يطرح الباحث التونسي في هذه الدراسة، وهي مفتتح دراسة أطول حول الموضوع، ستنشر الكلمة بعض فصولها في أعداد قادمة، مجموعة من أسئلة الخطاب الروائي الاستهلالية المثيرة للتأمل.

أسئلة الخطاب الروائي

بين التحديث والمثاقفة

صابر الحباشة

هاهو عصر الرواية قادم!

بشارة كثيرا ما تردّدت في نهايات القرن الماضي تعلن لأمّة الشعر أنه قد آن الأوان كي تغادر هذه المركزية الثقافية التي احتكرها الشعر والشعراء في سبيل توطيد دعائم جنس أدبيّ بورجوازي الأصل غربيّ المنشأ عبر تأصيل وجوده في التربة العربية إبداعا وتنظيرا.

وقد تصدّى لهذا الأمر بشكل "طبيعي" أدباء مرحلة النهضة منذ المحاولات الأولى خلال القرن التاسع عشر حيث تمت ترجمة كثير من الآثار الروائية الغربية (الفرنسية والإنجليزية بالأساس) ووقع إنتاج ضرب جديد من النثر العربي لا هو "نثر فنّيّ" بمعناه القديم ولا هو "كلام مرسل" على نحو المخاطبات غير الأدبية. وكأنّ بلاغة جديدة بدأت تطلّ من وراء الاختيارات الأسلوبية البديلة التي اقتضاها نقل الإبداع الروائي الغربي إلى الأفق العربي . طبعا لم يكتف العرب على عتبة القرن العشرين بمجرد نقل المتون السردية - وإن كان ذلك بشكل اتسم بالتردد بين الحرية الإبداعية وحدود أفق التقبّل في السياق الثقافي والقيمي العربي الإسلامي-  بل عمدت أقلام معروفة إلى نسج تحديثها الخاص للسرد العربي القديم عبر إحياء أشكال سردية قديمة وابتعاثها في صيغ جديدة، فكان أن ظهرت المقامات مع محمد المويلحي في "حديث عيسى بن هشام". وهنا لا بدّ من الحديث عن دور الصحف في احتضان "الرواية" وغيرها من الأشكال الأدبية وظهورها في شكل قطع متسلسلة تنشر تباعا على صفحات الجريدة.

وقد كوّن ذلك فريقا من القراء أصبحوا يتلقفون كل جديد ولا يمرّ النص إلا بذلك "الغربال" النقدي فإذا نجح العمل الإبداعي أمام الاختبار الأول فإنه ينشر بعد ذلك في شكل كتاب، أما إذا أخفق فإن مصيره هو أن يبقى حبيس الصحف التي ظهر فيها لأول مرة. طبعا لسنا في سياق استعراض بدايات الرواية العربية، فقد ألّفت الكتب الكثيرة في هذا السياق، ولكن مدار الأمر هو أنّ مستقبل الرواية لا يكون مقاسا إلا على ماضيها، من جهة أنه هو الطرف الوحيد الذي نملك عنه معايير "واضحة" للتقييم والنظر العلميّ. فلسنا ندري كيف ستصبح آفاق الرواية العربية في هذا القرن، إلاّ إذا اقتبسنا رؤيتنا من توقّع ما سيؤول إليه ما شهدناه من تطوير على صعيد الإنتاج السردي كميا ونوعيا على مدى الوطن العربي وحتى في المهجر. فالاستشراف لا يكون علميا إلا إذا اتخذ له معايير مضبوطة تسهم في بلورة الرؤية بشكل متكامل. وفي هذا الإطار نود ان نلفت النظر إلى ما يمكن اعتباره "حقيقة" أو قل واقعة في تاريخ الرواية العربية يمكن لنا المصادرة عليها، ولغيرنا أن يوافق عليها أوأن يجرحها.

مدار هذا المصادرة أننا نعتقد أن نجيب محفوظ روائيا يلخص ـ عبر متنه الروائي -  مراحل نمو الرواية العربية والمدارس والاتجاهات الفنية التي مرّت بها. فقد بدأ باتخاذ المدرسة التاريخية نبراسا فأنشأ روايات تتعلق بتاريخ مصر القديمة، ثمّ انتقل إلى الرواية الاجتماعية ومرّ بالرواية الواقعية وعرّج على المدرسة الرمزية الذهنية وله بعض الأعمال المندرجة ضمن المدرسة الرومنسية. فكأن نجيب محفوظ يلخص بوجه من الوجوه الرواية العربية ويعلن بوضوح خطوطها الكبرى. طبعا لا يخلو هذا الحكم من تبسيط مجحف، بل قد يقول البعض إنه حكم ناجم عن منح هذا الروائي العربي جائزة نوبل للآداب، فحُمّل متنه الروائي مؤونة تمثيل جميع تيارات الرواية العربية. قد يكون هذا صحيحا بعض الشيء، ولكن موقع نجيب محفوظ الطلائعي لا يمكن المزايدة عليه، وإن اختلفنا في تقويم تجربته، فلا أحد ينكر أنه رسم خطا متينا لتحديث السردية العربية وإعطاء الرواية ذلك الثقل الذي بدأت تحظى به شيئا فشيئا.

أمّا التجارب الأخرى فتتفاوت من حيث مواقعها وإسهاماتها، وإن كنا لسنا بصدد تقييم هذه التجارب ولكن يمكن لنا أن نشير إلى أنّ الرواية العربية انتقلت عموما من النقل إلى التمثل فالمحاكاة ولعلها بلغت - مع بعض التجارب مرحلة التجريب الفنّي - وكذلك ربما وصلت إلى التجديد الذي لا يقتصر على هضم الوافد وإضافة نكهة محلية عليه، بل اكتناه عمق الوجود البشري وإفراز إبداع أصيل يصل المحلية بالعالمية في خلطة مكتنزة لا تفصل فيها بين ماهو خصوصي وما هو عامّ. ولكن كل تصنيف لا بدّ أن يظلم بعض التوجهات - بحكم اعتناء التصنيف بما هو غالب، كمّيّا- باعتبار أنّ بعض المبدعين الروائيين العرب يكتبون نصوصا بكرا تخالف التصنيف الساذج، و تخاتل من يسعى إلى حشرها في هذا التيار أو ذاك.

وفي هذا الإطار،  لا ننسى ظاهرة الكتاب الروائيين الذين دخلوا عالم الإبداع ولهم مرتكزات نقدية متينة وتكوين رصين في فلسفة الرواية ومدارسها: وقد أفلح بعضهم في كتابة رواية ناجحة فنيا في حين جاءت بعض المحاولات الأخرى دون المرجوّ. وهذا إن دلّ على شيء، فإنّما يدلّ على أنّ الإبداع لا يُتعلّم في المدرسة هذا من جهة ومن جهة أخرى فإنّ الثقافة الفنّية والنظرية قد تكون معولا يساعد على الإبداع ولعلّ القراءة الإيجابية من أجود أنواع الإبداع!

وإذا ما واصلنا النظر بشكل عامّ في المدارس الروائية الحالية في السياق العربي وقفنا على تأثر عند بعض الروائيين بما ظهر عند روائيي أميركا اللاتينية من تيار "الواقعية السحرية" فقد ملأ الدنيا وشغل الناس. ولعل فتنة الحداثة قد أملت على الرواية العربية أن تختطّ لها مسارب التجديد والتجدّد الذاتيّ في غير انطواء. وقد تسرّبت مقولات إلى المتن الروائي العربي هي من صميم التعمق في السؤال الإبداعي. فلم تعد الأقلام الروائية الجيدة تكتب احتذاء للآخر الغربي أو العربي القديم، على النحو الذي كان عليه الأمر في بداية القرن العشرين، فقد تأصّلت الصلات بين الواقع والإبداع الروائي، غير أن "سوق" الرواية تشهد بعض الاهتزازات بسبب تدخل بعض العوامل غير الأدبية بالضرورة في إعلاء صورة رواية أو محاكمة روائيّ، وهي عوامل يجب وضعها في الحسبان، في تقييم علاقات الإنتاج والتقبل في الساحة العربية. وهذه الممارسات لا يخلو منها عصر، بل لعلها تذكرنا ببعض المحاكمات التي تعرض لها بعض الروائيين الغربيين في القرن التاسع عشر (من قبيل فلوبير Flaubert ).

ولعلّ الناظر في المتن الروائي العربي يقف بيسر على غياب (أو ضعف) بعض الأنواع السردية التي انتعشت في السياق الغربي ونعني مثلا رواية الوردة أو الرواية البوليسية أو الرواية العجيبة  مقابل ظهور الرواية الواقعية والرواية الذاتية (ومنها السيرة الذاتية والمذكرات...) بشكل معتبر، ولعل دراسة مثل هذه المظاهر الخاصة قد تدلّ بشكل أو بآخر على توجهات التخييل الروائي العربي أو على التكوين الثقافي النفسي للإنسان العربيّ روائيا وقارئا. بقي أن نشير إلى تأثير- لا فقط الصحف كما كان عيه الحال في بداية القرن الماضي بل مختلف وسائل الإعلام ولاسيما التلفزيون في توجيه المتقبل نحو نصوص دون غيرها عبر التركيز الإعلامي والإشهار أو ربّما التشهير... أو إثارة  بعض الغبار حول عمل روائي ما سواء بالمدح أو القدح، فذلك ممّا يؤثر في تقبل الأثر المعنيّ لدى شريحة كبيرة من القرّاء. فضلا عن تأثير السينما والمسرح في تحويل النصوص الروائية إلى أعمال درامية قد تعد ولادة جديدة لها أو قد تتحول إلى "مسخ" لذلك الأثر، وهذا الأمر ينظر فيه باعتبار أنّ تظافر الفنون أصبح خصيصة تميّزالعصر وليس مجرد موضة زائلة أو صرعة مؤقتة.

أمّا الوسائط الإلكترونية، فحدّثْ ولا حرج! فهي أبواب مشرعة على الممكن والافتراضي وما ترفضه دور النشر أو تصادره الرقابة يجد له متنفسا هناك، حيث الإبحار السريع والانتشار غير المحدود وحيث إمكانيات التخفي واستعارة الأسماء أمر في منتهى البساطة واليسر، فضلا عن توفّر قارئ افتراضي زئبقيّ زئبقية المؤلّف!

ههنا تقف الرواية العربية، جنسا إبداعيا على حافة التحدّي: فهل ستجد لها آفاقا حديثة ومشرعة نحو المستقبل الواعد؟ أم إنها ستتنازل فنيا وإبداعيا في سبيل تحصيل جمهور عريض تحققه لها وسائل الإعلام المرئية فيخلف السيناريو الرواية ويكون المسلسل التلفزيوني بديل النص الروائيّ المقروء؟ إذا كانت الرواية عملا يكتب جماعيا ليُقرأ فرديا (بخلاف الشعر الذي يُكتب فرديا ليُلقى على المجموعة) تعبّر بالفعل عن إيقاع العصر وقيمه وتوجّهاته، فإنها ستحمل أعباء صنع المستقبل عبر تجديد مقارباتها الفنية والمضمونية بقطع النظر عن أدبيات التأثير والتأثر.

لقد أوفى المنجز السرديّ التراثي بوعوده واستجاب لحاجات عصوره وآمال جمهوره، فكان تعبير الحكاية المثلية عن عمق التناقض بين سلطة العقل وسلطة السيف ("كليلة ودمنة" لابن المقفع) ورصدت النادرة ("البخلاء" للجاحظ) روح التفاعل الاجتماعي بين الشرائح المتعايشة بين المركز والهامش وحكت "ألف ليلة وليلة" طبقات المكبوت وكشفت كثافة المتخيّل الشعبيّ الوسيط... فهل أجابت الرواية العربية المعاصرة عن أسئلة الراهن العربيّ؟ وهل تكشّفت عن طرح أسئلة جديدة فنيا وواقعيا؟

لا شك أنّ رصد الخطاب الروائي العربي الحديث أمر مهمّ في هذه المرحلة المتشابكة التي تعبّر عن تحدّيات مصيرية سياسيا وإقليميا وحضاريا وثقافيا، بشكل يجعل التعبيرة الروائية تتناسى مآزقها الذاتية لتتشح باليتم الجماعي الذي انخرط فيه المجتمع العربيّ منذ سقوط غرناطة مرورا بنكبة فلسطين وصولا إلى احتلال العراق! إنّ الهاجس السياسي كان محورا رئيسيا لدى أقطاب الرواية العربية الحديثة، وسواء أعلن الخطاب الروائي القطيعة مع الأنظمة الحاكمة بشكل صريح (كما يتجلى ذلك في روايات صنع الله إبراهيم مثلا) أو بشكل يشوبه بعض التنسيب ولكنه ينتهي إلى الوضوح ( على نحو ما هو عليه الأمر في روايات عبد الرحمن منيف) أو بطريقة يكون  فيها الخطاب الروائيّ أكثرالتزاما بالتقيّة ( على ما هو عليه حال أكثر سائرالروائيين، مع تفاوت في درجة التلميح والترميز والنقد المغلّف).

يبقى أن نعترف أنّ معظم الخطاب النقدي العربي  بقي رهين مسلكين في مقاربة المتون الروائية الحديثة:
 أوّلهما النقد الانطباعيّ: وهو مسلك يتسم بكثير من الذاتية إذ يعتمد على تذوق شخصي للناقد وقلما علّل ذلك الأمر تعليلا جماليا أو فنيا. وهو ضرب من النقد لا يلزم إلاّ صاحبه وقد لا ينجر عنه في الغالب تيار نقدي ذو أصول أو يؤدي مهمات النقد الأساسية. ولعلنا نعتبره في شيء من التبسيط طفولة النقد وإرهاصاته الأولى ريثما تتعقد إجراءات النقد ووظائف الناقد، ويصبح معوّلا لا على تذوّقه الصرف بل على مناهج وآليات تسيّر عملية القراءة.

 ثانيهما النقد الانعكاسي: وهو مسلك يضمّ التحليلات النقدية التي ترى في النص الروائي ما رسمت سلفا ما تريد أن تراه. أو قل إنها تستنطق النصّ باحثةً عن أمور بعينها، فإن وجدتها ارتاحت وأصابها برد اليقين، وإن لم تعثر عليها حكمت على الأثر بعدم النجاح. ونقصد بهذه التحليلات تلك التي تعتمد المقاربة الاجتماعية للأدب والتحليل النفسي أو التحليل الاقتصادي، فغاية ما يطلبه الناقد من هؤلاء أن يقف على صراع الطبقات أو عُقد المؤلّف المكبوتة أومعالجة قضايا التفاوت في التنمية، على سبيل المثال.

وقد ظهر مع ذلك خطاب نقديّ نعتبره أكثر حداثة وإن لم يعبّر عن حقيقة العملية الإبداعية وعن حقيقة تعاطي القارئ معها إلا بشكل جزئي، ونعني المسلك الذي ندعوه النقد الوصفي. والنقد الوصفي هو ضرب من النقد يلتمس سبيل النص من داخله لا يُسقط عليه إحساس الناقد وآراءه الشخصية ( كما هو الحال مع المسلك الانطباعي) ولا يسقط عليه تأويلات نفسية أو اجتماعية أو اقتصادية ( كما هو الأمر مع المسلك الانعكاسي) ومعنى أنه يلتمس سبيل النص من داخله، أي أنه يفكك الخطاب الروائي متوسلا أدوات فنية جمالية لا غير. فيهتم بالسرد والوصف والحوار ويدرس الشخصيات والأحداث ويهتم بموقع الراوي وبمستويات التعبير في الرواية، كما يحلل الدلالة متوقفا على منطوق النص وما يعبّر عنه من أبعاد دلالية تأويلية. دون استجلاب قوالب جاهزة من خارج النص تصبح متحكمة فيه مهيمنة عليه، فيكره النص على أن يقول ما لم يقله أصلا.

غير أنّ هذا المسلك من التحليل ( على اختلاف التسميات التي وضعت له بنيويا كان أونصّانيّا أو سيميائيا أو تشريحيا أو هيكليا أو أسلوبيا...) لم يكن ناجحا في جميع تطبيقاته، ولكنه مكّن الخطاب النقدي العربي في قطاع السرد الروائي على الأقلّ من تجاوز المسلكين السابقين (المشار إليهما أعلاه) تجاوزا لا عودة فيه. ولكن مع ذلك لا بدّ من الإشارة إلى أنّ هذا النقد قد تمّ جلبه من سياق غربيّ متأثر بالتقدم في العلوم الإنسانية الحديثة ولا سيما علم اللسانيات، وقد كسدت سوقه في الغرب، إلاّ أنّ الأكاديميين العرب ظلّوا يعضّون عليه بالنواجذ إقرارا منهم في وعيهم أو لاوعيهم بأنّ لحظة التجاوز في السياق العربيّ لم تحن بعد. فكان أن عاش النقد الوصفي في الأوساط العربية بعد أن انتهى عمره الافتراضي في الوسط الأصليّ الذي نبت فيه ونما وترعرع.

غير أنّ نسق المواكبة لم يعد بطيئا منذ عقد من الزمن تقريبا، إذ أصبح النقاد العرب للرواية العربية قادرين على التأثر بمدارس جديدة، يبدو أنها اكتسحت المجال لتخلف ما أسميناه النقد الوصفي. فظهرت محاولات في النقد القائم على جماليات التقبّل (الألمانيّ) أو النقد الثقافيّ (الأمريكيّ) فضلا عن بقاء فروع أخرى من النقد الوصفي أو المندرج ضمن الأدب أو النقد المقارن. ممّا يجعل الناظر في الساحة النقدية العربية يقف على تعايش بين مسالك نقدية متباينة ومتداخلة. تعصف ببعضها رياح التغيير القادم من الغرب، خصوصا مع غزارة الكتب التي تصدر مشرقا ومغربا تترجم المناهج الحديثة تقديما وتطبيقا ونقدا. ولا غرابة أن تظلّ محاولات نقد النقد على قلّتها في الوقت الراهن ضرورية بل ملحّة لتقويم الممارسات النقدية الحالية ولتبيئة المستحدثات النظرية في فنّ النقد الروائيّ.