بعد أن قدم الناقد الفلسطيني المرموق في العدد الماضي من (الكلمة) دراسة شيقة عن ظاهرة التثاقف وأثرها المدمر على السرد، يفرد هذه الدراسة لتأصيل المصطلح لغويا ونقديا، وتحديد دلالاته ومراميه، والكشف عن تفشي علله في أكثر من عمل روائي عربي ولدى أكثر من كاتب أو كاتبة.

كيف يحدّد معنى التثاقف؟

مقدمة في «تأسيس» مصطلح

وليد أبوبكر

1: في تعريف التثاقف:

ربما يكون "التثاقف"، الذي يتم التعامل معه في هذه الدراسة، جديدا كمصطلح، لم يسبق تداوله في النقد الأدبي العربي، كما أن من الصعوبة بمكان إيجاد مرادف له بلغة أجنبية، يكون قادرا على أن يحمل المعنى المقصود كاملا. ومع أن هناك عدة مفردات عربية ومصطلحات أجنبية أو مفردات، تلامس المعنى، إلا أنها في كلّ حالة من حالاتها قد تزيد عنه في شيء، أو تنقص في شيء.

مصطلح التثاقف يطمح، في هذه الدراسة، إلى أن يكون عربيا خالصا، في صياغته اللغوية، وفي معناه الدلاليّ، وفي تطبيقاته، وفي طريقة التوصل إليه، وأن يكون له تعريف منطقيّ، جامع مانع، يحدّد ما ينضوي تحته من أسلوب، في أنواع معينة من الكتابة، ويدفع خارجه ما لا يخصه، وذلك كله انطلاقا من الأصل العربي الثلاثي لفعل المصطلح، كما يقتضي الاشتقاق، أو ما يسبقه من تغير في معاني الأفعال ـ ومشتقاتها ـ بالزيادات التي تقع على الفعل الثلاثي، وتمييزا له عن أي مصطلح مشابه، دخل إلى العربية عن طريق ترجمة مصطلح أجنبي، يمكن للترجمة ذاتها أن توجد له بدائل أفضل تمثيلا.

كما تطمح الدراسة إلى حصر ما تتوصل إليه، من التجليات التي يتمظهر فيها التثاقف في الكتابة الأدبية، وخصوصا في السرد الروائي، بعد استقراء روايات تعتمد التثاقف أسلوبا في الكتابة، بالإضافة إلى التدقيق في احتمال أن تكون هذه التجليات تقليدا مشوّهًا لبعض مظاهر الأدب الغربي، أو العالمي، خصوصا في مرحلة ما بعد الحداثة، وهو ما يستلزم نظرة على المصطلحات الأجنبية التي تشترك مع المعنى المقصود للتثاقف، في بعض صفاته، ومدى اقترابها من عملية الكتابة عن طريق التثاقف.

1.1: في الأصل الثلاثي:

تحمل صيغة (تفاعَلَ) في اللغة العربية، عند النظرة الأولى، معنى المشاركة (تخاصم الرجلان، تفاهم الفريقان) وهو الأمر المتداول لغويا إلى حدّ بعيد، أو الشائع في الاستعمال، والصيغة مشتقة من الفعل المتعدّي وحده، مع أن الصيغة نفسها (أو الفعل الثلاثي مع الزيادات التي تغيّر معناه) تحمل ثلاثة معاني أخرى هي: المطاوعة، في المتعدّي وحده، مثل (باعدته فتباعد، وآليته فتوالى)؛ والتدرّج، في اللازم والمتعدّي، مثل (تواردت الإبل، توافد الطلاب)؛ والتظاهر بالشيء (تغافل الناس عني، تناومَ الطفل، وتكاسل وتجاهل) في المتعدي واللازم[1].

قامت د. حنان عمايرة بدراسة موسعة حول معنى الزيادة في الأفعال[2]، تتبعت خلالها ما ورد عن الموضوع في المصادر العربية، وبعض المصادر الأجنبية، كما دعمت ذلك بدراسة ميدانية من أهدافها توضيح نسبة استخدام المعاني المختلفة في كل وزن. وقد أشارت إلى مجموعة من معاني صيغة تفاعَلَ، التي ينتمي إليها فعل تثاقف: ومن معانيها المشاركة، مثل تضارب زيدٌ وعمرو، "والفرق بين فاعلَ وتفاعلَ في باب المشاركة أن الطرفين مع تفاعلَ مشتركان في المعنى واللفظ، فزيد وعمرو مشتركان في الضرب والرفع، أما مع "فاعلَ" فهما مشتركان في المعنى مختلفان في اللفظ، إذ يكون أحدهما فاعلا مرفوعا والآخر مفعولا به منصوبا". ثم هناك معنى المطاوعة، مثل: باعدت زيداً، فتباعد زيد، ومعنى التظاهر، (الذي يهم هذه الدراسة) مثل: تمارض زيد، أي: تظاهر بالمرض. وهو يكثر حين تتجه الدلالة نحو وقوع الحدث بين اثنين فأكثر، نحو: تراضينا، وتفاوضنا، وتجاذبنا. وقد تأتي الصيغة لإظهار الفاعل على حال غير الذي هو عليها، كتغافل، وتعامى، وتصامم، وقد لا تفيد شيئاً من هذا ولا ذاك ، مثل: تراءى في المرآة، إذا ظهر فيها.

وقد أفادت هذه الصيغة المشاركة والمبادلة: تضاربوا وتشاتموا، كما أفادت الرَّوْم والمقاربة: تقاربت من الشيء؛ والإيهام والتظاهر: تغافلت وتعاميت. "ومما جاء من معاني (تفاعل) عند الحملاوي: المطاوعة (باعدتُه فتباعد)، والتدريج (تزايد) ولعل المعنى الأخير هو الذي قصده السرقسطي[3] في مثاله عن صيغة تفاعل: تهالك فلان على المتاع. وقد أشار وليم رايت[4] Wright إلى أن هذه الصيغة اختصت باستخدامها في سياق الخطاب الإلهي، حاملة دلالة التعالي والتنزيه والتبارك: تبارك الله، تعالى الله، واشتقّ من هذه الدلالة قولهم: تعاظمه الأمر أي صار عليه عظيما أو صعباً.

أما من ناحية كثرة استعمال الصيغة، فقد جاء ترتيب (تفاعل) في المرتبة السادسة بين الأوزان الرئيسة، بنسبة 7.6 % ، وكان دالا على المشاركة على الأغلب بنسبة 44.8 %، وعلى التدريج بنسبة 34.1 % ثم على التظاهر بنسبة20.3 %.، وأما المطاوعة فلم يكن لها نصيب يذكر من استعمالات هذا الوزن. ولعلّ غلبة المشاركة في استخدام الصيغة يجعل معنى التظاهر يحتاج إلى محاولة تأصيل، ربما من أجل فصله عن الأصل الذي يبدأ فيه مع المشاركة، حتى يستقلّ عنها، بالرغم ما سيكون في ذلك من روح المغامرة، المطلوبة في هذا الشأن، والتي تحتاج بعد ذلك إلى حوار أو مناقشة.

وجاء في موقع اللغة العربية[5] أن "تفاعل" تكون: بزيادة التاء في أوله، والألف بعد الفاء، وهو لازم، وإن كان متعديا في المعنى. نحو: تعاظم، تخاصم، تقاتل، تصارع، تشارك، تعانق، تلاءم، تراحم، تساءل. تقول: تخاصم محمد، وأحمد، وخالد. وتعانق الضيف والمضيف. وتشارك فلان وفلان في العمل. وقد يأتي متعديا لفظا. نحو: تقاسم، وتنازع، وتراشق، وتبادل. تقول: تقاسم الورثة المال. وتنازع محمد وعليّ المنزل. وتراشق المنتفضون والمحتلون الحجارة. وتبادل المجتمعون الاتهامات.

وتأتي صيغة تفاعل لعدة معاني منها التظاهر: وهو ادعاء الفاعل بحصول الفعل له، وهو منتفٍ عنه. نحو: تجاهلت الأمر، أي: أظهرت من نفسي التجاهل للأمر دون الحقيقة. ومنه: تغافلت، وتكاسلت، وتعاميت، وتناومت، وتخاذلت، وتمارضت. ومنه قول الرسول: "لا تمارضوا فتمرضوا فتموتوا فتذهب ريحكم". والفرق بين "تفاعل" و "تفعَّل" في معنى التظاهر، والادعاء، أو التكلف، أن "تفعّل" في نحو: تعلّم، وتعظَّم، يتكلف فيه الفاعل أصل الفعل، ويريد حصوله فيه حقيقة، ولا يقصد إظهار ذلك إيهاما على غيره أن ذلك فيه. أما في تفاعل، فإن الفاعل لا يريد ذلك حقيقة، ولا يقصد حصوله له، بل يوهم الناس أن ذلك فيه لغرض له.

مع مزيد من التأمل، وبالعودة إلى المعنى الأصلي للفعل المجرّد الذي تعود إليه الصيغة، وفي الذهن فعل "تثاقف"، سوف نكتشف أن المعنى يسير في اتجاهين أساسيين، لهما علاقة صرفية بنوعية الفعل (Verb) الثلاثيّ الذي يبدأ الاشتقاق منه: فإذا كان هذا الفعل متعدّيا على مفعول به (أو أكثر)، فإن المشاركة تكون لازمة، لوجود طرف أو أطراف تكون معنية بالفعل (أو يكون الفعل معنيا بها) خارج الفاعل، إلا في بعض الحالات التي تلحق بالفعل فيها شبه جملة، فيحمل معنى الفعل المتعدي. أما إذا كان الفعل الثلاثيّ لازمًا، لا يدخل على مفعول به، فإن معنى المشاركة غالبا ما يبتعد، ليدخل الفعل مجال المقارنة أو المفاضلة أو التظاهر، التي تنطلق ذاتيا من فرد أو طرف، على اعتبار أن الفعل اللازم لا يرتبط بأطراف خارج الفاعل نفسه.

في المعنى الأول، الذي لا يكون إلا جمعيا، بسبب كون عدد المشاركين فيه أكثر من واحد، يحضر الوضع على شكل قيامٍ بفعلٍ ما، في عديد من الاحتمالات التي يفترضها وجود طرف واحد أو عدة أطراف، في شقي المشاركة أو طرفيها، بالاشتراك، وهو قد يكون بين طرف واحد أو أطراف عدة، من ناحية، وطرف آخر أو أطراف عدة، من ناحية ثانية، وهذه جميعها تقوم بالفعل نفسه معا، سواء أكانت تتعاون فيه، أو تتنازعه.

في هذا الوضع الجمعي، قد يكون معنى المشاركة إيجابيا، على المستوى الاجتماعي، كما في (تعاون)، وقد يكون سلبيا كما في (تقاتَلَ)، من الفعلين الثلاثيين المتعديين عانَ وقتل، وهو ما يعني الاشتراك في الفعل الواحد(Act) ، أو النشاط الواحد، في الوقت نفسه والمكان نفسه (تقابَلَ)، أو على امتداد زمن مشترك وفي أمكنة مختلفة (تراسلَ) في كلتا الحالتين.

وربما كان من الممكن، ضمن هذا التوجه، استخدام الفعل من طرف ما، ليقع على الطرف الآخر، الذي يكون مستقبِلا لا فاعلا، بما لا يدلّ على المشاركة، وذلك بأن يستعان بشبه جملة، مع ظرف أو حرف جر، وقد يكون ذلك حين لا يتساوى الطرفان، أو لا يتوقع تشاركهما في الفعل، فبدلا من القول: (تبادلَ) الطرفان الرصاص مثلا، كما بين الشرطي واللصّ، يقال إن الأول (تعاملَ) مع الحدث. ومثل هذا الاستخدام وارد بتوظيف عدد من حروف الجرّ والظروف التي تفصل بين الطرفين.

كل هذه الصيغ وما تقوم به على مستوى الأفعال المتعدية، أو الاشتقاقات التي تخرج منها ليست جزءا من معنى (تثاقفَ) الذي يتمّ توجيه البحث نحوه، بهدف تكريسه كمصطلح نقدي، قد لا يخصّ السرد وحده، وإنما قد ينطبق على أنواع التعبير الأدبي جميعها، وإن كان تجليه في السرد، وقدرته على التسلل إليه، أكثر وضوحا، بسبب انفتاح السرد على أنواع أكثر اتساعا من الأنساق، أو القواعد، لأن الأدب عموما، والسرد الروائي خصوصا، لا يكون إلا على شكل أنساق، لا شيء فيه متروك للمصادفة، وهو في الوقت نفسه نوع من الخطاب، لا مجرّد لغة.

أما المعنى الثاني، الذي يكون معنى ذاتيا لا عاما، لأنه لا يكون إلا من فعل طرف واحد، يقوم به، ولا تشاركه فيه أطراف أخرى، إلا كمتلقين للفعل، أو شاهدين عليه، أو منفعلين به، (لا مفعولين ولا متفاعلين)، فهو يُشتقّ من الفعل اللازم غالبا، وقد يشتق من المتعدي نظريا. وهذا المعنى لا ينتظر أية مشاركة، لأنه يفصل صاحب الفعل (أو أصحابه) عن الأطراف الأخرى، في محاولة تحمل شيئا من التمييز، كما في الأفعال: نام: تناوم الشخص؛ أو: علِم: تعالُم الرجل، بما يوحي بمعنى المزايدة أو التظاهر، أو يعني "إظهار الفاعل على غير ما هو عليه"، أو "ادعاء الفاعل بحصول الفعل له، وهو منتف عنه"، أو أن "الفاعل لا يريد ذلك حقيقة، ولا يقصد حصوله له، بل يوهم الناس أن ذلك فيه لغرض له". وستكون محصلة ذلك بالمعنى الاصطلاحي المقصود: استعراض ما لدى الذات من صفات، مدّعاة كانت أو حقيقية.

ولو كان الفعل الثلاثي لصيغة تثاقف ينتسب إلى الفعل المتعدي وحده أو اللازم وحده، لكان الأمر أكثر وضوحا في المعنى عند الاشتقاق، ولتمّ إدراك معنى المشاركة من عدمه، دون جهد. لكن الفعل ليس بهذا الوضوح، لأنه يقبل الاحتمالين معا، وهو الأمر الذي لم تتطرّق إليه دراسات الزيادات في الأفعال، (بقدر ما هو متداول) لأنها حين تحدثت عن ذلك، قصرت اهتماماتها على اللازم والمتعدي في الأفعال، بعد أن أصبحت مزيدة، دون ربط ذلك بالأصل المجرّد لهذه الأفعال، حتى وإن أشارت إلى كيفية تحول الأصل، والمعاني التي تستجد مع الزيادة، وإن قصرت في بعض الأمثلة، ربما بسبب عدم التوصل إليها، وخصوصا في موضوع التظاهر، الذي يبدو أنه لا تتوفر له أمثلة اشتقاق من الفعل المتعدي.

فعل (ث ق ف)، الثلاثيّ ـ الذي يعود إليه التثاقف ـ يمكنه أن يتخذ صفة التعدّي أو اللزوم، ما يجعله يحيل إلى تنوّع في المعاني، لأن هذه المعاني، رغم تقاربها، تضعه مرة متعدّيا ومرة أخرى لازما: فهناك الفعل الثلاثي ثقَف (بفتح القاف) كفعل متعدٍّ، بمعنى غلبَ الآخر في الحذق بعد أن تحاذقا، أو تنافسا، وهناك معنى ثقَف بالرمح (بفتح القاف أيضا)، بمعنى أنه طعن خصما، بعد أن تثاقفا، أي تطاعنا أو تبارزا (والمثاقفة هي المبارزة، ولم يشتهر عنها أنها يمكن أن تسمى التثاقف، ما يؤكد هذا النوع من الاشتقاق من الفعل المتعدي، ويعزز احتمالية المصطلح). أما فعل ثقُف أو ثقِف (بضمّ القاف أو كسرِها) فهو فعل لازم، وهو يعني: صار حاذقا[6].

ولأن الفعل الثلاثي الأصلي مختلف في الوزن وفي المعنى، فإن فعل "تثاقَفَ" سوف يحتمل المعنيين معا: المعنى الأول الذي يشتقّ من الفعل المتعدّي، وهو يحمل صفة المشاركة بالضرورة، أي تبادل الثقافة، أو التلاقح الثقافي، أو التعاون في المجال الثقافي، أو التأثر الثقافي والتأثير، وكل ما يقع في الحراك الثقافي بين الأفراد والجماعات من فعل المثاقفة (Acculturation). أما المعنى الثاني فإنه يحمل معنى التفضيل، أو التمييز الذاتي، وفيه يحمل فعل "تثاقف" معنى التظاهر بالثقافة، أو استعراضها، وهو الرأي الذي يمكن تعميمه، لكن بحذر شديد، من أجل مزيد من الدراسة التي تخص أساليب الاشتقاق، أو الزيادات في الأفعال الثلاثية، وما تحمله معها من تغير في المعاني.

المعنى الأول هو الذي يستخدم على نطاق واسع في علم الاجتماع، وهو خيار من خيارات ترجمة المصطلح الأجنبي. ومع أن اللفظة الأجنبية تميل إلى ما يمكن أن يسمى "المثاقفة"، إلا أن المصطلح العربي في هذا الشأن يظلّ حائرًا ومحيّرا، بين التثاقف والمثاقفة، (وربما توجد غيرهما في ترجمات مختلفة) في موضوع التأثر الثقافي، كما هي حالته مع المصطلحات الحديثة في معظم المجالات، وخصوصا في مجال العلوم الإنسانية، حين تترجم مصطلحاتها ولا تتم استعارتها من اللغات التي نشأت فيها، أو تعريبها عن أصل تلك اللغات، لا اشتقاقها ـ صرفيا ـ من فعل ثلاثي.

لقد حقق معنى المشاركة في "التثاقف" انتشارا ما في العلوم الإنسانية المترجمة، مع أن البديل له، وهو المثاقفة، يظلّ أوسع انتشارا في هذا الشأن، وهو الذي يظهر حين وضع الأصل الأجنبي للترجمة. ومصطلح المثاقفة يمكن الاكتفاء به، والاستغناء عن المصطلح الآخر، المستخدم بتواتر أقل، وربما بحماسة أقلّ أيضا، لهذا السبب، ولسبب آخر هو أنه يصعب إيجاد بديل للمصطلح في المجال الآخر، مجال استعراض الثقافة أو التظاهر بها.

ويبدو أن من الصعب أيضا إيجاد المعنى ذاته، بلغة أجنبية، لأن جميع المعاني، لدى البحث عنها، تميل إلى المعنى الاجتماعي الأكثر انتشارا، مع أن الفعل الأصلي، على المستوى الفردي، قد يعني التظاهر، وهو في أحد معانيه الإنجليزية Pretend to ، ومنه اشتقاق Pretension بمعنى الزّعم، وPretentious ـ بمعنى مدّع، و Pretentiousness  بمعنى الادعاء؛ كما أنه إلى جانب ذلك واضح المعنى ـ عربيا ـ حين يكون على مستوى الفرد، لأن تثاقف الرجل لا يحمِل ـ في اللغة ـ إلا معنى واحدا: ادعى الثقافة أو قام باستعراضها. وقد جاء في قاموس المعاني الجامع: "تثاقف الشَّخصُ: ادّعى الثَّقافة. إنَّه يتعالى ويتثاقف على الجماهير". كما أن كلمة ثقف، في معناها القاموسيّ، تحمل معنى الخفّة، وهو ما يتناسب مع المصطلح المقترح نقديا.

1ـ 2: بين لغة وأخرى

وإذا كان الادعاء الذي يحمله المعنى الإنجليزي يوحي بغياب المعرفة، فإن التثاقف، بالمصطلح العربيّ، المقترح هنا، يكون أوسع مجالا، فهو لا يحدّد غياب المعرفة أو حضورها، وإنما يحدّد استعراض المعرفة، أو إظهارها ـ للتباهي بها ـ في غير سياقها، سواء أكانت موجودة لدى من يقوم بذلك، أو كان يختلق ادعاء بوجودها. ومع أن مصطلح Pedantry يمكن أن يحمل معنى أوسع مما يعنيه التثاقف، المشتقّ من الفعل الثلاثي اللازم، وأنه يمكن أن يترجم عربيا إلى "الحذلقة" أو "التحذلق"، إلا أن فيه كثيرا من سمات التثاقف الذي تعنى به هذه الدراسة، أو تحاول تكريسه أدبيا، ومن ذلك، كما تشير القواميس (العربية والفرنسية والإنجليزية) المختلفة: استعراض الثقافة الذاتية بطريقة مملة؛ والتأنّق الشديد، وخصوصا في اللغة؛ والاستعراض غير الضروري ولا المناسب للمعرفة أو اللغة؛ والتكلّف في الأسلوب. والمصطلح مشتق من كلمة (Pais) اليونانية، وتعني (الصبي)، كما يشير مجدي وهبة (قاموس المصطلحات الأدبية، مكتبة لبنان، بيروت: 1974، ص 393)، (وهي في الأصل الصبي العبد الذي كان يرافق الأطفال إلى مدارسهم). وهذا المعنى يعزز فكرة وجود التصابي أو الخفة أيضا في هذا السلوك.

وفي دراسة بعنوان "السخرية من التعليم ونمط المتحذلق"[7] حاول بيدرو خافيير باردو غارثيا، أن يلخص بعض الصفات التي تنطوي عليها شخصية المتحذلق، وينطبق معظمها على تصور معنى المتثاقف، وذلك من خلال دراسة أدب السخرية من التعليم في القرن الثامن عشر، باستقراء آراء جوناثان سويفت (1667 ـ 1754) في هذا النوع من الأدب (كما وصفه)، فقال إنه المبالغة في تعظيم المعرفة لدى الشخصية التي تدعي وجودها، وكلما كانت هذه المعرفة أكثر تفاهة، كلما كان استعراضها أوسع. وأشار إلى أن الظاهرة تزداد مع نقص المعرفة، وتتسم بسوء استخدام المعرفة، وخصوصا في استخدام لغة غير مفهومة، حتى ممن يستخدمها. وقال إن سلوك الشخصية يتسم بالهوس الأدبي، وهي تقوم بتشويه الواقع، بما فيه معرفتها الذاتية، وطرق تطبيقها، ومن أبرز صفاتها تعقيد ما هو بسيط، وتبسيط ما هو معقد. وكباحث إسباني، وصف غارثيا هذه الشخصية بأنها دون كيخوتية.

وهذا النوع من تصرف الشخصية، يمكن أن يكون سلوكيا أو كتابيا، وهو في الكتابة ـ التي تعنينا هنا ـ يغري الكاتب بأن يخرج عن طريقه، ليستخدم كلمات يراد لها أن تكون كبيرة، وينقصها الإيجاز الضروريّ في الغالب، لأنها تميل إلى التفاصيل الصغيرة دون أن تهتم بالصورة الكلية. وهذا ما حذّر منه جورج أورويل مبكّرا في هذا العصر (1946)، حين ظهر في الكتابة الإنجليزية، وأطلق عليه اسم الادعاء أو التظاهر Pretentiousness في مقالة شهيرة له حول "السياسة واللغة الإنجليزية"[8] ما زالت صالحة حتى الآن لتواجه التظاهر والفذلكة والتحذلق والتثاقف، بكل قوة.

أشار أورويل في مقالته إلى مجموعة من السمات التي تظهر في الكتابة من خلال التظاهر، مثل استخدام الاستعارات الميتة، والصياغة التظاهرية، واستخدام كلمات لا معنى لها، إضافة إلى التركيز على كثرة اللجوء إلى الكلمات الأجنبية؛ وأكد أن هذا النوع من الكتابة لا يهتم باختيار الكلمات من أجل معناها، ثم يقوم بخلق صور لتوضيح هذا المعنى، بقدر ما يهتم بوقع الكلمات ذاتها، مع استخدام حيل متعددة لتفادي التعبير الواضح، الذي يبدو أن الكاتب لا يحسن التعبير عنه، أو لا يرغب في ذلك، ما يجعله يتجنب الطريقة الأولى ـ الصحيحة ـ التي توفر عليه كثيرا من الجهد العقلي، وتجعله أقرب إلى ذاته، قبل أن يكون أقرب إلى القارئ.

ومع أن أورويل كان يشير إلى الكتابات السياسية في زمنه، وهو لم يضرب أمثلة من الكتابات الأدبية، إلا أنه اقترح مجموعة من القواعد التي يمكن أن تساعد أي كاتب في تجنب الوقوع في التثاقف، كان من أبرزها: لا تستخدم الاستعارة أو التشبيه أو أي شكل من أشكال الكتابة التي تراها في المطبوعات؛ ولا تستخدم أية كلمة طويلة ما دامت كلمة أقصر منها تكفي المعنى؛ وإذا كان ممكنا أن تشطب أية كلمة، فاشطبها دائما؛ ولا تستخدم الأفعال المبنية للمجهول حيث تستطيع أن تستخدم الأفعال المعلومة؛ ولا تلجأ إلى الكلمات الأجنبية أو الجمل، إذا كان بإمكانك أن تجد لها مرادفا في لغتك اليومية. ولعل ما يمكن أن يضاف ـ عربيا ـ من توصيات في هذا الشأن هو عدم استخدام الاستعارات الغريبة إلى الاستعارات الميتة، وعدم استبدال الأفعال المبنية للمجهول بكل ما يخلّ بالقواعد العادية للغة، وخصوصا في عمليات التقديم والتأخير غير المبررة.

1 ـ 3: التثاقف فنيا:

وربما لأن حالة التثاقف قد لا تكون موجودة في الآداب الغربية، إلى الحدّ الذي تشكل معه ظاهرة تستحق الانتباه، أو أنها لم ترصد بما يكفي لاعتبارها ظاهرة، أو لأن النقاد لا يهتمون بتسجيل مثل هذا الخروج المبالغ فيه على ما يحظى بشيء من الاتفاق في طبيعة السرد، فإن مقالة أورويل لم تشر إليها. لكن هناك نوعا من التثاقف ـ حسب المصطلح ـ تشير إليه الدراسات الغربية، يمكن ترجمة مفرداته إلى حذلقة أو تحذلق أو فذلكة، وتعني جميعها أيَّ استعراض للمعرفة، تقوم به شخصية ما داخل عمل أدبي، مثل الرواية أو المسرحية. وتشير دراسة مثل هذه الشخصيات إلى أن هدف المؤلفين كان إيجابيا من إيجادها في أعمالهم، وهو التعبير عن بعض الأفكار من خلال المبالغة في عرضها عن طريق تلك الشخصيات، أو لتعليم شيء ما بالطريقة الصعبة، أو بالعرض المبالغ فيه للمعرفة.

وهذا النوع من الشخصيات (الروائية أو المسرحية) يكون مقصودا بذاته، حتى يثير سلوكه شيئا من الضيق لدى المتلقي، ليوصل الكاتب رسالته من خلال هذا الضيق المستفزّ، بالنسبة لشخصية أدبية. أما حين يحمل الكاتب شخصيا هذه الصفة ويعكسها في كتابته بالمطلق، فإن ذلك سيكون سببا في ضيق القارئ من كتابته كلها، لأنها ستدلّ على ضيق في الأفق، يخلق ضيقا لا يختلف عما تسببه الشخصية ذاتها للمحيطين بها، داخل العمل الأدبي. إن الكاتب بتقمصه لدور تلك الشخصية يفرض على الكتابة شروطا تجعلها خالية من أي هدف.

من كل ما تقدّم، ربما يمكن اقتراح تعريف لما هو مقصود بالتثاقف، كمصطلح نقدي، وهو تعريف يشير مبدئيا إلى أن [التثاقف، بالمعنى الأدبيّ، هو استعراض مقصود للمعرفة، داخل الكتابة، في غير حاجة إلى ذلك، وإنما من باب التظاهر بوجود هذه المعرفة، أو من باب استعراضها لذاتها، بشكل مقصود].

1 ـ 4 ـ تفاصيل

القصدية التي ترافق التثاقف، وتسبق كتابة النص، تؤدي به ـ منطقيا ـ إلى الافتعال، وما ينتج عن ذلك من انتقائية؛ فالقصدية تعني أن النصّ يخضع للتوجيه المسبق، أو لطرح فكرة مسبقة، أكثر مما يصدر عن الموهبة، ما يجعله نوعا من النصّ "المصنوع" أو "المركّب"، الذي يهدف إلى طرح أفكار جاهزة، تفصّل الكتابة على مقاسها، وذلك يتعارض مع صدق الكتابة وتلقائيتها منذ البداية، خصوصا حين تكون هذه الأفكار غير ناضجة، ولا تحظى بالقدرة على الإقناع، وقد تخرج في بعض الأوقات عما لا يجوز أن تخرج عنه، وطنيا أو اجتماعيا. ولا يكون هدف هذه القصدية تطويرًا في الثقافة أو المجتمع من أي نوع، كما يفترض الأدب الصادق، وإنما تكون لها أهداف أخرى، أو أغراض أخرى، غالبا ما تكون ذاتية أيضا.

بسبب هذه القصدية، فإن التثاقف لا يمكن أن يأتي عفويا، لأن الذي يرغب في إيهام الناس يكون واعيا لما يقوم به، وهو يهدف منذ البداية إلى تسخيره لغرض محدد، أو لوظيفة محدّدة، لا تتعلق بالتأثر الثقافي أو باستيعاب الثقافة، ولكنها تهدف إلى تغذية الأنا لدى صاحب النص، بإبراز شيء من سمات تميزه عن قارئه، وعند قارئه، عن طريق عرض شكلي لما يطرأ لديه من معرفة، هي خارج سياق النص الذي يكتبه. وقد تمتد القصدية بالفعل إلى استعداد مسبق لها، بتجميع الحكايات والأحداث والأقوال، التي تنسب إلى المشاهير، ثم خلق فراغات في النص، لإدخالها فيه.

في هذه الحالة، يختلف التثاقف عن التناص[9] Intertextuality الذي يعترف به النقد الأدبي، وتهتم به نظريات ما بعد الحداثة، بالرغم من ادعاء من يتثاقف في كتابته أنه يلجأ إليه. التناص يعني إمكانية قراءة النص في ضوء تأويله الذي من خلاله يفرز العمل الفني في علاقته بالأعمال الأخرى، نتيجة تحويل النص إلى مجموعة نصوص سابقة، أو تشكيل نص جديد من نصوص سابقة، وكخلاصة لنصوص تماهت فيما بينها، فلم يبق منها إلاّ ما خلقته لدى الكاتب من أثر. هذا ما يحتاج إلى قارئ نموذجي حتى يكتشفه، لأنه دخول في علاقة مع نصوص أخرى بطرق مختلفة، يتفاعل بواسطتها النص مع الماضي والحاضر والمستقبل، ثمّ مع القراء والنصوص الأخرى، ليكون الناتج النصّي حصيلة سلسلة من التحولات النصية السابقة التي تنصهر وتتمازج فيما بينها، ويظنّ المبدع أنه صاحبها.

الاختلاف بين التثاقف والتناصّ يمكن أن يتضح في تناقضين أساسيين: الأول هو أن التناص، الذي يعني حضور الماضي في الحاضر، يكون خيارا متواصلا لا وقتيا، وهو لا يأتي إلا من خلال استيعاب تامّ لثقافة ما، كلية كانت أو جزئية، وتمثّلها، بحيث تصبح جزءًا من الثقافة الذاتية للكاتب، لا مجرّد تجميع مقصود بذاته، يهدف إلى الاستخدام؛ والثاني هو أن هذه الثقافة تتسرّب إلى النصّ خلال الكتابة، دون وعي من الكاتب ذاته، لا بتخطيط مسبق منه، أو قصدية، أو تحديد لهدف ما، لا يخرج عن مجال التظاهر أو الاستعراض.

التناص، بالتالي، لا يأتي في شكل اقتباس مباشر، (كثيرا ما يسميه النقد العربي التراثيّ سرقة) أو في شكل سرد استعراضي مباشر لحدث يجري تذكّره إراديا، وإنما من داخل السياق الذي تشكل مادة التناص جزءًا منه، لا مجرّد زيادة مقحمة فيه.

 2ـ في تجلّيات التثاقف

يعبر التثاقف عن نفسه بمجموعة من الأشكال التي يحتاج حصرها إلى قراءة أعمال كثيرة من أجل رصد ما يتكرر منها واستقرائه، ليكون جزءا من سمات هذه الظاهرة. وفي ما يلي شيء من أبرز التجليات التي يمكن الإشارة إليها ـ بشكل أولي ـ في الكتابة السردية العربية التي تعتمد التثاقف سبيلا، مع بعض الأمثلة السريعة، التي سيجري توسيعها في الفصول التطبيقية، والتي ستظل بحاجة إلى مزيد من التوسيع.

2 ـ 1: التلاعب باللغة

سبق للفيلسوف فيتغنشتين أن استخدم تعبير "ألعاب اللغة"[10] Language games، في مجال شرح أنواع العبارات، على أساس القواعد التي تحدد خصائصها، والاستخدامات التي يمكن أن تستخدم فيها، لكن التثاقف، في صورته المسيئة، التي يمكن أن تلاحظ في بعض الكتابات، يغلب عليه أن يخرج عن الحدود المتعارف عليها لخصائص العبارات اللغوية واستخداماتها في الكتابة السردية. وهو يختار طريق الخروج موهما نفسه ـ بهدف إيهام الآخرين ـ أنه يقوم بتطوير اللغة، أو على حدّ الزعم السائد، يقوم بتفجيرها، مستعيرا ما طالبت به بعض المدارس النقدية، عن وعي، دون أن يفهم ما تعنيه تلك المدارس في موضوع اللغة الجديدة التي تنشدها، استنادا إلى اللغة القائمة، بكل تاريخها، ومقوّماتها، وانطلاقا منها، لا انتقاصا لما فيها من سمات وقواعد وأسس، ولا تهديما لها. إن ما يبحث عنه، من يجهل معنى تثوير اللغة، هو في الواقع ما يمكن أن يثير استغراب القارئ العاديّ، أو ربما دهشته، تجاه ما يمكن أن يصوّر له على أنه نوع من التجديد.

2 ـ 1ـ 1 تبرير الجهل

في غالب الأحيان، وكما يمكن أن تؤكد الخبرة مع أمثال هؤلاء "المفجّرين"، يكون تعاملهم مع اللغة، بهذه الطريقة التي تفسدها، نابعا من الجهل الأساسيّ باللغة، وهو تعامل يهدف قبل كلّ شيء إلى التغطية على هذا الجهل، مع أن إتقان اللغة وحده هو الذي يفتح الطريق أمام الابتكار اللغوي، أو التجديد، أو ما يمكن يسمى التجاوز، من خلال انزياح   deviationجديد عما سبق إنجازه فيها. أبسط طريقة لملاحظة ضعف اللغة في أساسياتها لدى كتاب التثاقف، هي رصد الأخطاء التي تتكرر لديهم جميعا، حتى من استطاع منهم أن يحصل على شهرة واسعة، بين نوعية معينة من القراء. هناك ما هو بسيط جدا من هذه الأخطاء، مما لا يقع فيه من يعرف أساسيات لغته معرفة أولية، أو من يعرف أن هذه اللغة، في قواعدها، إنما تقوم على فهم ما يقال، لا على تعقيده. كما تكثر بعد ذلك الأخطاء الشائعة، التي يدركها المتمرّسون، (ويفترض أن يكون الكتاب من ضمنهم بالطبع) ومع ذلك يمكن أن تغفر أو تخضع للمراجعة والتدقيق، وهو ما تفعله دور النشر الأجنبية، حين تخضع ما يكتبه كتابها (غير المعنيين بالتثاقف) للمحرّرين المختصين، الذين يتقنون التعامل مع اللغة، قواعد وجودة تعبير.

ومن البديهي القول إن من لا يتقن لغته، "التي تنمو نموا طبيعيا، ولا تكون أداة نشكّلها من أجل غاياتنا"، على حدّ تعبير أورويل في دراسته المشار إليها سابقا، لا يستطيع أن يطوّر فيها، (إذا لم يتحول القول إلى إنه لا يستحقّ الكتابة بها)، وهو في الواقع لا يقوم بتفجير اللغة، فنيا، وإنما يقوم بتحطيم أساسياتها، بطريقة لا تفيد اللغة، ولا تفيد الكتابة. يدخل في مجال تكسير اللغة كثير من أنواع التذاكي التي يقدم عليها بعض الكتاب لتغطية ضعفهم في اللغة ذاتها، أو ضعف قدراتهم على السرد. قد يكون ذلك عن طريق المبالغة في المحلية من خلال البحث عن الألفاظ الغريبة الميتة، أو التي فقدت وظيفتها، من باب توهم الواقعية في السرد، مع أن تطوير اللغة لا يكون إلا بما هو جديد، لا بما ينبش من تحت التراب.

كما يمكن أن يلجأ الكاتب، في التثاقف، إلى استخدام لغات غريبة عما يكتب فيه، بطريقة تحمل سمة المبالغة، لأن استخدام مثل هذه اللغات لا يكون إلا بنسبة محدودة جدا، وفي سياق ثقافي محدد، مع وجود ضرورة لهذا الاستخدام، أو مبرّر فني، لا لمنح الشخصيات واقعية ما، كما يدور الوهم، لأن الشخصيات الروائية نفسها لا واقعية فيها، فهي جميعها غير واقعية، لأنها من نسج الخيال، حتى وإن التقطت بعض سماتها من الواقع، ولأن الواقعية (على المستوى النقدي) تكون في القضايا التي تطرحها الرواية لا في اللغة التي تتحدث بها هذه الشخصية أو تلك، بافتعال يلجأ إليه الكاتب. إن تحميل الواقعية مسؤولية الجهل الذي يتصف به الكاتب، فيه إضافة إلى هذا الجهل، وفيه دخول إلى ما يمكن أن يسمى "الواقعية الهستيرية". إن شكسبير، مثلا، لم يُنطق هملت باللغة النرويجية، ولا جعل عطيل يتحدث بالعربية أو السواحلية مثلا، أو كتب الحوار بين روميو وجولييت بلغتهما الإيطالية.

2 ـ 1 ـ 2 وراء الغريب

ولا يقف التلاعب باللغة عند حدود تعدّدها، أو استخدام الغريب منها، ولكنه كثيرًا ما يتمثل بافتعال تراكيب لغوية لا تخدم أي غرض، سوى التثاقف. إن الخروج على النمط اللغوي الذي جاء محصلة لتطور ثقافي متواصل عبر عصور، لا يحدث فرديا. وافتعال هذا الخروج، لا يسيء إلى اللغة، التي تستطيع المحافظة على ذاتها، بقدر ما يسيء إلى النص الأدبي، لأنه يثقله بالتكلف. هذا الخروج يتخذ أشكالا متعددة، منها مثلا إعادة ترتيب الجمل بطريقة تفضّل الشذوذ على القاعدة، وكأن في الأمر بلاغة. ويبدو هذا التكلف واضحا إذا اعتمد في النصّ كله، كما في تقديم المبتدأ، أو الحال، أو اسم كان أو إن، دون ضرورة (هي غالبا ما تكون ـ منطقيا ـ ضرورة شعرية، لغرض الوزن، أو لخلق صورة شعرية). وحين يعتبر تكرار تقديم كلمة مثل (وحدها أو وحده) نوعا من البلاغة، فإن البلاغة نفسها تصبح موضع تساؤل. وهذا ما يغلب تماما على الأدب الذي يعتمد التثاقف أسلوبا، وقد صدرت في الفترة الأخيرة روايات لا تعترف بتقديم المبتدأ على الخبر مثلا، فلا تكون فيها السماء غائمة، وإنما غائمة هي السماء، مع تكرار هذا الخروج في كل جملة اسمية، ما يكون ثقيلا على السمع والبصر معا، ومعيقا للقراءة والاستيعاب، ولا يخفى فيه تحفّز الافتعال ولهاثه، وهو بالتالي معادل للركاكة التي تتسم بها بعض كتابات التثاقف.

كما يدخل في باب التلاعب قلب كثير من التعبيرات الشائعة. وإذا كان الأمر مقبولا في استخدام قليل من ذلك، لأنه يخلق جوا من الطرافة، فإن تحويل الأمر إلى لغة سائدة يسيء إلى النص بما يحشر فيه من صنعة لا ضرورة لها. لقد وصف بعض شعر أبي تمام من قبل عدد من النقاد العرب قديما بأنه "يبدو عليه أثر التكلف"، بسب صعوبة بعض الاشتقاقات التي كان يلجأ إليها، رغم صحتها، فماذا يمكن أن يقال عن التركيبات الجديدة التي يأتي بها كتاب التثاقف في هذا الزمن، بما تتضمنه من صفات لا تناسق بينها؟

منصف الوهايبي، وهو يتحدث عن الأدب الكيتش) Kitsch الهراء أو الابتذال)، وصف مثل هذه التركيبات بأنها ورود بلاستيكية، وأنها "صور وتهويمات استعاريّة، لا يتولّد منها أو بها أيّ مدلول ولا أيّ معنى". وضرب أمثلة على هذه التركيبات من أحلام مستغانمي: "أحزاب البكاء/ لغم الحب/ منصة السعادة/ مساء الولع/ شهقة الفتحة/ ذريعة من الموسلين/ أنغام الرغبة/ فتيل قنبلة الغيرة/ كمين مرمى خدعة الذاكرة/ ضيافة المطر/ فاجعة الضوء/ مقبرة الذاكرة/ حفريات رغباتها/ كبريت حزنك/ قعر محيط النسيان/ رماد الكلمات"[11]، ويمكن أن يضاف إليها: كثير من العبارات التي قد تكون أسوأ وقعا.

وأشار الوهايبي إلى أننا "نكاد نسلّم أنّ المجاز مجاز لاحتماله وجوه التّأويل. والتّأويل يكاد لا يعدو صرف النّص عن ظاهر ممتنع إلى مرجوح أو محتمل، سواء تقيّد بأعراف اللّغة وأنساقها أو تحرّر منها. وهذا التّأويل إنّما هو مطلب نصوص أو صور تحمل في مطاويها النّقيض. على حين أنّ الصّور التي سقناها لا تنهض على مواءمة بين الكلمات والأشياء، حيث تنغلق صور الكلمات وتنفتح صور الأشياء؛ إنّما هي صور مجازيّة تّجريديّة منغلقة على نفسها، لا تسبر حالة ولا تتمثّل مشهدا واقعيّا أو حتى غير واقعي".

يضاف إلى ذلك أن الاستعارات، والتشابيه، وغيرها من المحسِّنات اللغوية، التي تستخدم في الكتابة لأغراض بلاغية، تتسبب كثرة تداولها في أن تثقل النص، وهي تخلق فيه حالة شبيهة بما فعله السجع في الكتابة العربية، حين أصبح تقليدا في عصور الانحطاط، واعتبره الكتاب واجبًا، أو شرطا للكتابة الجيدة، ما أفقد الكتابة ـ العربية ـ أصالتها، وأدخلها في أضعف حالاتها لعدة قرون. يمكن القول، دون تردد، إن التثاقف الذي يسود الآن في الكتابات السردية العربية، يعمل على خلق نوع من هذه التقاليد اللغوية، التي يراها غير الموهوبين من ممثلي التثاقف، جزءا من شروط الكتابة.

2 ـ 2: استعراض الأسماء والأحداث

هذا النوع من مظاهر التثاقف، تسهل ملاحظته عند الذين يعتمدونه جميعا، وهم يشتركون به في كتاباتهم، ما يشير إلى تقليد يتبعه تقليد، يولد مثل هذه الظاهرة، حتى بات استعراض الأسماء أو الأحداث، يشكل العصب الرئيسي في التثاقف، خصوصا لدى معظم من لا يملكون القدرة على التلاعب باللغة، واشتقاق صيغ غريبة منها، لأن ذلك التلاعب قد يحتاج إلى معرفة مسبقة، على الأقل بالأساسيات الضرورية في اللغة، حتى يمكن التعامل مع الاشتقاق، أو استخدام ما هو معروف من تعبيرات بطرق مختلفة، وهو ما يفتقر إليه تماما معظم كتاب التثاقف.

مراكمة الأسماء ليست عملا شاقا كما يحاولون الإيهام، لأن من السهل الوصول إليها، حتى في أوقات الفراغ، من خلال القراءات السريعة لبعض الكتب المعنية بمثل هذا النوع من الكتابة (وهي كثيرة جدا، بكلّ اللغات)، وتسجيل الأقوال المأثورة للمشاهير، وهو ما تحرص عليه بعض المواقع الإلكترونية أيضا، ما يسهل الاختيار أمام هذا النوع من الكتابة. بعد جمع هذه الأقوال، يستكمل الكاتب تثاقفه بافتعال مشاهد يدخل فيها المقولات التي وقع اختياره عليها. وهذه المشاهد تكون دخيلة على التماسك العضوي للنصّ، أو ما يمكن أن يسمى نصّيته Textuality، بشكل شديد الوضوح، مهما كان مستوى ذكاء الكاتب في إخفاء هذا الإقحام.

ولعل أبرز الحيل الكتابية التي يلجأ إليها كاتب التثاقف هي التي تنتمي إلى التذكر: فهناك حادثة، غالبا ما تكون مقحمة، تذكر بحادثة شبيهة، يرغب الكاتب في أن يرويها، ليقع فيها اسم معروف، أو مقولة لاسم معروف. يلجأ الكتاب، استسهالا، وربما في البدايات، إلى فعل التذكر ومشتقاته لتمرير ما يريدون إقحامه، لكن كثيرين منهم، مع الممارسة، يحاولون الابتعاد عن هذا الفعل المباشر بالاعتماد على أفعال تحيل إليه، من نوع يحضرني، أو أحنّ إلى (شيء في الماضي)، أو تقودني الأفكار إلى، أو كما حدث مع؛ وكلها لا يخرج عن معنى الاستدعاء (لا التداعي) بهدف حشر معلومة التثاقف، أو استعراضها.

عدد الأسماء التي يتمّ حشرها والنسبة إليها في مثل هذه الكتابة، يثير السخرية عند من يملكون ثقافة القراءة الجادة، لأنهم يعرفون أن أحدا، مهما بلغ مستوى ثقافته، لا يملك من الذاكرة ما يجعله قادرا على حفظ هذه الأسماء كلها، وما قالت أو فعلت، وعلى استحضارها بشكل تلقائي خلال الكتابة، لذلك يكون من البديهي الإحساس بأنها أعدّت مسبقا، لا بهدف بحث جاد ربما يستثمره العمل الروائي الجادّ في الكتابة، وإنما بهدف استعراض المعرفة وحسب.

ومن الطريف أن هذا الاستعراض غالبا ما يسير في اتجاه الأسماء الأجنبية (التي يثير الاستغراب ورود بعض منها) أكثر من أسماء ترد في التراث العربي، قديمه وحديثه، (إلا ما كسب منها شهرة عالمية، وهي أسماء تتكرر لدى كتاب التثاقف)، ما يعزّز فكرة الادعاء، خصوصا حين ترتبط هذه الأسماء بأمور لا تكون سهلة المنال، مثل الموسيقى الغربية الحديثة، أو الفن الغربي الحديث، من قبل غير المتخصصين في ذلك، أو غير من عرف بالإدمان على متابعته، وهم قلة بكل تأكيد، ولا يمكن لاهتمامهم أن يدخل في صميم القضايا التي يكتبون عنها، أو يكون مناسبا لها، وبذلك لا تتساوى نسبة الذين يمارسون التثاقف باستعراض الأسماء مع هذه القلة.

هذا لا يعني أن الاستفادة من كتابات الآخرين، أو حتى أسمائهم، أمر يرفضه السرد، لأن هناك توجها في هذه الكتابة، وجد منذ زمن قديم، لكنه قنّن حديثا بأسماء عديدة ـ لعلّ أبرزها مصطلح "ما وراء الأدب" أو ميتا ـ أدب Metafictionـ يكثر من استخدام الأسماء، لكنه يفعل ذلك في السياق المناسب، لا عن طريق الحشر بهدف التثاقف. هذا النوع ينطلق من مقولة أن "الرواية تتحدّى التعريف"، ولذلك يقوم من يكتبونه بخلط ما هو ذاتيّ بما هو عام، لأنهم يسجلون فيه انعكاس العام على الذاتي، ويكونون صريحين في استخدام التكتيك انطلاقا من فلسفة تقول إن كل شيء مؤقت، بما في ذلك الواقع والتاريخ، وأنه لا توجد حقائق خارجية دائمة، بل سلسلة من الأبنية والحيل والأسس الزائلة.

من النماذج المعاصرة الناجحة للميتا أدب، رواية الكاتبة أناندا ديفي "الرجال الذين يحادثونني"[12]، وهي رواية صريحة في انتمائها إلى الانعكاس الذاتي في الأدب، وراويتها هي الكاتبة نفسها، وإن قدمت نفسها بأول حرفين من اسمها (أ.د.)؛ فهي بالتالي رواية سيرة، في إطار واقع يعيش فيه بشر وكائنات وأحداث، لها تأثير على الشخصية، ينعكس داخل أدبها من ناحيتين: الأولى هي ما تلاحظه من شخصيات خارجية، وكيف تتفاعل داخل ذاتها المنعزلة، والثاني هو ما تتأثر به مما تقرأ، وكيف ينعكس لديها على شكل غضب أو رضا. وهي في الانعكاسات كلها تعبر عن ذلك في كتابتها.

في استلهام الواقع: كانت صغيرة ترافق والدها إلى كل مكان، وتجلس في سيارته الصغيرة في انتظاره، تراقب ما يجري في الخارج. ذات يوم، وقع نظرها على سائق عربة وهو يدفعها مثقلة بأحمالها الهائلة. كان الرجل عاري الصدر. كانت عضلاته نافرة، مفتولة بفعل المجهود: "هذا الرجل انتهى إلى أن يكون مالكر في كتابي "شارع مخزن البارود". ما كان سيحدث لو عدوت وراءه؟ (...) ورأيت عن قرب، عن قرب شديد، هذا الرجل الذي يعتاش فعلا من قوة جسده؟ انتهى مالكر إلى أن يكون محور الحبّ العدمي لبولا. كيف يحدث تحوّل مثل هذا؟ ما عدت أتذكر وجهه. أتذكر فقط طلته الجسمانية، وسحنته، وشكل جسده، والاحتشاد الهائل لحركته الخطرة في شوارع بور ـ لويس. بات استلهامي لما سأكتب يتعيّن، منذ ذلك الوقت، في حواسي. كان في مقدوري الإحساس بوجوده، وملامسته، والسكنى معه في أفكاري. لو عدوت وراءه فعلا، أكان سيتحول إلى شخصية مالكر؟ لا أعرف من منا، بولا وأنا، باتت مسلوبة هذا الرجل. لكنت قلت له: مالكر، واضعة يدي فوق ذراعه اللزج من شدة العرق. لكان نظر إليّ، غير متأكد تماما مما أطلبه منه. لكنت تمددت فوق أحماله قائلة: خذني" (ص ص 43 ـ 44).

وفي استلهام القراءة: رغم حالة الحزن الذي يجمّدها بعد أن تركت المنزل، ظلت تقرأ داخل الغرفة الصغيرة في الفندق الذي لجأت إليه، مستعيدة ذاتها الكاتبة، بدلا من ذاتها الزوجة والأم، التي هربت منها، واسترعى انتباهها أمر هذا اليوم: قرأت مقالة عن الكاتب الأمريكي إيلستون إليس، يقول فيها ما معناه إنه لا يعتقد أن النساء قادرات على أن يكن مخرجات في السينما، لأن النظر لا يستثيرهن جنسيا، أما الرجال، فيقول عنهم: "نحن يثيرنا النظر": "كم هي مفاجئة هذه "النحن". تثير الصورة النساء بدورهن، كما الكلمة، والنظر والسمع والحواس كلها. من دون شك لهن الغرائز نفسها التي للرجال. إذا كانت أمور بعينها تثير الرجال، فإن غيرها يثير النساء، فنحن أيضا مخلوقات فيزيائية، أجساد متيقظة، فلا شيء يدعو إلى التعجب، ولا إلى التخوف من هذا" (ص 57). ثم تقرأ مقطعا من روايتها "شارع مخزن البارود" تقول فيه عن الشمس التي تميل إلى الغروب، وتعتبرها عشيقها السري: "إن استباق خطواته يثيرني فوق العادة. أتقدم إلى الأمام في دوار. أمضي في طريقي الجنوني، المتوتر، فأتقيد بعذاب سريري، وأنتشر مثل طحلب له ملامس للصيد. أبحث في وسط الكوكب الشمسي الذي ألعقه بلساني الممدود، عن أنا أخرى، منسية تقريبا، معلقة تقريبا، أجنبية تقريبا، كانت قد عرفت اللحظات عينها، لحظات النشوة، والنَّهم نفسه لمعرفة كل شيء، لتذوق كل شيء. الشراسة نفسها. والجسارة نفسها" (ص 58).

الكاتبة إذن تكتب رواية عن طريقتها في كتابة الرواية. والميتا ـ أدب كتابة عن الكتابة، لا داخل الكتابة كما قد يظن، ولذلك يكون تداخل الخيال بالواقع وكأنهما شيء واحد، غير مستقرّ. إن الكاتبة تروى طريقة استحضار الشخصيات الواقعية في الأدب، وطريقة تحوّلها، وإعادة النظر في هذا التحول، أو نقد الكتابة من خلال الكتابة، سواء أكان نقدا ذاتيا، أو للآخرين.

أحلام مستغانمي مثلا، وفي كتاباتها جميعا، تلتقط كلمة كاتب ما، لتتباهى بأنها تعرفها، لا لتناقشها، وتنقضها، أو تكشف ما صارت إليه في كتابتها. وحين تحدثت عن الكتابة عن الكتابة، جرّدت كاتبا مفترضا ليكتب عنها وعن رواياتها، بعكس ما يتطلبه الميتا ـ أدب من عدم الاختفاء. وربعي المدهون، في روايتيه، يستعير كتابة الرواية داخل الرواية، فلا يبدو اختلاف بين ما يقوله هو، وما يقوله كاتبه الداخلي، ليبرّر هذا الخيار، ما يعني أنه شكلي وحسب. سحر خليفة تجرّب الكتابة عن الكتابة في "روايتي لرواياتي"، وهي في الواقع تكتب ميتا ـ أدب، لكنها تكتفي بأن يتخذ أسلوب السيرة، ولا تمنحه شكلا روائيا.

هل من يستخدمون الأسماء يتمسحون بهذا النوع ما بعد الحداثي من الكتابة، دون أن يستوعبوه؟ لذلك يأخذون منه السمات الشكلية، ويتناسون عمق الموقف الشامل: فهم يأخذون مثلا أنه "أدب الانعكاس الذاتي"، لذلك تكون موضوعاتهم معتمدة على تجاربهم، ومن هذا المنطلق، يأخذون سمة أخرى من السمات التي حصرها جون بارث في دراسته "مقدمة حول ما وراء الأدب"[13]. وهي سمات سنعود إليها في مواضع أخرى.

2 ـ 3: التدخل          

إذا كانت السمة الأساسية للتثاقف هي التعالُم، أو الادّعاء، فإن من البديهي ألا يقتصر استعراض المعرفة على طرح الأسماء الكثيرة، أو استعراض شيء من المعلومات عنها، وإنما يمتدّ ذلك إلى بقية تفاصيل النصّ، عن طريق الشرح والتوضيح والتوجيه والتفسير، لدرجة أن النص يصبح مجالا لطرح الأحكام التي يتفضل بها صاحبه، في تدخلات لا تضيف إلى النص شيئا، بقدر ما تعيق من قدرته على التحرك. وفي الواقع أن معظم التدخل الذي يقع في كتابة التثاقف يتميز عن غيره من أجزاء هذه الكتابة بأنه يكاد يصدر عن تلقائية لدى الكاتب، بينما تغلب الصنعة والافتعال على بقية هذه الكتابة. الكاتب لا يشعر بأنه يتدخل، أو يطرح رأيا يخصه ككاتب، بشكل مباشر، كما تقتضي الكتابة، لأنه لا يستطيع أن يفرق بين العمل والذات.

في بعض الأوقات، ربما عن غير وعي، أو من باب التحايل على الذات، أو على القارئ، يعمد الكاتب إلى تغيير صيغة السرد، حتى يطرح أقواله الذاتية، أو يبرّر وجودها، وذلك بأن يغير الضمير السارد، إلى ضمير آخر، (كنوع من التلاعب أيضا)، فبدلا من السرد عن طريق الأنا مثلا، يجري السرد، في مقاطع التدخل، عن طريق مخاطبة الأنا، أو باستخدام الهو، ما يسهل على القارئ المدقق أن يكشف مواقع التدخل في العمل كله، خصوصا وأن التدخل لا يكون إلا بتكرار ما هو من تحصيل الحاصل.

ويدافع كاتب التثاقف في كثير من الأوقات عن هذا التدخل، ويعتبره حقا من حقوقه الأساسية، باعتباره صاحب النص كله، دون أن يعي أن من بديهيات الكتابة السردية الروائية أن يختفي الكاتب وراء الشخصيات التي يطرح رأيه من خلالها، وألا يظهر بصفته ككاتب، إلا إذا كان قادرا على تبرير ذلك الظهور. في هذا المجال يستند الكتاب إلى سمة أخرى من سمات "ما وراء الأدب"، قفزا عن مدلولها لدى منظّري هذا النوع من الكتابة، وهو التدخل الذي يهدف إلى إلغاء كثير من الأعراف الكتابية لطرح أسئلة عن العلاقة بين الواقع والمتخيل الأدبي.

إن السارد، الذي غالبا ما يكون السارد "النرجسي" كلّي العلم، في أدب ما بعد الحداثة هذا، عندما يقوم بتعرية "الأنظمة التخييلية واللغوية، يحوّل عملية التأليف من تشكيل أو صنعة إلى جزء من متعة القراءة وتحدّيها، كتجربة شراكة تفسيرية" مع المتلقي، كما يشير بارت، بينما تبقى عملية التأليف في كتابة التثاقف مجرد صناعة، تأخذ أدوات غيرها وتستخدمها في غير مكانها، عندما تنتهك مستويات السرد، بالتعليق، والانخراط في الشخصيات الروائية، ومخاطبة القارئ مباشرة، دون أن تقدم البرهان على الفكرة التي يقوم عليها نوع "ما وراء الأدب"، من أنه "لا وجود لحقائق أو معاني منفردة".

إن "الميتا ـ أدب"، كما يمكن أن يسمى، معنيّ بأن يتحدث عن الأدب، صياغة ونظريات ونقدا وأدباء، داخل الأدب نفسه، لأنه يرى أن "الرواية هي التي تقلد الرواية لا العالم الواقعي"، وهو بذلك يرفض أن يتحول إلى "حياة حقيقية"، بل يحوّل "الواقع إلى مفهوم معرّض لشكّ كبير"، وهو بالتالي يختلف عن التثاقف، الذي يأخذ مادته من الحياة، ثم يحملها بالإضافات الشكلية الملتقطة كتقليد. ولا شكّ في أن سمة شخصية هي التي تقف خلف التدخل، لا فلسفة عميقة، تدخل ذلك في لبّ العمل، أو تكيّف العمل بحيث يقبله التدخل كجزء من تقنيته، بوعي تام لما تفعل. هذه السمة ذاتها تكون دافعا في اللجوء إلى التثاقف من الأساس، وهي الإحساس الزائد بالذات، وما تملكه من معرفة، حتى وإن كان هذا الإحساس من باب خداع الذات نفسها، أو من باب "التباهي والمبالغة" تقليدا شكليا لأدب "ما وراء الأدب".

ويأتي التدخل في العادة على شكل جمل تقريرية تقطع سياق السرد، وهي جمل تؤكد التثاقف، حتى وإن لم تأت بقصدية في بعض مظاهرها، لأن الكاتب يكون غافلا عن أنه يخرج عن النص، أو يقتحم خصوصية السرد، ليدخل فيه خصوصيته نفسه. كما أنه لا يتردد في التكرار، وفي العودة إلى ما هو معروف أو مألوف، أو متاح للجميع، لتأكيده، وكأنه وحده الذي يعرفه. هذا النوع من التدخل ليس قاصرا على التثاقف، لأن الكتاب كثيرا ما يقعون فيه، حين ينسون أنهم يحكون مع القارئ عن شخصيات من خارج ذواتهم، ومن خلال هذه الشخصيات المتخيلة، (إلا إذا برروا فعلهم فنيا)، ليرتدوا إلى مخاطبته بأنفسهم، كمؤلفين، لا من داخل النص الذي يكتبونه.

2 ـ 4: تركيب الأحداث

تقف القصدية عاملا هاما في طريقة الكاتب في ترتيب أحداث عمله السردي، ما يجعل هذه الأحداث تبدو مركبة على ما سبق أن أعدّ لها، من علاقات، وتجاوزات لغوية، واستعراض للمعرفة، وكل السمات التي يتصف بها التثاقف. لهذا السبب يشعر القارئ المدقق بغلبة الصنعة على هذا النوع من الأعمال. كما أن تركيب الأحداث غالبا ما يختصرها إلى الحدّ الأدنى الممكن، لأن الاهتمام بالتفاصيل الأخرى، اللغوية، وما يستعار من الآخرين، يكون هو الهمّ الأول لدى الكاتب.

إن أية رواية يعتمد كاتبها التثاقف أسلوبا، سيكون بالإمكان أن تختصر نسبة عالية منها، دون المساس بمادتها السردية. وهذه النسبة هي الزيادات الهائلة التي يفرضها التثاقف، سواء أكان ذلك في الخروج عن السياق لسرد بعض الحكايات التي يهتم الكاتب بأن يشعر القارئ بأنه يعرفها، أو كان ذلك عن طريق التفاصيل الكثيرة غير اللازمة، أو الشروح، والتفاسير التي يكون القارئ في غنى عنها، وإذا كان يحتاج إليها بالفعل فإن ذلك دليل على ضعف الأساس الذي قام عليه العمل.

لكن أبرز ما يضاعف الصفحات، على حساب الأحداث المركبة، هو محاولة تقديم الفكرة الواحدة بمجموعة من الخيارات التي تحمل المعنى نفسه، وهو ما يشكل جزءا من اللعب باللغة، أو التلاعب بها، يتقنه أدب التثاقف، ويعتبر جزءا من شعرية النص، دون أن تكون لديه أية فكرة عن الشعرية في السرد (Poetics) التي لا تنتسب ـ لغة وأداء ـ إلى الشعر، حتى وإن حملت حروفه، لأن لها سماتها المختلفة عنه، ولها استقلاليتها البلاغية.

2 ـ 5: إعلاء الذات

كل التجليات التي سبقت الإشارة إليها لها جذر واحد في السمات النفسية للكاتب التثاقفي، وهي تنطلق منه، كأساس أول، وهو: إحساس الكاتب بأنه قادر على أن يخدع القارئ، لأنه أكثر ذكاء، وهو إحساس يكون الكاتب مقتنعا به، في الغالب، ما ينعكس على نصه بكامله على شكل محاولات متواصلة للإعلاء من شأن الذات، أو تضخيمها، بما يمكن أن يطلق عليه ـ نفسيا ـ صفة النرجسية. وإذا كان كل كاتب، أو مبدع على العموم، يستند إلى شيء من مثل هذا الإحساس بالتميز، كجزء من طبيعته، لأنه يشعر بأن لديه نوعا من الموهبة، ليس متاحا لكل الناس، ولأن عملية الإبداع ذاتها، التي تعتبر في مجملها نوعا من الخلق، تمنحه مثل هذا الإحساس، إلا أن التضخم الزائد للأنا عند الكاتب سوف يعمل على إعاقة قدرته على الكتابة، أو يشغله عنها بمحاولات رسم الصورة المثلى، أو المتميزة للذات، بشكل قد يصل حدود الغرور الذي لا يستند إلى واقع، أو المرض الذي يستلزم علاجا، وهو أمر ليس غريبا عن "نهايات" الكتاب والمبدعين.

ومن المعروف طبعا أن معظم الكتاب الواعين والموهوبين لا يقدمون على ممارسة النرجسية في كتاباتهم بشكل علني، وهم يقاومون ذلك، وينجحون مع الممارسة، بعد أن يفهموا أن عليهم أن ينفصلوا عما يكتبون، وهم ينجزونه، ولذلك ينفس معظمهم عن هذه الرغبة في الحديث عن أنفسهم بشكل زائد، وهم يلوون عنق كل الأحاديث، حتى يتحدثوا عن أنفسهم، وعما قيل فيهم، وكيف كتبوا، وغير ذلك من الحيل النفسية التي تشكل جزءا من طبيعتهم التي يضطر الناس إلى قبولها، في كثير من الأحيان. لكن التثاقف يتخذ طريقا آخر في هذه المهمة: إنه يتحدث عن الذات بشكل مباشر، داخل النص ذاته. ومع أن اللجوء إلى ذلك يبدو منفرا في أي نص، إلا أن التثاقف لا يعنيه إلا أن يعبر عن هذه الأنا، بغض النظر عن طريقة استقبال الآخرين لذلك، منصوصا عليه.

لقد لجأ بعض الكتاب المشهورين إلى استخدام حرف أول من أسمائهم، ليشير إلى شخصية داخل ما يكتبون، كما فعل فرانز كافكا مثلا مع شخصية جوزيف K، في "المحاكمة"، أو شخصية K في رواية الحصن، التي توفي قبل أن يكملها، ولجأ آخرون إلى استخدام اسمهم الأول، ليشير إلى شخصية روائية، كما فعل غالب هلسا، الذي أطلق اسم غالب على شخصيات رئيسية في رواياته. ويبدو أن ذلك أغرى من يختار التقليد طريقا بأن يوسع ما سبق، سواء أحاول أن يتحايل عن التصريح، بالتلميح، أو الإشارة، أو بذكر أعماله السابقة داخل العمل الجديد، بشكل يسهل التعرف عليها، وبطريقة تعلي من شأنها. لكن آخرين استطاعوا أن يملكوا الجرأة ما يجعلهم يقدمون على تمجيد أنفسهم بكل صراحة ووضوح، دون أن يهمهم، أو أن يخطر في أذهانهم أن القارئ لن يستطيع أن يتقبل فجاجة مثل هذا التمجيد.

إن شيئا من الحق في الإعجاب بالذات يمكن أن يُعترف به لأي كاتب، خصوصا إذا كان يملك ما يقوله للناس، مما يمتع ويضيف، وهو جزء معترف به نفسيا، في تحليل شخصية المبدع، لكن المبالغة في ذلك لا تشكل عرضا لمرض نفسي وحسب، ولكنها تشكل عائقا بين الكاتب ومن سيقدم على قراءته.

 

[1] يمكن الرجوع إلى د. عاطف فضل محمد، الصرف الوظيفي، دار المسيرة، عمان 2011، ص 74. [ويصعب الوصول إلى أمثلة مشتقة من الفعل المتعدي وتحمل معنى التظاهر].

[2] د. حنان عمايرة، مجلة الجامعة الإسلامية للبحوث الإنسانية، المجلد العشرون، العدد الثاني، (ص ص 295ـ326). [الإشارة ص 311ـ 322], ISSN 1726-6807 http://www.iugaza.edu.ps/ar/periodical

[3] شذا العرف ـ الشيخ أحمد الحملاوي؛ كتاب الأفعال ـ أبو عثمان السرقسطي.

[4]W. Wright: A Grammar of The Arabic Language, University Press

. وليم رايت، قواعد اللغة العربية (باللغة الإنجليزية) وفيه مقارنات مع اللغات السامية

[5] http://www.drmosad.com/index123.htm

[6] تمت الاستعانة بقاموسي المورد (عربي إنجليزي وإنجليزي عربي)، والمنهل (فرنسي عربي)، وقاموسي أكسفورد (عربي إنجليزي، إنجليزي إنجليزي)، وقاموس هارب (للناطقين بالعربية)، والمنجد (عربي عربي)؛ إضافة إلى المعاجم الخاصة بالمصطلحات الأدبية (عربي إنجليزي فرنسي).

[7] http://www.publicacions.ub.edu/revistes/bells13/PDF/articles منشورات جامعة برشلونة

[8] www.orwell.ru;www.goodread.com

[9] في الحديث عن التناص، تمت الاستفادة من مصدرين: مليكة فريحة، مفهوم التناص: المصطلح والإشكالية، http://www.oudnad.net/ ؛ د. عبد العزيز حمودة، المرايا المحدبة، سلسلة عالم المعرفة (رقم 232)، الكويت 1998 (ص ص 361 ـ 373).

[10] جان فرانسوا ليوتار، الوضع ما بعد الحداثي، ت: أحمد حسان، دار شرقيات، القاهرة، 1994، ص 33.

[11] كتب منصف الوهايبي مقالة بعنوان "هل الأدب العربي الحديث أدب كيتش: أحلام مستغانمي نموذجا" تحدث فيها عن موضوع الاستهانة باللغة، في روايتها ‘عابر سرير"، ومنها اقتبست الأمثلة: مجلة الكلمة، لندن، العدد 55، نوفمبر 2011. سوف تقرأ الرواية ذاتها قراءة تثاقفية في الفصول التطبيقية.

[12] أناندا ديفي، الرجال الذين يحادثونني، (ت: شربل داغر)، سلسلة إبداعات عالمية (رقم 392)، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت: 2012. الكاتبة من جزيرة موريس في المحيط الهندي، تكتب بالفرنسية، وهي كتابها الثالث عشر، وصدر في باريس 2011.

[13] https://scholarblogs.emory.edu https://www.academia.edu/4146072/Metafiction