تصوغ هذه القصة اسطورتها الخاصة التي تتغني بالتمرد والثورة وترهص بانتصارهما، بينما تدير بهما حوارا تناصيا خلاقا من صيغ مختلفة من السرد البدئي المتغلغل في الوجدان الإنساني.

الأب والأبن والروح القدس

محمد ذهني


الملك

رسالة ملكية:

إلى: محمد بن سعيد بن ورد.

وبعد.

قد أصدرنا قراراً ملكياً بالعفو الشامل عنك وعن ورثة المارق: سعيد بن ورد، وسنتفضل برد جميع الممتلكات والأموال المصادرة من عائلته، وذلك في يوم الجمعة الموافق الخامس من ذي القعدة عام 800 هجرية. في احتفال عام بدفن جثة أبيكم المارق وتلقيه مباركات الملك وعفوه .

خاتم ملكي

*  *  *

أصوات الاحتفالات تقض مضجعي . الشمس تتسلل إلى الجناح ورغم ذلك أرفض القيام. اليوم ينذر بمعركة شاملة. لن يكون المستقبل مثل الماضي أبداً. إما أن أنتصر وأخضعهم بالقوة، أو أهزم وأعلق بدلاً من سعيد بن ورد على الصليب. الأمل الباقي أن يأتي ابنه ليؤكد لهم أنه  ميت. الأغبياء مازالوا يصدقون أنه حي، ويدعون أنه ينظر إليهم بل ويحادث من يصطفيه منهم. كونوا بهذه الأسطورة جبهة ثورية خلال عامين، تجذب الشباب الذي لم ير شيئاً. تحمي جسده  وتدعو لمناصرته وإنزاله من على الصليب. لو كان جسده هلك، تحلل أو تعفن أو حتى أكلته النسور، ولو لم أصر على بقائه على الصليب حتى يصبح عظاماً، لانتهى ذلك الكابوس المستمر منذ ربع قرن. ولكنه ظل أمامنا يذكر الجميع بما حدث. يتحداني أنا الذي لم يجرؤ أحد على تحديه. تحداني حياً حتى وقع والآن يتحداني ميتاً. لكن اليوم سينتهي كل شيء. يأتي ابنه فنباركه ونرد له كل شيء. سينزل الجثة ويواريها التراب ويعود الأمن للمملكة.

*  *  *

الثوار

رسالة:

إلى الأمير محمد بن سعيد بن ورد

السلام عليكم ، سلاماً محملاً بعبير وطنك ومسقط رأسك ورأس أبيك المبجل.

ندعوكم للانضمام إلينا في يوم الجمعة الموافق الخامس من ذي القعدة عام 800 هجرية، وذلك للاحتفال بإنزال أبيك المعظم من على الصليب، وتتويجه والسجود أمامه على العرش في احتفال مهيب، بمناسبة مرور ربع قرن على العدوان عليه ورفعه على الصليب، وذلك نزولاً على طلبه هو بحضورك ذلك التتويج. ونخبرك بأن جلالته هو من حدد هذا الموعد بالذات لنا، وأنه يبشرك بدعم شعبي مطلق من جميع الفئات وبنصر تام على الملك وابنه وجميع خونة القصر.

واطمئن فعيوننا سترعاك من لحظة خروجك من مدينتك حتى وصولك إلى المملكة.

ولك منا التحية والسلام

 خاتم

عبد الله بن هشام

زعيم الثوار وخادم الملك

*  *  *

فرحة ممتزجة بهيبة الموقف. الكل يعلم أن في هذا اليوم الذي لاحت شمسه منذ لحظات ،سينتهي عهد الظلم وسيتوج الملك الجديد. المعركة لنا لا محالة. كلنا فيها وكلنا نعلم أن النصر مؤكد. وسيدي عبد الله بن هشام تلقى الأمر بذلك أمامنا من ذلك القديس. معلق أمامنا على صليبه يبتسم لنا ويبشرنا بالنصر. طلب منا أن نأتي بابنه  ففعلنا. وأكدت لنا العيون أنه خرج من مدينته منذ يومين قادماً إلينا ليشهد التتويج. حاولت ومن معي أن ننزل ملكنا من على صليبه كثيراً ، ولكن أبى إلا أن ينتهي الظلم وننتصر له بأيدينا.

أرسلني قائدي لأطمئن على مواقع جنودنا . المعركة المنتظرة لن تبقي على أحد من أهل القصر ، ومن سيبقى منهم فالصليب ينتظره جزاءً . شخص واحد فقط سيلقى قصاصه قبل المعركة، الخائن. الجميع يعلمه ويراه في عليائه. يظهر أمامنا بدور المحسن التقي حتى نُسي دوره في الخيانة. لكنه أمر بالقصاص منه قبل أي شيء. سيأتون برأسه على سيف لتكون بداية المعركة.

*  *  *

محمود بن أبي موسى

هل هو ميت أم لا؟ أراه أمامي كلما مررت بالميدان. اسمع الناس يتكلمون عنه ،وعما قاله لأتباعه الذين لا يعلم أحد من هم. أسأل الملك فيؤكد أنهم شرذمة يسحقهم بقدمه لو أراد، ويؤكد لي أنه ميت منذ أن صلب. ولكن الأتباع يزيدون ، تمتلئ السجون بهم ويقتلون في بيوتهم ، لكن لا يتوقفون عن إثارة مشاعر الناس . يقول الملك لي ذات يوم:

ـ إنهم كل الشعب . هل أقتل كل الشعب؟.

ـ بل اقتل قادة الثوار فيخاف البقية.

ـ ومن قادة الثوار؟ هو قائد الثوار

ـ ولكنه .... ميت.

ـ وهم يظنون أنه حي يكلمهم.

ـ ربما يمثل أمامنا دور الميت؟

نظر إلي بامتعاض وقال:

ـ كفى تهريجاً.

خفت أن أقول له أنني أراه حياً، لا يتغير ولا يشيخ. صحيح لا يحادثني ولكنه حي. يحدق في كلما مررت بموكبي. يأتيني في الأحلام ولا يقول لي سوى كلمة واحدة:

ـ خائن.

قلت لو كان حياً سأقتله. أمرت أحد أتباعي ليقذفه بسهم مسموم. لم يصبه السهم واستقر في صدر أحد الجنود المارين صدفة في اتجاه القصر. ارتفع تهليل العامة لرؤية المعجزة ،بينما نلت تقريعاً لا أنساه من الملك. وظلت نظراته تطاردني ،وذكراه تلوح لي في أي وقت تشاء. هذا البطل الذي أسرنا جميعا بسحر بيانه وحجته وحماسه ضد الظلم. جرت الثورة مع دماء الشباب في عروقنا. أخذنا نقتل الخونة، قادة الجنود والأثرياء وندماء الملك. حتى قتل سعيد ابن عم الملك مرة، حينها خرجنا من دائرة المجرمين إلى عالم أوسع وأشد خطراً، أصبحنا مارقين. وسمانا الشعب الثوار، وإن لم يتعاطف معنا أحد. وإذا بجائزة تبلغ مئة ألف دينار لمن يسلم أو يدل على مكان زعيم المارقين،وفتوى من الشيخ الأعظم كبير العلماء بإهدار دماء المارقين. بدأ الخوف والشك من عقاب الأرض والسماء، وكلمات سعيد تدوي في أسماعنا:

ـ لا تتبعوا كلام من يعيشون في القصور ويتكلمون باسم الله. لا حياة لنا ولا جنة بعد الموت إن عشنا خانعين.

واستيقظنا ذات يوم على الشيخ الأعظم مقتولاً. أدركنا أننا لسنا أبطالاً، وأن سعيد ليس بطلاً ,وإنما هو مجنون لا يخاف ملكاً في الأرض ولا في السماء. ولكن عادت كلماته تبث النشوى والطمأنينة  فيهم. أما أنا فرأيت الحل في اتجاه آخر، ثروة ونجاة من الموت. الشعب ضد الكفار أعداء الله والدين والملك. فلأنج بنفسي وأركب السفينة.

يوم القبض عليه جاءني سعيد يقول:

ـ أوصيك بأهلي يا محمود.

رددت عليه و أنا أخشى النظر في عينيه:

ـ لا تقل هذا يا سعيد. سننتصر بإذن الله.

وكأنه لم يسمع شيئاً قال لي:

ـ قم بمساعدتهم على الخروج من المملكة.

لو أدرك أن النهاية قريبة لم اختارني ؟ كلهم ماتوا عدا أنا وهو . تلوح من حولي الاتهامات الصامتة في الأعين. لكن لا أحد يؤكد. تقربي من الملك وإحساني إلى  الفقراء يسكت الألسنة. شيء واحد ينغص علي حياتي. نظراته الصامتة.

اليوم يوم فاصل. تتبعنا أخبار ابنه حتى علمنا مكانه، أرسلنا له ليأتي وينهي المهزلة. سيوارى التراب اليوم مصطحباً نظراته. العيون قالت أنه آت. هو وحده من سيحقن الدماء .

ارتديت ملابسي و تأهبت للخروج إلى الوكالة. سمعت صوت سنابك خيل و خطوات ثقيلة. أكيد الملك يريدني. لكن صرخة انطلقت واستقرت في عظامي. نظرت من النافذة لأجد حارسي القصر مقتولين . لمحني أحد القتلة فصوب إلي سهماً تفاديته في اللحظة الأخيرة. مكثت لحظات مختبئاً عاجزاً عن الحركة. سمعت بعدها  صراخاً من الحريم والخدم. خطوات عدو في كل مكان حولي. لا أعلم أين هم لكي أهرب منهم. مكثت في مكاني. دخلوا علي من كل مكان. تقدم مني سعيد وفي عينيه نفس النظرة . لوح بسيفه وهوى به.

*  *  *

محمد بن سعيد بن ورد

حذرتني أمي من العودة. قالت أنها ولابد خدعة منهم. نظرت في الرسالتين . رسالة من الملك بصدور عفو عام عن أبي وعن عائلته مع رد أملاكه، و السماح بدفن جثته في مقابر الأسرة. ورسالة من قائد التنظيم الثوري في المملكة يعلن أن أبي هو الملك الجديد وأنني ولي عهده، وعلي حضور مراسم إنزاله من على الصليب وتتويجه كملك.

كانت الرسالتان لأول وهلة تفصحان عن أن كاتبيهما مجنونان بلا جدال. لأن أبي ولا شك هو اليوم مجرد عظام. منذ خمسة وعشرين عاماً رأيته وقد تم تعليقه على الصليب في الميدان . كنت أنا وأمي قد صدر ضدنا قرار بالطرد من المملكة للأبد وتجريدنا من كل شيء. حتى الراحلة تبرع بها إلينا أحد أصدقاء أبي، بعد أن أقسمت أمي أغلظ الأيمان ألا تقول أنه صاحبها. نظرت في وجهه يومئذ فوجدته يبتسم رغم الألم على وجهه. لا أكاد أذكر عنه شيئاً سوى هذا،  أمي وقتها قالت لي وكأنني غير موجود:

ـ هذا أبوك . ستعود يوماً لتنتقم له.

العجيب أن أمي من يومها لم تتحدث عن الانتقام مرة أخرى، بل تحدثت عن الراحل فقط في طفولتي لكي أتباهى به، دون أن يمثل موته لي ولها أي ألم. تزوجت من تاجر ثري وأنجبت له، وأشركني هو في تجارته وزوجني إحدى بنات أخيه. حياة رغده بعيداً عن مملكة الدم وذكريات المصلوب. فكرت كثيراً أن أعود لأتاجر في بلادي  . لكن أمي قالت:

ـ لا خير فيها . تغلي دائماً بنار الثورة.

ـ ولكنني سمعت أن ملكها قوي. وأن التجار في حمايته ينعمون.

ـ ينعمون بعد أن يشاركهم الربح ، وإن قامت الثورة قطعوا رأسك معه.

ـ ألم تقولي أن أبي كان من الثوار؟

ـ لأنه كان معدماً. لو كان ثرياً لما فكر في الثورة.

هكذا كانت أمي قد نسيت أبي ، لم يعد له وجود إلا في اسمي، حتى وجهي الذي يشبهه يوم الصلب لا يذكرها بشيء.

حزمت أمري على الرحيل. لا أدري هل طمعاً فيما قيل في الرسالتين رغم استحالته. أم رغبة في رؤية موطني والمكان الذي عذب فيه أبي. في الطريق أحسست بالشوق لهذا الوجه الباسم لي رغم العذاب. ليس حاقداً مثلما تصورته أمي بعد أن ذاقت النعيم، بل هو بطل كان يجب أن تحضّرني لأنتقم له . عشت وهو  بالنسبة لي صورة واسم ليس أكثر، ولكن الآن يعود بقوة كحي وميت في آن واحد ، كملك وكأب، بطل ومارق. حضور طاغ لا مهرب منه . كأنه يسيطر علي أكثر كلما اقتربت من بلده.

أشعر بان هناك من يرصدني في الرحلة. قيل لي في رسالة الثوار أنهم سيقومون بحمايتي. ولكن ممن؟. ولماذا طوال يومين لم يحاول أحد الاقتراب مني بخير أو شر؟ لاحت أمامي المملكة. كيف انتظروا كل هذا ليثوروا على الملك؟ ولماذا انتظر الملك كل هذا ليعفو عني. ولو كانت خدعة فما الخطر مني ؟ لماذا تبدو المملكة خالية . لا أحد يلاقيني في طريقي. أجوب الشوارع كأنني في مدينة ميتة. تلوح أمامي فجأة أدخنة كثيفة فأذهب باتجاهها. لا أحد بالمرة. ولكن صوتاً يبدو كهدير الأمواج يعلو رويداً رويداً. يستمر في الوضوح حتى يخالطه أصوات صراخ وصليل سيوف وصهيل خيل، والدخان مازال يتكاثف. وجدتني في ميدان عظيم. هنا وقفت منذ ربع قرن أنظر إلى أبي. رفعت رأسي إلى حيث كان فوجدت النار تأكل الصليب. وعلى قمته هيكل عظمي تقترب النار من الإتيان عليه. أين أبي الملك ؟ أين أبي المارق؟ ولماذا صمتوا جميعاً ونظروا إلي؟ سمعت البعض يقول:

ـ ابنه؟

ـ بل هو .

رفعوا رؤوسهم على حيث بقايا أبي. نادى أحدهم من أعلى:

ـ انظروا... لقد مات وتحول إلى عظام.

رد آخر من العامة:

ـ بل هبط من على الصليب . ها هو أمامنا .

ساد الهرج وعلت الأصوات كلٌ بكلمة. نظرت في الوجوه. منهم من يريد أن يسجد أمامي، ومنهم من يريد أن يقتلني. أين المصير؟ ولماذا عدت إلى هؤلاء المجانين؟ كان هناك شيء على الصليب يجذب نظري رغم الخطر أمامي. الآن فقط أشعر بأبي كما لم أشعر به من قبل. الآن أحس أنني ابنه. وجدت روحاً تنبعث في. روحاً ثائرة تكاد تقتلعني. صعدت على مكان عال أسفل الصليب المحترق. قلت:

ـ يا شعب المملكة. اسمعوني.

صمت الجميع منتظراً ما سأقوله. لمحت رماة يصوبون نحوي، ورجالاً يحيطونني لحمايتي. لم أجد ما أفتتح به كلامي سوى أن أقول:

ـ أنا سعيد بن ورد.