يرى الناقد اللبناني المرموق أن رواية رشيد الضعيف الجديدة تشكل ظاهرة فريدة في حضارة البطولات المثاليّة التي تعوّدناها، حيث تُسلَّط الصراحة على سقطات الآخرين، وإنْ هي مسّت المؤلّف نفسه فبما لا يخدش صورته الاجتماعيّة بشكلٍ جدّي. لأن الرواية تكتب الحقيقة الذاتيّة بجرأةِ جُرحِها الوجوديّ وعُريها الفنّي وأعماقها الإنسانيّة.

«ألواح» الميتاقص واستكناه الذات وبلاغة التعرّي

أسعد خيرالله

في رواية «ألواح» مكان للميتاقص فالكاتب يُسر بما يدفعه للكتابة، وما يسبق الكتابة. والألواح من عشرين لوحاً لكل منها بنيته المتكاملة. والرواية عبارة عن تعرية للذات وتقديمها بكل نقائضها وضعفها. قد تكون «ألواح» رشيد الضعيف من أعمق رواياتنا الحديثة، فكريًّا ونفسانيّاً، ومن أمتن أعماله سبكاً وترابطاً، فأجزاؤها تتداخل وتتسلسل بشكلٍ يجعلها «روايةَ تكوين» متماسكة إلى حدّ بعيد. ولا شكّ أنّ لوحة الغلاف، «أرلوكان» لبيكاسو، خير تمثيل لبنية الرواية: ألواح منفصلة، كلٌّ منها مستقلٌ بموضوعه ومكتفٍ بذاته، لكنّه منضوٍ ضمن مجموعةٍ تشكّل كلًّا مركّب العناصر وموحّدَ الرؤيا.

تضم الرواية اثنين وعشرين لوحاً، بعضها من صفحة أو صفحتين معظمها في أوّل الرواية وآخرها، وأهمّها يدخل في باب الميتاقصّ (ما وراء القصّ)metafiction  يشرح فيها المؤلّف ـ الراوي دافعَه إلى كتابة هذه الرواية ـ السيرة الذاتيّة، ومفهومَه الخاصّ لمعنى الكتابة وغايتها. وهناك ألواح متوسّطة الطول، معظمها في أمور جانبيّة وطريفة. أمّا الألواح الطويلة فتعالج أحداثاً مفصليّة أو شخصيّات مركزيّة في الرواية، كألواح «العشاء» (ص26) و «براءة والدتي» (ص18) و «ناتالي» (ص35).
تطرح الرواية إشكاليّتها منذ اللوح الأوّل، «حقيقتي»، وهي إشكاليّة الحقيقة والعداوة والضياع في كون مهدّد بالزوال، ثمّ تتابع هذه الإشكاليّة في محطّات منتقاة من حياة الراوي، إلى أن تصل في النهاية، لا إلى حلّ لها، بل إلى أقصى الإحباط والإنهاك، لكن دون استسلام. فالراوي مصمّم على المقاومة والانتصار في وجه كلّ العداوات والخيانات، وهذا التصميم هو السلك الذي ينتظم الألواح المجسِّدة لتجارب أسهمت في تكوين شخصيّته ونظرته في الوجود. وأُولى تجاربه كانت نشاطات نضاليّة أصابته بالخيبة من السياسة ومن «الفلسفات المفسّرة للتاريخ ـ من تلك التي تنير الطريق لتغيير الحياة الدنيا، أو تلك التي تنيرها للفوز بالحياة الأبديّة» (ص 8). وهذا ما يصوّره في اللوح الثاني، «الكيّ»، معبّراً عن تحوّل جذريّ في مسيرته: «لطَعَتْنِي السياسة، كوَتني ولم أشفَ من كيّها بعد ... واعتزلتُ كلّ نشاطٍ عام، وانصرفتُ إلى كتابة الرواية والتعليم» (ص 8). وهكذا سيركّز، كتابةً وتعليماً، على تمزيق الخطاب المصاحب للمواقف والنظريّات التي خذلته، وذلك بدءاً من الوعي الحادّ بأنّ الأرض صغُرت إلى درجةٍ لا «تسمح لعاقل بأن يتخيّل سرّاً يبني عليه نظرة خرافيّةً لهذا الكوكب». لذلك «علينا ابتداع بلاغة جديدة ... خرافة جديدة ... لأنّ الحقائق لا تؤنِس بالضرورة، ولأنّ الوضوح ربّما أخاف أكثر من الغموض بالذات» (ص 8ـ9).

بهذا حدّد المؤلّف ـ الراوي دافعَه إلى الكتابة، وقرّر ابتداع بلاغة جديدة تقوم على الوضوح (وضوح الاعتراف والبوح) بعد البحث العنيد عن الحقيقة الغائرة في أعماقنا، والتي تقودنا دون إرادتنا. حين يصبح السؤال الأهمّ طلبَ الحقيقة والتعبير عنها، يُفتح الباب على الميتاقصّ الذي اعتاده الضعيف، بحيث يُشرك القارئ في تساؤله عن معنى القصّ وجدواه في الوصول إلى أيّ «حقيقة». أمّا الأمكنة التي يذكر فيها عملية الكتابة ومعناها فهي، على قلّتها، مكثّفة إلى درجة تكاد تجعلها بؤرة الرواية وغايتها، حيث يعرض فهمه الخاصّ والغريب للكتابة بقوله «إنّ الكتابة ... إذلال للنفس. إنّها تعرية للنفس وإماتة لها.» (ص 107). بعد ذلك يعيد رأيه بكلام أوضح: «أقول دائماً إنّ الكتابة كثيراً ما تكون إذلالاً للنفس ... إن كثيراً من المشاعر اليومية للناس ممنوعة شرعاً وأخلاقاً ... إن الشعور بها عار فكيف بالبوح بها؟» (ص131ـ132).
التعرية هنا لا تمسّ أسراراً نكتشفها من الخارج، كأن نتلصّص من قفل الباب على المخبّأ في الداخل، بل هي تعرية نفسانيّة يكشف الراوي عبرها عن دخيلائه، وعن عالم لا واعٍ لا يُدرِك أغوارَه ولكنّه يعرف أنّه، كالقدَر، متحكّمٌ بمسيرته. وهذا هو «رأي عالم النفس» الذي «كان يعتقد أنّ كلّ شيء نقوم به هو خيار نختاره بإرادتنا اللاواعية ... وأنّنا نستدعي مآسينا وأنّ هذا متضمّن في تركيبتنا.» ثمّ يضيف الراوي: «وربّما قصد أنّي اخترتُ أن يجري لي ما جرى لي، واخترت أن أكون حطب نار الآلهة العمياء، وأنني لا يد لي في خياري». (ص 85ـ86)
نكاد نشاهد هنا مأساةً يونانيّة تذكّرنا بمأساة أوديب الملك الذي تُقدِّر له الآلهة أن يَقتل أباه ويتزوّج أمّه، وتجعل له في تركيبته «خللًا مأساوياً» يدفعه إلى بحث عنيد عن الحقيقة يستدعي هلاكه. ويبدو أنّ المؤلّف يدخل في لعبة البحث عن الحقيقة بحثاً لا هوادة فيه. فنحن ما زلنا بعيدين عن نهاية السيرة، التي تنتهي معظم حكاياتها في ثمانينيات القرن الماضي، ولا ندري ما يخبّئه لنا المؤلّف من أسرار يصرّ على كشفها، وكأنّه يأخذ بالنظريّة التي يذكرها في اللوح الأخير، «الكتابة والعلاج»، والتي تعدّ «الكتابة نوعاً من العلاج للأزمات النفسيّة التي يعانيها الكاتب» (ص 158)، وذلك بتحريره من العواطف والضّغوط المدمّرة. ولكنه يذكر لفعل الكتابة إمكانات أخرى، في قوله: «وقد تكون لقهر الأعداء. وقد يكون الأعداءُ الكتّاب المنافسين، أو المرأةَ المحبوبة ذاتها.» (ص 158)
الكتابة، إذًا فعل تطهير (كاثارسيس) ، كما فهمه أرسطو في المأساة وبخاصّة عند المتلقّي الذي يشارك الشخصيّة المسرحية مخاوفها وآلامها، فيتطهّر منها. ولعلّ الضعيف يتّكل على هذا الفعل عندما يقدّم للقارئ مشاهده العنيفة وحكاياته المحبِطة، إذ نادراً ما كتب بهذا العنف والتعرّي في كشف الخبايا الذّاتيّة والعقبات الاجتماعيّة التي أسهمت في تكوين شخصيّته، وطوّرت نظرته إلى الحياة. حاجته الماسّة إلى قول «الحقيقة» قلّما أبرزت مخالبها إلى هذا الحدّ. ومن أوضح الأمثلة على إمعانه في تمزيق الأوهام تلك اللوحات الناتئة التي تصوّر وحشيّة الأولاد في تعذيب الكائنات الضعيفة؛ الأولاد، أي عنوان البراءة والطيبة بحسب المثاليّة الخادعة. كذلك اللوحات الساخرة والمميّزة بطرافتها ورشاقة وصفها، مثل «وفاة عمّي» والتنافس على دفنه، لا احتراماً للطقوس الدينيّة، بل طمعاً بميراثه. ومثل «وفاة مريم» وتهريبها ليلاً من نافذة المستشفى تخلّصاً من «دفع التكاليف».

بنية الرواية وبلاغتها
تتكوّن الرواية من وحدات (مراحل) أو لوحات تكاد تكون منفصلة إلّا من ارتباطها بالراوي وبالشخصيّات الرئيسة في حياته، أبيه وأخيه يوسف، وبالأخصّ أمّه، نبع «البراءة القاتلة والقتيل». ثمّ إنّ الربط بين هذه الوحدات تقوّيه بعض الموتيفات الدالّة (اللايت موتيف)، كما نرى في عودته المتكرّرة إلى السخرية بالبلاغة التقليديّة؛ وذكر التفجّر والانفجار من شدّة الامتلاء أو شدّة الغضب؛ وموتيف الضياع و«التضعضع»، كما يسمّيه. وأهمّ هذه الموتيفات متعلّق بالمدلول الأخلاقي للحقيقة وبسهام الغدر والعداوات التي تنصبّ على الراوي فتصبح الدافع المحرّض الذي فرض عليه رؤيا جديدة تشدّ أواصر الرواية وتُكسبها تجاوبا داخليّاً بين أجزائها الظاهرة الاستقلال.

ليس في الرواية تطوّر عضويّ، فالتسلسل الزمنيّ تتخلّله فجوات وقفزات كثيرة. أمّا تداخل الأزمنة فلا يضير الألواح، إذ نستطيع قراءتها كوحدات قائمة بذاتها. ولعلّ قصّة «ثريّا» من أفضل الأمثلة على استقلال الألواح، رغم انتمائها إلى تنشئة الفتى في مراهقته إذ يشاهد امرأةً عارية لأوّل مرّة. ولا شكّ أنّ المشهد رائع بذاته، يمكنه أن يتحوّل إلى لوحة زيتيّة تُظهر المراهق المسحور أمام المرأة العارية، وتركّز على النظرة المتبادلة بينهما. كذلك يُعد لوح «ناتالي»ّ أفضل مثالٍ على البنية التامّة لكلّ لوحة بذاتها، فهي قصّة كاملة لعلاقة معيّنة، بشتّى أنواع الجاذبيّة والتشوّق والشهوة العاصفة، ممزوجة بالريبة والخوف والحسد المكتوم، والحيرة واليأس، وتحوّلات العلاقة بين رجل عربي وامرأة فرنسيّة. وهي في اكتمالها أوجز وأغنى نفسيّاً من «قنديل أم هاشم» ليحيى حقّي، مثلًا، إذ لا تشغلها الشؤون العقائديّة، ولا التوفيق بين العلم والإيمان، بل تركّز على عشق ملتهب يعقّده تحرّر المرأة الغربيّة إلى درجة لا يتحمّلها الرجل الشرقيّ، رغم استعداده للتنازل عن الكثير من شروط «رجولته».
ورغم ما يظهر من استقلال الألواح تظلّ الرواية شديدة الترابط، يجمّعها الدافع المحرّض على الكتابة وهو الشعور المضني بالخيانة والغدر، الذي يجعل المؤلّف في صراع مع التاريخ والقدر. وبما أنّه لا يستطيع محاربة القدر، فهو يكافح كي لا تتغلّب عليه خيانة الأصدقاء وأذيّة الأعداء. إنّ معركته الفعليّة هي مع مفهوم «الحقيقة» وما يحتويه من أوهام وتركيبات خرافيّة، ومع «بلاغة» التلفيق والتزوير. لذلك يصبّ غضبه وسخريّته على الأساليب البلاغيّة ومتاهات ألعابها الكلاميّة. أمّا بلاغته البديلة فهي بلاغة الوضوح، بلاغة الاعتراف والتعرّي.

البوح
الكتابة الاعترافيّة ليست جديدة في أعمال رشيد الضعيف، فالبوح يُعدّ ميزة أصيلة في أسلوبه ويشكّل موقفًا مبدئيّاً في نظرته إلى الفنّ الروائي. وهو يرى أنّ خلق شخصيّة روائيّة ملتبسة بشخصيّة المؤلّف لعبةٌ فنّية تتطلّب الكثير من الحنكة كي تغني النصّ وتحرّك فضول القارئ، الدائم الرغبة في التلصّص واكتشاف المخبّأ، فضلًا عن شعوره بنوع من العلاقة الحميمة بالمؤلّف. ولغة الاعتراف لديه معروفة بأسلوبها الطازج المفاجئ الذي يجمع سلاسة الكلام المحكي إلى متانة العبارة، والذي يتميّز بلقطات سيكولوجية عابرة تنبع من أعماق النفس الإنسانيّة، وتتدفّق ببساطة وكأنّها ملاحظات عاديّة. غير أنّ الضعيف غالباً ما يوظّف «الاعتراف» للدلالة على الالتباس الجذريّ بين الواقع والمتخيّل، إذ يقرّبك كثيراً ممّا يبدو حقيقة شخصيّة أو تاريخيّة (كأن يذكر اسمه الشخصيّ أو أسماء أشخاص معروفين أو أحداث مشهورة)؛ لكنّه سرعان ما يُدخل في كلامه ما يجعل قوله السابق في حكم المستحيل. وهذا كلّه يصعّب على الناقد التفريق بين شخصيّتَي الراوي والمؤلّف. ولعلّ الأفضل هنا أن نتحدّث عن «الراوي ـ المؤلّف» وعن «الرواية ـ الذّاتيّة».

لقد نجح رشيد الضعيف في خلق شخصيّة روائيّة من أعقد وأغرب ما نعرفه في رواياتنا، شخصيّة الراوي الذي توصله تجاربه المريرة إلى موقفه الكلبي(cynic)  من ادّعاءات الفضيلة، فيتصدّى لها فاقئاً بتشكُّكه حبوب قيحها (كما كان يفعل في طفولته)، بل متطرّفاً في رؤية الخديعة حتّى في البراءة، متّهماً كلّ من لم يحذّره من الخداع، بدءاً بوالدته التي يرفض أن يزور قبرها، لأنّ براءتها المـُعدِية جعلته عرضة للخيانة والأذى. إنّ هذا الموقف يخلق روايةً ذاتيّة لا تكتفي بالصراحة، بل تزيح ورقة التين عن عُري صاحبها. وهذه ظاهرة فريدة في حضارة البطولات المثاليّة التي تعوّدناها، حيث تُسلَّط الصراحة على سقطات الآخرين، وإنْ هي مسّت المؤلّف نفسه فبما لا يخدش صورته الاجتماعيّة بشكلٍ جدّي. ولذلك يكاد يستحيل أن نقع في أدبنا على رواية ذاتيّة تنتهي كما تنتهي «ألواح»:
«لن تغلبني طعنة في الظهر ولا جنون مفاجئ، ولا خبثٌ مجرم ... ولا عداوة كاتب ولا كتابة عدوّ ... ومع ذلك فإنّ وجهي الآن مطفأ ... عيناي مطفأتان كوجهي. ووجهي وجه كلب كبر بالعمر وتدلّى لحمه. أمّا الفرق بيني وبين والدي فهو أنّه مات سعيداً.» (158 ـ 159). هكذا ينتهي القسم الأوّل من رواية ذاتيّة يبحث فيها المؤلّف عن حقيقته. ورغم محاصرته بالأعداء وأرقه الذي سيتسبّب بموته قبل الأوان نجده يجزم بأنّه سيتغلّب على كلّ أنواع الخيانة والظلم. مُعلنًا أنّ الدافع الذي حرّضه على كتابة هذه الرواية لن يبقى طيّ الكتمان، وإنّما يؤجِّل الكلام عليه، الأمر الذي يعدنا بكشوف جديدة في كتابة الحقيقة الذاتيّة بجرأةِ جُرحِها الوجوديّ وعُريها الفنّي وأعماقها الإنسانيّة.