شهدت البحرين الشهر الماضي اختتام فعاليات النسخة الرابعة والعشرين من مهرجان البحرين الدولي للموسيقى والذي أضحى موعدا فنيا قارا ينفتح من خلاله على أنماط موسيقية مختلفة للعديد من الشعوب والثقافات العالمية، في هذا التقرير رصد لفعاليات الدورة الأخيرة والتي امتزجت بتداخل وحوار أنماط موسيقية شعبية وتراثية وحديثة وهو ما أعطى زخما آخر للمهرجان.

مهرجان البحرين الدّوليّ للموسيقى

من رائعة الأدب العالميّ (آنّا كارينينا) وصولاً إلى المشترك الغنائيّ العربيّ مع فرقة البحرين الوطنيّة

على وعدٍ أن يكمل ربع قرنه الأوّل في العام المقبل، مهرجان البحرين الدّوليّ للموسيقى في نسخته الرّابعة والعشرين اختتم يوم (الموافق 19 أكتوبر 2015م) روائع أغنيات وموسيقى الشّعوب، التي التقت في موسمها المعتاد بقلب مرفأ الكون، عبر سيرة جميلة بدأت بفنّ الباليه الرّوسيّ في الرّائعة العالميّة آنّا كارينينا بمسرح البحرين الوطنيّ، وصولاً إلى مختارات من ألحان الوطن العربيّ التي اقتسمتها فرقة البحرين الوطنيّة للموسيقى على خشبة الصّالة الثّقافيّة.

وفي المسافةِ ما بينهما، جاءت الموسيقى باتّساع مداها خطابًا ثقافيًّا جميلاً، جمع المئات من الجماهير على مدى أيّام انعقاد المهرجان منذ الثّامن من أكتوبر الجاري وحتّى التّاسع عشر منه، منتقلاً بذاكرة الصّوت والسّماعيّات إلى أوطانٍ عدّة. وقد شكّلت هذه الأيّام تداخلًا ليس موسيقيًّا فحسب، بل وحتّى عبر بعض النّدوات التي تناولت الإيقاع وفكرة الموسيقى والأوبرا ضمن نقاشات كان لها ثراؤها الخاصّ في سياق المهرجان.

انطلاقة مهرجان البحرين الدّوليّ للموسيقى هذه المرّة كانت عبر خاتمة الأعمال الكبرى للكاتب الرّوسيّ تولستوي (آنا كارينينا) التي قدّمتها فرقة سان بطرسبورغ الرّوسيّة للباليه على مدى يومين، بقيادة الفنّان ومصمّم الرّقصات بوريس إيفمان، في سردٍ بصريّ مثير ووحي موسيقيّ لتشاكوفيسكي، وسينوغرافيا دقيقة. وقد تناول هذا العرض بملابساته المدهشة قضايا الطّبقيّة والإكراه الاجتماعيّ والحرّيّة الفرديّة عبر تحوّلات عاشقة مرّت بالخيانة، ثمّ بالإحباط والهلوسات وصولاً إلى الانتحار، تمّ عرضها جميعًا في تعابير جسديّة راقصة مثّلت أقصى حالات الغضب والجنون والعشق والخوف والحيرة وصراع الذات التي برع تولستوي في إظهارها في روايته.

وبعد ذاكرة يومين برفقة تولستوي، كان حفل (وصلة) الذي قدّمته الفرقة الوطنيّة التّونسيّة للموسيقى في العاشر من شهر أكتوبر على خشبة الصّالة الثّقافيّة. وقد جسّد هذا الحفل رحلة سماعيّة فنّيّة رائعة، استعادت الموروث الموسيقيّ التّونسيّ بتاريخه العريق وذكراته المتّسعة، في تفاعل جمهوريّ واسع، استلهم من ذاكرة تونس واحدًا من أجمل خطاباتها الموسيقيّة. أتبع ذلك حفل (المكسيك تغنّي للعالم) الذي أقيم في الحادي عشر من هذا الشّهر، برفقة ثلاثة من ألمع الفنّانين المكسيكيّين المرموقين وهم: الميزوسوبرانو إنكارناسيون فاسكيز، التينور خوسيه لويس أوردونييز، وعازف البيانو رودولفو ريتر، والذي قدّموا مزيجًا فريدًا من ألحان الأوبرا الكلاسيكيّة والأغاني المكسيكيّة الأصيلة التي جسّدت روعة وجمال الثّقافة والفنّ المكسيكيّ.

مهرجان البحرين الدّوليّ للموسيقى يودّع موسمه 24 بذاكرة جمعت البحرين بالوطن العربيّ والعالم

ومن المكسيك إلى العرض الموسيقيّ العالميّ (المخلوقات الخياليّة مع ألاسدير مالوي) الذي جاء من أوروبا والمملكة المتّحدة ليصحب جمهوره من العائلات إلى موسيقى تفاعليّة، كسرت الاعتياديّ وأعادت نسج ذاتها في سياق تعليميّ وترفيهيّ أمتع الحضور. وقد صُنّف هذا العرض ضمن الفئة العائليّة، متناولاً مجموعة من المفاهيم المختلفة التي استندت على الموسيقى لإيصال رسالتها.

وفي صوتِ التّونسيّة درصاف حمداني، كانت الموسيقى تنسج حواريّتها ما بين سيّدة الظّلام وجارة القمر، في حفل (فيروز وباربرا)، تأكيدًا على دور الموسيقى في إلغاء للمسافات، وكشفٍ لفعل الغناء في الرّوح. وقد تمكّنت درصاف برفقة الملحّن الفرنسيّ دانيال ميل إيجاد القواسم المشتركة ما بين المطربتين، حتّى بدت الموسيقى المصنوعة في لبنان أو على ضفاف نهر السّين، لها أصل واحد، أو أنّها تعكس اللّوحة ذاتها أو الحالة المزاجيّة نفسها في تجربة خصبة واستثنائيّة.

وفي ختام المهرجان، استقرّت الموسيقى في مرفأ الكون، برفقة فرقة البحرين الوطنيّة للموسيقى، التي شكّلت ذاكرةً أخيرة لهذا الموسم عبر استحضار الأغنيات التي تجمع الوطن العربيّ في ذاكرة جماعيّة، في الحفل الذي اتّخذ موقعه بالصّالة الثّقافيّة في التّاسع عشر من شهر أكتوبر الجاري.

المهرجان لهذا العام، كان غنيًّا كذلك بالحلقات النّقاشيّة، التي كانت مرادفًا للسّماعيّات والأغنيات. إذ عقدت هيئة البحرين للثّقافة والآثار ندوة (آفاق الموسيقى الكلاسيكيّة) التي قدّمها المؤلّف الموسيقيّ وعضو دار الأوبرا المصريّة محمّد صالح، وانعطف فيها التّجربة المصريّة وصناعة فنون الموسيقى والأوبرا، مؤكّدًا فيها أنّ (الموسيقى ضرورة حياتيّة. إنها وسيلة للتّعبير عن مختلف الأفكار، وهي لغةٌ عالميّة)، وذلك في ثالث أيّام مهرجان الموسيقى، تلتها حلقة نقاشيّة تناولت العلاقة بين الفن والترّكيب والفنون البصريّة والسّمعيّة الأخرى، وذلك على هامش معرض (إيقاع مجرد) الذي انطلق بالتّزامن مع فعاليّات مهرجان البحرين الدوليّ للموسيقى 24.

وقد وجّهت هيئة البحرين للثّقافة والآثار خالص شكرها وتقديرها للدّاعمين الذين أسهموا في إنجاح المهرجان، وهم مجلس التّنمية الاقتصاديّة، السّفارة الفرنسيّة، السّفارة التّونسيّة والسّفارة المكسيكيّة، مقدرّة هذا الدّور الذي لعبه الداعمون في تحقيق التّواصل الإنسانيّ عبر الثّقافة.