تتناول الكاتبة اللبنانية موضوع الأحلام. وتمر على الكيفية التي تمت بها مقاربة وتفسير الأحلام من قبل علماء النفس كفرويد وفروم، لتخلص إلى التأكيد على الأبعاد الرمزية والروحانيّة، ومناورة الكائن البشري عبر الظهورات الحلمية الصوفانيّة، كما تستبين تواشج عالمي تاناتوس وهيبنوس وتفاعلهما.

تفاعل الأحياء والأموات في المنامات

جنى حاتم الدهيبي

كلّنا ننام، وكلّنا نحلم، ومن منّا لا يتذكر مناماً واحداً على الأقل في حياته، ويأخذ مساحة واسعة من تفكيره؟؟

فهل يعتبر من العبث الاستهانة بالمنامات واعتبارها مجرّد أضغاث أحـلام؟؟

وحين يمرّ طيف عزيز راحل في غفوة ليلنا، كيف يكون شعورنا لحظة تتفتح أعيننا إثر مداعبات ضوء الصباح المعطر بذلك الطيف؟

سلطان المنام ذو شأنٍ عظيمٍ على حياتنا، فهل الأحلام ذات معنى وذات مغزى أم لا؟

إن هذه الإشكاليّة برزت منذ القدم في كتابات علمائنا، ودخلت دهاليز علوم النفس والدين والوعي واللاوعي، وكانت مساحة للأخذ والردّ في استخلاص النظريات والمفاهيم لهذا العالم المتشعب في دلالته وأبعاده.

إلى حين أن جاء مؤسس علم التحليل النفسي "سيغموند فرويد" صاحب الكتاب الشهير "تفسير الأحلام"، ليثبت المفهوم القديم جازما أن "الأحلام ذات معنى وذات مغزى"، وأنّ أحلامنا تعبيرات عن مكنوناتنا الداخلية وخوالجنا الذاتيّة.

إن تجريد الأحلام من قيمتها، وسلخ مضمونها عن قالبها، واستئصال جوهرها من شكلها –وإن كان غير محسوس- ليس إلاّ تغاضٍيا عن "حقيقة الحلم"، فكلّ الأحلام قابلة للفهم والتفسير شريطة أن نملك المفتاح، وحين يستعصي علينا الفهم والتفسير نكون قد افتقدنا هذا المفتاح.

كيف نفهم ونفسر الحلم إذا؟

لا بدّ أولا، من فهم لغة الحلم والقوانين التي تحكمه، فهل للحلم لغة اختصّ بها، وهل له قوانين تتحكم بزمام أموره ومجرى أحداثه، كيف يمكن أصلا الاعتقاد بلغة الأحلام وقانونها طالما أنها تنتمي حسب اعتقادنا إلى اللاوقع، وإلى فترة النوم حيث لا حول لنا ولا قوّة؟

لقد استفاض "ايريش فروم" في كتابه "اللغة المنسية" في فكّ شيفرة الأحلام ومسح الغبار عن الجوانب الخفيّة لتحويلها إلى جليّة ساطعة سطوع الشمس، وفي هذا المقال المتواضع لسنا بصدد البحث في كتابه البديع، وإنّما الغاية هي تناول بعض النقاط التي تعتبر عتبة لتفسير الأحلام، أو هي الإطار العام لكل حلم.

فلغة الحلم حسب "فروم" هي لغة رمزيّة، واعتبر أن اللغة الأجنبية التي يتوجب على المرء تعلّمها مباشرة بعد لغته الأمّ هي "اللغة الرمزية"، والصورة التي نراها في الحلم هي رمز لشيء شعرنا به.

ولكن، ما هو الرمز؟

عرّف "ايريش فروم" الرمز قائلا: "الرمزّ يعرّف عموما بأنه (شيء يمثل شيئا آخر). فاللغة الرمزيّة هي اللغة التي نعبّر بها عن التجربة الداخلية وكأنها تجربة حسيّة، وكأنها شيء نفعله أو شيء حدث لنا في عالم الأشياء. واللغة الرمزية لغة يكون فيها العالم الخارجي رمزا للعالم الداخلي، رمزا لأرواحنا وأذهاننا"

وبناءً على هذا التعريف، نستخلص أن الحلم هو رمزٌ، أي القشرة الخارجية لمعنى الحلم، والمضمون هو المرموز إليه أي لبّه الداخلي، فالأحلام كلها ذات معنى مهما بلغت أقصى درجات السذاجة والبساطة، إنها رسالة مبطّنة من عالم الأحلام إلى عالم اليقظة، ورغم أن النوم هو ((شقيق الموت))، وإننا حين نكون نياما نتشبه بجثّة هامدة أو بالملائكة التي لا تخضع لقوانين الواقع، إلا أن النوم هو الفترة الوحيدة التي نتفاعل بها مع أنفسنا، ونتحرر من قيود الزمان والمكان، لينحصر مجهودنا الذهني حول أفكارنا ومشاعرنا المنسيّة-المكبوتة. وفي هذا السياق يقول فروم:"إن للنشاط الذهني في أثناء النوم منطقا مختلفا عنه في أثناء اليقظة".

لكنّ الحلم، لا يعبّر دائما عن عواطف ذاتيّة غير عقليّة، فأحيانا يكون الحلم رسالة إلى الآخر الذي لم يشاركنا في هذا الحلم، ونكون نحن الحالمين مجرّد وسطاء، يشبه ساعي البريد، إنّه أمانة من الواجب تأديتها، فكم من أحلامٍ غيّرت مجرى العلاقات، وقولبت أمما وحضارات، وكم من أحلام لعبت دور الخير والشرّ؟

تاريخ الأحلام حافل منذ فجر الإنسانيّة وظهور الإسلام، وتراثنا العربي شائك بأخبار الحالمين، أما الظاهرة التي جذّبت الدارسين، وحفّزتهم على تدوينها وسبر أغوارها، هي ظاهرة تفاعل الأحياء والأموات في المنامات،  ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلّم :"الناس نيام إذا ماتوا انتبهوا"!

فهل تلتقي حقا أرواح الأحياء وأرواح الأموات أم لا؟

يقول الله تعالى في كتابه الكريم :" للَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ۖ فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴿٤٢﴾  سورة الزمر.

كما جاء على لسان أحد الصحابة "أن أرواح الأحياء والأموات تلتقى في المنام، فيتساءلون بينهم فيمسك الله أرواح الموتى، ويرسل الأحياء إلى أجسادها".

إن هذا الإنفصال الظاهري بين الأحياء والأموات لا يقف عقبة دون حدوث المقابلات والتعايش بين فريقيّ الموتى وبين أولئك السائرين في طريقهم إلى الموت.

كلنا خضنا تجربة رؤية الأموات في أحلامنا، وإن لم نخضعها سمعنا عنها من أحد الأقرباء، ولكن مما لا خلاف عليه هو "هيبة" هذه المنامات، كيف لا نستشعر هذه "الهيبة" ونحن نرى الجثث الهامدة أجسادا شامخة تنبض بالحياة، تتكلم وتتفاعل وكأنّها انتفضت من تحت التراب!

أما الصدمة الفجائية تحدث في اللحظة الفاصلة بين هذا الحلم والواقع، إنّها لحظة عصيبة، تتطلب منّا لملمة وعينا المتشتت، لنسترجع يقيننا أن الأموات أموات، وأن ما رأيناه نسجته خيوط الخيال اللاواعية.

إنّ رؤية الأموات لها قدسيّة وخاصيّة دلاليّة تنفرد بها عن باقي الرؤى والأحلام، هذا ما تؤكده المستشرقة الألمانية "أنّا ماري شميل" في كتابها "أحلام الخليفة" الذي تحدثت فيه عن تاريخ الأحلام الإسلاميّة، ضمن دراسةٍ شاقةٍ وشيّقة، فلم تترك زاوية من زوايا الأحلام في التراث الإسلامي إلاّ دخلتها وحللتها، ما ينمّ عن ثقافتها المتميّزة ومعرفتها البالغة لبطون هذا التراث.

تناولت "أنّا ماري شايمل" رؤى عديدة أزالت فيها الستار عن المتواري منها، ومن بين هذه الأحلام، رؤيا يسردها عالم الفقه الحنبلي "ابن البنا" يرجع تاريخها إلى عام 1069م، سردتها كالآتي: "رأى "ابن البنا" في منامه ذات ليلةٍ وهو في بغداد، أنّ عالما كبيرا من علماء الفقه كان يهرول أمامه في حشدٍ من الناس فبحلق به معجبا بجماله وحسن مظهره وفي جبته وطيلسانه، وقد بدا بزينة رائعة وعطر فوّاح...ولكن عندما دقق"ابن البنا" اكتشف أنّ العالم الجليل لا يرتدي حذاءً، فصاح عليه متعجبا: " هل تمشي حافي القدمين؟"، ردّ عليه بنبرةٍ حزينةٍ قائلا: "هكذا يمشي من كان مستضعفا في الأرض".

ما لبث "ابن البنا" أن استيقظ في غفلةٍ من نومه، حتى علم أنّ حشودا من الناس الفقراء تتظاهر على قارعة الطريق، أمام بيت المال منادين برفع الظلم عنهم واضطهاد الحكام لهم، وبخفض الضرائب، التي لم تعد تحمل ثقل كاهلها جيوبهم الفارغة، وكأنّ رؤيته كانت بمثابة تكليفٍ بالشدّ على أيديهم، وتوصية بإنصافهم أمام أولئك الظلّام، شعر "ابن البنا" بمسؤلية تجاههم، فرفع كتابا إلى الخليفة ساردا له تفاصيل رؤياه، مطالبا إيّاه بإقرار الحقّ وفرض العدالة"، ومنذ تلك اللحظة تحوّل "ابن البنا" إلى صوت المستضعفين ولسان حالهم.

وهناك أيضا، من يستخدم الأموات في ابتكار الرؤى وفبركة حوارات مناميّة جرت مع من انتقلوا إلى رحمة الله، كوسيلة ماكرة للوصول إلى مآربهم الخبيثة، باعتبار أن كلام الاموات له قددسيّة سامية لا يمكن المساس بمكانتها الرفيعة، ففي سياق آخر تسرد الكاتبة رؤية أخرى ترد في الأدب العربي الحديث، جاء فيها: "أن الأديب المسيحي (السقال) من مدينة حلب، قد رأى في المنام وكأن أباه_الذي كان قد مات منذ فترة طويلة_وكأنه ينتقد حكومة بلاده انتقادا لاذعا (ومن المحتمل أن يكون هذا الأديب قد ابتكر هذه الرؤيا في كتابه ليجعل منها مدخلا مموها للتعبير عن آرائه السياسية)".

أحلام كثيرة على هذا المنوال لعب الأموات فيها دورا في تغيير مصائر الأحياء، فكم من إخوةٍ تصالحوا بعد خصام سنين بفضل طيف والدٍ ألزم أحد أبنائه بلمّ شمل العائلة، وكم من أُناسٍ تابوا واستقاموا بعد تحذيرٍ مناميّ من عزيزٍ فقدوه؟

ونختتم مقالنا هذا  ببعض الأبيات لأحد الشعراء:

تهجع بالليل فتبصر ضوء النهار في المنام * * وترقد بالنهار ليظهر ليلك في الأحلام

من تراه في الحلم ميتا حيّ يعيش في دعة * * ومن عن الدنيا قد رحل في المنام أتاك