تكتب الناقدة المصرية المرموقة أننا في حاجة إلى إعادة النظر في كيفية تفعيل الثقافة المدنية لإزاحة ثقافة القوة – أي الثقافة المؤسسة للخطاب أو الفكر الذي يتيح الهيمنة والإخضاع. لا يستدعي ذلك مجرد مراجعات فكرية تعيد قراءة المخزون المعرفي فحسب، بل مقاربة الثقافة الشعبية أيضا، التي لا ينبغي الاستهانة بها.

عن أية قوى نتحدث: ثقافة القوة أم القوى الثقافية؟

ماري تريز عبدالمسيح

تتسم العلاقة بين المثقف – أي الممارس في المجال الثقافي، مبدعا كان في مجال الفنون أو عالما في مجال الفكر والمعارف – تتسم علاقته والسلطة في مصر بالازدواجية نتيجة التناقضات التي اعترت صفوف المثقفين منذ تكوينها بوصفها جزءا من أجهزة الدولة المدنية في نهايات القرن التاسع عشر. فتمثل دور المتعلمين، أو الخريجين الجدد - بالنسبة للسلطة الحاكمة -  مسؤولية "التعليم" من أجل "التقدم" المرهون بالتفوق الصناعي والتقني للدولة المدنية التي كانت في سبيلها للتشكل. وبينما ارتبط مفهوم التقدم الصناعي يدعم القوى الحاكمة والاقتصادية على الصعيد الإقليمي، تبين للممارسين في المجالات المعرفية والإبداعية عند منعطف القرنين التناقض الكامن في تأسيس دولة مدنية تتلازم وخطاب سلطوي سائد، متمثلا في السلطة الحاكمة وهيمنة الجمود الفكري المحافظ.

ظهرت ضرورة نقض الخطاب الثقافي السائد المؤسس على التبعية والتقليد، وإعادة قراءة التاريخ الفكري والمعرفي في المجالات كافة من منظور حداثي يتناسب والتغيرات التاريخية على الصعيدين المحلي والعالمي. ظهر حينئذ التفاوت العميق بين التحديث التقني والاقتصادي الذي اقبل عليه النظام الحاكم، والحداثة في مجالات العلوم الطبيعية والإنسانية التي تاق إليها الممارسين في المجالات الإبداعية والمعرفية. وإن كان للتحديث الصناعي الفضل في استقدام المهارات المتقدمة ما أدى إلى تطوير العلوم الطبيعية، والطبية، والهندسية، وفنون العمارة، والطباعة، ما ساعد على التواصل المعرفي والإبداعي مع الثقافات العالمية، ظلت الفجوة قائمة ما بين المحدثين في المجالات العلمية، والفنون المرئية، والسمعية، والكتابات الأدبية والفكرية، ومعارضيهم من دعاة الجمود الفكري الذي استظل بستارة المحافظة على التقاليد لدعم الهيمنة السلطوية. ومن هنا نشأ الشقاق بين الركض وراء التحديث والتطلع إلى الحداثة، وكلاهما يمثلان دعامتي الدولة المدنية والفصل بينهما يؤدي إلى آثارا سلبية، تتراءى لنا عبر التاريخ على الصعيدين المحلي والعالمي.

كما عانى الممارسون في المجالات المعرفية في منعطف القرن العشرين من شقاق آخر جاء نتيجة قلق وجودي، فكان عليهم أما الولاء للسلطة الداخلية المتمثلة في الحاكم التركي والباب العالي من جهة، والمستعمر الأجنبي من جهة أخرى، أو رفض الخضوع لكليهما. نشأ عن ذلك إشكالية مركبة: فالبرنامج التقدمي المطروح استقي من المؤسسات العلمية الأوروبية – ثقافة المستعمِر – بينما اشتعل الجدل حول كيفية قراءة التراث القومي الذي أصابه التكلس نتيجة قرونا من الكساد تحت وطأة الترك والمماليك. وما أنجزه العلماء والمبدعون في الدول الصناعية بعد انتشار فلسفة الأنوار على مدى خمسة قرون من الجدل، والحروب، أفضى إلى تعرف كيفية الموازنة بين الأضداد، كان على نظرائهم في مصر الإسراع في إنجازه للحاق بالمستويات العالمية، بعد قرون من القهر الثقافي. ويرجع تعثر الممارسين في المجالات المعرفية في مصر في الاستمرار في مشروع الحداثة إلى إخفاقهم في إقامة جسور للحوار مع معارضيهم يتح الاستفادة بتبادل الرؤي حول المناهج المعرفية لنقض التكلسات الفكرية، وتجديد الخطاب. ويرجع هذا الإخفاق إلى تكاتف السلطة المركزية الحاكمة والمؤسسات المحافظة حفاظا على مكانتهم المهيمنة.

يخضع الأفراد في مجتمعنا إلى سلطة التقاليد من جهة، إلى جانب النتائج السلبية التي جاءت مع عملية التحديث الاقتصادي، والصناعي، والتقني الذي يعمل بمنأى عن التفاعل والحداثة الثقافية. نجم عن التحديث الصناعي والتقني من قيام حربين عالميتين بين الدول الأوروبية، فالتسابق إلى التحديث كان بغرض دعم التراتبية (تفوق النوع، أو الجنس، أو العرق، أو الدين) التي افضت إلى التشدد ونبذ الآخر، أفضت إلى حروب ممتدة. ويتكرر هذا الخطاب في عصرنا الحالي، حيث يظل التحديث الصناعي والتقني في منطقتنا الإقليمية يسيران قدما دون استيعاب الحداثة الثقافية والتفاعل معها. فلا يؤسس استيراد الآلات لدولة صناعية، فمن دون استيعاب المفاهيم الاقتصادية التي تدعم الدولة المدنية ينمو الاحتكار وتوابعه السلبية، مفضيا إلى خلخلة الاقتصاد القومي – وهذا على سبيل المثال لا الحصر. ولا تخلق التكنلوجيا مجتمعا مدنيا، فالعبرة ليست في استيراد البرمجيات بل في اطلاق حرية الخيال للمشاركة في انتاجها. تولدت التكنولوجيا في محيط معرفي تشاركت فيه التغيرات الفلسفية والعلمية الأطر المعرفية، حيث يعد الخيال العنصر المشترك للمخترع في مجال العلوم، والفيلسوف، والمبدع في مجال الفنون. وحين يخترق المحيط الثقافي خطاب التحريم، يتعثر الخيال عن الاختراع، وعن الفكر، وعن الإبداع.

تعودت المجتمعات التي تدّعي المحافظة على التقاليد الفصل بين العلوم الإنسانية والطبيعية، واعطاء مزيدا من الحرية البحثية للعلوم الطبيعية، استنادا إلى اعتمادها على "الحقائق العلمية" الثابتة، بينما قد يترتب على اتاحة حرية البحث في العلوم الإنسانية ما قد يصطدم بالثوابت التي نقلت عن الأجداد. يترتب على هذا الفصل تعثر الباحثين في المجالين لافتقادهم التفاعل الحيوي بين الفكر في شتى المجالات المعرفية – علمية كانت أم انسانية، وهو تفاعل امتد على مدى تاريخ التطور المعرفي. وكما يعد الحجر الفكري معوقا لحرية الخيال -آلية الاختراع والإبداع – فهو يدعم أيضا الخطاب السلطوي. فمن يعطي لنفسه الحق في تحديد أطر الفكر وحدوده، يعد نفسه مالكا للحقيقة الأسمى، ويضع مكانته فوق البشر، أي يتبع سياسة الإخضاع لثقافة القوة. وحين تنجح ثقافة القوة في اختراق المجتمع عبر القنوات الرائجة تنجح في استقطاب من يجدون في خطاب اللامساواة، والإقصاء وسيلة للتفوق على الآخر، بدءا من الأسرة والمدرسة، وممتدا إلى المؤسسات لتخترق ثقافة القوة البيت والشارع.

إضافة، ينجم عن ثقافة القوة حرمان العامة من تكافؤ الفرص في مجالات التعليم والعمل، والمشاركة السياسية في صنع القرار، وهو درب من استخدام العنف النفسي، الذي يبيح العنف الجسدي تباعا. خلاصة، إن انفصل التحديث بالميكنة الصناعية عن مواكبة الحداثة الفكرية لتغدو الثقافة – بوصفها تلاحم مجالات المعرفة - قوة فاعلة قادرة على تنشيط الفكر والعمل، يستحيل بناء المجتمع المدني، ويصعب أيجاد موقعا على خريطة العالم الثقافية.

انطلقت الحداثة الفكرية في شتى أنحاء العالم عبر الصدام ومواطن الجمود الفكري، صداما بدأ علميا ثم توسع ليشمل كافة الفروع المعرفية، صداما نجمت عنه تارة آثارا سلبية، وأخرى إيجابية. وتتلخص الجوانب الإيجابية في التفاعل المثمر بين أوجه النزاع، فالصدام – على الرغم من سلبياته - يعد نقطة التقاء تكشف لكل طرف ما لم يكن يستبينه عن الطرف الآخر، ما قد يساعد الطرفان أو إحداهما إلى تجديد الرؤية، أي تحديثها.

وبينما تمكن طلائع الحداثة الفكرية من تشكيل جماعات ضغط – أي قوى ثقافية - في بعض المجتمعات الصناعية ذات التكنولوجيا الفائقة، قوى ضغط قادرة في التأثير على الخيارات السياسية والاقتصادية، يرجع تعثر خط سير الحداثة في معظم البلدان النامية إلى الفصل المعرفي بين الممارسين في مجالات العلوم الطبيعية والإنسانية، من جهة، وابتعادهم عن العامة، من جهة أخرى. وساعد على ذلك تفشي الأمية الأبجدية والمعرفية، فلم تستجب القاعدة العريضة من المواطنين إلى مفهوم الحداثة وعاملتها إما كدرب من البدع الذي يهدد التجانس المجتمعي، أو ثمة جنوح فكري عديم الجدوى ولا ينجح سوى في أشعارهم بدونيتهم المعرفية مما يحفزهم على المعارضة.

ويصعب التكهن ما إذا كان التوسع التكنولوجي، ثم الإليكتروني، وانتشار وسائط الاتصال، وشيوع الأجهزة الذكية قد ساعد على رأب الصدع بين شرائح المجتمع أم ساعد على تعميق الشقاق لاستحواذ طرفي النزاع – المحدثين والمحافظين على مواقع بث عبر الأجهزة الإليكترونية. يرى البعض تفوق التمثيل المحافظ في الاستحواذ على العامة لقدرته الاقتصادية الفائقة، وفي ذلك دلالة على إن استقدام الوسائل التقنية لا يغير الخطاب السائد إن كان استخدامه لدعم التبعية لا لتنشيط الخيال المبدع. بيد أن ما يزيد المسائل تعقيدا تزايد الشقاق التفسيري والفكري بين أطراف النزاع – ليغدو الطرفين أطرافا. وليس لتفوق الموارد الاقتصادية للمحافظين السبب الرئيسي في تفوقهم على غيرهم في الاستحواذ على القاعدة العريضة ما أدي إلى سيود خطاب التمييز والتشدد الفكري.  فللمفارقة، لم ينج بعض الداعين للتجديد الفكري من إنتاج خطاب متشدد مبني على إقصاء الآخر، لتصبح نقاشاتهم مجالا لتبادل الاتهامات لا للحوار، الذي يعد أحد أسس الديموقراطية الثقافية ومن دعامات المجتمع المدني الذين يطالبون به.

ينبهنا ذلك إلى أن ثقافة القوة لم تعد قاصرة على السلطات الحاكمة (فلم تعد تنحصر في طبقة أو فئة بعينها)، أو الفئات المحافظة (لا تتسم مؤسسة دون غيرها بسمة المحافظة) فحسب. وللمفارقة اخترقت ثقافة القوة صفوف معظم الداعين للحداثة الفكرية والعلمية. ومن ثم، نحن في حاجة إلى إعادة النظر في كيفية تفعيل الثقافة المدنية لإزاحة ثقافة القوة – أي الثقافة المؤسسة للخطاب أو الفكر الذي يتيح الهيمنة والإخضاع. لا يستدعي ذلك مجرد مراجعات فكرية تعيد قراءة المخزون المعرفي فحسب، بل مقاربة الثقافة الشعبية أيضا، التي ظلت وتظل شريان فعال لا ينبغي الاستهانة به. أما كيفية استقطاب القاعدة الشعبية العريضة، فهذا لن ينجح بمجرد التسلح بالمعرفة أو بث الشعارات. علينا الانتباه إلى أن القاعدة الشعبية العريضة على أهبة الاستعداد لمواجهة معارضيها مروجي الحداثة بخطاب القوة الذي استملكته في حياتها اليومية والذي يتيح لها – بدورها - ممارسة ثقافة القوة – والعنف في الشارع خير دليلا! ألا يعود بنا ذلك إلى نقطة الصفر – فعن أية قوى نتحدث؟

 

أكاديمية بجامعتي القاهرة والكويت