يكشف الباحث العراقي هنا في سياق اهتمامه برواية تعدد الرواة، عن دور فتحي غانم في تأسيس هذا الشكل الجديد، وكيف يساهم هذا التعدد في إثراء بنية تتابع الأحداث أفقيا في الرواية من ناحية، بينما تشارك التكرارات على اختلاف أنواعها في بلورة تباين الرؤى والتأويلات وطبيعة الشخصيات من ناحية أخرى.

تأسيس الشكل التعددي عربيا

في رواية (الرجل الذي فقد ظله)

محمد رشيد السعيدي

مدخل:
نُشرت رباعية فتحي غانم (الرجل الذي فقد ظله)([i])، في وقت قريب جدا من وقت نشر ترجمة رواية (الصخب والعنف)([ii])، وترجمة الجزأين الأول والثاني من (رباعية الإسكندرية)([iii])؛ لذا فإن الجواب عن سؤال التأثر – وفق القياسات الزمنية – يحتمل النفي، أو يبقى غير مؤكد، إلا اذا كانت القراءة باللغة الأصلية. مع الأخذ بنظر الاعتبار الاختلافات الشكلية البينّة بين الأولى والأخريين!

مقدمة:
بموت محمد ناجي في نهاية الجزء الثالث، انتهت رباعية (الرجل الذي فقد ظله)([iv])؛ لأن جزأها الرابع – الذي سيحكيه بطل الرواية، ومحورها - سينتهي بالنهاية عينها، بموت محمد ناجي، وبعدم استثمار بقاء مبروكة وسامية حيتين، لذا لن ينوجد أي امتداد سردي أفقي، بل يستبدل بسرد متوازٍ، بالعودة الى الوراء، من خلال التداعي. يبدو الصمت هنا أبلغ من الكلام الشهرزادي: "وهنا يسكت يوسف عن الكلام" (الرواية، ج2، ص 399)، كما "سكت محمد ناجي عن الكلام" (ج2، ص 107)، وكما "سكتت سامية عن الكلام" (ج1، ص 446)، وكما "سكتت مبروكة عن الكلام" (ج1، ص 203)؛ ليُفتح المجال للكلام/ للتأليف/ للتأويل أمام القارئ، في احتمالات متعددة، منها: 1. خروج مبروكة من دائرة الصراع. 2. دخول سامية الى (رعية) يوسف. 3. اتساع دائرة الصراع، بما لا تحتمله هذه الرباعية، لتضم لاعبين جدد.

وإن كانت النهاية هي هذه، وبهذا الوضوح، فإن البداية أكثر غموضا؛ لا لأنها اعتمدت التداعيات الطويلة، بل لأن ذروة الحبكة استفادت من حدث لم يكن من ثيمات الرواية، على الرغم من كونه سبب نهايتها السردية، وهو ثورة يوليو 1952 في مصر: "أصبحت الأمور في يد حفنة من الضباط الشبان بلا خبرة ولا تجربة" (ج2، ص9). هذا الحدث هو الذي فك اشتباك كل خيوطها، من خلال انتهاء أو اضمحلال علاقات يوسف بكل من: مبروكة وسامية وشهدي وشوقي وسعد عبد الحميد. يحتمل أن تكون البداية من هنا، من حدث الثورة – الخارجي بالنسبة للنص – وقبل موت محمد ناجي بقليل!

وفي محاولة أولى للتجنيس ترد لفظة (قسم) في نهاية كل جزء من النص؛ لتأكيد أن الأقسام الأربعة ليست إلا رواية واحدة. لكنها رباعية، بسبب احتوائها على أربعة أجزاء، يمكن أن يمتلك أي منها استقلاله لو قُرأ مفرداً، إلا الرغبة التي تتولد لدى القارئ، بسبب هذه التقنية، في معرفة رأي يوسف بما حكي عنه. فمبررات الفصل فيها بقوة مبررات الوصل.

موقع الراوي وشكله:
يوضِّح ضمير المتكلم في حكي الأجزاء الأربعة – وهو يؤكد النمط السيري في الرواية، السيري المتخيل، لا السيري الواقعي المثير لأكثر من سؤال – موقع راوي كل فصل؛ والذي هو بطل رئيسي في الرواية كلها، ولكنه بطل مطلق في الجزء الخاص به، يعزز ذلك عنونة كل جزء بإسم راويه. فيكون كل راو هو بطل جزئه، والرواة الأربعة هم الأبطال الرئيسيين في النص؛ مما يؤكد قصدية الاختيار، واتساع أفق الرؤية، في تأليف رواية حداثية، مختلفة كثيرا عن النمط التقليدي الذي كان سائدا في عموم الرواية العربية، وهي تضع خطواتها الراسخة، في بداية النصف الثاني من القرن العشرين، على طريق الرواية العالمية، في مصر والعراق وسوريا ولبنان وغيرها.

كما أن الاستهلال الموحد في الأجزاء الأربعة: "أنا مبروكة .. مبروكة عبد التواب" (ج1، ص9)، "أنا سامية .. سامية سامي" (ج1، ص207)، "أنا ناجي .. محمد ناجي" (ج2، ص9)، "أنا يوسف .. يوسف عبد الحميد السويفي" (ج2، ص111)، الذي يستخدم ضمير المتكلم المنفصل (أنا) - الأوضح تعبيرا عن الذاتية، والأكثر التصاقا بالشكل السيري للرواية - يؤكد كون الراوي/ المتحدث هو راو مشارك، أو شخصية رئيسية في النص، يحكي حكايته، التي يشترك الآخرون (شخوص الرواية) في أحداثها.

وهي الطريقة عينها التي سيتبعها نجيب محفوظ في (ميرامار)، باستثناء تكرار عامر وجدي، وبوجود فرق: إن الأخيرة تنقسم أجزاء كل فصل منها بواسطة العلامات الإخراجية (***)، في حين جاءت فصول (الرجل الذي فقد ظله) في كل جزء منها مقسمة بواسطة الأرقام، التي ستحتوي على تقسيمات إخراجية، ربما بسبب الفرق الكبير في الحجم بين الروايتين، وهو أمر ليس ذا أهمية.

ولكن المساحات الجغرافية – عدد الصفحات – الممنوحة لكل راو ليست متساوية، إذ تقترب - نسبيا - أحيانا كما في جزأي مبروكة (203 صفحة)، وسامية (244 صفحة)، وتبتعد في أحيان أخرى كما في جزأي محمد ناجي (107 صفحة) ويوسف (292 صفحة). فلا يشكل الجزءان الأول والأخير إطارين للنص، كما في (ميرامار) حين تكرر حكي عامر وجدي في الفصلين الأول والأخير؛ لأن رواة (الرجل الذي فقد ظله) لا يحكون إلا مرة واحدة. واذا كان مبررا لجزء يوسف أن يكون الأطول، كونه محور حكي الأجزاء الثلاثة السابقة، فيبدو تصغير جزء محمد ناجي الى هذا الحد قد بقي دون مبرر سردي واضح! أو انه يُخضع قصدية التأليف الفني لقصدية فكرية، مثلما حصل عند الابتداء بجزأين راويتاهما سيدتان.

وبوجود التتالي المفرد لكل راو، وعدم تكرار حكي أي منهم، فقد استغرق كل واحد من الرواة ما يشاء من الوقت وعدد الصفحات ليحكي حكايته، على حدِّ علمه واشتراكه في الأحداث، ومن وجهة نظره؛ مما جعل الرباعية – في هذه الخصوصية – تميل الى التقليدية، والابتعاد عن التداخل، واشتباك خطوط الحكي، من خلال تكرار حكي كل راو، وبتسلسلات مختلفة، كما في روايات: (خمسة أصوات)([v]) و(المبعدون)([vi]) و(امرأة ما)([vii]) و(أصل الهوى)([viii]).

لا يمكن اعتبار الطريقة السيرية الا احدى الصيغ الروائية الناجحة، على الرغم من قدمها أو تقليديتها، وذلك لتوظيف التاريخ والسيرة الشخصية والسيرة الذاتية، خيالا لا واقعا، في الميزة الأهم وهي الحكي .. حكاية الاشخاص والأحداث والأشياء. لكن حرية اختيار نقطة البداية في السرد الروائي أوسع مما هي عليه في التاريخ والسيرة، وتحتاج الى خبرة ورؤية ومعرفة فنية؛ لذا فإن الانطلاقات السردية كلها، في الأجزاء الأربعة، كانت من نقطة زمنية قريبة من النهاية، فتحكي الراوية/ الراوي عندما توشك الرواية على الانتهاء، وفي الجزء الأخير من دور كل راوية. ولو تم النظر الى الرواية من خلال مقولة الزمن، لاتضح أن فروق التوقيت بين الانطلاقات الأربع، ليست بعيدة عن بعضها، بل إنها تمتلك من المبررات السردية ما يجعلها متفقة مع السياق العام للرواية، لتجنب هفوات التزامن، والتوالي، والاستباقات.. من هنا، وبسبب هذه الطريقة السيرية، فإن الجزء الأكبر من كل جزء يستند على تداع طويل، يستمر وفق المسار الزمني الطبيعي، الكرونولوجي، أو زمن الساعة.

وكانت الصيغة السيرية للسرد، والحكي بضمير المتكلم، مبررا لكثرة الحوارات الداخلية، المعبرة عن الصراعات النفسية: "رأيتهم يجلسون على مقاعدهم يلعبون الشطرنج، مضى وقت طويل، قبل أن يرفعوا رؤوسهم واحدا بعد الآخر، بعضهم نسيني، ...، هنا سمعت أبي يقول" (ج2، ص363)، فقد كان أبوه ميتا، لكن الحوار القادم كان قد حصل، والتفكير: "انه يقول الحقيقة، نعم، شهدي باشا يدفعني لأطرده من مكانه" (ج2، ص 357)، والتأمل: "لقد مضى شبابي دون أن أتمتع به" (ج2، ص15).. وهي ميزة روايات الحداثة، المتأثرة بروايات تيار الوعي لدى مارسيل بروست أو جيمس جويس.

إن الميزات السابقة – باستثناء الأخيرة – هي مبررات تقديم الشكل التعددي في الرواية متعددة الرواة - لا متعددة الأصوات([ix]) – الناجح، والذي يحافظ على تحديد علم كل راو - لتجاوز تقليدية الراوي العليم - ويمنحه حرية التعبير عن وجهة النظر الخاصة به، والحكي بلغة قريبة من تفصيل هويته، فضلا عن الانسجام الكبير، والبقاء في سياق سردي واحد - بسبب ضمير المتكلم - في صيغة الرواية السيرية، مع البقاء التام في منطقة التخييل، وهي عماد التأليف السردي الفني.

لذلك كله كانت رباعية (الرجل الذي فقد ظله) – ومازالت على الرغم من مرور أكثر من نصف قرن على تأليفها – النموذج المتميز لجنس (الرواية متعددة الرواة).

تكرار حكي الحدث:
ماذا ينفع التكرار؟ فقد عرف القارئ المعلومة مسبقا. بل إن القارئ يعرف نهايات أغلب الأحداث التي يتكرر حكيها. لا حاجة حتى للتوقع، مما يثير الملل اذا لم يكن للتكرار مبرر فني.

يُستخْدم التكرار أحيانا – في الرواية متعددة الرواة - لعرض الأمر من وجهة نظر أخرى، فـ"يمكن الحدث أن يُروى عدة مرات ليس مع متغيرات أسلوبية فقط، بل أيضا مع تنويعات في وجهة النظر، كما في رواية (الصخب والعنف)"([x]). حتى أن هذا الجنس الروائي اكتسب أهميته من الحاجة الى الاطلاع على الآراء الأخرى، والتخلص من النظرة الأحادية، التي ارتبطت بالراوي العليم، في سياق الانتقال الاجتماعي الى النظام الديمقراطي([xi]). وفي أحيان أخرى، يُستخْدم لترميم الصورة، وإكمال بعض نواقصها، وخصوصا تلك المتعلقة بمحدودية علم كل راو، إذ يمكن لحدث أن يتعلق بأكثر من شخصية، ولكن علم كل شخصية بذلك الحدث يقل أو يزداد حسب اشتراكه فيه، أو سماعه من شخصية أخرى، وهو ما سنجد أمثلة عليه في الرواية؛ مما يقوم بوظيفة البناء العمودي للنص، للخروج على النمط الأفقي، زمنيا وجغرافيا.

لقد جاء جزء يوسف أخيرا في الرواية؛ لأن يوسف محور أحداث الرواية، وبالتالي محور حكي رواتها المتعددين. لذا فإن المطلوب في هذا الجزء، على الرغم من ظهور هذه الصيغة في الأجزاء الثلاثة السابقة، العودة الى بدايات حياة يوسف، وحكيها باستفاضة، لإيجاد المبررات الموضوعية لما رآه الآخرون/ الرواة فيه من شر. ولم تخرج تلك المبررات كثيرا عن السبب الاقتصادي، الذي تترتب عليه نتائج اجتماعية، ستكون أسبابا لمواقف واستجابات سلبية حسب الراويتين: مبروكة، وسامية، وحتى حسب محمد ناجي. يرافق ذلك، وبنسبة أقل ظروف اجتماعية غير مناسبة كما في جزء سامية.

وحين ينتهي يوسف من حكي أحداث حياته قبل تعرفه على مبروكة، فانه سيذكر كثيرا من الأحداث التي سبق وتعرف عليها القارئ في الأجزاء السابقة: "– مبروكة.. يا مبروكة. وعادت سعاد وفي يدها الكرة، ومن ورائها خادمة في مثل سني" (ج2، ص 167)، إذ سبق واطلع القارئ على هذا الحدث، في: "وأحيانا كان يأتي مع المدرس ابنه ... ويلعب البنج بنج مع مدحت ... واذا سقطت الكرة ... طلب مني مدحت أن احضرها" (ج1، ص16)، باختلاف بسيط، هو إن الذي يأمر مبروكة بإحضار الكرة في الأولى سعاد وفي الثانية مدحت، وباتفاق: "فأسرع الى الست الكبيرة وأستأذنها" (ج1، ص16)، "طيب لما أروح أقول لستي الكبيرة" (ج2، ص168).

لا يؤثر مثل ذلك السهو الصغير – الذي قد يتكرر في النص – على السياق السردي، ولا يقلل من أهمية التكرار في إضافة ألوان أخرى الى الصورة: "بيت ليس مثل بيتنا ... أحسن من بيتنا بكثير" (ج2، ص155)، "وصلنا الى بيت له حديقة ... لم أفهم ما أراه كأني أدخل عالما مسحوراً" (ج1، ص12)، الذي لا يقدم – في هذا المثال - اختلافات في الرؤية، بسبب الاشتراك النسبي ليوسف ومبروكة في فقرهما: "لم أكن أدرك أننا فقراء، حتى دخلت بيت راتب بك" (ج1، ص 155)، "واتشمم رائحة الطعام ... ورائحة الطعام تنفد الى انفي فينهش الجوع أمعائي" (ج1، ص12- 13).

واذا كان يوسف ومبروكة قطبي الرواية، فإن محمد ناجي سيكون محورا تلتقي عنده كثير من المسارات السردية، فكأن وظيفته الصحفية شبيهة بوظيفته السردية، إذ تصل اليه الأخبار والمعلومات مباشرة، من أصحابها، أو بالواسطة، عن طريق الرواة، أو المراسلين السرديين/ الصحفيين. وهذا مثال على التكرار المركب، حين يتذكر ما قالته له سامية بشأن يوسف:

"- موش عرفت حكاية غريبة عن الراجل اللي عندك.

-       راجل مين..

-       اللي موش حرامي..

-       قصدك مين.

-       يوسف" (ج2، ص43).

فنلاحظ خلو الحوار مع سامية من أية معلومة، لعدم تكرارها حين وردت في:

- آه.. ماله..

- واحدة صاحبتي قالت لي انه بيحب خدامة كان متجوزها أبوه .. ولما مات أبوه عاش معاها.

- .....

-  والخدامة اسمها مبروكة" (ج1، ص 291)، بل لتأكيد عدم الدقة في النقل، عن تصميم. فقد عرفت سامية هذه المعلومة من مدحت، ولم يكن فيها جزئية "بيحب"، "أبوه تجوز الخدامة ... وساب البيت لابوه لحد ما مات" (ج1، ص221- 222)، بالاقتراب من تعدد وجهات النظر. ونلاحظ التكرار المزدوج للمعلومة السابقة في جزء سامية: "وروى لي قصة مبروكة... ووجد نفسه مندفعا الى مغازلتها" (ج1، ص365- 366). الذي يمكن أن يحتوي على تباين في حكي الأحداث، تابع للذاكرة وللرؤية أو للعوامل الذاتية.

وقد قامت تلك التكرارات بوظيفة أخرى هي رسم خريطة لانتقال المعلومات من شخصية الى أخرى، من الرواة فيما بينهم أو حتى بين الرواة والشخصيات الأخرى، فيؤدي الى الحكي المنقول، بالصيغة التفصيلية غالبا، والاختلافات الحاصلة في النقل، من المتعمدة الى العفوية، أو السهو الفني أحيانا .. تلك الميزة الانسانية في النقل، تبعا للرؤية أو للذاكرة. ويتسبب الموقع الذي كان من نصيب مبروكة في الرواية، بأن تكون الموئل الأساسي للأحداث؛ فمجيؤها أولا في الحكي، واستمرارها فيه لأكثر من مائتي صفحة، رسما صورة سردية مليئة بالأحداث، التي ستكون مادة لتكرارات مفردة، وأخرى مركبة.

التكرار المفرد:
وهو حكي أي راو يرويه راو آخر، واحد فقط. وذلك لعدم وجود شخص ثالث أثناء حصول الحدث، أو إن الموجود لم يذكر هذا الحدث. فقد مر يوسف بموقف، وهو لم يزل يعيش في بيت أبيه، ومعهما مبروكة، فيرويه: "فتحت باب البيت، ودخلت مسرعا الى حجرتي باحثا عن البطاقة لمحت أبي ... سمعت صياحه ... كان يقتحم الحجرة" (ج2، ص 219- 220). هذا جزء يسير من حكاية لها امتدادات سابقة تتعلق بحضور يوسف الى اجتماع، ثم تلحقها امتدادات ذهاب يوسف مع أبيه الى "قسم الشرطة" ثم إطلاق سراحه. فقد احتوت على تفاصيل كثيرة، لأنها تتعلق بيوسف أكثر من تعلقها بمبروكة التي سبق لها أن أشارت الى هذه الحكاية، متصلة بحدث يخصها، فجاءت من قبلها مختصرة فيما يخص يوسف: "ذات مساء .. دخل يوسف البيت وأنا جالسة مع عبد الحميد أفندي ... أدركت أن يوسف غاضب من جلوسي على المائدة مع أبيه ... وخرج الاثنان مع الشرطي وتركاني وحدي مع هذه المصيبة المفاجئة" (ج1، ص 87- 89)، لكنها مليئة بمشاعر مبروكة، وبالأحداث التي رأتها هي فقط. فاكتمل المشهد من خلال راويين، من ناحيتي الأحداث والمشاعر، بالاستغناء عن دور الراوي العليم.

التكرار المركب:
وهو حكي أي راو ينقله عن شخصية من غير الرواة، ثم يحكيها راو آخر. فقد روت مبروكة – في الجزء الخاص بها والمعنون باسمها – قصة لم تشترك فيها، بل سمعتها من شوقي: "وروى لي قصة أفزعتني .. اعترف لي انه في الشهور الأخيرة قد تخلى عن حذره، فكان يثرثر أمام زملائه في الجريدة، ويدخل معهم في نقاشات عن الشيوعية" (ج1، ص 179)، وأسهبت في وصف الأحداث، والأفكار والمشاعر التي كانت تعتري شوقي، حتى: "دعاه يوسف الى مكتبه، وقابله بابتسامته الطيبة الخجولة ... ثم سأله فجأة:

-       أنا سمعت انك شيوعي يا شوقي.. الكلام ده صحيح؟

-       ايوه أنا شيوعي.

-       أرجوك يا شوقي ما تتكلمش في السياسة هنا.

وفقد شوقي أعصابه ... وصاح في انفعال:

-       أنا حر أتكلم زي ما انا عايز..

ولسانه يتحرك بكلمات مرتجفة تحمل الاعتذار والأسف ... يكره الشيوعيين" (ج1، ص180- 181).

لم يكن بإمكان مبروكة أن تروي هذا إلا بمشاركتها فيه، وهي لم تشترك، ولم يكن أمام المؤلف إلا أن يتقمص دور الراوي العليم ليحكي هذا المشهد وأمثاله، لكن تقنية تعدد الرواة، والحكي من مستوى ثانٍ، لم تساعد في تقديم مشهد متكامل متقن وافر الإقناع فقط، بل أوصلت القارئ الى النتائج عينها التي كان سيصل اليها بواسطة الراوي العليم، ولكن: من خلال تقنية جديدة، أقرب للطبيعة الانسانية، في مواصفاتها الفسيولجية.

ونقرأ القصة عينها في جزء يوسف: "ثم ناديت شوقي في مكتبي ... فثار وغضب ... يعتذر لي عن ثورته، ويعلن في ذلة أنه سيتخلى عن الشيوعية" (ج2، ص346- 347)، ولكنها أقصر بكثير، ليس لدفع الملل، وتجنب الوقوع في خلل التكرار غير المفيد فقط، ولكن لتبيان أن الحكي بالواسطة، الحكي من المستوى الثاني، من خلال راو غير مشارك، تمكن من تقديم قصة متكاملة، لا تحتاج إلا لتأكيدها من قبل المشارك فيها!

التكرار المزدوج:
أما موقع سامية، القريب من موقع يوسف - كونها محور علاقات بين يوسف ومحمد ناجي، فضلا عن مدحت والآخرين - فقد تسبب في تكرارات مزدوجة، والتي هي: حكي راو وأكثر من راو آخر لحدث واحد.

تذكر سامية في الجزء المعنون باسمها، معلومة: "انه رئيس تحرير الآن، صحفي مشهور ومهم" (ج1، ص 208)، سبق واطلع عليها القارئ في حكي مبروكة، التي عرفت تلك المعلومة من شوقي:

- على فكرة يا مبروكة.. أنا عايز أقول لك حاجة.

- مبروك على قريبك..

وعرفت في الحال انه يعني يوسف...

-       بقى رئيس تحرير... " (ج1، ص186).

كما أن المعلومة السابقة عينها سوف ترد في جزء ناجي: "محمد ناجي.. أكبر وألمع الصحفيين والكتاب في مصر والشرق العربي، أو هكذا كنت يوما .. الآن .. تغير كل شيء .. أخذ مكاني ذلك الصعلوك ... يوسف عبد الحميد السويفي" (ج2، ص9). وترد أيضا في جزء يوسف: "ناداني شهدي باشا في مكتبه... وهزني برفق وسألني:

-       أنت مستعد تبقى رئيس تحرير؟

-       ايوه" (ج2، ص386).

ويمكن أن توجد أنواع التكرارات الثلاثة لدى أي من الرواة، في الأجزاء المعنونة بأسمائهم، وذلك ما يقوم بوظيفة البناء العمودي للرواية، من خلال إكمال مشاهد الصورة وإضافة ألوان أخرى لها، قائمة على التبريرات غالبا، وقريبة من إظهار وجهات نظر مختلفة.

ولا تخلو الرواية متعددة الرواة من النمط التقليدي في الحكي، الحكي المنفرد، لكنه يتفاوت في الكم بين رواية وأخرى، يقترب أحيانا من نصفها ويزيد عن ذلك في الغالب، كما في روايتي (المبعدون) و(خمسة أصوات)، مما يجعلها تعزز البناء الأفقي التقليدي للرواية .. أية رواية.

الحكي المنفرد:
مثلما يجد القارئ في الطرق المختلفة للرواية متعددة الرواة، أحداثا محكية بواسطة أكثر من راو، سيجد أحداثا مروية عن طريق واحد. واذا تم استثناء الحكايات الذاتية، أي تلك التي تتعلق بأي من رواة النص، فإن الأحداث التي يشترك فيها أكثر من راو هي المعنية بمصطلح الحكي المنفرد، وهو: حكي أحداث يشترك فيها أكثر من راوٍ، ولكنها ستحكى من خلال راو واحد فقط. وهذا الأمر يثير التباسا في موضوع تجنيس الرواية. لكن النسبة بين الحكي المتكرر – بأنواعه – والحكي المنفرد في رباعية (الرجل الذي فقد ظله) تكاد تكون متساوية، تأكيدا لنظام هذا الجنس الروائي.

لقد سكتت إحدى شهرزادات – أنثى كانت أم ذكرا – هذا النص عن الحكي، بعد أن استنفدت قوتها على الصراع واستسلمت للقدر، فهجرت الحكي. لم يبقَ من سامية إلا ما يرويه عنها زوجها محمد ناجي. فابتدأ محمد ناجي من حيث انتهت سامية، وحكى ما لم تحكِ: "سامية مبهورة بباريس ... قالتها وكأنها زوجتي منذ عشرين سنة ... يكفيني شريف ... بعد شهور فوجئت بأنها حامل" (ج2، ص10 -19)، فيلاحظ القارئ أن هذه المعلومات، وكل الأحداث التي حصلت أثناء وجود محمد ناجي في باريس، والتي اشتركت سامية في بعضها، لم تتمكن الأخيرة من حكيها؛ لأن دورها قد انتهى، فلم يبقَ إلا محمد ناجي ليرويها. ويلاحظ على وجهة النظر، التي كانت اشتغالا رئيسيا في هذه الرواية، أنها انبثت في السرد من خلال حكي الرواة، أكثر مما تخللت الحوارات. فقد أظهر كل من مبروكة وسامية ومحمد ناجي يوسفَ شريرا محضا، ولكن حكي يوسف يقدمه في رؤية مختلفة، الى حدٍّ كبير، من خلال تجاوزه وعدم قيامه بالكثير مما كان يمكنه لإيذاء مبروكة وشوقي وناجي وسامية.

الخلاصة:
العنونة وضمير المتكلم في الحكي والتقسيم الى أجزاء، هي المقدمات الفنية لبناء الرواية متعددة الرواة، عزز ذلك التكرارات المكثفة والقصيرة، والتي خلقت قصصا للشخوص من غير الرواة، فقد حظي شوقي ومدحت بقصص تتناسب وأهمية قصص سامية ومحمد ناجي ومبروكة. يساعد ذلك الاهتمام بتباين وجهات النظر، على شيوع هذا الأمر – أو افتراض شيوعه - في كل الروايات، وتقديمها من خلال نسبة غير متعادلة كمّا، وربما متناسبة تأثيرا، بين مبروكة وسامية وناجي من جهة ويوسف من جهة أخرى.

 

الهوامش:


([i]) نشرت طبعتها الأولى سنة 1962. ينظر: هيكل عاقب فتحي غانم.. جسد شخصيته في رواية (الرجل الذي فقد ظله)، أحمد رجب، جريدة المصري اليوم، العدد 2090، 4/ 3/ 2010.

([ii]) ترجمها الى اللغة العربية جبرا ابراهيم جبرا عام 1961. ينظر: الرواية في العراق 1965- 1980 وتأثير الرواية الأمريكية فيها، د. نجم عبد الله كاظم، دار الشؤون الثقافية العامة – بغداد، 1987، ص200.

([iii]) ظهرت ترجمة سلمى الخضراء الجيوسي لجزأيها الأولين في بداية الستينيات. ينظر الموقع الالكتروني:

ar.wikipedia.org/wiki

([iv]) الرجل الذي فقد ظله، فتحي غانم، مطابع روز اليوسف – القاهرة، 1988.

([v]) خمسة أصوات، غائب طعمة فرمان، دار المدى للثقافة والنشر – بغداد، ط2، 2008. وقد صدرت طبعتها الأولى سنة 1967. ينظر: الصوت الآخر الجوهر الحواري للخطاب الأدبي، فاضل ثامر، دار الشؤون الثقافية العامة – بغداد، 1992، ص71.

([vi]) المبعدون، هشام توفيق الركابي، منشورات وزارة الإعلام – الجمهورية العراقية، 1977 .

([vii]) امرأة ما، هالة البدري، روايات الهلال العدد (629)، 2001.

([viii]) أصل الهوى، حزامة حبايب، المؤسسة العربية للدراسات والنشر – بيروت، 2007.

([ix]) متعددة الأصوات هو المصطلح الشائع الاستخدام في النقد العربي، ولكني وجدته متعدد الدلالات، ووجد مصطلح متعددة الرواة أدق دلالة. ينظر: تعدد الرواة بديلا عن تعدد الأصوات، محمد رشيد السعيدي، مجلة الكلمة، العدد 99، يوليو 2015.

([x]) ينظر: خطاب الحكاية، جيرار جنيت، ت: محمد معتصم وعبد الجليل الازدي وعمر حلي، المجلس الأعلى للثقافة – القاهرة، ط2، 1997، ص131.

([xi]) ينظر: وجهة النظر في روايات الأصوات العربية، د. محمد نجيب التلاوي، من منشورات اتحاد الكتاب العرب، 2000، ص10.