بين الحلم واليقظة، الطفولة وأخيلتها يرسم القاص العراقي الجميل عالم تلميذ والكيفية التي ينعكس فيها سوق المدينة بخياله وأحلام يقظته وهو يصور ذلك في درس الإنشاء راسما ذلك العالم ومختزلا السوق بسحر التبغ الآسر.

سوق التبغ

لؤي حمزة عباس

كنا نتوغل في العتمة منفصلين عن ضوء الضحى القوي، وقد أعمتنا شمس النهار قليلاً فأسلمنا نفسينا لكثافة الروائح العجيبة تلفنا بغشاء نتحسس تغيره كلما اندفعنا داخل السوق واتضحت أمام أعيننا الرؤية.. أقف وأُغمض عيني فتتخاطف النقاط الضوئية أمامي بذيولها النارية قبل أن أرفع رأسي وأنظر لتنجيمات أقواس السقف الطابوقية وهي تمدُّ نهايتها ثخينة، متآكلة الحواف، أقرب في استطالات أذرعها الى نجوم البحر منها الى نجوم سماء البصرة، لحظتها كان غسان يعود سريعاً ليسحبني من يدي وهو يتحدّث عن الخيول التي تعميها عتمة السوق فتدوس كلَّ شيء أمامها، نتراكض بين أشباح الباعة والمشترين والحمالين، نخرج من رائحة البهارات الجافة لندخل في رائحة الطرشي الطريّة قبل أن تغطينا رائحة القطن القديم المندوف ثم يصيح: إنها رائحة التبغ، فيطالعنا وجه أبيه من مقدمة الدكان تحت طاقيته المخرّمة وهو يسأل ضاحكاً إن كان الحصان قد داس أحدنا.

كتب الطلاب عن الأسواق: عن سلال الفاكهة والخضروات، عن الثياب المطويّة منها والمعلّقة، وعن الأواني والمعلبات، وكتب أحدنا ـ من يتذكره؟- عن سوق الذهب، وعن النسوة اللائي ترتسم وجوهن على واجهات الزجاج، وكتبتُ عن الروائح تتصاعد فتزيح كلَّ ماعداها، روائح قويّة تهبُّ فتملأ الصف بدفقات متتالية سريعاً ما تختلط فتبدو مثل رائحة جسد إنساني نعرفه لكننا لا نستطيع تحديده على وجه التأكيد. قرأ كل منا موضوعه ورأيت المعلمة تتشاغل خلال قراءتي بقلمها الجاف، دقت على المنضدة دقات متتالية لا صوت لها إنقطعت ما أن أنتهيت لتسألني:
ـ طالما كان السوق يضم كلَّ هذه المواد لماذا سُمي، إذن، سوق التبغ؟
إبتسم الأب وهو يلتفت نحونا داخل الدكان وأجاب:
ـ لأن التبغ ضرب من السحر!

نظرت من حولي الى الأكياس الكبيرة الممتلئة بتبوغ مختلفة دقيقة طرية خضر، وخشنة متيبسة ذات لون جوزي أو بني مائل الى السواد، ثم نظرت الى عيني غسان ولم يكن قد فهم هو الآخر، فقال الأب:
- ترى بائع البهارات يغيّر الطعوم والنكهات، وترى بائع الطرشي يخلط الدبس بالفلفل، والنداف يفصل روائح النوم الثقيلة عن القطن ليعيده حياً من جديد، لكنك لن تعرف، مهما رأيت، سر اليد التي تلعب بالهواء..
سحب كيساً ورقياً عريضاً، أخرج منه ورقة تبغ جافة بحجم صينية طعام متوسطة، وضعها على أصابع يده المفتوحة مثل كأس عريض الحافة ثم مررها أمام أعيننا، أمسكتُ يد غسان وأنا أنظر لجلد الورقة الصقيل الذي لم يكن يشبه بالتماعته النحاسية خضرة أوراق البمبر الجافة أو قتامة أوراق العنب، رفعها الى أعلى وهو يقول:
ـ ستريان سحر الورقة..
نفخ نفخة واحدة فتطايرت الورقة غباراً حلّق في الفضاء قبل أن يمتلئ الدكان برائحة غريبة مدوّخة وأُحسّه يهتز، وأرى الحصان يُحرّك رأسه، وأسمع الأصوات.