يكشف الناقد المغربي في هذه الدراسة لعملين للروائي أحمد المديني أن عملية تشكل الخطاب الروائي واندراجه ضمن نمط فني تنطوي على ما يلتقطه من خطابات أخرى، يكيفها ويعيد بناءها.

تحولات التخييل

بحث في التشكل والتكيف من خلال روايتي (زمن بين الولادة والحلم) و(المخدوعون) لأحمد المديني

شُعيب حَليفي

 

ضوء قديم

أربعة أحداث قديمة تعود إلى القرنين الرابع والخامس الميلاديين:

ـ إن القديس أوبتانوس، كما يعتبره المؤرخون المعنيون بالتاريخ الإغريقي الروماني، هو أول مجادل كاثوليكي ومؤرخ استطاع أن يقدم تأويلات تستثمر لغة عصره.

ـ الحدث الثاني، أنه في نفس القرن، قاد أحد الأمراء الثوار Geldo، ثورة في شمال أفريقيا على السلطة الرومانية، وقام بتوزيع الأراضي ـ مجانا ـ على الفلاحين والحصادين. وقد كتب أحد الشعراء،  وهو كلوديانوس، قصائد تستثمر الوجدان الثوري المصاحب لهذه الثورة.

ـ وفي نفس القرن أيضا وبشمال أفريقيا، حيث كانت قرطاج مركزا دينيا في عهد الرومان، كتب القديس أوغسطين كتابا ضمنه مجموع اعترافاته التي كانت تتقاطع مع عدد من مجادلاته الشهيرة.

ـ الحدث الرابع يروي قصة أحد الحصادين، وقد عثر عليها ضمن نقش روماني في شمال أفريقيا، تقول في جزء منها: "البيت الذي ولدت فيه كان بيتا فقيرا، أبي كان رجلا فقيرا لا ريع له ولا دار. ولدت في الحقول، وعشت في الحقول، طلبت من الحقول معاشي اليومي، فلم نرتح لا أنا ولا الحقول ..."

أردت أن أفهم إلى أي حد يمكن للنصوص، المكتوبة والشفوية المتداولة، ضمن خطابات في سياق التلقي المحدود أو المنتشر.. منذ القديم ... أن تكيف وتستثمر الخطابات السائدة بنبرها وتقطعاتها وما تحمله من نوايا وأحكام ودرجات الذاتية وكل ما هو شعوري بأشكال متفاوتة، وما تحمله أيضا من فهم وتأويل ومن أخطاء وحدوس ... هى خطابات مهيمنة تتلاشى وتنمو، كونها تحمل في موتها سمادا للحياة والاستمرار، فهي تشتغل دلاليا في حقول الاجتماعي اليومي والديني والسياسي، والوجداني ...

إن تشكل الخطاب واندراجه ضمن نمط فني أو ما يشبهه، لا يتحقق إلا مما يلتقطه من خطابات أخرى، يكيفها ويعيد بناءها.

ويصبح الحديث عن الرواية، ضمن هذا الأفق، أكثر جدية باعتبار السرود الحديثة هي جزء من المعارف الإنسانية، تساهم في تشكيل الوعي بالأشياء، رغم كون بنائها المعقد والمرتبط بأكثر من مجال وحقل، سواء باللغة ومفاهيمها وآثارها وحمولاتها في مرحلة معينة ،أو بالسياق التاريخي والثقافي، كما بذات المؤلف وقناعاته الجمالية والفكرية.

كل نص، في المحصلة، هو نتيجة تكييف لنصوص وخطابات أخرى كما يرفده التخيل والتذكر، وخبرات المعيش. ويعتبر أحمد المديني، أحد المؤسسين للرواية المغربية إلى جانب عبد الكريم غلاب وعبد الله العروي ومبارك ربيع ومحمد زفزاف وأحمد عبد السلام البقالي ... ومن المساهمين في ترسيخ وتطور الجنس الروائي بالمغرب، فتجربته بمخزونها السردي، على مدى فترة زمنية طويلة، حققت مداخل عدة لقراءتها من منظورات تتعزز من خلال ما تقدمه من تآويل. بين روايتي (زمن بين الولادة والحلم. 1976) و(المخدوعون 2006) ثلاثة عقود عرفت تحولات مشهودة في الواقع الذاتي والمجتمعي وفي رؤية وأسلوب أحمد المديني وفي جملته الروائية التي يمدها برواء تخييل ما زال قادرا على المحاورة والصدام.

الوعي الانسيابي

في (زمن بين الولادة والحلم) يتشكل المتخيل وفق استراتيجية مزدوجة، فهو نص ينخرط ضمن سيرورة دائرية، عبر ارتباطه بما هو مألوف ومحجوب، والتعبير عنه باختلافية من أجل إعادة اكتشافه وإبرازه كبنية مهيمنة تحقق قيمة الكتابة والصراع والنقد. إنه نص يكيف الخطابات الاجتماعية والسياسية ويعيد إبداعها فنيا عبر فن محاورة الذات. فقد اختار المديني في (زمن بين الولادة والحلم) الشكل الانسيابي للمحاورة ومسرحتها بتضعيفها للراوي وأصواته، والمشدود إلى الاهتزازات القوية للمرحلة السياسية بثورتيها وإحباطاتها، ولعل قراءة في الوثائق السياسية الهامة بدءا من الاختيار الثوري للمهدي بنبركة 1963 إلى تقرير عمر بنجلون الأيديولوجي (1975) يعكس الأثر الثقافي على السرد الذي كتبه الروائيون اليساريون إلى حدود نهاية الستينيات.

في (زمن بين الولادة والحلم) ينهض تشكل المتخيل من المناخ الثقافي ليكتسب مشروعية التعبير عن مسار فكري يخضع للتحول والتكيف مع مرحلة جديدة. إنه متخيل يعبر فيه المديني عن عالم يراه ويعيشه، بلغة مقتصدة لا تستدعي إلا ما يمد في حياة هذه المحاورة الذاتية وإطالة عمر المرايا ليتحدث عن:

"هراء الزمن الضائع، والظلم والكينونة والعاصفة والتنين والتمساح والمغارة والمسيرة والشوارع والضوء والوهم والتضخم والدوخة واليبس والضياع والمتاهة والرعب والزيف."

النص محاورة تروى، في سياقاتها، محن الأنا مع صورها من ضمائر الهو والمخاطب والنحن، مسارات المتاهة، بوعي شقي وشعري مثقل بمرجعية تحيل على واقع صاخب بالصراع، انعكس على النفس/الوجدان وعلى اللغة والمعرفة، ويعبر عن موقف من الماضي، عبر توظيف أشكال ومضامين قديمة تنتمي إلى الثقافة الدينية والسياسية العربية، في سياق تهكمي. وضمن هذه الدائرية الحوارية المنسابة تنكتب الحوارات الصاخبة للمتخيل الجمعي، بلغة تقصد الخطابة والانتقاد، ثم التعليق والتأمل والسخرية. وتستعير الجملة السردية البناء الشفوي في التكرار والتوليد، والاقتصاد في بناء الصورة واختيار المفردات المنسجمة مع المرجعية العامة والإكثار من الجمل المصدرية. إن الجملة السردية تفضح الدلالات رغم اختيار البعد الترميزي في إخفاء المكان والشخص والملامح الكبرى للأحداث.

ـ بعد تلك المسيرة الطويلة، كانت "مجموعتنا قد استنفدت طاقاتها في مدارات اللاجدوى" (ص 32).

ـ ونحن نسير، كل الأقزام تألبوا، تآمروا مرة واحدة وجدنا ونحن نتنفس بصعوبة وسط كثبان محروقة، ليتها كانت رمادا كان علينا أن نمد أنابيب خارج كل كثب كيما نتنفس، لم يكن ذلك ممكنا" (ص 37).

ـ "كنا جماعة جماعة واحدة يضمها الوهم والحزن ورؤى فجر أغبش" (ص 48).

في كل محاورته الطويلة، كان الراوي يبحث عن معرفة لفهم ما جرى وما يجري، وبالتالي فهو يرفض التكيف مع حالة ظل يبحث فيها عن "هزة" تدك الشوارع، اسمها الثورة التي تتخلص من الماضي ومما تراكم من تعفنات.

إن خوف الراوي من التكيف الذي يعادل التنازل عن الأحلام القرنفلية، جعله يختار تكيفا آخر ينقذه من إسدال الستار، وهو التكييف الثقافي للخطابات السياسية والاجتماعية والأدبية، فأعطى نصا روائيا محيرا في شكل محاورة دائرية تتوسع في كل نص لتستقطب التعبير عن شكل التكيف بمفردات تبدو مختلفة ولكنها تنتمي لحقل دلالي واحد بنظامه الرمزي وبنائه الانسيابي ،عبر سبعة فصول ترتسم في دوائر، هي مثل كرات الثلج تجيد النمو والتكيف والذوبان.

رؤية بزوايا مرآوية

بعد ثلاثين سنة من نصه الأول (زمن بين الولادة والحلم)، يكتب أحمد المديني نصه العاشر (المخدوعون)، حيث الرؤية التي تغذي الوعي هي نفسها مع تكييفات في خطابها، وفي المستوى الجمالي يحضر الوعي الذاتي والجمعي ضمن متخيل ثقافي يصهر الاجتماعي بالسياسي ضمن رؤية انتقادية تطال ماضي جيل كامل ينتمي إليه الرواة.

وقبل (المخدوعون) حقق احمد المديني، في ثلاث روايات سابقة(مدينة براقش 1998، العجب العجاب 1999، الهباء المنثور 2001) ما يشبه تشكل متخيل يقرأ بأكثر من صيغة ليعبر عن رؤية فصيحة في (المخدوعون)  التي يحق عليها قول ما جاء على لسان إحدى شخصياته وهو يصف نفسه : (ولدت في نطاق الخيال وكبرت في محيط الذكرى) ص 194، وهي أيضا امتداد في شكلين ومرحلتين: امتداد لنسيج المتخيل العنيف والانتقادي الذي اختطه أحمد المديني لنفسه عبر رصده للوعي الجمعي والذاتي وإعادة تشكيلهما ضمن سياقات مفترضة تهفو إلى الحقيقة، وسياقات حقيقية تتطلع إلى الاحتمال. وامتداد أيضا لتجربته الروائية برصيدها المعرفي والفني وفي بحثه عن المغامرة.

ورواية (المخدوعون) تحقق لنفسها سمة النسب إلى مرايا المتخيل المغربي والعربي من جهة، وإلى بروق أحمد المديني من جهة ثانية، مرايا مساحاتها (تضيئ ولا تعكس، تتخيل ولا تقرر) ممتدة في أمكنة من أولاد حريز (القبيلة المجاورة بالضرورة لقبائل المزامزة المقدسة) والدار البيضاء وفاس إلى باريس ونقط أخرى هنا وهناك. إنها مرايا تتخلق ملمح التجديد في الرؤية، وتبحث عن المخدوعين الذين يتركون في الرواية صدى البحث عن الخداع.

إن تشكل الدلالات في (المخدوعون) يضيء بقوة الصراع الأزلي بين الحياة وأوهامها، بين الزيف والحقيقة، وهو "بحث متولع" يتخلق ضمن قضايا كثيرة يعالجها رواة أحمد المديني، وبمعالجة فنية، بعيدة عن الآثار المباشرة لمرحلة السبعينيات، التي وجدت فيها رواية (زمن بين الولادة والحلم) على عكس ما اكتسبه المديني من خبرات، فينتقل من المحاورة واللغة الأقرب إلى زند الأفكار .. إلى حواريات متناوبة وتنسيبات في فضح الخداع والأوهام ، حيث توسعت المعرفة في الرواية على مستويات عدة ،ومنذ البداية تتأطر المخدوعون بتيماتها في باريس عبر " البحث المتولع عن مرتكز للذات، وعن أفق للكرامة الإنسانية، تقوده شخصيات تتقلب فوق جمر الهوى والنضال والغربة وخداع الحياة".

يفتتح الروائي السرد بنشيد ثلاثي يلمح إلى الوجدان المضطرب (ص 9) إنه موسيقي الجنيريك التي ستؤطر التذكر داخل أمشاج الوسواس في طريق الوصول على موعد غرائي، وحوارات مشدودة إلى كلام يقف بين وضعين تأويليين، والراوي هنا ومنذ الفصل الأول، يفتح نافذة أساسية على المتلقي حول الكتابة وخداعها : "هل يتعذر علي إلى هذا الحد أن أعثر على البداية الضرورية لما أريد أو يخيل إلي أني أعرف، هكذا نحن جميعا نحسب أننا نقبض على الحقيقة، نملك أنفسنا أو نملك زمام العالم في قبضة اليد، أحينا نزهو وعنجهية وبإفراط في التفاؤل"،( ص 13)، ويتذكر في جملة بؤرية يفتتح بها الفصل الرابع ما يفسر علاقته بالكتابة والتلقي حينما يقول : "أحس مؤقتا بأني حر في ما أروي، لا قاهر لي، دليلي ذاكرتي وما استبقيت من معايشاتي، ص 149 ليصل في الصفحات الأخيرة من الرواية إلى فك رموز تلك العلاقة التي تكشف أن الكتابة هي وحدها ـ وربما من بين وسائل نادرة ـ القادرة على فضح الخداع والأوهام وتحقيق شكل جديد من المعرفة بالذات وبالآخرين وبالحياة، فالحقيقة في الرواية هي المتخيل، والمخدوعون شخصيات في مرايا هذا التخييل الذي كان أوله نطفة من طين وطن أحمد المديني، والذي  يعترف : "أنا لا أفهم كيف يتكلف شخص ـ يلقبونه السارد ـ وأنا شخص حقيقي، لا متوهم، ولا كائن من ورق، برواية قصة كاملة عن أفراد عاش معهم وتداخلت حياته بحياتهم (ص 239).

وقد تمكن أحمد المديني بأصواته وتمظهراتها داخل التخييل من إدخال المتلقي المفترض في لعبة السرد والقلق والبحث والتناوب في الحكي، وذلك للوصول إلى دائرة تتوسع باستمرار، يدخلها رواة وثوار تعصف بهم رياح ويعصفون بالأفكار والقيم.

وابتداء من الفصل الثاني تخوض الرواية سبيل التنقيب في حركة اخرى داخل مرآة ستعكس حركات المخدوعين، فالسارد يعطي الكلمة ـ في تناوب واضح ـ للشخصية هاء، الطالبة اللبنانية لتروي بدورها فصولا هامة وأساسية من المتاهة والورطة، ومحنتها بنفس مضطربة، والناتجة عما جرى لغانم المغربي مع البوليس السياسي أولا، ثم تخليه عنها باعتبارها جزءا من ماض سيتنكر له بفداحة، وما سببه لها من وسواس ومرض نفسي وورطة قادتها لاستئناف اللعبة من جديد في مرآة الخدعة (ص 59). ويصبح الحكي في سرود (هاء) فرصة للتخفيف من ضغوط الورطة، وأداة تطهيرية لشيء خلف آثارا لا تمحي. ولكن السارد، الذي يتخفى وراء كل شيء مثل لاعب متمرس، يتدخل بتعقيبات تعيد ترميم ما يلمع خادعا، بل يعيد تأويل الأحداث بتفصيلات متدثرة بالتأملات والغمزات التي تعري عن الخداع ستاراته وأحابيله المحمولة في سلوكيات جديدة: " ثم إن الصدفة أكبر منا، فلا أحد منا يتحكم فيها، تعقد وتحل وحدها، ونحن في  تمام يقظتنا أمامها، نظن أننا نقبض على زمام الأمور، ونسير كما نشاء مصيرنا من أول الحبل والخيط إلى نهايته، وحيث نتبين بأن الزمام فلت ننتفض مستغربين كيف سهونا، ولا ننتبه أن مصيرا آخر ما نمشي فيه، كالعميان نمشي ولا نتراجع" (ص 45). 

 في (الزمن بين الولادة والحلم) كما في (المخدوعون)، وبعد ثلاثة عقود، تظل نفس القضايا التي تحجب الواقع المأمول عن الرواة في الدار البيضاء أو باريس وغيرهما من المدن والعواصم. قضايا المحنة، المتاهة والورطة والانخداع والخيبات والصفقات. أليست شخصيات غانم والجيلالي المعتوق وعبد الغني وعبد الرحيم المزابي والمخبر اسكي في (المخدوعون) هي من كانت تتحرك في لحظات (زمن بين الولادة والحلم) وممن بدأوا يشيخون في منفاهم، أو ممن اكتشفوا أن آخرين ،في الداخل، يتحدثون ويفاوضون باسمهم وبحساب عذابهم الماضي، يمكن أن يحصلوا على غنيمة الحلم. ص 207.

إن الإحساس بالخيبة والورطة بجذورهما بلغ مدى جماليا راقيا في (المخدعون) وهو يصف بعض المفكرين بالمتسلطين وبعض السياسيين بالوثنين وما يستتبع ذلك من تذكرات ضمن مفاصل حكائية مكثفة، عامرة بالوجع، تتصادى بداخلها لغة سردية مثوتبة بإحالات انتقادية في سياق جمالي يخلق الإحساس بالروائية من خلال عناصر تحضر في مجرى النص كله حضورا لافتا متوترا:

ـ تأثيث النص بالمعرفة من خلال حضور الفكر والمفكرين وآرائهم ومحاضراتهم فتتحول عدة صفحات إلى قراءات نقدية لأفكار وتصورات كانت تعج بها باريس. وسيقدم الروائي على ربط استحضاره للفكر والأدب بمصائر شخصياته، كما فعل في قصيدة "زمن الكرز" لجان بابتيست كليمون التي أوردها وعلق عليها وعلى حياة صاحبها حتى يصل إلى ربط كل ذلك بحيوات عبد الرحيم المزابي ويوسف الذهبي (ص 155) .

ـ خاصية معرفية أخرى طريفة وهي بناء الرواية فوق خريطة دقيقة النسيج، حية متفاعلة فكل الشخصيات مرتبطة بهذا النوع من الأمكنة من مرور بشارع أو زنقة أو هبوط إلى المترو أو جلوس بالمقهى أو وصف وقد جاء بناء هذه الخريطة فنيا ومتلاحقا ولن يخفت إلا في الفصل الأخير.

ـ دينامية الشخصيات وتحولاتها في مرايا الزمن المغربي والمنفي الاختياري ثم الاختيارات الأخيرة، كما لو أنها شخصيات مدربة على التفاوض مع الحياة، تغامر بماضيها من أجل فترة زمنية أخرى ستصبح جزءا من الماضي أيضا، بدءا من غانم وهاء (هناء-هادية) والجيلالي المعتوق المخنوق (ص 143) وعبد الغني ثم شخصية عبد الرحيم المزابي الذي سيعوض حضوره في الرواية ابتداء من الصفحة 130 غياب غانم، وسيلعب دورا أساسيا في تفاعلات الأحداث الموالية وحكاية فراره من أحداث مولاي بوعزة، كما يرويها عبد الغني الحكاء الأثير في الرواية.

شخصيات أخرى ترمم الملامح العامة للمخدوعين مثل المخبر اسكي بمفكرته الضائعة والتي شكلت رواية أخرى، ومفصل حياة يوسف الذهبي ومجالاته الطويلة ثم انتحاره الفاتتازي.

هل يكتب أحمد المديني الرواية منذ عقود للبحث عن المحتمل في الحياة وفي القول الإبداعي الذي يفضح الوهم؟

إن رواية (المخدوعون) بالجمع المتعين وغير المتعين، تقف عند نقط حاضنة عبر تدرج سردي يصل بهاءه حين يتحقق التناوب السردي المنسجم لحكي الدواخل المشتتة بين المنفى وباريس ويعبر عن  التقلص المستمر لأحلام الشهداء والمناضلين في لحظة دخول غانم إلى مركز القرار تناوبا، بعد مفاوضات وتنازلات قدمها بخصوص تاريخه وحبيبته ورفاقه القدامى وعلى رأسهم عبد الغني.

تتحول الرواية سرديا إلى مسرح عاج، بستار شفاف يحقق مسرى حكائيا يحتفظ برواء النص ودفقاته الشاعرية حينا والعنيفة حينا آخر في انتقاد للأقنعة التي تحجب وتدمر القيم وتستبدلها بأخرى انتهازية لذلك كان موت الباهي وعودة عبد الغني أستاذا جامعيا يحمل رسالة من (هاء) واكتشاف المصير الخادع لغانم...مرآة أخرى.

وتكشف الصفحات الثلاث الأخيرة فداحة الخسارة والمحنة والخداع في حوار تختزل الخيبة، أثناء هبوطهما المفترض إلى النفق حيث يتلو عليهما متشرد عابر حديث العشاء الأخير للسيد المسيح وهو يعلن النعي.

الرواية بهذا تحفر جرحا سريا في التلقي الواعي وتحضر فيها الشخصيات مثل غيوم تمطر ثم تمضي وقد حقق أحمد المديني بهذه المجازفة العاشرة (الرواية العاشرة في مسيرته الإبداعية) حلما آخر يرى من خلاله الماضي والراهن موظفا بذلك شذرات بيوغرافية وغيرية.