يبدأ الناقد نصه النقدي بسؤال الشعر وأثره في الحياة، ثم يجادل في شعر العاميَّة والمشهد الثَّقافي الذي أفرزه، والميول الفكرية وثوريّة الشعريّة العاميّة لدى صلاح جاهين. كما يتناول السجال اللغوي بين شعرية الفصحى والعامية وأثر الفيسبووك فيه مؤخراً.

رَاءَةٌ فِي وَصَايَا صَلاح جَاهِيْن الثَّائِرَةِ

بليغ حمدي إسماعيل

1-1- شِعْرُ العامِّيَّةِ والمَشْهَدُ الثَّقَافِي:
ثمة أسئلة تفرض نفسها بقوة على المشهد الشعري بوجهيه الفصيح والعامي، من أبرزها هل استطاع أن يغير الشعر واقعنا المعاش؟ فضلاً عن سؤال الشاعر السوري الكبير والمفكر والمنظر أدونيس حينما طرح تصوراً عن وظيفة وفاعلية الشعر بسؤاله: ماذا يقدر أن يفعله الشعر ورجلاه قيود وعلى عينيه أسوار الظلام؟ لكن يبدو المشهد غير ذلك، فالقصيدة العامية منذ فجر بزوغها وحتى نهضتها واستقرارها المتنامي تفرض نفسها على وقائع وإحداثيات المشهد السياسي والاجتماعي والثقافي، فالرغم من البدايات الشعرية للعامية التي كانت تعبر فقط عن شقاء الكادحين من العمال والبسطاء والمعدمين وعذابهم اليومي، إلا أن هذه البدايات التي لم تكن أبداً تسير على استحياء في خوض الحياة الأدبية استطاعت أن تعبر حواجز هذا الاعتقاد القاصر والقديم إلى مساحات أكثر اتساعاً.

فقصيدة العامية كانت، ولا تزال، تعبر عن هموم وقضايا المواطن العربي وكذلك أحلامهم وتطلعاتهم بمجتمع أفضل، وشعر العامية كان متصدراً للمشهد السياسي تحديداً في مصر وقت فعاليات ثورة يناير 2011م، بل يستطيع المستقرئ للحياة الثقافية والأدبية في مصر أن يدرك على الفور مدى قوة القصيدة العامية في التأثير على المشاركين في الثورة المصرية وأن الثورة نفسها فجرت ينابيع الإبداع الشعري لدى شعراء العامية فكانت القصائد والرباعيات والأغنيات التي رددها الثوار في ميادين مصر المحروسة.

"اصحي يا مصر اصحي يا مصر

هزي هلالك هاتي النصر

كوني يا مصر وعيشي يا مصر

مدي إيدك وطولي العصر

اصحي وكوني وعيشي يا مصر

اصحى يا عامل مصر يا مجدع

وافهم دورك في الوردية

مهما بتتعب مهما بتصنع

تعبك رايح للحرامية".

وشعر العامية استحق أن يكون أصدق سجل تاريخي للأحداث اليومية بوصفه التزاماً أخلاقياً واعياً ومنظماً، ينطلق في الأساس من كونه المكون الإبداعي المنحاز لفئات الشعب بغير استثناء أو تمييز، وهذا النمط الشعر تمكن من احتضان تفاصيل الحياة اليومية من مشكلات وحوادث وهموم وطموحات وطروحات أيضاً وقام بالتعبير عنها من منطلق تنويري وتثويري مبدع.

"القمح مش زي الدهب

القمح زي الفلاحين

عيدان نحيلة جدرها بياكل في طين

زي إسماعين

وحسين أبو عويضة اللي قاسى وانضرب

علشان طلب

حفنة سنابل ريها كان العرق".

وإذا كان الشعر العامي لم ينل من الاهتمام النقدي أو الأكاديمي القدر الكافي والموازي لهذا الإبداع، فإن شهادة الشارع كفيلة بإبراز ريادة هذا النمط الإبداعي، وإذا كان الشاعر نزار قباني يطمح يوماً ما بأن يصير الشعر رغيفَ خبز، فإن القصيدة العامية بعفوية أدائها وبتفاصيلها اللغوية التداولية القريبة من لغة المواطن أوفت بهذا العهد والدور، فكانت القصيدة العامية الوطنية قريبة من الثوار قرب تحقيق أحلامهم، وقريبة من العشاق قرب قلوبهم المشتاقة، وقريبة من المجتمع وقضاياه المصيرية، بخلاف قصيدة الفصحى التي ظلت بمنأى بعيد نسبياً عن حياة الشاعر نظراً لغرابة المشهد الشعري داخلها أو لأن المناخ الثقافي الراهن لم يكن مهيأ لاستقبال خطاب لغوي مغاير لتسارع الحدث السياسي أو الثقافة العامة لأفراد المجتمع.

"إحنا العمال اللي اتقتلوا

قدام المصنع في أبو زعبل

بنغني للدنيا ونعلن

عناوين جرانين المستقبل".

* * * *

2- 1- المَشْهَدُ الشَّعْرِيُّ بين الفصْحَى والعامِّيَّةِ:
منذ ظهور القصيدة العامية تحديداً على يد ابن عروس، وهي تواجه حرباً شرسة من النقاد واللغويين والأكاديميين الذين ارتأوا فيها خروجاً سافراً على قواعد اللغة أولاً، وعلى شرائط وضوابط الإبداع اللغوي ثانياً، وكثرت الندوات وورش العمل وامتلأت المؤتمرات أبحاثاً لدحض وتقويض سلطة شعر العامية، وجميعها بلا استثناء باء بالفشل، ليس لضعف الدراسات أو البحوث، أو لقوة وغلبة القصيدة العامية على شعر الفصحى، بل لما تمتعت به هذه القصيدة من ميزات انفردت بها دون غيرها من الأنماط الإبداعية، من أبرز هذه المزايا أنها لغة متمردة من غير صدام للمتلقي، حيث إن مفرداتها وتفاصيلها متداولة في السوق والشارع والمصنع والمتجر وليست لغة نخبوية استثنائية تحتاج إلى مكابدات ومحاولات لتأويل وتفسير النصوص.

"دمه يجري في العروق

يبقى واد مخلص جرئ

واد صريح

راسه تشبه للشاكوش

والجبال ما توقفوش

والزلازل والجيوش ما تكسروش

دم يجري يبقى شعب كبير.. كبير

يؤمر الأزمان تسير".

فضلاً عن أن القصيدة العامية استطاعت أن تتجاوز البوح السردي الذاتي الذي سقطت فيه قصيدة الفصحى إلى حد الغرق، وحينما تجاوزت هذا الحد المنيع بين اللغة والمتلقي تطورت سريعاً لتستحيل تجربة غنائية ثم تجربة اجتماعية معبرة عن الواقع المتسارع. وشاعر العامية هو الأقرب للمتلقي حيث إنه لا يشعر بغربة مثلما يشعرها ويعايشها شاعر الفصحى البعيد بقصيدته وتفاصيلها عن لغة الشارع لذلك امتازت قصيدة العامية بالقرب والمشاركة في الهم والطرح الثقافي والاجتماعي لرجل الشارع وللنخبوي على السواء، ومزية أخرى لقصيدة العامية هي أنها تمثل رصيداً هائلاً من المكابدات والآلام والتجارب المريرة للبسطاء وهم العدد الأكبر من الشعوب، مما جعلها أكثر براءة وسذاجة بالإضافة إلى معرفيتها الشديدة.

"طالب بعدل ونور وحريه

وبهدمه للعريانه والعريان

وبراحه للعرقانه والعرقان

وبرحمه للعطشانه والعطشان

وبساعه للغلبانه والغلبان

كم إنسانيه يعيشها كالإنسان".

وينبغي الإشارة إلى أن مسألة إزاحة القصيدة العامية عن المشهد الشعري في مقابل الصعود الرسمي لقصيدة الفصحى أن شاعر العامية مناضل سياسي بالفطرة مما يشكل عامل إزعاج وقلق للسلطات وليس هذا بجديد بل إن تاريخ عبد النديم شاهد على مدى محاربة السلطات والأنظمة السياسية لشعر العامية من حيث سهولة ويسر وصوله إلى الناس بغير استلاب أو استقطاب. ولقد كان يظن كثيرون أن شعر العامية مجرد لهجات متهالكة، حتى جاءت ثورات الربيع العربي لتدحض هذه المقولة، لأنها كانت النمط اللغوي الإبداعي الأكثر قرباً والتصاقاً بإحداثيات وفعاليات هذه الثورات منذ اشتعالها الأول. وهذا ما يؤكد السبب الحقيقي في قمع السلطات السياسية لشعر العامية ومستقرئ التاريخ يدرك أن العصر العباسي قاوم كثيراً ظهور بعض الكلمات الشعبية في القصائد خوفاً من مدى سيطرتها على عقول الناس آنذاك. وحرصت الخلافة العباسية على الاستخدام النموذجي للغة الفصيحة التي كانت جزءاً من لعبة سياسية محضة.

"أنا لوحدي مفيش حاجة

مجرد اسم كاتبه في دفتر الأحوال

جدع ظابط بوليس فرحان

بنجمة يمين ونجمة شمال

يقشَّر موزة ويأشَّر

على المَحضَر

ويبعت عسكري يجيبني مع المُحضِر

وأصبح اسم يتكفن بكل لسان

مع السكان".

وثمة مقارنة سريعة بين الشعر العامي وقصيدة الفصحى تتمثل في السردية، فالقصيدة الفصيحة هي سرد ذاتي، باختلاف شعر العامية التي عبرت جسور الذاتية إلى سرد جمعي، وأصبحت ذاكرة جماعية للأمة، وفرق آخر بينهما يتمثل في أنه حينما قررت المؤسسات الرسمية في احتضان ورعاية قصيدة الفصحى بوصفها نموذجاً مشرقاً لثقافة الأمة ومدى استنارتها، قرر الشارع العربي أن يكون الحاضن الأول والملاذ الشعبي والشرعي لقصيدة العامية البعيدة كل البعد عن رعاية المؤسسات الرسمية للثقافة، فصار الشارع هو مؤسسة الشعر وشعرائه.

* * * *

3-1- الفيسبوك وشِعْرُ العامِّيَّةِ:
اليوم بلا جدال أصبح الفيس بوك أو شبكة التواصل الاجتماعي هو البيئة الشعرية الخصبة واسعة الانتشار لقصيدة العامية، وبدلاً من يسير الشاعر بقصيدته مرتاداً المقاهي والنوادي والمنتديات الثقافية لإلقاء قصيدته، اتخذ من هذا الوسيط الإليكتروني منصة شعرية يمكن من خلالها التفاعل والتواصل مع المهتمين بالشعر من متلقيين ونقاد، وربما صادفت القصيدة العامية هوى الفيس بوك من حيث إن اللغة الأكثر انتشاراً عليها هي العامية وليست الفصحى، وهذا أسهم في تداول القصائد العامية ومشاركتها أكثر من مرة وإضافة تعليقات عليها أشبه بالجمل النقدية التقريرية.

وأضاف الفيس بوك بعداً استثنائياً على تداول القصيدة العامية، وهو البعد التفاعلي، كما أن القصيدة ساعدت في تكوين ذائقة جمالية لمستخدمي الفيس بوك، وصار كلتاهما القصيدة والشبكة التفاعلية تتمتعان بالإيجابية وفي خلق وعي جدبد بالإبداع لاسيما وأن الفيس بوك استطاع أن يصل الشباب بإرثهم الشعري العامي لبعض الشعراء أمثل بيرم التونسي وصلاح جاهين وعبد الرحمن الأبنودي وأحمد فؤاد نجم وسيد حجاب وغيرهم.

ولابد للنقاد الذين يمتلكون وجهة ونظرية مضادة للقصيدة العامية بوصفاً نتاجاً أدبياً غير شرعي مثلما ظن النقاد القدامى في قصيدة التفعيلة ومن بعده قصيدة النثر، أن يلقوا بالاً واهتماماً في أن الفيس بوك قد صنع سوقاً رائجة لهذا النمط والإنتاج الشعري، كما أنه أصبح متاحاً في التناول والتعقيب بدلاً من الذهاب إلى الصالونات والمنتديات الأدبية التي عادة من تقع تحت سلطة الناقد وسوطه أيضاً.

ولقد استطاع الفيس بوك أن ينقل أشعار رواد العامية المصرية إلى غير المهتمين بالشعر من الأساس، وذلك من خلال مشاركة البعض للقصائد والمقطوعات الشعرية التي تعبر عن حالات اجتماعية معاصرة مثل ظاهرة أطفال الشوارع المنتشرة في مصر قبيل ثورة يناير حتى الآن، وكان الشاعر الرائد بيرم التونسي قد كتب في هذه الظاهرة منذ سنين بعيدة:

"يفوت أغسطس وسبتمبر، وجاي خريف

يقصف فــروع الشجر لما يهــب عنيف

والكون يلفه الظلام والريح صفيرها مخيف

وأنتم يا أطفال حـيارى من رصيف لرصيف

والشمس تطلــع عليكـم بالدفا والنــور

وتدوروا متفرقــين ذي القضــا ما يدور

في كل روضة الطفـولة خــدها ينباس

وأنتم خدودكم علــى سفـح التراب تنداس

فايتكم الناس همـل، وأنتـم ولاد النـاس

تتربوا من غير معلم أو بــدون مصاريف"!

* * * *

1-2- صلاح جاهين.. ثائر العَامِّيَّةِ المِصْريَّةِ:
من الصعب أن يخطئ العقل وتحيد الذاكرة عن صلاح جاهين حينما يتم تناول ظاهرة الشعر العامي في مصر وتاريخها الضارب في القدم منذ العصر الفاطمي،وإذا أردت أن تعرف قامة ومكانة شاعر فعليك أن تعرف شهادة الشعراء عنه، لاسيما وإن كان من كبار شعراء قصيدة الفصحى المعاصرين وهو الشاعر الفلسطيني محمود درويش، الذي يقول عن صلاح جاهين: "سنتسلح منك بما نشاء من وعود، سنختار من الأشجار أوفرها خضرة، سنأخذ منك ما يجعلنا أقوى وما يصل فينا ما انقطع من علاقات الفصول، وسنأخذ منك عبرة التطابق بين الأغنية والمغنى، لنشهد على براءة جيل من اختلال الشبه بين الواقع والمرآة وبين الإرادة والأداة، ولنبقى قريبين حتى التلاشي من جوهر الشعر ومن جوهر مصر".

ويواصل الشاعر الكبير محمود درويش حديثه عن الرائد صلاح جاهين بقوله: "صلاح جاهين الشاعر الذي قال نيابة عنا ما عجزنا عن قوله بالفصحى، هو الشاعر الذي قال لنا ما عجزت العامية عن قوله بالعامية، الشاعر الذي حل لجمالية الشعر ولفاعليته العقدة الصعبة: وعورة المسافة بين لغة الشعر ولغة الناس وما بينهما من تباين والتحام".

إن صلاح جاهين يمثل مجموعة من أسئلة الشعر المختزلة في قصائد شعرية تحمل في قسوة ومرارة احتمالات إجابتها أيضا، وأصدق ما يمكن توصيف الرائد صلاح جاهين بأنه آلة تصوير تتكلم وتقص وترسم وتحكي وتفضفض بكل ما تلتقطه من صور ومشاهد، وهذه المزية التي انفرد بها جاهين جعلته بغير منافس لصيق الصلة بهموم المواطن والشارع والمجتمع المصري والعربي على السواء.

"لقيت في جيبي قلم

قلم رصاص، طول عقلة الصابع.

معرفش مديت إيدي عايز إيه.. راح طالع

أصفر ضعيف ضايع

وما بين تراب دخان، وقشر سوداني، كان مدفون،

معرفش رايح فين، لكن ماشي

والليل عليا وع البلد غاشي

ليل إنما ليل أسود الأخلاق

ليل، إنما عملاق

أسود سواد خناق،

أسود، كمليون عسكري، بستره خفاشي،

وجزمة ضباشي".

* * * *

2- 2- الفِعْلُ السِّيَاسِيُّ عِند صَلاح جَاهِين:
ولقد جاء اختيار صلاح جاهين كتابة القصائد العامية اختياراً محسوباً ومنضبطاً رغم توغل الإبداع فيها، ذلك لأن ظهور صلاح جاهين جاء مرهوناً بحركة المد الثوري والانتفاضة الشعبية المؤازرة لحركة ضباط ثورة يوليو 1952، وما تلتها من مشاهد ثورية وقومية مثل العدوان الثلاثي على مصر مروراً بنكسة يونيو 1967 ووصولاً لنصر أكتوبر المجيد سنة 1973. فمثلما انتفض الشعب وجيشه منذ ثورة يوليو 1952 في الشارع طلباً للحرية انتفضت كلمات صلاح جاهين داخل قصيدته معلنة تحرراً الكامل من الفعل اللغوي الصارم، ومن بطش النقد الذي يقف للشاعر وللشعر بالمرصاد، ومثلما كانت الثورات المصرية تمثل نوعاً من جسارة الموقف والفعل فإن صلاح جاهين أراد لنفسه دوراً موازياً لهذه الجسارة معتمداً على موهبته الفريدة في الاكتشاف اللغوي للمشاعر والعواطف ورصد الهموم والتطلعات أيضاً.

"ثوار.. ثوار ولآخر مدى، ثوار

مطرح ما نمشي.. يفتح النوار

ننهض في كل صباح، بحلم جديد

ثوار، نعيدك يا انتصار، ونزيد

وطول ما إيد شعب العرب في الإيد

الثورة قايمة، والكفاح دوار".

وتبلغ ذروة الفعل السياسي في قصائد جاهين في قصيدته ذائعة الصيت والانتشار وكأنها أبجدية الشعر العامي في العصر الحديث (على اسم مصر)، ففي هذه القصيدة الماتعة استطاع جاهين أن يربط بين الفعل الشعري والفعل السياسي في منظومة لا تنفك، وجاهين في القصيدة يجتهد في كسر القوالب التقليدية الجامدة ويستعين بموهبته الغنائية ليس من زاوية الطرب والغناء والإنشاد، بل من زاوية امتلاك ناصية الذائقة الموسيقية التي تنتفض بها كلمات القصيدة، وسئل فؤاد حداد مرة عن صلاح جاهين كما يروي ذلك محمد بغدادي فقال في إيجاز شديد: "لو لم يكتب جاهين أي شئ فيكفيه أنه كتب (على اسم مصر).

واستثنائية قصيدة (على اسم مصر) من كونها كُتبت في أعقاب نكسة يونيو العسكرية 1967، وبدايات حرب الاستنزاف، وفي الوقت الذي كان فيه الشعب المصري يجاهد في محو كل آثار الهزيمة العسكرية كان جاهين مقاتلاً بصورة أخرى ومجاهدا على المستوى النفسي من حيث تضميد الجراح والعوار النفسي الكامن في صدور الشعوب العربية وليس الشعب المصري وحده.

على اسم مصر التاريخ يقدر يقول ما شاء

أنا مصر عندي أحب وأجمل الأشياء

بحبها وهي مالكة الأرض شرق وغرب

وبحبها وهي مرمية جريحة حرب

بحبها بعنف وبرقة وعلى استحياء

واكرهها وألعن أبوها بعشق زي الداء

واسيبها واطفش في درب وتبقى هي في درب

وتلتفت تلاقيني جنبها في الكرب

والنبض ينفض عروقي بألف نغمة وضرب

على اسم مصر".

ويلجأ الشاعر الاستثنائي قي أبجديته الاستثنائية (على اسم مصر) في تبرير أسباب حبه وعشقه لهذا الوطن، وأنه مع كثيرين يشتركون في تفاصيل هذا الوله بالوطن والإيمان بنصرته:

"مصر النسيم في الليالي وبياعين الفل

ومرايه بهتانة ع القهوة.. أزورها.. وأطل

ألقى النديم طل من مطرح منا طليت

وألقاها برواز معلق عندنا في البيت

فيه القمر مصطفى كامل حبيب الكل

المصري باشا بشواربه اللي ما عرفوا الذل

ومصر فوق في الفراندة واسمها جولييت

ولما جيت بعد روميو بربع قرن بكيت

ومسحت دموعي في كمي ومن ساعتها وعيت".

* * * *

3-2- الرُّبَاعِيَّات.. هُنَا مدِينَةُ الفَلسَفَةِ:
إذا أردت أن تتعلم الفلسفة بغير معلم أو حتى من غير تعب العقل وإرهاق العين والذاكرة بكتابات سقراط وأفلاطون وأرسطو وغيرهم من الفلاسفة فعليك أن تهرع بخطى ثابتة ووئيدة نحو رباعيات صلاح جاهين، فهي تجربة فلسفية كاملة استطاع من خلالها أن يرصد موقفاً إنسانياً أشبه باللغز أو المشكلة فيعرضها بصورة تقريرية أو استفهامية ثم يكشف عن حلها بصياغة إبداعية فريدة ميزت إبداعاته عن غيره من الشعراء.

"مع إن كل الخلق من أصل طين

وكلهم بينزلوا مغمضين

بعد الدقايق والشهور والسنين

تلاقي ناس أشرار وناس طيبين".

ولاشك أن الرباعيات تمثل تلك لأسئلة الغامضة التي أشرنا إليها في مقدمة هذه الدراسة، وهو في رباعياته يبدو أنه يصارع مقولة أدونيس الشعرية السابقة وأن الشعر بحق قادر على التغيير بقدر قدرته على دفع التأمل والتفسير والتأويل، وأن الرباعيات الشعرية كفيلة بإماطة اللثام عن العين غير القادرة على الإبصار وعلى الأرجل المؤهلة للقيد.

"ضريح رخام فيه السعيد اندفن

وحفره فيها الشريد من غير كفن

مريت عليهم.. قلت يا للعجب

لاتنين ريحتهم لها نفس العفن

عجبي!!".

* * * *

(مدرس المناهج وطرائق تدريس اللغة العربية، كلية التربية، جامعة المنيا)