يرى الباحث أن الفارابي يلوذ باليوتوبيا في عصر الاضمحلال، ويستبين تناصاً بين "آراء أهل المدينة الفاضلة"، وبين جمهورية أفلاطون. ويلاحظ أن الدولة التي يدعو لها الفارابي مثاليّة، فمجتمعها يقوم على المدينة التي تتحقق فيها الكمالات الإنسانية بفعل تلاحم أفرادها، وعلى رئيس يتمتع بخصال خاصة فطرية وإرادية.

المدينة اليوتوبية عند الفارابي أبي نصر

(260-339هـ/ 874-950م)

عبد الحكيم درقـاوي

يعد الفارابي مِن أوائل مَن عنى من فلاسفة المسلمين بإصلاح نظام الحكم، في كتاب "أراء أهل المدينة الفاضلة". وقد جاءت آراؤه متناصة بجمهورية أفلاطون. والدارس للفكر الفارابي السياسي سيَلْحَظ أن الدولة التي يدعو لها، هي دولة مثالية/ خيالية تكشف عن عدم قابليته للأوضاع القائمة في بداية القرن الرابع الهجري، حيث أخذت الدولة العباسية في الاضمحلال وخاصة في عهد المقتدر(295-320هـ/ 908-932م). وقد صاحب هذا الاضمحلال تمزق على مستوى الوحدة السياسية للدولة الاسلامية، ولا سيما بعد أن ظهر للشيعة العلوية دولة بمصر والشام وبلاد المغرب واستقر الأمر في الدولة العباسية لأهل السنة، فصارت كل دولة تضطهد في بلادها كل الفرق المخالفة لها عقديا.

هذه الأحداث المخيبة في التاريخ الإسلامي دفعت الفارابي، وغيره من المفكرين، يتأسى بأفلاطون وأغسطين وغيرهم في نظرياتهم اليوتوبية، ساعيا لقيام مدينة فاضلة يعيش في ظلها وتحت كَنَفِها مجتمع مختلف الأطياف ومتباين العقائد.

ولما كان المجتمع الفاضل هو أساس نظرية الفارابي السياسية، فإن هذا المجتمع يقوم على ركيزتين أساسيتين:

الركيزة الأولى: المدينة الفاضلة والهدف المنشود:

فقد ذهب الفارابي إلى أن الإنسان مدني بجِبِلته وأن هذه المدنية لا تكون لها كينونة إلا بـ(الاجتماع البشري)، ذلك أن الإنسان لا يبلغ مبلغ الكمال والسعادة في الآل والمآل (الدنيا والآخرة) إلا بالتعاون مع أناس آخرين، فيقول في هذا الصدد: (وكل واحد من الناس مفطور على أنه محتاج في قوامه وفي أن يبلغ أفضل كمالاته إلى أشياء كثيرة لا يمكن أن يقوم بها كلها وحده، بل يحتاج إلى قوم يقوم له كل واحد منهم بشيء مما يحتاج إليه، فلذلك لا يمكن أن يكون للإنسان الكمال الذي لأجله جعلت له الفطرة الطبيعية إلا باجتماعات جماعة كثيرة متعاونين يقوم كل واحد لكل واحد ببعض ما يحتاج إليه في أن يبلغ الكمال)(أراء أهل المدينة الفاضلة، ص71).

من كلام الفارابي أعلاه نشير إلى نقطتين أساسيتين:
الأولى: إن ما قال به الفارابي يتماشى مع ما قرره أفلاطون على لسان سقراط، في كتابه"الجمهورية"حيث قال:(أرى أن الدولة لا تنشأ لعدم استقلال الفرد بسد حاجاته بنفسه، وافتقاره إلى معونة الآخرين. ولما كان كل إنسان محتاج إلى معونة الغير في سد حاجاته،و كان لكل منا احتياجات كثيرة، لزم أن يتألب عدد منا، من صحب ومساعدين في مستقر واحد، فنطلق على ذلك المجتمع إسم الدولة أو المدينة) جمهورية أفلاطون، ترجمة حنا خباز، ص56.

كما قرر ارسطو كذلك أن الإنسان (حيوان اجتماعي بطبعه)، (فهو لا يستطيع أن يعيش بمعزل عن بني جنسه في مجتمع سياسي منظم يطلق عليه اسم الدولة أو المدينة)السياسة لأرسطو، ترجمة أحمد لطفي السيد، ص56.

الثانية: إن نظرية (الاجتماع البشري) التي قال بها الفارابي، قال بها أيضا بعض مفكري وفلاسفة الإسلام:

- ففي كتابه "أدب الدنيا والدين" تحت فصل "ما يصلح به حال الإنسان في الدنيا"، قَعَّد الماوردي (364-450هـ/ 974-1058م) قاعدة سماها بـ(الألفة الجامعة)، فقال: (وأما ما يصلح به حال الإنسان فثلاثة أشياء. وأما القاعدة الثانية وهي الألفة الجامعة: فلأن الإنسان مقصود بالأذية، محسود بالنعمة. فإذا لم يكن آلفا مألوفا تخطفته أيدي حاسديه، وتحكمت فيه أهواء أعاديه، فلم تسلم له نعمة، ولم تصف له مدة. فإذا كان آلفا مألوفا انتصر بالألفة على أعاديه، وامتنع من حاسديه، فسلمت نعمته منهم، وصفت مدته عنهم، وإن كان صفو الزمان عسرا، وسلمه خطرا).

- وفي مقدمة كتابه "الحسبة" يذهب ابن تيمية (661-728هـ/ 1263-1328م) في هذا الصدد، قائلا: (وكل بني آدم لا تتم مصلحتهم لا في الدنيا ولا في الآخرة إلا بالاجتماع والتعاون والتناصر، فالتعاون على جلب منافعهم، والتناصر لدفع مضارهم، ولهذا يقال: الإنسان مدني بالطبع، فإذا اجتمعوا فلا بد لهم من أمور يفعلونها يجتلبون بها المصلحة، وأمور يجتنبونها لما فيها من المفسدة).

- ونجد البَحَّاثَة ابن خلدون الاشبيلي (732-808هـ/ 1332-1406م) في مقدمة ديوانه "المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر"، نجده يؤكد على (المَوَاعِين) التي تساهم في (العمران البشري)، وذكر من هذه المواعين، ضرورة (الاجتماع البشري). يقول ابن خلدون: ( الاجتماع الإنسانيّ ضروريّ ويعبِّر الحكماء عن هذا بقولهم الإنسان مدنيّ بالطّبع أي لا بدّ له من الاجتماع الّذي هو المدينة في اصطلاحهم وهو معنى العمران.. فلا بدّ من اجتماع القَدْرِ الكثيرة من أبناء جنسه ليحصل القوت له ولهم فيحصل بالتّعاون قدر الكفاية من الحاجة لأكثر منهم بأضعاف وكذلك يحتاج كلّ واحد منهم أيضا في الدّفاع عن نفسه إلى الاستعانة بأبناء جنسه).

فالمدينة الفاضلة التي ينشدها الفارابي هي المدينة التي تتشكل من تلاحم وتعاون وتناصر أفرادها وتكوينهم بذلك مجتمعا يصلح لتحقيق الكمالات الإنسانية.

وتجدر الإشارة أن الفارابي رغم جعله "المدينة" أول مراتب الكمال في الاجتماعات البشرية، إلا أنه لم يجعلها المرتبة الفضلى على الإطلاق، بل إنها يسبقها مراتب أخرى أكثر كمالا وتحقيقا للفضيلة والسعادة، فنجده في هذا الإطار يقسم المجتمعات الكاملة إلى أنواع ثلاثة: عظمى، ووسطى، وصغرى.

- أما المجتمعات العظمى: هي اجتماع الأمم على نطاق الجماعة الإنسانية في المعمورة كلها، ويَعُدُّ الفارابي هذا النوع أكمل أنواع المجتمعات.

- أما المجتمعات الوسطى: هي مجتمع كل أمة على حدة.

- أما المجتمعات الصغرى: هي الاجتماع البشري في مدينة معينة. فيعتبر بذلك أن المدينة هي نقطة بدء الاجتماع البشري. ويعبر الفارابي عن ذلك بقوله: (فالخير الأفضل والكمال الأقصى إنما ينال أولا بالمدينة لا بالاجتماع الذي هو أنقص منها). ويقصد بقوله: (الاجتماع الذي هو أنقص منها) التجمعات البشرية التي تتخذ صورة أنقص من المدينة وتشمل تجمعات القرى والسكك والبيوت.

وعموما فالفارابي يتطلع بتقسيماته السابقة إلى وجوب وجود الترابط والانسجام بين المجتمعات بأنواعها لتحقيق الهدف المنشود، (السعادة).

ويصور لنا الفارابي هذا الترابط والانسجام بين أجزاء مدينة الفاضلة بالبدن التام الصحيح الذي تتعاون أعضاؤه، كل عضو حسب وظيفته؛ فالمدينة الفاضلة أشبه ما تكون بالهرم، في قمته رئيس المدينة وبين القمة والسفح توجد طبقات تتفاوت سموا وانحطاطا حسب (الفطرة الطبيعية التفاضلية) لذا نألف الفارابي في كتابه "فصول منتزعة"، يقسم البنيان الاجتماعي إلى أجزاء خمسة:

- الأفاضل: وهم الحكام والمتعقلون وذوو الآراء في الأمور العظام، ومن كان في عدادهم.

- ذوو الألسنة: من خطباء وبلغاء والشعراء، ومن جرى مجراهم.

- المقدرون: وهم الحُّساب والمهندسون والاطباء.

- المجاهدون: الجند والعسكر.

- الماليون: وهم مكتسبوا الأموال من فلاحين ورعاة وباعة.

* * *

الركيزة الثانية: رئيس المدينة الفاضلة:

الركيزة الثانية التي تنبني عليها المدينة الفاضلة عند الفارابي هي: حسن اختيار الرئيس الذي يسوس ويسر شأن الوطن والمواطن. ويمكن القول ابتداءً أنه عند تفتيشنا في كتب الفارابي نجده يولي عناية قصوى بالمؤهلات والملكات التي يجب أن يتصف بها كل من سيسند له أمر الرياسة. ففي كتابه"أراء أهل المدينة الفاضلة" عَدَّدَّ الخصال التي يجب أن ينماز بها الرئيس، وقسمها إلى قسمين، أحدهما أن يكون الرئيس بالفطرة والطبع معدا لذلك، والثاني أن تتوافر لديه الملكة الإرادية.

* الخصال الجبلية:

(1) أن يكون تام الأعضاء.

(2) جيد الفهم والتصور.

(3) جيد الحفظ.

(4) حسن العبارة.

(5) محبا للتعليم.

(6) محبا للخصال الجميلة من صدق وعدل.

(7) لا يكترث بالدنيا والمال.

* الخصال الإرادية:

(1) أن يكون حكيما.

(2) عالما بالشرائع والسير.

(3) جيد الاستنباط والرؤية.

(4) أن يكون له صنعة حربية.

كل هذه الخصال وغيرها التي اشترطها الفارابي لا تخلو من ملاحظات:
- إن هذه الشروط/ الخصال من العسر اجتماعها في رئيس واحد، لذا يقترح الفارابي أنه إذا توفرت هذه الشروط في شخصين (أحدهما حكيم والثاني فيه الشرائط الباقية، كانا هما رئيسين في هذه المدينة، وإذا تفرقت هذه في جماعة وكانت الحكمة في واحد والعِلمِية في واحد والاستنباط في واحد... وكانوا متلائمين كانوا هم الرؤساء الأفاضل).

- إن الفارابي خلط بين نظام الحكم الارستقراطي، حيث يكون الحكم للنخبة، ونظام الحكم الملكي، حيث يكون الحكم لفرد مطلق، فالملاحظ أن الفارابي تأثر بالفكر السياسي الأفلاطوني. فأفلاطون يعتبر أن النظام المثالي هو النظام السوفوقراطي الذي يكون فيه الحكم للفلاسفة والحكماء، وقد يكون لهم رئيس واحد أو أكثر. ويدرج أفلاطون هذا النظام تحت النظام الملكي، بقوله: (أن الارتباط ليس حتميا بين النظام الملكي وحكم الفرد، إذ يمكن أن يكون الحكم في يد عدد محدود ومع ذلك يُعَدُّ ملكي)(أصول الفكر السياسي، ثروت بدوي، 1/197).

- الملاحظة الثالثة أن الفارابي ربط بين السياسة والمعرفة، وهذا ما ذهب إليه ـ أيضاـ أفلاطون:حيث يعتبر أن سياسة الدولة أمر صعب ولا يستطيع القيام بها سوى أهل العلم والمعرفة أي لمن توافرت لديه الفضيلة. ويظهر الارتباط بين السياسة والفلسفة/ الحكمة واضحا في قوله: (لا يمكن تعاسة الدول، وشقاء النوع البشري، ما لم تَتَّحِد القوتان، السياسية والفلسفية في شخص واحد، وما لم ينسحب من حلقة الحكم الأشخاص الذين يقتصرون على إحدى هاتين القوتين)(جمهورية أفلاطون، ترجمة حنا خباز ص193).

إذا فالصفات الرياسية التي اشترطها الفارابي وجودها في كل مسير لدولة ما، هي التي تؤهله بمعية أناس فاضلين وأخيار بـ"وضع النواميس" والقوانين التي تنال بها السعادة القصوى.

وبهذه الصفات ـ أيضاـ يكون الرئيس/ الملك موزعا للعدل بين رعيته، ذاك (العدل التوزيعي) الذي يقسم الخيرات المشتركة في الدولة على المواطنين لا على أساس (المساواة المطلقة الحسابية)، وإنما على أساس (مساواة نسبية وِفْقَ جَدَارَة المواطن وأهليته)، وحسب مهاراته ومردوديته.