرى*

لقد كان القصدُ المضمَّن فى تجربة النداء أن الكينونة المنادية تنطوى على امتياز الحضور ومعناه، فَمَنْ ينادى على الآخر (=المحبوب) لابد أن يكون بقدرته أولاً تحديد حيِّزٍ لنفسه ومكانٍ لكينونته حتى يستطيع من خلال هذا الحيز وهذا المكان أن يشير إلى نفسه، كى يكون بقدرته ثانيًا الإشارة إلى الآخر وإحضاره إلى معيته. ومؤديات هذا القصد المضمن يمكن إيجازها على النحو الآتى:

إن البنيةَ المنعقدة لتجربة النداء- البنية التى تشتغل فيها وتقود من ثم هذه التجربةَ عمومًا- بنيةٌ حرفيةٌ بامتياز، أىْ هى بنية تشتغل من خلال الأداء الحرفى للكلام وللغة بوجه عام، إذ ليس لهذه البنية فى حد ذاتها أية دعاوى مجازية أو بلاغية. وقد حاول ميخائيل من خلالها استثمار هذا الامتياز المعقود لكل ما هو حرفى من أجل إحضار الآخر إلى جوار الذات (ولو طيفيًا) ومن أجل الكينونة مع الآخر كينونةً هى المركز فى بنية تجربة النداء. إلا أن اشتغال البنية اشتغالاً حرفيًا بهذا النحو الذى تتبعناه سابقًا يكشف عن الانحراف فيما هو حرفى. أى يشى هذا الانحرافُ بما هو بلاغى قائم فى صميم ما هو حرفى: إذ بدلاً من أن تكون تجربةُ النداء كينونةً للذات العاشقة مع الآخر المعشوق- وهذا هو رسمها وامتيازها المعقود لها حرفيًا- تصبح كينونةً للذات المنادية مع ذاتها، لكن هذا الجوار وهذه المعية اللامنتظرة تضيع فيهما الكينونة المنادية من خلال قول النداء وكلامه، إذ تتشتت الكينونة على النحو الذى لا تتوفر معه تجربة النداء- فى حوْدها هذا- على امتياز الخاص والمنغلق على نفسه: تشى التجربة أولاً بـ"الغريب على الإطلاق" وبـ"المختلِف" داخل الذات، وهو "الاختلاف الذى يرجئ" انغلاق الذات على نفسها مؤسسًا إياها كـ"إمكان تشتيت دائم". وتشى ثانيًا بـ"عدم حاضر"- وبإصرار- داخل الكينونة المنادية بالكيفية التى تكون معها فكرة الحضور الذاتى وامتياز معناه تحت علامة كشط. إن الامتياز الوحيد المنعقد لكينونة ميخائيل- والحال هكذا- هو امتياز الأثر: أثر معنى، أثر حضور، أثر حقيقة.

ومع ذلك فإن ميخائيل يجهد- ربما للمرة الأخيرة- من أجل التمويه على هذا الوضع وتغطيته والعبور من فوقه، وذلك بواسطة اللجوء إلى الطاقة الكامنة فى الكلام واللغة محاولاً استثمار هذه الطاقة (= هذا الفائض) استثمارًا مزدوجًا: فهو أولاً يلوذ بـ"ميتا نص النداء"، أىْ يلوذ بالكلام عن تجربة النداء. ويلوذ ثانيًا بتشغيل هذا الفائض الكلامى من خلال فائض اللغة عمومًا: الأداء البلاغى- والمجازى - حيثما يلجأ ميخائيل فى كلامه عن تجربة النداء إلى ما هو بلاغى كحيلة أخيرة من أجل فَضِّ "الاختلاف المرجِئ"، طالما أن الاشتغال الحرفى لهذه التجربة لم يوفر أىَّ امتيازٍ للكينونة من أىِّ نوعٍ كان. لعل تشغيل الفائض بشكل عام يوفر هذا الامتياز المنزوع عمَّا هو حرفى بشكل عام.

وعندما يستثمر ميخائيل (= نظير الله)- هذا الذى بلا اسم- فائض الكلام واللغة فيقوم بتشغيله لا يبغى أن يسمِّى نفسَه ولا يبغى البحث من خلاله عن اسم خاص ومميز لكينونته فحسب، بل يسعى- فى المقام الأول- من خلال هذا التثمير إلى "أن يكون". وهذا السعى هو بالأحرى انوجاد الكينونة، هو محاولة إيجادها ابتداءً والوَجْد بها حتى يكون هناك حيز ومكان للكينونة تستطيع من خلالهما (= الحيز والمكان) أن تسمِّى نفسَها وأن تشير إلى نفسها. يحاول ميخائيل منحَ نفسِه امتياز "أن يكون" (= امتياز الكينونة عمومًا) مثلما قد حاول منحَ نفسِه الامتيازَ نفسَه من خلال "الكينونة فى الذاكرة" بما هى الوضع الأنطولوجى العام لميخائيل وبما هى الوضع الأنطولغوى العام لنص ميخائيل إدوار:

* قال لها: ألم تسمعيننى أناديك؟ ألم تسمعينى؟
قالت قاطعة: لا. لم أسمع.
لم يقل لها: فقط لكى أسمع- أنا- وقعه، هذا النداء، والحنو فى جرسه، فى تحدر نغمته، ونأمته الناعمة فى هدأة الليل. فقط، لأننى أفتقد أن أناديك، وأنت على مسمع، فتردى، أو تصعدى إلى. كأن الخرس الذى يطبق على رقرقة القلب قد ثقلت وطأته.
قالت: لا. لم أسمع.
فى ردها لوم، ورفض للوم، ونفى لعبث الرومانتيكية كله.
قال لنفسه: أعرف أن النداء، فى آخر الأمر، لا وزن له. لا معنى له. ليس من شأنه على أى حال أن يسمع. هو موجود لأنه لا يسمع.
وقال: طبعًا ليس له قوة سحرية- أليس هذا ما أكنه، رغمًا عنى- فى عمق مخفى منى، أن له فعلاً ووصولاً؟ أنه رقية؟
وقال: بل أنطق عن ذات اللجاجة التى فى، وبه أسمى جيشان حبة القلب التى تفور وتفيض وتغلى. كأننى، به، أقول: "أنا". به أكون. كأننى من غيره لست أنا.
أنادى من قاع بئر الوحدة السحيق.
وقال أيضًا: أظن أنه لا يمكن، على أى حال، أن يكون ثم مجيب. لا يمكن أن تكون إجابة. ومهما جاءت الإجابات- وقد جاءت- فكأنها لم تحدث وبقى النداء. الإجابة فقدان. والنداء افتقاد دائم للإجابة. وهى هنا، ملء يديه الخاويتين. وسأل نفسه بوضوح: عندما أجدها أفقد نفسى؟ وعندما أجد نفسى أفقدها؟ وقال: الظنون على الحالين، تبقى معلقة، وفى الحالين قدر من جبن الراحة، ودعة الاستنامة، أو- على الأقل- الخروج عن لا ونعم (الزمن الآخر- 11، 12).

لنلحظ فى هذا الكلام عن تجربة النداء هذه العبارة: "به أسمى جيشان حبة القلب". إن النداء على رامة بهذا النحو يُعَيِّنُ المسمَّى (= ميخائيل المنادِى) ويشير إليه، النداء هو اسم لهذه الكينونة، هو اسم لداخلية الكينونة، و"الاسم رسم وسمة توضع على الشئ تعرف به"(29). هو العلامة على الشئ والإشارة إليه، هو تعريف للشئ بهذه العلامة وتوضيحه بها، وبذلك تكون كينونة ميخائيل (= المسمَّى) فوق الاسم (= النداء على رامة). المسمَّى (= كينونة ميخائيل) والحال هكذا سابق بالضرورة على الاسم (= النداء على رامة)، وفى هذا السياق عمومًا يصبح الاسمُ الذى هو علامة على المسمَّى إشارةً بليدة إليه لأنه تالٍ عليه فى الوجود. إن الاسم (= النداء على رامة) هو "الزمان الثانى" للمسمَّى (= كينونة ميخائيل). ومع ذلك فإن "النداء على الآخر" بما هو اسم لميخائيل ليس زمانه الثانى، ولنتأمل هذه الفقرة المصوغة ببراعة حيثما ينصهر "النداء على الآخر/الصرخة / إطلاق اسم الآخر" بكينونة ميخائيل نفسها، وحيثما يدور النداء وجودًا وعدمًا مع وجود ميخائيل الشخصى وحقيقة وجوده:

* فى هذه البرية الموحشة التى تهب فيها رياح البحر، رمالها مبتلة قليلاً من ندى النجوم المُغلفة السوداء، والأعشاب العنيدةُ الجِلد، كثيفةٌ ملتفةٌ على نفسها شوكها الأخضر الداكن فى داخل غِمده، تهديدُها جسدٌ صامت. أحَسَّها، فى نومه الكامل، صرختَه، تجئ من بعيد جدًا، من على حافة البحر الدفين. تبدأ صغيرةً صغيرة، ثم تقترب الصرخة من عمق الغور المجوف تتردد أصداؤها بين صخور الغيِران المظلمة. الصرخة تقترب وتنبسط لها أجنحةٌ تصطفق وترفرف بالريش الأسود وهُدبه ثقيل. أقوى وأكبر ما صرخت فى حياتى، أعلى من كل جحافل الصرخات الليلية، تجأر فى قلب النوم. يدٌ ضخمة، هائلة، كالمخلب تمتد إلى عنقى، وتنقبض، تُطبق. وأنتفضُ فإذا أنا جالس فى سريرى، على جبينى عرق بارد يتفصد، وكأن الرُخّ قد خرج لتوه، مشتعلَ العينين، من وراء جدار غرفة نومى، بخشونته التى رقق الزمن منها الآن. والليل ليس آمنًا ولا مستريحًا. لحلمى بالنداء عيونٌ خضر ضارية، مفتوحة أبدًا.
لا غمض لها.
يؤرّخ تلك الليلة فى 24 يوليو 1979، وهى ليلة كغيرها من الليالى.
هل صرخةُ الاعتراف لها إرادتها الخاصة؟
قبل أن أسقُط، أن أترك اسمها يتشكل، يُقال، يتحرر.
صياغةً محددة، منطوقة، قاطعة.
أن ينطلق الاسم، فليس بينه وبين أن يوجد فى الخارج، فى الصمت، إلا أقل من خفقة. أن يتم. أن يُفعَل. أن يحدث الكمال.
أن يحدُث. أن ينفصمَ القيدُ بصوت سقوط السماء. طلقة الرعد الواحدة، تنقصم بها نفسه، وتتفتت، رماد الشهب. انفصام كل شئ. الانقطاع عن العقل، انشقاق الزمن، انفضاض القهر، هشيم الواقع يتهاوى. الانطلاق الاختراق إلى قلب الحقيقة تدميرًا للحقيقة قصف ضربة الرعد غير المتكررة تتقوض لها كل الأركان الهشة التى كانت تلوح سامقة الأعمدة وطيدة الصخر. على الحافة المسنَّنة لهوّةِ الانفكاكِ الغائرة السديم، تشدنى غوايةُ السقوط فى إطلاق الاسم، صرخته.
والنداء لا ينطلق.
قالت له: لم يكن هذا النداء لى.
وكأنها قالت له: لم يكن هذا اسمى.
فقال لنفسه: ولكن أنا، ليس عندى شك فى أننى تعلمت الأسماء.
وقال: وهذه نازلةٌ تحل بالقلب، كسائر الأحوال (الزمن الآخر- 17، 18).

حين ينصهر "النداء على رامة" بالوجود الشخصى لميخائيل يصبح الاسم الذى يأتى به النداء هو اسم ميخائيل- وليس اسم رامة- اسم لا ينقال أبدًا ولا يُشار إليه صراحةً، لكن رامة تتكفل بهذا القول وبهذه الإشارة على نحو ضمنى مقلوب: "قالت له: لم يكن هذا النداء لى. وكأنها قالت له: لم يكن هذا اسمى". إن إشارة رامة الضمنية تجعل من النداء عليها اسمًا لميخائيل على الحقيقة مما يجعلنا نعيد قراءة الصياغة المجازية للفقرة المقتبسة سابقًا، وذلك بالكيفية التى يكون معها النداءُ على رامة علةً لكينونة ميخائيل، العلة التى تدور مع المعلول وجودًا وعدمًا على النحو الذى يصرِّح معه ميخائيل بشكل توكيدى أن النداء من حيث هو اسم يُوجِده ابتداءً: "به أكون". وعند هذه اللحظة نفهم إشارة رامة الضمنية وعند هذه اللحظة أيضًا- وهى لحظة غير مجازية- يكون "الاسم هو المسمى"(30).
النداء بما هو اسم هو ما ينوجد به المسمَّى وبانعدامه ينعدم المسمَّى. فى غياب الاسم (= النداء على رامة) ما من وجود. فى غيابه يطارد العدمُ ميخائيلَ. الاسم هو الذى يشكل الكينونة ابتداءً ويأتى بها. النداء من حيث هو "اسم" هو زمان الكينونة نفسها. إن هذا الوضع رهيب وغريب لأنه ينقل الكلمة من كونها نزوعًا إلى اللوغوس (أىْ من وضعها المثالى المنعقدة دومًا حوله) إلى كونها حدوثًا (أىْ إلى كونها فعلاً ماديًا حادثًا ظاهرًا). إن نداء ميخائيل على رامة هو زمانه وليس زمانها، هو زمان الكينونة الشخصية وليس زمان الآخر، هو الزمان الوجودى لميخائيل، إن التواجد بالقول- كما نفهم من إشارة النفرى السابقة- يضع الكينونة فى حيز التشتت وهى لحظة لا يعود فيها الحيز حيزًا لأن القول زمانى والزمان اسم لما لا عين له. الزمان نسبة عدمية. لذلك فالنداء الذى به يُسَمِّى ميخائيلُ نفسَه بدلاً من أن يأتى بـ"المسمَّى" فإنه يأتى بنسبة العدم إلى المسمَّى. الإعدامُ يلاحِقُ الكائنَ أو يمضى إليه الكائنُ وليس بالقدرة الحود عنه، ليس بقدرته على الإطلاق. كلاهما يحدث فى اللحظة نفسها. يصبح النداءُ بما هو اسم لميخائيل- يؤسس كينونته ابتداءً- تجهيزًا وتهيئةً لسكنى العدم داخل الذات. ولنلحظ مؤقتًا الآن- ولعل فى ذلك استعجالاً لتحليل "الاشتغال الأنطوبلاغى" لـ"التبادل الجسدى الشهوانى" الذى يتكفل به الفصل التالى- العبارة الآتية: "الصرخة تقترب وتنبسط لها أجنحة تصطفق وترفرف بالريش الأسود وهُدبه الثقيل"، وهى العبارة التى تحيى ذكرى التبادل الجسدى بين ميخائيل ورامة، ذكرى تصل تجربة النداء بتجربة هذا التبادل نفسه، تصلها بمنحة "رامة الإيزية" جسدَها لميخائيل: منحة تأتى دومًا بالعدم بدلاً من كينونة الواحد؛ إنها الذكرى التى تأتى بالدرجة القصوى من النسيان: النبذ إلى العدم.

* * *

إن هذا الوضع العمومى يُهَيِّئُ حدًّا لـ"كأن" من نوع غريب، وهو حدٌّ لا يمكن فصله إطلاقًا عن تجربة النداء العامة، كما توضحت حدودها سابقًا. يقول ميخائيل عن "النداء على رامة / الآخر المحبوب":
* كأننى، به، أقول: "أنا". به أكون. كأننى من غيره لست أنا.
وهذا الكلام عن النداء على هذا النحو الذى يدلُّ به ميخائيلُ على كينونته الشخصية يجعلنا نتردد كثيرًا أمام الاشتغال البلاغى التقليدى لـ"كأن". إذ يمكن صياغة معنى هذه الجملة "كأننى، به، أقول: أنا" على النحو الآتى: لقد قام "النداء على الآخر المحبوب" عند ميخائيل مقام "قول أنا" فى الدلالة على كينونته الشخصية فَشَبَّهَهُ به. وينصرف حدُّ "كأن" فى هذه الحالة إلى "التوهم" بحيث يصبح "النداء على الآخر" هو "قول أنا" عينه على سبيل التوهم(31) لا على سبيل الحقيقة. إن "الأصل" الحقيقى فى الدلالة على كينونة ميخائيل- أو بالأحرى صوغها والإشارة إليها- هو "قول أنا"، و"النداء على الآخر المحبوب" فى هذه العلاقة التى تعقدها بلاغيًا مفردة "كأن" هو الفرع عن هذا الأصل فى الدلالة عينِها أو الصوغِ نفسِه أو الإشارةِ نفسِها. وكى يمكن التشبيه- أو التمثيل بوجه عام- فلابد أولاً من إثبات هذا الحكم لـ"قول أنا" فى دلالته ابتداءً على الكينونة بحيث يمكن التفريع عنه بإثبات الدلالةِ نفسِها لـ"النداء على الآخر". وبذلك يكون اشتغال "كأن" بلاغيًا فى هذه الحدود البلاغية المنطقية مفيدًا التمثيلَ والنيابةَ عن أصلٍ ما، ليس هذا فحسب بل مفيدًا أيضًا توكيد هذا الأصلِ نفسِه فى اللحظة عينها. واشتغالُ "كأن" البلاغى بهذه الكيفية اشتغالٌ توهمى، ولا مانع منه طالما أنها تحفظ الطرفين (= الحدين) فى حالة انفصال لكن بالطريقة التى يعود بها الفرعُ إلى الأصل فى تضمنه إياه بحيث يغدو "الفرع" تكرارًا لـ"الأصل"(32) يُثبته ويؤكدُه ويحفظُ عليه أصليتَه بحكم التكرارِ أو بحكم قابليةِ الأصلِ لأن يتكررَ بالمعنى الذى يرجعُ فيه الأصلُ إلى نفسِه فى كل مرة يتكررُ فيها. وذلك على النحو الذى يتأكد به "حدُّ التوهم" بوصفه الاشتغال البلاغى لـ"كأن" من حيث هو ذهابُ القلبِ إلى الشئ وأنت تريد غيره(33). ومن ثم لا تؤكد "كأن" من حيث كونها اشتغالاً توهميًا إلا أصليةَ "قـول أنا" فى الدلالةِ على الكينونة وصوغِها أو الإشارةِ إليها والإعلانِ عن ظهورها(34). وإذن ففى هذه العبارة توكيد بلاغى إعلانى لـ"قول أنا" من حيث كونه أصلاً فى الدلالة على الذات أو الكينونة: فـ"النداء على الآخر" لا يأتى بلاغيًا بـ"الآخر" وإنما بـ"قول أنا"، إنه يأتى بما يدل على الوجود الذاتى أو يأتى بالكينونة الشخصية فى حالة ظهورها التوكيدى بقدر ما يستبعد "الآخر" وينفيه: وليس هذا "الاستبعاد والنفى" اختزالاً وجوديًا (= عملية ردّ ظاهراتى) لـ"الآخر" فى الـ"أنا"، وإنما الحال أن "النداء على الآخر" لا يعود إلا بالكينونة المنادية من دون آخر، من دون اجتماع به، من دون انضمام إليه. "النداء على الآخر" بهذا النحو "ينسى" الآخر ويتباعد عنه مستدخلاً إياه فى حيز "النسيان". "النداء على الآخر" بدلاً من أن يقول الآخر (أىْ بدلاً من أن يتحرك نحوه ويخفَّ إليه، والقولُ أصلاً خفوفٌ وحركةٌ حسب إشارة ابن جنى) يقول "أنا" (أىْ يتحرك نحو "أنا" ويخفُّ إليها). إن الكلام عن "النداء على الآخر" من خلال "كأن" لهو إقرار أنطوبلاغى بـ"نسيان الآخر"، وهو إقرارٌ يعود بالكينونة المنادية إلى نفسها من خلال الأصل الدالِّ عليها أو على ظهورها أىْ من خلال "قول أنا" (وعلينا هاهنا أن نلحظ فى سياق اللعب التبادلى الخاص بـ"درس الهبة والهبة المضادة"- وهو الدرس الذى يناقشه الفصل التالى- أن ميخائيل يقوم من خلال تجربة النداء فى كل وضعٍ لها بـ"هبة مضادة" لـ"هبة" رامة الجسدية له مستبعدًا إياها إلى حيز النسيان والعدم: هذه المرة من خلال بلاغة "كأن").

إن الاشتغال البلاغى التقليدى لـ"كأن" ينطوى على إعلان توكيدى للكينونة المنادية من خلال إظهار بلاغى للأصل الدال عليها. إن "كأن" تقوم فى مستواها البلاغى بـ"تظهير" الكينونة المنادية. وهذا التداخل الذى يعقده النصُّ لاشتغال "كأن" يجعل لها وضعًا أنطوبلاغيًا، ويتضمن هذا الوضعُ الأنطوبلاغى تَهيئةَ مجالٍ بلاغىٍّ لـ"ظهور" الكينونة المنادية كما يتضمن فى اللحظة نفسها إقصاءً عنيفًا لـ"الآخر المحبوب". وتهيئةُ "ظهور الكينونة" والإقصاءُ العنيف لـ"الآخر"- بهذه الكيفية- تزامنيان أىْ يحدثان فى آنٍ معًا. إن ميخائيل إذ يتكلم عن "النداء على الآخر" يتكلم عن الأصل المُظْهِرِ لـ"حضور الكينونة" بالنحو الذى يكون معه "النداء على الآخر" إسراعًا فى الرحيل إلى الكينونة التى تنادى، إلى "أنا"؛ ذلك الأصل الدال عليها. لكن هذا الإسراع البلاغى إلى "أنا" من خلال "ميتا نص النداء" والتأكيد على "قول أنا" من حيث هو الأصل الدالّ على حضور الكينونة هو بحد ذاته الوهم البلاغى الذى يموِّه على "الاختلاف فى الأصل" ومن ثم يموِّه على عدم أصلية الأصل، وهكذا فإن هناك حجبًا بلاغيًا عنيدًا لـ"الاختلاف القائم فى الأصل". إن قابلية الأصل للتكرار بالتفريع عنه، هذه القابلية نفسها تحجب الاختلاف القائم فى الأصل. وهذا الحجب قرين الاشتغال البلاغى لـ"كأن" بمقتضى الأصول المنطقية التى تَرُدُّ حدَّها إلى "الوهم" (ونحن بذلك نحيل على نحو كامل إلى النقاش المطول الذى يثيره أستاذنا جابر عصفور بخصوص نظرية البلاغة العربية والذى يفضح به الأصل الإبستيمى الذى يحرك اشتغال هذه النظرية فى مستواها المنطقى). وهذا الحجب البلاغى متبادل، ذلك أن الفرع نفسه (النداء على الآخر) ينطوى على اختلاف قائم فيه داخل حدود اشتغاله التى وضحناها سابقًا، فيلوذ التكرارُ حال أن يفقدَ نفسَه بما هو تكرارٌ- يلوذ بما يكرره من أجل أن يحجب الاختلافَ القائمَ فيه بحفظِ نفسِه- من حيث هو تكرار- فى الأصل الذى يكون التكرار نائبًا عنه. وفى قبولِ الاشتغال التقليدى لـ"كأن" قبولٌ لهذا الحجب المتبادل للاختلاف المتجذِّر فى كل طرف (= حد) من طرفى علاقة "كأن" التى لن يكون مناسبًا بحالٍ من الأحوال فهمها من حيث هى علاقة تشبيه تحفظ نقاء الأصل ونقاء الفرع الذى يتطابق مع هذا الأصل.

وبكلام آخر، إن المعنى التقليدى هو على النحو الآتى: لقد بلغ ندائى عليكِ يا رامةُ الغايةَ فى دلالته على وجودى الذاتى لدرجة أنه يقوم مقام (= يُمَثِّلُ) قولى "أنا"، هذا القول الذى أدلُّ به على كينونتى. واشتغال المعنى بهذه الكيفية يصل "كأن" بـ"التمثيل" وبـ"عملية المماثلة". إن المماثلة تعنى وجود شيئين بينهما شَبَهٌ لا يصل إلى درجة التطابق إلا أنه الشبهُ الذى يُؤَهِّلُ أحدَهما (= الشبيهَ) لتمثيل الآخر(35). إن المُمَثِّلَ للأصلِ والنائبَ عنه بدلاً من أن يؤكد على نفسه بوصفه ممثلاً ونائبًا يؤكد على ما يُمَثِّلُه وما ينوبُ عنه جاهدًا من أجل ردم الاختلاف القائم فيه والتمويه عليه. وهذا الوضعُ التمثيلى أو النيابى قرينُ حدِّ التوهم الذى تشتغل بمقتضاه "كأن" من حيث هو الذهاب إلى شئ وإرادة غيره فى حركة الذهاب نفسها. تفيدُ "كأن" هاهنا- إلى جانب إفادتها الوهم- "التمثيلَ" و"النيابةَ" اللذين يحجبان كلاهما الاختلاف: الاختلاف القائم فى التكرار، والاختلاف القائم فى الأصل القابل للتكرار. وحسب الاشتغال البلاغى المنطقى فإن حكمَ الدلالة على الوجود الذاتى ثابتٌ بدايةً ونهايةً لـ"قول أنا" على النحو الذى يصبح معه هذا القولُ "أصلاً" لـ"النداء على الآخر"، لم لا نصرح فنقول: على النحو الذى يصبح معه هذا القولُ علةً لـ"النداء على الآخر" الذى يكون بذلك معلولاً له. لكن "ميتا نص النداء" يعود فيقرر أن "النداءَ على الآخر" "أصلٌ" فى الدلالة على الوجود الذاتى وعِلَّتُه عندما يقول:
* "به أكون".

بالنداء على الآخر- أكون. وهذا معناه: بالنداء على الآخر تتهيأ الفرصةُ لظهور الأصل الدالِّ على الكينونة، تتهيأ الفرصةُ لـ"قول أنا". وبذلك يصبح الذى كان أصلاً (= قول أنا) معلولاً للذى كان فرعًا (= النداء على الآخر) فيعود الذى كان فرعًا عن أصلٍ أصلاً لفرع. يصبح "النداءُ على الآخر" علةً للوجود الذاتى وأصلاً يُوَفِّرُ إمكانَ "قول أنا" بالنحو الذى به تدلُّ على الكينونة عمومًا. مما يسمح بإعادة كتابة العبارة بكاملها "كأننى، به، أقول: "أنا". به أكون. كأننى من غيره لست أنا" على النحو الآتى:
أنا أنادى إذن أنا موجود.
أنا لا أنادى إذن أنا لست موجودًا.
وهذا التنازعُ بين "وجهٍ بلاغىٍّ" و"وجهٍ برهانىٍّ" مُتَضَمَّنٍ فى الوجه البلاغى- يهدِّدُ بـ"تحويل الأصل". ففى هذه اللعبة التى يحلُّ فيها تبادليًا "الأصلُ" محلَّ "الفرعِ" و"الفرعُ" محلَّ "الأصلِ" على النحو الذى يقوم فيه أحدُهما بإزاء الآخر ويقف فى مواجهته- نصبح أمام "الاشتباه". إن "حدَّ كأن" سياقيًا هو حدُّ الاشتباه؛ ففى هذا "الإحلال التبادلى" لسنا أمام "التطابق" بين "أصل" و"فرع" يقوم أحدُهما بدور الآخر كاملاً وإنما أمام الاشتباه فى أصلية الأصل. وهناك عبارات تتضمنها الفقرةُ المطولةُ التى يتكلم فيها ميخائيلُ عن تجربة النداء تحول- بما تنطوى عليه من إيحاءات- دون أن يكون "الإحلالُ التبادلىُّ" بين "الأصل" و"الفرع" مُمَهِّدًا للتطابق بينهما، وتجعل من هذا الإحلال اشتباهًا فى أصلية الأصل:

* أنادى من قاع بئر الوحدة السحيق.
وقال أيضًا: أظن أنه لا يمكن على أى حال، أن يكون ثم مجيب. لا يمكن أن تكون إجابة. ومهما جاءت الإجابات- وقد جاءت- فكأنها لم تحدث وبقى النداء. الإجابة فقدان. والنداء افتقاد دائم للإجابة وهى هنا، ملء يديه الخاويتين.
وسأل نفسه بوضوح: عندما أجدها أفقد نفسى؟ وعندما أجد نفسى أفقدها؟ وقال: الظنون على الحالين، تبقى معلقة، وفى الحالين قدر من جبن الراحة، ودعة الاستنامة، أو- على الأقل- الخروج عن لا ونعم.

إن هذه العبارات المصوغة ببراعة تثير السؤال عن الأصلِ الدالِّ على الكينونة وتجعل من "حدِّ كأن" سياقيًا دالاً على الاشتباه وليس على تكرار الأصل الذى يحفظ على الأصل أصليته. وكأن ميخائيل يقول عن "تجربة النداء على الآخر المحبوب": لقد شَبَّهَ النداءُ عليكِ علىَّ. لقد شَبَّهَ ميخائيلُ على نفسِه فصار لا يعرف هل عندما ينادى على رامة "يكون"، أم هل عندما يقول "أنا" فإنه "يكون"؟ الاشتباه هو خروج الشئ عن حدِّه إلى غيره فيلتبس به ويغمض حدُّه فلا يكون بالقدرة حسم حدِّه، وليس الاشتباهُ هاهنا التباسًا يمكن التغلب عليه بالعودة إلى أسس التعقل والمنطق وإنما هو وضع أنطوبلاغى صميمى يجعل من عدم الكينونة حضورًا مستمرًا. وهذا العدمُ الحاضرُ يضفى ظلالَه على اشتغال "كأن" فلا تعود خادمةً لـ"أصلية الأصل" بل تقوم بـ"تحويل الأصل"، وبذلك يُحال بين الذات وتطابقها الآمن مع نفسها، إذ مع الاشتباه نكون أمام نسيان أصلى لنقاء الأصل (إن "الهبة المضادة" التى يقوم بها ميخائيل نحو رامة تُغَيِّرُ اتجاهها فتعود عليه).

وبعدئذٍ فلعلنا نفهم الآن التعليق الغامض الذى يقوله الحسين بن فضل بخصوص حروف التشبيه فى الآية: "قيل لها أهكذا عرشك؟ قالت كأنه هو" حيث يقول: "شبَّهوا عليها فشبَّهت عليهم"(36)، وهو تعليق يشى بـ"الاشتباه فى الأصل" (= العرش) على نحو يصل اشتغال "كأن" بـ"عدم قابلية الحسم"، بما يجعل عبارتها "كأنه هو" مفيدةً الآتى: العرش هو هو لكنه ليس هو هو فى آنٍ معًا. مع ملاحظة أن عرش بلقيس فى هذا الموقف كان هو هو وليس هو هو بالفعل وفى اللحظة نفسها. إن "كأن" تتعلق فى سياق موقف "سليمان / بلقيس"- على الأقل- بخبرة حدوث من نوع فريد حيث تؤشر "كأن" على "حدوث المستحيل ". وأحيانًا تقوم "كأن" بـ"تعيين" المستحيل- التعيين بالمعنى الهيجلى- كما فى العبارة: "اعبد الله كأنك تراه" حيث تنتقل "كأن" بـ"حدِّ الله" من "اللاتعين" إلى "الوجود المتعين". وهذه أمثلة سريعة على قابلية النظر إلى اشتغال "كأن" بنحو جديد.

* * *

إن استخدام "كأن" استخدامًا منطقيًا فى النظرية البلاغية التقليدية يمهد الأرضية لـ"المماثِل" ولـ"المشابِه" ولـ"المساوِى" من أجل تهيئة فكرة قابلية الأصل للتكرار. والرغبةُ فى التكرار هى رغبةٌ فى التوكيد والسيطرة من خلال إقرار الحدود والماهيات. اشتغالُ "كأن" البلاغى المنطقى هو اشتغالٌ امتثالى: الامتثالُ لـ"أصلٍ" يقبل "التكرارَ" من أجل أن يحفظَ أصليتَه فى التكرار. وبتكرار الأصل لا نؤكد إلا الحدَّ بين الأصل والتكرار ونحفظ جوهرية الأصل ونقاءه بإشارة تكراره إليه دومًا. و"حدُّ التوهم" الذى تشتغل بمقتضاه "كأن" متعقلٌ على نحو يجعل من الحكم الوهمى فرعًا عن الحكم العقلى المستندِ إلى النظر والدليل. وهذا التعقل يُخْضِعُ "كأن" بجعلها سندًا بلاغيًا لإمكان التطابق يحتجب فيه الأصلُ من أجل التمويه على "الاختلاف فى الأصل"، ولعل درسنا الحالى يطور- بواسطة التفكيك- تحليلات جابر عصفور الفاضحة بخصوص الأصل المعرفى لنظرية التشبيه فى البلاغة العربية وهو فضح يكشف عن أن هذه النظرية البلاغية تضطلع بمبدأ الهوية وما ينطوى عليه ذلك من وضع "حدٍّ" والانسجام داخل "المحـدود" (37).

* * *

يكتب الشيخ الأكبر: "التكرار مؤدٍ إلى الضيق والتقييد"(38).

* * *

إن إيماءة "كأن" هى الاشتباه الحاصل بين حدٍّ وحدٍّ وليست إقرارَ حدٍّ وحدٍّ، و"الاشتباه" بقدر ما هو "عدم قابلية الحسم" بين حدٍّ وحدٍّ هو إقرارٌ من نوع غريب لـ"آخرية" صميمية تحول دون انغلاق الأصل على نفسه انغلاقًا آمنًا. عندما يشتبه علينا "الشئ" نكون أمام "عدمٍ" لـ"ماهية الشئ" على النحـو الذى لا تكـون لنا معه أدنى قـدرة على الإجابة عن سـؤال: "ما هو..؟". إن التعقلَ إقرارٌ للحدود وهو محمولٌ على التَعَيُّنِ ومتعلقٌ صميميًا بنفى أو إثبات. التعقلُ حكمٌ يجهد من أجل مواراة العدم، أما الاشتباه فهو "الخروج عن لا ونعم" كما يقول ميخائيل، وذلك بعدم قدرة العقل على الحصر فى حكم. إن اشتغال "كأن" على هذا النحو الذى وضحناه يحيى "ذكرى العدم"، ذكرى أصيلة فى الكائن الذى يتذكر والذى تتجذَّر كينونته بكاملها فى الذاكرة. وتضطلع "كأن" على نحو كامل بهذا الإحياء العجيب.

* * *

عندما يتم التغاضى عن الاشتغال المنطقى لصيغة "كأن" فى درسٍ بلاغىٍّ تقليدىٍّ فغالبًا ما يتم توسيعها بحيث تصبح حدًا لكل ما هو خيالى وإيهامى على النحو الذى تكون به صيغة "وكأن" "تبدو مناسبة لما نسميه بالأعمال ولاسيما الأعمال الفنية والفنون الجميلة (التصوير، النحت، السينما، الموسيقى، الشعر، الأدب، إلخ)" (39). وبذلك ترتبط صيغة "كأن" ارتباطًا أساسيًا باعتبارات الإنشاء الخيالى، وهى الاعتبارات التى تتناقض على الدوام مع اعتبارات ما هو واقعى لو أننا أخذنا بالتعارض المستقر والشائع بين ما هو خيالى وما هو واقعى، ولو أقررنا حدودهما المعتبرة سلفًا. إذن تخرج صيغة "كأن" من إطار استخدام تقنى وظيفى ضيق ومحدود إلى استخدام واسع يخص "الأدب" ويتيح إمكانه بوجه عام. وفى سياق هذا البزوغ لتعارض الخيالى والواقعى هناك محاولات تجهد من أجل ردم الهوة بين الطرفين بتحويل أحدهما إلى تابعٍ وخادمٍ للثانى.

فى الفقرة الأولى التى يفتتح بها جابر عصفور الفصل الأول من كتابه "الصورة الفنية" يعرض الاستخدام المعاصر لمفردة "الخيال" فى المصطلح النقدى المعاصر، حيثما نرى إلى أن فاعلية الخيال "تعيد تشكيل المدركات، وتبنى منها عالمًا متميزًا فى جدته وتركيبه، وتجمع بين الأشياء المتنافرة والعناصر المتباعدة فى علاقات فريدة، تذيب التنافر والتباعد، وتخلق الانسجام والوحدة. ومن هذه الزاوية يظهر جانب القيمة الذى يصاحب كلمة "الخيال" فى المصطلح النقدى المعاصر، والذى يتجلى فى القدرة على إيجاد التناغم والتوافق بين العناصر المتباعدة والمتنافرة داخل التجربة"(40).

والحال هكذا، يستجيب كل ما هو خيالى لـ"البنية": ضرورة الوضع فى بنية، حيثما يعيد الخيالىُّ التشكيلَ ويُهيئ بنيةً متمايزةً من خلال الضمِّ والجمع بين العناصر المتباعدة فى علاقات فريدة تخلق فى النهاية الانسجام والوحدة. وهذه التهيئةُ التى يقوم بها الخيال من أجل الاستحواذ على "التجربة / الواقع" من خلال بنية جديدة- تجعل من الخيالىِّ رغبةً دائمة فى استعادة البنية أولاً وتجعل منه ثانيًا حالةً ثانوية لكل ما هو واقعى. ويشير جابر عصفور إلى هذه الرغبة المزدوجة بصياغة بارعة تعمل وكأنها النتيجة المنطقية النهائية: "ومن خصائص الخيال... الأصيل أنه يحطم سور مدركاتنا العرفية، ويجعلنا نجفل لائذين بحالة من الوعى بالواقع، تجعلنا نشعر كما لو كان كل شئ يبدأ من جديد، وكما لو كان كل شئ يكتسب معنى فريدًا فى جدته وأصالته"(41). وتلك صياغة بارعة تلخص- بقصدٍ أو دون قصدٍ غالبًا- كلَّ فكر يشتغل ضمن مبدأ تسوية التعارضات، فالصياغة تشى بمحاولة ردم التعارض بين "الخيالى" و"الواقعى" بتحويل الخيالى إلى حالة من الوعى بالواقعى من أجل حيازة معرفة جديدة (=معرفة أخرى) بما هو واقعى، معرفة سيكون شرطها الحتمى الدائم هو استعادة البنية فى كل مرة.

يصبح حدُّ "الخيالى" بهذا النحو مستمدًا ومشتقًا على الدوام من "ما هو واقعى". إن الخيالىَّ بذلك يتنازل عن نفسه لصالح الواقعى والتعقلى والحدودى: لنلحظ على الأقل ارتباط الخيالى بما هو نشاط أدبى وبما هو إمكان هذا النشاط بعمليات من إعادة التنظيم وإعادة التشكيل من جديد، وهى العمليات التى تميل إلى إعادة البناء كما يرينا جابر عصفور بصياغته البارعة. وإعادةُ البناء هى وضعٌ من جديد فى بنيةٍ متمايزةٍ، بنيةٍ غالبًا ما تُحْدِثُ ردمًا لـ"التنافر" وتسويةً لـ"الاختلاف" كى تعبر من فوقهما إلى "الانسجام" و"الوحدة" وإلى "المعنى الواحد الكلى". وبمرور الوقت، ومع الألفة والعادة "ينسى" الإنسان الاختلافات والتنافرات واللاوحدة و"يتذكر" فقط طرائق العبور من فوقها. إن "البنيةَ" و"الإعادةَ إلى البنيةِ" هما معًا جهد الإنسان من أجل "نسيان الاختلاف"، وهما معًا فى الآن نفسه "تذكرٌ" دائمٌ لـ"الانسجام" و"الوحدة" و"المعنى الكلى" و"الحضور" و"الحقيقة" كـ"ملجأ" أخير للإنسان ولحماية الإنسان: نحن "نجفل لائذين بـ..."- وهذه صياغة جابر عصفور- ذلكم معناه خوف دائم لدى الإنسان من "التشتت" و"التفرق" و"البعثرة"، خوف دائم لدى الإنسان من التعامل مع المفردات والجزئيات والعناصر المتفرقة من دون لَمِّها فى بنيةٍ كليةٍ تُوَحِّدُها بإنشاء علاقات بينها. نحن نخشى دائمًا من التعامل مع العناصر من دون إنشاء علاقات منطقية عقلية بينها تكفل اندراجها فى بنية كلية موحدة. إن إنشاء علاقات بين الجزئيات والعناصر والمفردات يصبح- حسب صياغة جابر عصفور- "قيمةً" تتيح اشتغال ما هو خيالى بوصفه "المكمل" الدائم و"الثانوى" لما هو واقعى. وإذا لم يكن كذلك سيصبح "الخيالىُّ / الأدبىُّ" منزوعَ القيمة. الخيالى هو إعادة التنظيم وإعادة التشكيل الدائمتان لـ"تشتت" الواقع و"بعثرتـ"ـه وانعدام نظامه البادى أمام الإنسان. سيندرج الخيالىُّ بذلك تحت ما هو واقعى على أنه النوع الجزئى الذى يستمدُّ طرائقَ اشتغاله على الدوام من الواقعى كمعيار أعلى.

فى النتيجة الأخيرة يصبح الأدبى بمثابة قدرتنا (=قدرة الإنسان) الخيالية على الجفول "لائذين بحالة من الوعى بالواقع" على النحو الذى تتضح معه أخيرًا الصلةُ المنعقدةُ بين الاستخدام الضيق والمحدود لـ"كأن" فى الدرس البلاغى التقليدى واستخدامها بتوسع كـ"حدٍّ" لـ"الأدب" عمومًا، وهو الحدُّ الذى يتوفر بالمعنى الذى يصوغه جابر عصفور للخيال فى المصطلح النقدى المعاصر على انقلاب جدلى. كلا الاستخدامين يندرجان تحت معيار أعلى هو التعقلى المنطقى الحدودى، معيار يحاول على الدوام تسوية الاختلافات والعبور من فوقها، لأن الإنسان كما يوضح نيتشه يخشى هذا الخطر الأعظم: "إن الخطر الأعظم الذى حام دائمًا حول الإنسانية، ولازال يحوم حولها، هو انفجار الجنون- الذى يعنى انفجار الاعتباطية فى المشاعر والرؤية والسمع، متعة انعدام نظام العقل، والابتهاج باللاعقل الإنسانى" (42).

ولا يخشى نصُّ إدوار هذا الخطرَ الأعظم فاتحًا صيغة "وكأن"- بما هى حدٌّ للأدب- على "الاشتباه". وهذه الصيغة بما هى كذلك تقود النص بكامله إلى "عدم قابلية الحسم". فمنذ الصفحة الأولى من "رامة والتنين" نجد أنفسنا من خلال صيغة "وكأن" أمام الاشتباه فى تحديد مكان الحدث. وإلى جانب ذلك تعمل هذه الصيغة على قيادة النص بكامله نحو انفجار الاعتباط فى المشاعر والرؤية، ففى جزيرة الشاى- وهو مشهد ينغلق عليه فصل "ميخائيل والبجعة"- ابتهاجٌ بالاعتباط فى الرؤية والمشاعر. ويقرر النص هذا الابتهاج من خلال العبارة الأخيرة فى الفصل، وهى عبارة قاطعة: "هذا كله قد حدث بالفعل"(43). ويسبقُ مشهدَ جزيرة الشاى الغرائبى مشهدٌ يتعلق بمجموعة أحداث واقعية يسردها النص عن موقف خاص بميخائيل ورامة (انتظارها له فى محطة القطار ثم الذهاب إلى الفندق، وتناول الغداء ثم السير معًا بجانب الحقول)، ويختم النـص هذا المشهد بعبارة نافية مثل: "لا.. لم يحدث شئ من ذلك كله"(44).وبين "ما حدث" و"ما لم يحدث" تنشر صيغة "كأن" ظلالها، وذلك على النحو الذى يمكن معه القولُ إن "الاشتغال الأنطوبلاغى" لصيغة "كأن" كما رسمنا حدوده فى تجربة النداء- على صلة أساسية جدًا بوضع النص الأنطولغوى، وذلك معناه صلة ضمنية بـ"الكينونة فى الذاكرة" بما هى "كينونة فى الكتابة".

تقيم "كأن" دومًا على حدود "النسيان" و"الذاكرة"، وهذه الإقامة اللامتوقعة تجعلنا أمام "الاشتباه" الدائم من حيث هو طريقة تميز الأدب. إن "كأن" هى: ما هو أدبى حال أن يكون اشتباهًا مستمرًا.

القاهرة

ـــــــــــــــــــــــــــــ

* عفيف الدين التلمسانى: شرح مواقف النفرى، دراسة وتحقيق د. جمال المرزوقى، (القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، سلسلة الذخائر، 2000م)، صـ339.
** السابق نفسه، صـ. 309.
*** إدوار الخراط: الزمن الآخر، (القاهرة، دار شهدى للطبع والنشر، 1985م)، صـ. 240.
*مصطفى صفوان، الجديد فى علوم البلاغة، مجلة فصول، الحداثة فى اللغة والأدب- الجزء الأول، (القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1984م)، صـ196.
(1)ابن منظور، لسان العرب، (بيروت، دار إحياء التراث العربى ومؤسسة التاريخ العربى، الطبعة الثانية 1997م)، الجزء 14، مادة "ندى" صـ.صـ97- 98.
(2)يكتب صاحب اللسان: "ندا القوم...:اجتمعوا"، "وناديته: جالسته". السابق نفسه، صـ98.ل
(3)بخصوص مادة "حبب"، راجع: ابن منظور، لسان العرب، (سبق ذكره)، الجزء3، صـ.صـ7- 8، صـ11.
(4) راجع إشارة الجاحظ بخصوص العشق فى: الحصرى القيروانى، المصون فى سر الهوى المكنون، دراسة وشرح وتحقيق د.النبوى عبدالواحد شعلان، (القاهرة، دارالعرب للبستانى، 1989م)، صـ79. وفى هذه الإشارة جمع لكل الأدلة المتهتكة التى ينبغى إحباطها.
(5) بخصوص مادة "عشق"، راجع: ابن منظور، لسان العرب، (سبق ذكره)، الجزء 9، صـ244.
(6) يكتب صاحب اللسان:" إذا مامشت نادى بما فى ثيابها ذكى الشذا..."، ولا يخفى هنا ارتباط عطر المرأة بإثارة الشهوة والنُزُوِّ، راجع: ابن منظور، لسان العرب، (سبق ذكره)، الجزء 14، صـ98.
(7) يكتب صاحب اللسان: " نادى الشئ رآه وعلمه". انظر: السابق نفسه.
(8) راجع إشارة صاحب اللسان بخصوص مفردة "التناد". السابق نفسه، صـ97.
(9) راجع إشارة صاحب اللسان. السابق نفسه، صـ100.
(10) راجع إشارة الشيخ الأكبر بخصوص "الهوية" فى: الشيخ الأكبر محى الدين بن على بن محمد بن أحمد بن عبدالله الطائى الحاتمى المعروف بابن عربى، الفتوحات المكية (لبنان، دار إحياء التراث العربى، الطبعة الأولى 1998م) الجزء الثانى، صـ57. وراجع إشارة الفيلسوف الألمانى هيدجر فى: مارتن هيدجر، مبدأ الهوية، ترجمة آمال أبى سليمان، مجلة العرب والفكر العالمى، عدد4، (لبنان، مركز الإنماء القومى، خريف 1998م)، صـ35.
(11) عفيف الدين التلمسانى، شرح مواقف النفرى، دراسة وتحقيق د. جمال المرزوقى، (القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2000م)، صـ144.
(12) إدوار الخراط، رامة والتنين، (القاهرة، دار ومطابع المستقبل بالفجالة والاسكندرية، الطبعة الثانية 1990م)، صـ 201.
(13) السابق نفسه، صـ 241.
(14) انظر بيت ابن الأعرابى فى: ابن منظور، لسان العرب، (سبق ذكره)، الجزء 12، صـ148.
(15) انظر حديث "أعوذ بكلمات الله التامات" فى: السابق نفسه، صـ147.
(16) انظر الآية "وأخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم" فى: السابق نفسه، صـ149.
(17) راجع إشارات ابن جنى، بخصوص مادة "كلم" فى: أبو الفتح عثمان بن جنى، الخصائص- الجزء الأول، تحقيق محمد على النجار، (القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1999م)، صـ.صـ 14- 16.
(18)جاك دريدا، نهاية الكتاب وبداية الكتابة، ترجمة كاظم جهاد، ضمن كتاب الكتابة والاختلاف، (المغرب، دار توبقال، 1988م)، صـ صـ 104- 105.
(19) السابق نفسه، صـ 124.
(20) بول دى مان، العمى والبصيرة، تحرير فلاد غوزيتش، ترجمة سعيد الغانمى، (القاهرة، المشروع القومى للترجمة،2000م)، صـ49.
* Jacques Derrida, Dissemination, translated, with an Introdaction and Additional notes, by Barbara Johnson, (The University of Chicago Press, 1981), p.292.
(21) جاك دريدا، نهاية الكتاب وبداية الكتابة، ضمن كتاب الكتابة والاختلاف، (سبق ذكره)، صـ111. وعمومًا نحيل إلى:
- Jacques Derrida, Form and Meaning: A Note on the Phenomenology of Language, In Margins of Philosophy, Translated, with Additional Notes, by Alan Bass, (The University of Chicago Press, 1992), p.p.155-173.
(22)ابن جنى، الخصائص– الجزء الأول، (سبق ذكره)، صـ5.
(23) بخصوص مادة "صوت" راجع: ابن منظور، لسان العرب، (سبق ذكره)، الجزء7، صـ.صـ435- 436.
(24)بخصوص مادة "نفس" راجع: ابن منظور، لسان العرب، (سبق ذكره)، الجزء 14، صـ236.
(25)السابق نفسه.
(26) السابق نفسه، صـ 238.
(27) بخصوص تضمن معجم "النَفَس" وإشارته إلى فتحات الجسد هذه راجع: ابن منظور، لسان العرب، (سبق ذكره)، الجزء 14، صـ.صـ 235- 237.
(28) بخصوص تعريف الأونطى، والفارق بينه والأنطولوجى، انظر: جاك دريدا، نهاية الكتاب وبداية الكتابة، ضمن كتاب الكتابة والاختلاف، (سبق ذكره)، الهامش الشارح صـ123.
*عفيف الدين التلمسانى، شرح مواقف النفرى، (سبق ذكره)،ل صـ.صـ 306- 308.
(29) ابن منظور، لسان العرب، (سبق ذكره)، الجزء6، صـ381.
(30) السابق نفسه، صـ382.
(31) يعلق الشيخ عبدالقاهر بخصوص "كأن زيدًا الأسد" قائلاً: "وذلك أنك تجعله فى "كأن" يُتَوهَّم أنه الأسد"، ولنلحظ أن كلامه عندما يشرح الاستعارة أو التمثيل لا يستغنى فى شرحه عن مفردة "كأن" إطلاقًا، وهذا شديد الدلالة على أن "كأن" هى الأساس فى المخايلة بدرجاتها حتى تلك التى تحاول الخروج عن حدها إلى حد الحقيقة. انظر: عبد القاهر الجرجانى، دلائل الإعجاز، علق عليه محمود محمد شاكر، (القاهرة، مطبعة المدنى، الطبعة الثالثة 1992م)، صـ 425.
(32) وللشيخ عبد القاهر تعليق خطير بهذا الخصوص هو: "وإثباتُه ما أثبت للفرع الذى ليس بمستحق يتضمن الإثبات للأصل الذى هو المستحق، فلا يتصور الجمع بين شيئين فى وصف أو حكم من طريق التشبيه والتأويل حتى يُبدَأ بالأصل فى إثبات ذلك الوصف والحكم له. ألا تراك لا تقدر على أن تشبه الرجل بالأسد فى الشجاعة ما لم تجعل كونها من أخصّ أوصاف الأسد وأغلبها عليه نصب عينيك". انظر: عبد القاهر الجرجانى، أسرار البلاغة، تحقيق: هـ.ريتر، (القاهرة، مكتبة المتنبى، طبعة ثانية منقحة1979م)، صـ357. وهو تعليق يتلقفه ببراعة جابر عصفور ويدير حوله نقاشًا واسعًا بخصوص الأصل المعرفى للتشبيه. راجع: جابر عصفور، الصورة الفنية فى التراث النقدى والبلاغى عند العرب، (لبنان، المركز الثقافى العربى، 1992م)، صـ.صـ 172- 204.
(33) بخصوص مادة "وهم" راجع: ابن منظور، لسان العرب، (سبق ذكره)، الجزء15، صـ417.
(34) وعلينا أن نلحظ بهذه المناسبة أن المثال الشائع "زيد كأنه أسد" أو "كأن زيدًا الأسد" لا يؤكد صفة الشجاعة المنسوبة إلى زيد بقدر ما يؤكد أسدية الأسد من حيث كونها أصلاً للشجاعة. وما أريد قوله مفاده أن "كأن" تضطلع بتوكيد "الأصل" توكيدًا بلاغيًا. ولعل إعادة قراءة البلاغة القديمة من هذه الناحية- أقصد علاقة الأدوات البلاغية بما تفترضه النماذج من جدل بين الأصل وتكراراته-ة سوف تفضى إلى نتائج تفكيكية مثيرة. وقد نتوفر على استيفاء هذا الدرس بتوسع ذات يوم.
(35) ونحن بذلك نقر ضمنًا نتيجةً يصل إليها أستاذنا جابر عصفور فى نقاشه الإبستيمى المطول لنظرية البلاغة وهى النتيجة الخاصة بأن الاستعارةَ فى مفهومها التقليدى درجةٌ من درجات التشبيه تعتمد عليه فى الأساس. غير أننا نمضى بدرسه الإبستيمولوجى إلى آماد تفكيكية أبعد، فى حدود ما يتيحه درسنا الحالى.
(36) أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم النيسابورى المعروف بالثعلبى، قصص الأنبياء المسمى عرائس المجالس، (القاهرة، مكتبة ومطبعة مصطفى البابى الحلبى، 1954م)، صـ.صـ319- 320.
(37) راجع تحليلات جابر عصفور الإبستيمولوجية فى كتابيه "الصورة الفنية" و"مفهوم الشعر" وهى تحليلات تعود بنظرية البلاغة العربية إلى الحدود الأرسطية العقلية المنطقية.
(38) ابن عربى، الفتوحات المكية، (سبق ذكره)، الجزء الثانى صـ644.
(39) جاك دريدا، التفكيك والعلوم الإنسانية فى الغد، ترجمة أنور مغيث ومنى طلبة، بحـث لقـاء القاهـرة، (مؤتمر المجلس الأعلى للثقافة، 2000م) صـ10.
(40)جابر عصفور، الصورة الفنية فى التراث النقدى والبلاغى عند العرب، (سبق ذكره)، صـ 13.
(41)السابق نفسه، صـ14.
(42)انظر:
- Gayatri Chakravorty Spivak, Translator’s preface, in Jacque Derrida, Of Grammatology (Baltimore and London: The Johns Hopkins University Press, 1974), p.xxx.
(43)إدوار الخراط، رامة والتنين، (سبق ذكره)، صـ28.
(44) السابق نفسه، صـ26.