يمثل هذا المحور الموضوعاتي أحد المداخل الأساسية للاقتراب من الكتابة النسائية في مجالات الإبداع السردي والشعري، الندوة التي شهدتها كلية الآداب بالدار البيضاء، هي أحد صور الاقتراب من عنصر آخر يتمثل في تخييل الاعتراف عبر استقصاء نماذج منجز إبداعي اختير من تجارب وأجيال متعددة عبر تأمل أهم القضايا التي تناولتها كتابتهن.

الرواية النسوية وتأنيث الاعتراف

رضـوان متوكل

نظم مختبر السرديات بتنسيق مع ماستر السرد الأدبي الحديث والأشكال الثقافية ندوة بعنوان " تخييل الاعتراف في الرواية النسوية"، وذلك صبيحة يوم الجمعة ثامن يناير 2016 بقاعة الندوات عبد الواحد خيري، بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بنمسيك الدار البيضاء.

افتتح الندوة عبد الرحمان غانمي (أستاذ جامعي بآداب بني ملال) رئيس الجلسة والذي اعتبر هذا اللقاء ذا طبيعة خاصة، لأنه يشكل قيمة مضافة من خلال مقاربته لجنس أدبي يتعلق بالكتابة النسوية، ولكونه بحثا عن قضايا نوعية تهم تخييل الاعتراف.

وفي قراءتها لرواية "إيلاف(هم )" لسعيدة التاقي، رصدت الباحثة لطيفة لمغاري من خلال ورقتها التي اختارت لها عنوان "الاعتراف وتابوت الكتابة" سمات البناء الدلالي للرواية، واعتمدت على المدخل الفينومينولوجي للوقوف على العلاقة بين الأنا والآخر، هذا الآخر باعتباره استقرارا وجوديا للذات. ثم على المدخل الأهوائي الذي قاد الباحثة إلى اعتبار أن الهوى المهيمن في الرواية هو هوى الندم، والذي لا يُخلق بمعزل عن مجموعة من التوترات مثل :الوحدة والحزن والشك والغيرة. وخلصت إلى أن الذات الساردة في النص الروائي تلجأ إلى الانسكاب داخل الكتابة باحثة عن رقي وراحة نفسية، لا تتحقق إلا بفعل الاعتراف.

وقدمت الباحثة لمياء جوهري ورقتها " الاعتراف كتابة على الماء "،حول رواية " قبضة ماء "لاسمهان الزعيم، وذلك بالتطرق أولا لمفهوم الاعتراف باعتباره شكلا من أشكال الكتابة، وهو الذي وسم الرواية بشكل خاص، فهو عادة ما يتقصى الأخطاء، ويرتبط بالبوح وبالذات، ويبقى ملازما للذاكرة بحيث يتصل بسجل ماضوي. وركزت الباحثة في طرحها على علاقة الذات بالآخر كقطبين تجمع بينهما ملامح الوعي بالعالم والمجتمع والواقع، لذا فالرواية طافحة بالنسيج العلائقي المتكهرب. وتنتهي الباحثة إلى اعتبار أن الاعتراف في الرواية شكل من أشكال التعري أمام مرآة الحقيقة، وصورة تحررية من حبل المشنقة الذي تلفه الذات الداخلية على الذات الخارجية، كما أنه انفلات من براكين تعذيب الضمير النفسي. 

مداخلة الباحث عبد النبي غزال جاءت بعنوان " ليالي الحرير: صرخة جسد يتحرر" قارب فيها رواية " ليالي الحرير " لعائشة البصري، إذ قدم في البداية إطارا نظريا حول السرد وعلاقته بالتاريخ وبالذاكرة، وعدّ الكتابة مؤسسة للتجربة الحياتية التي تنغمس في الزمن، مستحضرا مفهوميْ الزمنية والهوية السردية كما طرحهما بول ريكور، وجعلهما منطلقا لدراسة الرواية، هذه الأخيرة التي تؤسس متخيّلها على الاعتراف بألم الذات ومأساتها، وعذابات الجسد والفكر. واعتمد الباحث على المدخل الفينومينولوجي  أولا، ركز فيه على دراسة المحكيين الواقعي والخيالي، يؤطرهما محكي الرسالة التي تحكي عن خسارات إرمين النفسية التي ضحت بحياتها وجسدها باسم الحب والوفاء، ومحكي رودريغو وهو محكي أخروي. ثم المخرج التأويلي ثانيا، والذي يلخص خطاب النص الروائي في أن التحرر يبدأ من الجسد وينتهي إليه، فالحقيقة الوحيدة هي الجسد، وإهانة الجسد إهانة للحياة.

أما الباحث محمد فالح فقد عنون ورقته ب " رحلة الضباع رحلة تطهير" حلل فيها رواية " رحلة الضباع"  لسهير المصادفة، وذلك من خلال ثلاثة مداخل أساسية؛ أولا رحلة الضباع رحلة الذات نحو آخرها، اعتبر فيها الباحث أن الروائية تستنطق الذات الذكورية، وتجعلها تبوح بنظرتها المتسلطة نحو المرأة الخاضعة دائما لسلطة المجتمع، وتستنطق، كذلك، ذاتا أخرى أنثوية من خلال رسالة قديمة لإحدى الجدات تحكي فيها عن اعترافات نساء من عصور مختلفة من التاريخ العربي، يحكين تاريخ خضوعهن في سبيل الحفاظ على حياتهن الزوجية. وثانيا رحلة التطهير ، رصد فيها الباحث تحقق الاعتراف من خلال رحلة البوح والتطهر والتسامي عبر فعل الكتابة. وثالثا رحلة الضباع رحلة تشييد النسق الأنثوي، خلص فيها الباحث إلى أن الرواية تبني نسقا أنثويا مضادا للنسق الذكوري الطاغي.

بعد عرض القراءات، تقدمت الروائية اسمهان الزعيم  بشهادة اعتبرت فيها أن هذا اللقاء هو احتفاء بالرواية النسوية، رغم أنها لا تؤمن بتجنيس الأدب إلى أدب نسوي، فالإبداع إنساني.ثم تحدثت عن تجربتها الشخصية، فهي لا تحلم كثيرا في الحياة، لكنها حينما تلج عالم  الكتابة تُحلق عاليا نحو سراديب الحلم. وفي معرض حديثها أفصحت الروائية سعيدة التاقي عن مقاصد الكتابة لديها، فهي أثناء شروعها في كتابة رواية " إيلاف (هم) " كانت نيتها أن تكتب عما يقع (الربيع العربي)، لكن التاريخ والذاكرة قادها إلى الكتابة عن تصورها للحياة. واعتبرت الروائية أن الإبداع يتحدى الموت ويكون بذاك خالدا، إنه وسيلة للمقاومة.

اختتمت هذه الندوة بكلمة شعيب حليفي، وبنقاش غني ساهم في إثراء موضوع الندوة بعديد من التساؤلات والإشكاليات والقضايا المعرفية والثقافية.

نص الشهادة التي بعثت بها الروائية المصرية سهير المصادفة :
عادة لا أخجل كثيرًا عندما يسألونني عن انحيازي النسوي... بل أرى أن كثيرًا من الشعراء والروائيين الكبار منحازون نسويًّا أكثر مني... لأنهم ببساطة عندما ينحازون للنسوية يعلمون جيدًا أنهم منحازون للحياة، والمرأة هي مصنع الحياة، والمرأة هي سادنة الجمال والمَحبة؛ بل هي راهبة معبدها. المدهش حتى هذه اللحظة أن الأعمال الكبرى التي منحت للمرأة آفاقًا أرحب هي لكُتَّابٍ رجال. والانحياز يكاد يكون إجباريًّا الآن، ففي لحظات الانحدار التاريخي والحضاري كما في لحظات الهزائم الناجمة عن الحروب تتحمل المرأة – لكونها بالضرورة الحلقة الأضعف – كلَّ تبعات هذه اللحظة. تتحمل التعدي على أسباب الخصوبة والحياة وتتحمل عدم تحقق الرجل وحصاره وتتحمل كلَّ مشاهد الخراب والقبح الناجم عن هزيمة حضارية ما. وأيضًا في الواقع أرى أن تجاوز الكتابة عن العلاقة الشائكة والثرية والملهمة بين قطبى الحياة – الرجل والمرأة – هو ضربٌ من الخيال. أيضًا أستطيع هنا أن أصرح بما أحبه من تعريفٍ للرواية جاء في قاموس "صموئيل جونسون" منذ عقودٍ ووقفتُ أتأمله كثيرًا "الرواية هي حكاية غالبًا ما تكون عن الحب".

وعن اللغة الشعرية والمجازية في رواياتي، فلطالما كنت أندهش عندما أقرأ لأحد النقاد ما يفيد إعجابه بأن اللغة الروائية في إحدى الروايات هشة وبسيطة ومتخلصة من المجاز والفخامة وثِقل الشِعر، وأظل أتساءل هل هناكَ سباق ما للإجهاز على المقومات الجمالية للغة الروائية؟ وتركْنا وجهًا لوجهٍ أمام حكاياتٍ تكاد تكون شفاهية، أظن أن الفترة السابقة والتي استغرقت أكثر من ربع القرن كانت تتميز بتوجهٍ ممنهجٍ يهدف إلى التخلص من الكتابة نفسها عبر عدة مراحل. فالبناء الروائى تحديدًا ليس بناءً في الحكاية فقط وأحداثها وإنما هو بناء في اللغة أيضًا باعتبارها حاملة للحكاية ومطورة لها أحيانًا وخالقة لها في أحايين كثيرة، ولأن الحكايات ملقاة على الأرصفة وفي حيوات ملايين البشر فإن الإجهاز على اللغة وازدرائها واعتبارها مجرد أنبوب لتوصيل الحكايات هو في الحقيقة قتلٌ مع سبق الإصرار والترصد لمفهوم الكتابة وإعلاء متعمد للشفاهية، وفي "رحلة الضباع" نفسها رصدٌ عابرٌ لهجرة عددٍ من الكُتَّاب والصحفيين من أعمدة المجلات والجرائد إلى شاشات الفضائيات المصرية. أي أنها هجرة من كتابة الآراء والأفكار عبر لغة قد تطور هذه الأفكار والآراء وقد تميز أحد الأقلام عن الآخر إلى جلسات في الهواء الطلقِ من أجل ترديد هذه الأفكار والآراء إلى ما لا نهاية وإلى حدِّ التشابه.

في "رحلة الضباع"، كنتُ مسكونة منذ عدة سنوات بفكرة ذلل بعض الشعوب أثناء صعودها التاريخي من البدائية إلى التحضر. احتلتني فكرة مجنونة بأن ثمة أخطاء تُرتكبُ ولا تُغتفرُ قطُّ. لا يغفرها التاريخ ولا حركة الزمن المنطلقة كسهمٍ أبدي إلى الأمام، وهنا قد لا يكون أمام مَن ارتكب هذا الذلل إلاَّ العودة مرةً أخرى بالزمن على أمل أن يتعامل مع الأحداث بشكلٍ مختلفٍ وقد يصوب وقتها هذا الخطأ وهذا هو كما أرى المستقر في لا وعي أيَّة سلفية. فالإمبراطور بيلاطس البنطي سيظل وفقًا لـ "بولجاكوف" يتمنى لوعاد إلى لحظة صلب المسيح حتى ينجو من الذلل الذي وقع فيه، والغرب مازال يكفر عن لحظة "هتلر" العنصرية إزاء اليهود وذلل القاتل بشكلٍ مبالغٍ فيه، ويعود كلَّ يوم إلى هذه اللحظة ويهيأ له أنه يعمل على تصويبها دون أن ينتبه أنه ينكل بشعوب أخرى بوسائل مختلفة ظاهريًّا ولكنها جوهريًّا شديدة الشبه بها.

في "رحلة الضباع" يريد من فجَّروا الدماء في التاريخ الإسلامي ولوثوا رسالته السامية بالتطاحن على أمر الخلافة العودة إلى لحظة هذا الذلل – إلى القرن الرابع الهجرى تحديدًا، وسيظلون يحاولون العودة علَّهم يستطيعون البداية من جديد لتلافي دموية الصراع وتنقيته من الكراهية – وكنت قد ابتعدت عن مراجعي عقدًا من الزمن سمح لي أن أسائلها أحيانًا وأتحاور معها أحيانًا أخرى وأصدق ما أصدق وأرى كيف التفت هذه المراجع في أحايين كثيرة حول الحقيقة لتهرب من نقلها. وكيف تم تزوير الكثير من الأخبار لعدم المقدرة على التطلع إلى مرآة الحقيقة المفزعة، وكيف كان هذا التزوير مفضوحًا أحيانًا.

لم أبدأ في كتابة "رحلة الضباع" إلاَّ بعد أن تأكدت من ندية العلاقة بين لحظتي المتورطة فى الراهنية  وبين اللحظة القديمة بأخبارها الشائكة من خلال كل ذلك. وأظن أن لا شيء يعلو فوق التاريخ على الإطلاق فيما يخصُّ برديات الكتابة إلا الأدب شريطة أن يكون شعرًا أو أن يكون جيدًا جدًّا فيما يخصُّ الأجناس الأدبية الأخرى. أحيانًا يتملكنى يقينٌ أن الشعوب تتسابقُ في ماراثون طويلٍ ولا نهائيّ لتكتبَ تاريخها بشكلٍ أفضل وتقف به متباهية أمام وجه الزمن. إذًا ما الذي يمكنها أن تضيف الرواية لتاريخ الشعوب المكتوب حال ما كانت تعيد كتابته؟

مازلت أجد نفسي متمسكة برأي كتبته من قبل.. هناك روايات تاريخية نجدها أقل أهمية وأقل جمالاً عن كتب التاريخ المتوفرة في المكتبات، هذه الروايات ارتضت لنفسها أن تتكئ على التاريخ اتكاءً كليًّا، ولأن التاريخ قد كُتب غالبًا من وجهة نظرٍ رسميةٍ فإن الإبداع يكاد يضمحل تمامًا من سطور الروايات المستقاة منه والتي لا تكون في النهاية سوى صورة باهتة من كتبٍ رسخت في أذهان قرائها من شتَّى الأجيال؛ ولذا سرعان ما يُعيد هؤلاء القراء هذه الروايات إلى أصلها التاريخي ويتعاملون معها على أنها لم تكن، تمامًا كما نُعيد جملة موسيقية سمجة ومقلدة بركاكة إلى أصلها فلا نعاود الاستماع إلا إلى الأصل ونحذفها من حياتنا، على الجانب الآخر هناك روايات تاريخية آسرة وهي تلك التي كُتبت بعد أن فهم كاتبها أنها عليها أن تكتب التاريخ المسكوت عنه في ثنايا التاريخ الرسمي، أي التاريخ الذي من المفترض أن يُكتب لو سُمح للشعوب بكتابته من وجهة نظرها هي لا من وجهة نظر كتبة الملوك والحكام. هذه الروايات لا تتكئ على التاريخ الرسمي بل تخرج عليه وتحاكمه أحيانًا وتتحاور معه تارة وتكذبه تارة أخرى وتتناص معه في بعض مراحلها فتكون مثل سيمفونية رائعة تملأ أرجاء الماضي والحاضر والمستقبل، وعلى كل حالٍ الروايات التاريخية المهمة والرائعة قليلة في مكتبة العالم الإبداعية بشكلٍ عام.

في "رحلة الضباع"،تبدو فكرتي الخاصة عن الزمن واضحة،فكان زمن الرواية دائريًّا وليس سهمًا منطلقًا من الماضى مارًا بالحاضر نحو المستقبل. اللحظة الراهنة هي فهم ماضيها، إن أسهل الطرق لفهم كيفية التعامل مع اللحظة الراهنة وتطويرها والمرور من مآزقها الوجودية الكبرى هو رؤية مستقبلها.

المدهش والمثير للإلهام حقًا أن النبوءاتِ المهمة في تاريخنا كان مصرحًا بها من قِبل مَنْ وضعوهم في خانِة المجاذيب أو الشعراء ازدراءً وسخرية لكي يواصل الملتاثون لحظتهم الراهنة ويكملوا سادرين في غيهم مايرونه من أمجاد حتى ولو كانت على جثث ملايين المسلمين، عودتي لهذه اللحظات الكبرى كان تأكيدًا لرؤيتى وتأصيلاً لها. باختصار شديدٍ: إن هذا ما كان يحدث طوال الوقت: الرسل ومحبو الحياة والجمال والخير يحذرون، ومَنْ يعيثون في الأرض فسادًا ويعشقون التكالب على الميتة مثل الضباع لا يسمعون.