يرى الباحث أن أسلوب السلطة في نظريَّة الحِجاج هو فوقيٌّ، لا يهدف إلى إقناع المحاورِ بالبلاغةِ الكامنة في النص، وإنّما عبر أثر اسم الشخصية أو الجنس النصيّ في النسق الثقافي للمتلقي. ويتناول دور سلطة النص السياسية والثقافية والدينية في الهيمنة.

سلْطات النص الحِجاجي

يوسف أحمد إسماعيل

إنّ أسلوبَ السلطة في نظريَّة الحِجاج هو أسلوبٌ فوقيٌّ متعالٍ على المتلقي، يهدف إلى إقناع المحاورِ الافتراضيِّ النصيّ أو خارج النصيّ، ليس ببلاغةِ الإقناع الكامنة في النص المقتبَس أو في السرد الوارد، وإنّما ببلاغةِ الإقناع الكامنة في موقع هذا الاسم أو هذا الجنس النصيّ في النسق الثقافي للمتلقي؛ فحضور اسمِ شخصيةٍ تاريخيةٍ سياسيةٍ أو ثقافيّةٍ في نصٍّ ما هو صاحب الأثر على المتلقي لإقناعه وليس ما سيردُ بعد ذلك من فعل أو حكْيٍ أو نص. مما يدفع المتلقي إلى الصمت أو الأخذ بالحكمة أو بالتعريف الذي يريد المحاورُ الأولُ في المناظرة، أو الكاتب أن يوصله إلى المحاور الافتراضي الآخر.

قد يبدو ذلك المنطق، في الاستدلال أو البرهان على صحة مقولةٍ ما، لا يخضع لمنطق الاستدلال الجدلي المرتبط بالعقل للوصول إلى نتيجة سليمة؛ لأنّ الحضورَ السُّلطوي، لاسمٍ أو نصٍّ، هو حضورٌ قامع يتماهى مع صيغ الأمر في أسلوب اللغة، حيث لا يسمح فعلُ الأمر بالحوار والجدل، ويفترض من الآخر الامتثالَ، فقط.

أقول: وإن بدا ذلك صحيحاً، إلا أنّه يجبُ التنويهُ إلى فارق أوّليٍّ بين أسلوب السلطة والأسلوب اللغوي في صيغ الأمر، وهو أنّ صيغ الأمر هي نتاجُ المحاور الأول، في المناظرة أو نتاجُ المؤلف، في مواجهة المتلقي خارج النّصي، وبالتالي فهي تحملُ نوازعَه على منع المحاور الافتراضي من المحاكمة والتفكير الجدلي، كما أنها لا تقوم على الاحتكام إلى معيار أو مرجعية، خارج المتحاورين بما يولِّد لها كينونَةً مستقلة مقنعَةً.

إنّ تلك الماهية، لصيغ الأمر، تشتركُ مع أسلوب السلطة بأنها تعملُ على اكتساب صمت المحاورِ الافتراضي، ولكنّها تختلفُ عن أسلوب السلطة في الوسيلة التي تحقّقُ ذلك. والسلطة في بلاغة الحِجاج متعددة بتعدد النصوص والاقتباسات وصور التناص، ولكننا هنا سنحاول اختزالها بملامح عامة؛ سياية وثقافية ودينية.

* * * *

- سلطة سياسية:
تتمثلُ بحضور اسمٍ أو نص مقتبَس لشخصية سياسية. وفي نص المؤلِّف أو المحاور، هي حضورٌ مستدعًى من خارج النص؛ لتشكل جزءًا من الاستدلال أو البرهان، ولا يلجأ إليها المحاورُ إلا إذا كانت تشكّلُ معيارًا يخضعُ إلى نسَقٍ ثقافيٍّ، يعترف المتحاورانِ بالانتماء إليه، أي أنه يمثّلُ أرضيةً مشتركة لهما، ووسيلة استدلاليةً مقنعةً للطرفينِ.

ولكنّهُ، في الوقت نفسه، كما هي صيغة الأمر، لا يدفعُ إلى الجدل، ولا يسعى إليه، وإنما يسعى إلى صمت المحاور الآخر واستسلامه(1)، ولذلك يمكنُ القول: إنّهُ أضعفُ سلطة في بلاغة الإقناع. وفي ذلك سنرى نص "المجوِّع"(2)، وطبيعة السلطة السياسية الحاضرة ودورها الإقناعي في النص.

(حُكي أنّ محمدَ بنَ عبد الله بنِ طاهر دعاه رجل من أصحابه دعوة، فأنق فيها، واحتفل لها. فلما حضر محمد طالبه بالطعام، فماطله ليتكامل ويتلاحق على ما أحبّه من الكثرة والحفلة حتى تصرّم النهار، ومس محمدًا الجوعُ، فتنغّص عليهِ يومه، ثم أراد محمد سفرًا، فشيعه هذا الرجل حتى إذا دنا منه ليودعه، قال له: أتأمر بشيء؟ قال: نعم، اذهبْ فاجعل طريقك، في عودتك، على أحمد بن يوسف الكاتب، وقل له: قد بعثني إليك الأميرُ لتعلمني القِرى، ففعل ذلك، فلما سمعه أحمد ضحك، وقال لفرّاشه: هاتِ ما حضر، فجاء بطبقٍ كبير، عليه ثلاثة أرغفة من أنظف الخبز، وسكرجات(3) مريء وخلّ وملح من أجود الملح، وما يتخذ من هذه الأصناف، وابتدأ يأكل، فجاء بإوزّةٍ من مطبخه، وتداركها الطباخ بطباهجه(4)، ووافى من دار حرمه بفضلة أخرى، وأهدى له بعضُ غلمانه جامَ حلوى، فانتظم السّماطُ(5) بشيء ظريف خفيف، بغير احتشام ولا انتظار)

نلاحظُ حضور اسمين أو شخصيتين في النص، هما محمد بن عبد الله بن طاهر، وأحمد بن يوسف الكاتب، إضافة إلى شخصية المضيف.

إنّ طبيعة العلاقة القائمة في الدعوة هي علاقةٌ شاقوليّةٌ، تنطلق من فوق إلى تحت، علاقة سُلْطَوِيّةٌ سياسية، بالرغم من وجود كلمة "صاحبه" التي تصفُ العلاقةَ بين المضيف والضيف، وذلك لأنّ ما ورد في النص من تأخرِ المضيف في تجهيز المائدة بسبب الرغبة في التأنّق، وحالة الإذعان منه الواردة في توديعه، وقوله: "أتأمرُ بشيء؟".. يُضاف إليها صيغُ الأمر، المرسلةُ من المضاف إلى المضيف، لا تُشيرُ إلى علاقة أفقيّةٍ بين الشخصيتينِ.

ولعدمِ وجودِ إشاراتٍ، في النص تبين ماهية حضور المضاف في الحكاية غيرِ صفة "الأمير" وصيغ الأمر على أهميتها، فإنّنا يمكن أنْ نَدعمَ تأويلَنا بِأَنّه حُضور سلطوي سياسي من السياق الخارجي للنّصّ، وذلك بالبحث عن هوية محمد بن عبد الله بن طاهر. فمن هو محمد بن عبد الله بن طاهر؟

في ثقافتنا التاريخية، هناك أكثرُ من شخصية تحملُ هذا الاسم، منها(6):

- عالم الرياضيات وصاحب "تكملة الحساب"، الذي عاش في نهاية القرن الرابع الهجري.

- أميرُ شرطة المدينة المنورة في عهد الخليفة العباسي المستعين بالله.

- الشاعر والأديب، ووالي خراسان في زمن المأمون، الذي توفي سَنةَ 230هـ، وهو معاصرٌ لأحمدَ بنِ يوسُفَ الكاتب، رئيس ديوان الرسائل في عهد المأمون. توفي سنةَ 213هـ.

يمكن القول، وفق ذلك، إنّ الشخصيّةَ المذكورة في الحكاية هي والي خراسان المعاصر لأحمد بن يوسف الكاتب؛ لاقتران اسمه في الحكاية به، إلا أنّ حضورَهُ السلطوي السياسي هو المطلوبُ في النصّ، وليس حضورَه الثقافيّ، بدليل كلمة "الأمير"، يُضافُ إليها صيغ الأمر في العلاقة الشاقولية بينه وبين مضيفه الواردة في النص من مثل "طَالبهُ بالطّعام، اذهب فاجعل، قل له".

بعد ذلك يمكن أن نسأل السؤال الآتي: هل تدفع هذه الحكاية المتلقي إلى عدم تأخير الطعام على الضيف وما سبب ذلك؟ قد تدفع بجهة الإقناع لأسباب تتعلق بالسلوك الاجتماعي، ولكن الحضور السلطوي لمحمد بن عبد الله بن طاهر لم يكن فاعلا في بلاغة الإقناع، خاصة أنه لم يقم هو بالبديل الإيجابي لسلوك المضيف، وإنما بقي هو المتلقي للضيافة وما جرى على لسانه لا يتعدى المقارنة بين ضيافتين، وكأنه يحض مضيفه على الاهتمام به فقط. ولذلك فإن السلطة السياسية هي أضعف أنواع السلطات الحجاجية في بلاغة الإقناع.

* * * *

- سلطة ثقافية:
تحضر السلطةُ الثقافية، في بلاغة الإقناع، عبر مسربين: الاسم، الشخصية الثقافية، والنص/ الشاهد. وتكون سلطة النص أقوى من سلطة الاسم؛ لأنّ السلطةَ الثقافية تأتي من طبيعة الحكمة التي يمثلها النص، وتنال القبول من قبل المتلقي، فيضفي الأخيرُ الاحترامَ على قائل النص أي الاسم. فإذا حضر اسم ثقافي في حكاية أو خبر من دون وجود نص ثقافي فإنّه ـ المؤلف ـ يتّكئُ في ذلك على الموسوعة الثقافية للمتلقي لاستدعاء حمولات الحكمة في نصوص ذلك الاسم أو نتاجه.

ومن هنا فإنّ النص، حاضرًا أو غائبًا، هو الحامل للسلطة الثقافية؛ ولكنّها في المحصلة هي سلطة غير قامعة كما السلطة السياسية؛ لأنّ العلاقةَ بين مرسل الخطاب، في السلطة الثقافية، ومتلقيه، وإنْ كانت تحملُ ماهية العلاقة الشاقولية المتماثلة بيانيًا مع العلاقات في السلطة السياسية، تقوم على فحوى الاحترام المتبادل. فالنصُّ الثقافي يفرض على المتلقي قبولَ النص للحكمة المتمثلة فيه أو القيمة الفنية الكامنة فيه. فهو، إذًا، يخاطبُ عقلَ المتلقي وذوقه؛ ولذلك ينالُ الحظوة منه والاحترام. وكذلك المتلقي فهو يسبغ على النص أو صاحبه الاحترام والقبول انطلاقًا من إحساسه بقيمة الرسالة الموجّهة. إنَّ هذا الاحترام المتبادل يفتقده أطراف العلاقة في السلطة السياسية؛ لأنّ الأخيرة قائمةٌ على إذعان الآخر عبر صيغ الأمر وتلقي الخوف والتراتبية الاجتماعيّة.

1-الاسم:
بناءً على حمولات الاسم لسلطة النص يمكن القول: إنَّ حضور اسم شخصية ثقافية من دون حضور النص الثقافي في خبر أو حكاية هو أضعفُ، في بلاغة الإقناع، من حضور النص بوصفه سلطة ثقافية. فقد يتحول الخبرُ إلى مجرد خبر، ويهيمن فيه، وظيفيًّا، الحدث أو الأسلوب المقدم فيه. وهذا ما نلاحظه في خبر"المتثاقل". (المتثاقل: هو الذي يُدعى فيجيب، ويوثق منه بالوفاء، ثم يتأخر عن الداعي الملهوف حتى يجيعَه ويجيع إخوانه، وينكّد عليهم، فجزاء هذا، بعد الاستظهار عليه بالحجج وإعادة الرسول إليه، أن يستأثرَ الإخوانُ بالمؤاكلة دونه، معتمدين بذلك الاستحقاق به ليؤدبوه إن كان فيه مسكة أو ينبهوه إن كان له فطنة. وقد جاء في الخبر، في إجابة الداعي وترك التأخّر عنه، قوله -صلى الله عليه وسلم: "مَنْ دُعيَ إلى طعامٍ فليُجبْ؛ إنْ كان مفطرًا فليأكلْ وإن كان صائمًا فليصلّ" فإذا كان الصائمُ قد أمِر بالإجابة فكيف بالمفطر؟! ومن أجاب ثم تأخر؟ وقد ناب ذلك جحظة البرمكي من فتى، فكتب إليه: تأخرتَ حتى كدرتَ الرسول، وحتى سئمتُ الانتظار، وأوحشتَ إخوانك المستعدين، وأفحجتهم كشباب النهار(7)، وأضرمت بالجوع أحشاءهم بنار تزيد على كل نار. ويقال ثلاثة تضني: سراجٌ لا يضيءُ، ورسولٌ بطيءٌ، ومائدةُ يُنتظر بها من يجيء).

يشيرُ التعريف إلى أنّ المتثاقلَ هو الذي يدعى فيجيب؛ لكنّه يتأخر عن الحضور. والاسم الحاضر في الحكاية، بوصفِه سلطة ثقافية إقناعية، هو جحظة البرمكي، الشاعر العباسيّ وصاحب الأخبار والنوادر. وحضوره، اسمًا، في الحكاية يجب أن يدلَّ على سلطته الثقافية لدى المتلقي إلا أنّ الحكاية الواردة تخلو من نصه الثقافي، وتورد خبرًا يشير إلى تأخر مدعو لديه، ولم يترتّب على ذلك التأخير إلا صيغ لغوية سجعية في رسالة جحظة للمتأخر المتثاقل. وتلك الهيمنة للصيغة اللغوية السجعية تفيد في إيراد الحكاية في موقع الكتابة الفنية التي ينتهجها جحظة البرمكي وليس في توضيح عيب المتثاقل وإقناعه بنبذ تلك العادة السيئة خاصة أن المؤلف أتبعَ خبر جحظة بجمل سجعية أيضًا في عيب المتثاقل. يقول: "ويقال: ثلاثة تضني، سراج لا يضيء، ورسول لا يجيء، ومائدة ينتظر بها من يجيء". فهي سلطة القول السجعي على المتلقي إذن.

2- النص الثقافيّ:
إنّ حضور النص الثقافي، بلاغةً إقناعية، يجمع شتات الحكمة باعتبارها حصيلة خبرة فلسفية أو اجتماعية، غير أنّها لا تمثل سلطة قمعية كما ذكرنا وإنّما سلطة ثقافية تستند إلى إيمان عقل المتلقي بأهمية المخزون الذي تمثله، ولذلك يكفّ عن الجدل ويصل إلى التسليم بمقولة المرسل/ المؤلف.

وفي ثقافتنا العربية يلعب النصان: الديني والأدبي دورًا بارزًا في بلاغة الإقناع؛ فالنصّ الديني يدخل في إطار المقدس، وهيمنتُه على المتلقي تأتي من تلك القداسة. أمّا النص الشعري فهو يعبر عن الحكمة المختزلة بفنٍّ بلاغي بياني. غيرَ أنّ التمايز بين الخطابين أو بين النصّين، الديني والأدبي، قائمٌ في بلاغة الإقناع، وذلك وفق الحامل لكل من النمطين.

فالنصّ الدينيُّ، حين يحضر وسيلة في بلاغة الإقناع، لا يتخلّى عن قداسته، بل إنّ المرسل يستغلّ تلك السمة، ويستخدمه في سياقِ تلقٍ يأخذ بعين الاهتمام تلك القداسة، مما لا يسمح للمتلقي بمناقشة مضمون النصّ، ويسلم بذلك بناءً على السياق الحامل للمقدس، وفي ذلك بلاغة إقناعيّةٌ قهريّةٌ، لا تسمح للمخالف بالجدل.

أما النّص الأدبي، خاصة الشعري، فيُلقى في سياق خالٍ من القداسة المرتبطة بالنص الديني، وهذا يسمح للمتلقي بمناقشة مضمون النص أو الجدل بشأنه، أي أنه يسمح للمتلقي بعمل العقل والحوار والجدل ولا يفرض نفسه عبر سلطة قهرية.

إنّ ذلك التمايز بين النصين، في بلاغة الإقناع، يشيرُ إلى أنّ استخدام النصّ الثقافي في بلاغة الحِجاج أقربُ إلى الفاعلية الجدلية من النص الديني؛ لأنّهُ يمتلك سلطة ثقافية، يتفق فيها المرسل والمتلقي على أهمية الحكمة المحمولة بداخله، ولكنها لا تمنع من استمرار الجدل وذلك عكس النص الدينيّ. ومن صور السلطة الثقافية الفاعلة في بلاغة الإقناع في الكتابة العربية الخبر والبيت الشعري.

1-الخبر:
يشكل الخبرُ بوصفه بنيةً سرديّةً بسيطةً النواةَ المركزية لكل فعل سردي(8). وهو قابلٌ، بحكم التراكمات المتوالية للتحول من البسيط إلى المركب، أي من الخبر إلى الحكاية أو القصة.

إنّ طبيعة الغاية من حضور النصّ الثقافي إقناعية وتوضيحية. وهذا يشير إلى أن النص الحاضر في موقع ما يجبُ أن يكون بسيطًا، ولا يدفع المتلقي إلى الاستطراد في أحداث متعددة وشخصيات كثيرة تبعده عن الغاية المرجوة بتوضيح المفهوم الذي يريده المؤلف. ولذلك فالخبرُ هو أكثر فاعلية في تحقيق الغاية. ومن ذلك ما جاء في تفسير "المشنِّع"(9):

(المُشَنِّعُ هو الذي يجعلُ ما ينفيه عن طعامِهِ، من عظام أو نوى تَمْرٍ وغيره، بين يدَيْ جارِه؛ تشنيعًا عليه بكثرة الأكل.

حُكِيَ أنّ متلاحيَيْنِ حضرا على مائدة بعض الرؤساء، فقدم لهما رطبًا، فجعل أحدهما كلّما أكل جعل النّوى بين يدَيِ الآخرِ، حتّى اجتمع بين يديه ما ليس بين يدَي أحدٍ من الحاضرين مثله. فالتفت الأولُ إلى ربِّ المنزل، وقال: ألا ترى يا سيّدَنا ما أكثر أكل فلانٍ الرّطب! فإنّ بين يديه من النوى ما يفضُل به الجماعةَ، فالتفت إليه صاحبُهُ، وقال: أمّا أنا -أصلحك الله- فقد أكلتُ كما قال رطبًا كثيرًا؛ ولكنّ هذا الأحمقَ قد أكل الرطب بنواه. فضَحكت الجماعة، وخجل المشنّع).

كما يلاحظ فقد وضّح الخبرُ مفهومَ "المشنّع" الذي يريده المؤلف، بل إنّ الخبرَ كانَ يحمِلُ بلاغة النادرة، وهي فاعلة في بلاغة الإقناع، وتعمِّق من وظيفة الخبر في ذلك الموقع؛ لأنها تنتج موقفًا سلبيًّا من المشنع مما يدفع المتلقي إلى الابتعاد عن ذلك العيب تجنبًا للتندر عليه.

2-النص الشعري:
يحضر النص الشعري، بلاغةً إقناعية في النصوص الثقافية بشكل عام. وجميعنا يدرك الحيز الذي يحتله الشعر في شخصيتنا الثقافية، باعتباره جامعًا للحكمة وبلاغة الإقناع، ولذلك يحضر كثيرًا في أحاديثنا وخطاباتنا، بل إنّ الكتابة النثرية في تراثنا لجأت كثيرًا إلى المزج بين الشعر والنثر تماهيًا ببلاغة الخطاب الشعري.

وسوف نمثل لهذا الحضور بنص "المستأثر"(10).

(المستأثرُ هو رب المنزل يدعو رجلا فيؤاكله، ثم يغلب عليه النهم، فيستأثر بأطايب اللحم لطعام دونه، وإنِ اتفقَ أنّ الطعام لا يكفيهما جميعًا كان شبعُه أهمَّ عنده من إشباع ضيفه. وأحسن ما قيل في إيثار المؤاكل قول حاتم:

وإني لأستحيي رفيقي أن يرى مكان يدي من موضع الزاد بلقعا(11)

وفي مفهوم " المستأذن " يقول الغزي(12):

(هو الذي يستأذنُ ضيفه في إحضار الطعام، كما قال أبو العلاء:

لا تسأل الضيف، إنْ أطعمته ظهراً بالليل: هل لك في بعض القِرى أربُ ؟

فإنّ ذلك من قول يُلقّنه لا أشتهي الزاد، وهو الساغب الحَرِبُ

قدّم له ما تأتّى لا تؤامـره فيه، ولو أنّه الطرثوث والصَّـرب(13)

كما نلاحظ فإنّ النصّ المقتبس من أقوال المعري يعبر عن عيب المستأذن بشكل واضح ومباشر، كما أنّ المؤلف قد لاحظ ذلك فلم يعلق على الأبيات، بل اكتفى بإيرادها خاصة أنها جاءت من قبل المعري صاحب السلطة الثقافية الفاعلة في موسوعتنا الثقافية.

* * * *

- سلطة دينية:
إنّ أسلوبَ السلطة الدينية يأتي في المرتبة الثانية بعد أسلوب السلطة السياسية من حيث تهميشه للاستدلال البرهانيّ، وأقل من فعل أسلوب السلطة الثقافية؛ لأنّهُ يفترضُ بدهيّاتٍ اتفِق على أهميتها بالنسبة إلى المتحاورَين، أو المُرسِل والمخاطَب. فهو يتميّزُ عن أسلوب السلطة السياسية في بلاغة الإقناع بأنّ الخضوعَ لهُ لا ينبع من سطوتِه القامعة، وإنّما من سطوته العقائدية وقداسته، تلك القداسةَ التي تحرِّم على الآخر/ المحاور/ المتلقي مناقشةَ المعتقد أو النصّ. وهو يتميزُ أيضا، وفق ذلك، عن أسلوب السلطة الثقافية التي تحيل المتحاورَين إلى نسقٍ ثقافيٍّ واحد، يتفق المتحاوران فيه على أهميّةِ خبرات القدماء أو المثقفين أو الشعراء أو الفلاسفة.

إن تميزه يأتي من البيئة الدينية التي ينتمي إليها الخطاب والمخاطب المقصود وانتماؤه العقدي، ولذلك نلاحظ في البيئة الإسلامية كثرة الاستدلال بالقرآن الكريم والحديث الشريف في الحوارات باعتبار تلك المقتبسات داخل الخطاب لها القول الفصل بما لا يسمح للآخر بالرفض، بل إنه يُدفع إلى الارتباك لأنه يُحشر في موقف الرفض أو الإذعان فلا خيار آخر أمامه، وخيار الرفض يعني الخروج عن الإجماع وعدم الإذعان للخطاب الديني الشمولي.

نشير في النهاية إلى أن تلك السلطات الثلاث هي سلطات افتراضية في النص الحجاجي تقوم على علاقة تناصية مع المنجَز الثقافي والسياسي والديني انطلاقا من العلاقة التكاملية بين المنجَز وما نرغب في إنجازه. وهي لا تسلب النص خصوصيته وإنما تدعم خطابه النظري وتتوجه لمتلقيه للإذعان له بصيغ ومقولات ودلالات تنتمي إلى نسقه الثقافي والديني والاجتماعي، بل إنها تشكل جزءا من مخزونه التراثي.

إن تمرد المتلقي على مقولات تلك السلطات الثلاث يعني أن يفقد النص المقتبِس قدرته على الإقناع، ولكي لا يتورط النص بالفشل عليه بأمرين: الأول أن يخاطب المتلقي بسلطاته هو لا بسلطات المؤلف، لأن طاقة تلك السلطات آتية من تموضعها في وعي المتلقي وليس في وعي المؤلف. الأمر الثاني أن يتحول النص المستدعى، الثقافي أو السياسي أو الديني، في النص المستدعي إلى عنصر بنّاء يتضافر مع بقية العناصر المكوِّنة للنص ويشكل معه نسيجا ثالثاً يدعّم بلاغة الإقناع بوصفه وسيلة حجاجية تتضافر فيها العناصر الخارجية المؤثرة في المتلقي مع العناصر الداخلية الممثَّلة ببنية النص المتماسكة.

* * * *

(عضو هيئة تدريسية بجامعة حلب ـ كلية الآداب، باحث في السرد العربي القديم والنقد والبلاغة)

الهوامش

1 ـ العزاوي، بو بكر: اللغة والحجاج، دار الأحمدية، 2006، ص45.

(2) الغزي، بدر الدين: آداب المؤاكلة، تحقيق عمر موسى باشا، مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق، المجلد الثاني والأربعون، الجزء الثالث والرابع، 1967 تموز وتشرين الأول، ص503-524.

(3) سكرجات: في الحديث لا آكل في سُكُرُّجَةٍ هي بضم السين والكاف والراء والتشديد إِناءٌ صغير يؤْكل فيه الشيء القليل من الأُدْمِ وهي فارسية وأَكثر ما يوضع فيها الكَوامِخُ. ابن منظور، لسان العرب.. مادة "سكرج".

(4) طباهج: الطَّباهجَةُ فارسي معرَّب ضرْب من قَليِّ اللحم. ابن منظور، لسان العرب. مادة "طبهج".

(5) سماط: السماط ما يبسط على الأرض لوضع الأطعمة وجلوس الآكلين. ابن منظور. لسان العرب. مادة "سمط".

(6) الذهبي، محمد بن أحمد: سير أعلام النبلاء، الطبقة السادسة عشرة، مؤسسة الرسالة، 2001، ج15، رقم 13.

(7) فحج: الفحج تباعد ما بين أوساط الساقين في الإنسان والدابة وقيل تباعد ما بين الفخذين. ابن منظور، لسان العرب. مادة "فحج".

(8) الخبر في السرد العربي، الثوابت والمتغيرات، سعيد جبار، ط1، الدار البيضاء، المكتبة الأدبية، المدارس، 2004، المقدمة.

(9) الغزي، بدر الدين: آداب المؤاكلة، ص504.

(10) الغزي، بدر الدين: آداب المؤاكلة، ص508.

(11) بلقع: مكان بلقع: خال، وكذلك الأنثى، وقد وصف به الجمع فقيل: ديار بلقع.

(12) الغزي، بدر الدين: آداب المؤاكلة، ص507.

(13) الطرثوث والصَّــرب: طرثوث هو نبات طفيلي معمر ومغطى البذور طويل مستدق كالفطر وله في بعض الأحيان أشكال وألوان مختلفة وهو يميل إلى اللون الأحمر واللون البنفسجي والأصفر، وله ساق. ابن منظور، لسان العرب مادة طرث.

الصَّرْبُ والصَّرَبُ اللبن الحَقينُ الحامِض، وقيل هو الذي قد حُقِنَ أَياماً في السقاءِ حتى اشتدَّ حَمَضُه. ابن منظور، لسان العرب. مادة "صرب".