يؤكد الكاتب أن الكتابة للأطفال مغامرة تتطلب شروطا خاصة، وقدرة على مخاطبة هذه الفئة العمرية والنفاذ إلى عوالمها، فهو أدب يعمل على بناء شخصية الطفل، وتشكيل قيمه. الأمر الذي وفق فيه الشاعر كنون فاتصف ديوانه بجمالية تنسج وظيفتها التربوية بذكاء.

القيم التربوية في شعر الأحداث أنموذجا

في ديوان «رحلة في دروب الحياة» لعبد اللطيف كنون

محمد أبحـيـر

1 - بين يدي أدب الأطفال
يعرف الدكتور أحمد مختار مكي أدب الأطفال بقوله: إنه كل ما يكتب للأطفال خصيصا من نتاج أدبي روعي فيه خصائصهم اللغوية، والنفسية، والعقلية، متمثلا في الأشكال الأدبية المتنوعة من قصة، وشعر، ومسرحية، وأغنية(1). بينما يذهب محمد أنقار إلى أن "خصوصية النصوص الموجهة للأطفال تنبع، في الواقع، من خصوصية عالم الطفولة"(2).

فأدب الأطفال –وفقا لهذين التعريفين- هو تلك النصوص الشعرية أو النثرية التي تعنى بهذه الفئة بشرط احترام خصوصياتها. وهكذا يمكن اعتبار أدب الطفل بمثابة علم صناعة المستقبل، لأن هذا العلم في عبارة موجزة: يشكل وجدان الصغير، الذي سيصبح فيما بعد كبيرا يتولى مقاليد الأمور(3).

وتأسيسا على ما سبق، فـ"إن أدب الأطفال يمثل ركنا رئيسا في بناء شخصيات الأطفال، وتكوين وجدانهم، وتنمية عواطفهم، كما يساعد الطفل على ضبط انفعالاته، ويسهم في نمو لغته، وتشكيل قيمه ومعلوماته، كما يسهم في تنمية مشاعر انتمائه لأمته ووطنه"(4).

إن هذه الغايات والأهداف تفرض على الكاتب أن يولي عناية فائقة لهذا الأدب، وأن يكون على بينة من الفئة المستهدفة، فضلا عن التسلح بزاد معرفي يمكنه من استحضار مختلف القيم والأخلاق، وبثها في العمل الأدبي في شكل موضوعات ميسرة، ليتقبلها الطفل بقبول حسن، وبالجملة إن أدب الأحداث يؤدي دورا حاسما في تشكيل النظام القيمي عند الأطفال.

2 - القـيم والشعـر:
تعد القيم بمثابة موجهات السلوك أو العمل، ومعنى ذلك أن مجموعة القيم التي يعتنقها شخص من الأشخاص هي التي تحركه نحو العمل، وتدفعه إلى السلوك بطريقة خاصة، ويتخذها مرجعه في الحكم على سلوكه بأنه مرغوب فيه أو مرغوب عنه(5). ولا يقتصر دور القيم على ضبط سلوكيات الأفراد، بل يتجاوز الأمر الفرد إلى المجتمع برمته.

لهذا تحتل القيم منزلة عالية في التكوين النفسي للطفل، فهي البوصلة التي تنير له دروب الحياة، وتجعله فاعلا ومنتجا في رحلة الحياة، إذ تتدخل القيم في تكوين شخصية الطفل، والتأثير في سلوكياته.

وعن علاقة القيم بالشعر، يتساءل أحد الباحثين فيقول: هل نعلم الأطفال الشعر ليكون هدفا بحد ذاته ؟ أو نعلمه ليكون وسيلة لغرس القيم التربوية؟ وهل يمكن تحقيق المعادلة الصعبة بين الفن والتربية فنحقق بذلك الغرضين معا؟(6).

إنها تساؤلات مشروعة تكشف لنا عن خطورة الأدب الموجه للأطفال، كما أنها تكشف عن حجم المسؤولية الملقاة على عاتقنا، فتحقيق الانسجام بين الفن والتربية لا يتأتى لأي كان، إذ أن هذا الأمر لا يحققه إلا "شاعر متمرس من الناحيتين الفنية والتربوية، يستطيع أن يقدم شعرا لا تحول فيه الصياغة الفنية دون الإيصال التربوي"(7). وهكذا فـ"إن الشعر الموجه للأطفال يدخل في إطار الاهتمامات التربوية، باعتباره وسيطا تربويا لتنمية الذوق الأدبي عند الأطفال"(8).

ومما لا شـك فيه، أن الأستـاذ عبد اللطيف كنـون، قد استطاع الموازنـة والمواءمة بين عنصري الفن والتربية. بل وأضفى على هذين القطبين إضافة نوعية، تأتت من أنه خبر شؤون التربية والتعليم، مما أهله للحديث عن هذه الفئة العمرية بدون مركبات نقص، وبالتالي فقد جمع الحسنيين: التدريس وقول الشعر.

3 - القيم التربوية في الديوان:
قبل أن نهم بافتحاص القيم الواردة في المجال المخصص لأدب الأحداث، نسجل أن هذا الجزء من الديوان يضم إحدى عشرة قصيدة ما بين عمودية، وحـرة، ومشطورة وهي: "دنيا الطفولة" و"فـأر لعين وقط أمين" و"قدر خـروف" و"سمكـة في لحظـاتها الأخيرة" و"القلـم" و"عند الحداد" و"مـع الفخار" و"أشبال في مخيم" و"الفقير والبرد" و"يتيم" وأخيرا قصيدة "هذه بتلك".

ويمكن إعادة ترتيب هذه العناوين في المجموعات الآتية:

- المجموعة الأولى: المراحل العمرية (دنيا الطفولة، أشبال في مخيم).

- المجموعة الثانية: قصص الحيوانات (قدر خروف، سمكـة في لحظاتها الأخيرة، فار لعين وقط أمين).

- المجموعة الثالثة: المهن والصناعات (عند الحداد، مع الفخار).

- المجموعة الرابعة: الفئات المهمشة ومعاناة الحياة اليومية (الفقير والبرد، هذه بتلك).

- المجموعة الخامسة: القضايا المعرفية (القلم).

1.3 – القيم الاجتماعية:
تتعلق القيم الاجتماعية باهتمام الفرد وميله إلى غيره من الناس، فهو يحبهم ويميل إلى مساعدتهم، ويجد في ذلك إشباعا له. وهو ينظر إلى غيره على أنهم غايات في حد ذاتهم، وليسوا وسائل لغايات أخرى. ولذلك كان هؤلاء الذين يتميزون بالقيمة الاجتماعية يتميزون أيضا بالعطف، والحنان، والإيثار، وخدمة الغير، وتقديرهم(9).

كما لا يخفى على كل مهتم بالطفولة أهمية هذه القيم في التنشئة الاجتماعية للطفل ، لذلك اهتم الشعراء بمعالجة هموم هذه الفئة وهموم المجتمع ككل، فقد ندب الشاعر قسطا مهما من شعره للحديث عن معاناة أرباب بعض المهن، ومحاولة تقريب ذلك إلى الناشئة، حيث توقف مليا أمام حداد يتأمل كده وتعبه ومواجهته للشدائد من أجل إرضاء زبائنه، فقال:

أثـار اهتمامي كده وكفاحه *** وموقفه من شغله وضناه

بملبسه المسـود قام مشمرا *** يـرى بين نار تارة ولظاه

يواجه فرنا مهولا قد تطايرت*** شرارته كالسهم حين تراه(10)

فهذه الأبيات وغيرها تحاول أن تربط الطفل بواقعه، من خلال اطلاعه على هموم الفئات المعذبة في المجتمع، فهناك شموع تحترق في سبيل أن تنير للآخرين الطريق.

كما صور شاعرنا معاناة الفئات المعوزة في فصل الشتاء، حيث البرد المجمد للدم، فقد تأثر لمشهد هذه الفئة التي تجوب الأرض طولا وعرضا وهي تجتر شجو مصابها، فقال:

أجمـد البرد ركبتيه وأدمى *** قدميه وهـد منه الضلوع

جسمه ريشة ترى في مهب *** لرياح والعين سيل الدموع

لهفتي لهفتي عليه فقد آ ***  لمني مشهد دوى بخنوع(11)

ولأن أحاسيس الشاعر يقظة، لم يكتف بنقل الوقائع وتصويرها تصويرا حيا، بل دعا إلى صحوة الضمائر أملا في تغيير هذا الواقع الشاذ، فقال:

أفـلا رق قلبكـم لفقـير *** نـال ذلا وذاق بـردا وجـوع

فامنحوه من نوركم وسناكم *** ما الذي ضاع عنده من سطوع

وارحـموه وقاسموه منـاكم *** ساعدوه خذوه نحو الطلوع(12)

2.3 – القيم المعرفية/ التعليمية:
يشير لفظ المعرفة إلى نشاط الفكر الذي يثبت شيئا ما بالإيجاب أو السلب، سواء كان هذا الفكر فاعلا في ذلك أو منفعلا(13). وتجسيدا لهذه المعاني حاول الشاعر الانتصار للمعرفة فدعا الناشئة إلى التسلح بالعلم والتزود بأدواته، فقد تغنى بالقلم باعتباره رمزا للمعرفة، فضلا عن كونه أداة التعلم والفهم. يقول معبرا عن هذا المعنى:

قلمي أمضى سلاح *** خاض في أدهى كفاح

وهـو أذكى ترجمان *** فاه بالقول الصراخ

يثبــت الأفكـار يعطيـها خـلودا وبقــاء

إنــه يضفي عليها *** حـلة زانت رواء(14)

فلولا هذا القلم لما استطاع الشاعر تدبيج هذه الكلمات المسطورة في الديوان، كلمات أرادها أن تكون مرآة عاكسة للفكر والشعور:

ينقل الفكر كما تر *** غب هاتيك الخواطر

إنـه آلــة تصـوير ولكـن للمشاعــر(15)

فالقلم يحرر الإنسان من عبودية الجهل والأمية، ويحلق به عاليا، كما ينافح عن صاحبه حربا وسلما:

فهو في الحرب سلاحي *** وهو في السلم هزازي

ولسـان القلب يـروي *** سـره دون جهـاري(16)

3.3– القيم الجمالية:
ترتبط القيم الجمالية –عادة– باهتمام الفرد وميله إلى ما هو جميل من ناحية الشكل، أو الصورة، أو التكوين، وهو لذلك ينظر إلى العالم المحيط به نظرة تقديـر له(17). وبالانتقال إلى المجال التطبيقي، تتمظر القيم الجمالية من خلال كل ما يتعلق بالإحساس بالجمال، وممارسة الهوايات، وحب المغامرة، والرحلات وغيرها. فقد راعت الشاعر صور الأواني الخـزفية فطفق يعدد جمالها ومظـاهر الإبـداع والإتقان فيها. يقول في قصيدة "مع الفخار".

انظـر إلى هذي الأواني إنها *** في غاية الإبداع والإتقان

هـي أختنا من طينة لكنها *** صيغت على الأشكال والألوان

قد زخرفت بمهارة وتجملت *** دامت مشرقة مدى الأزمان(18)

فهذا الجمال المشرق المنبعث من هذه الأواني الخزفية، يدعونا إلى تذكر هؤلاء الصناع ، ذلك أنهم رمز الكفاح المتجدد والمستمر.

كما تحدث الشاعر عن أهمية الترفيه والمرح واللعب في حياة الإنسان، فحث الناشئة على الانخراط في أعمال التخييم ، نظرا لانعكاساته الايجابية على التكوين النفسي والبدني للطفل:

أشبـال بلادي هلمـوا نخيم في جبل قصد التجواب

هيا نمرح فهناك نجد *** أجمل جو صحو قد طاب

فالتل قد ارتدى كسوته *** البيضاء وأومأ بالترحاب

فهناك يلذ لنا المسلى *** وهناك تطيب لنا الألعاب(19)

فالتخييم يجدد العزائم ، ويسمو بالإنسان نفسيا، وتربويا. كما أنه يسهم في غرس العديد من المهارات الحياتية في شخصية الطفل، فيكون على أتم الاستعداد لمواجهة الشدائد والمحن.

4.3 – القيم الإنسانية:
الإنسانية هي المعنى الكلي الدال على الخصائص المشتركة بين الناس، كما يشير هذا اللفظ إلى الرحمة والتعاطف التلقائي مع البشر(20). فقد كشفت بعض القصائد عن أحاسيس الشاعر الرقيقة والمفعمة بمعاني التسامح ونبذ العنف، والرفق بالضعفاء.

ففي قصيدة "قدر خروف" دعوة إلى الرأفة بالحيوان من خلال سرد قصة خروف، كان يعيش بين أقرانه مطمئن البال، إلى أن سيق إلى السوق، فوجد نفسه في رعاية غرباء عنه، لكن بعد أن استأنس بمأواه الجديد، وذاق حفاوة وكرم أهل الدار، غدروا به وأسلموه إلى قدره المحتوم:

بينـا أنا أتغـو وعينـي كالسيول الجـارية

فـإذا بجزار قو *** ي ذي يد كالصـارية

واحسرتي قد قادني *** هذا العنود الطاغية(21)

كما نستشف معاني الرفق بالضعفاء والرحمة بالكائنات من خلال ماورد في قصيدة "سمكة في لحظاتها الأخيرة"، فقد ختمت هذه القصيدة بتوجيه نداء إلى الإنسان/ الصياد من أجل أن يتوقف عن صيد الأسماك البريئة:

أيهـا الصياد رفـقا يا نبـيل

عنـك دعنا ولتكن نعم الخليل

فسيبقى منك ذا ألف جمـيل(22)

إن الشاعر يرفض الشر ومن خلاله يرفض القتل، لذلك نراه يحاول تخيل عالم أفضل للكائنات بعيدا عن الدماء والفناء، لهذا نتساءل: هل الحيوانات المشار إليها آنفا عبارة عن أقنعة ترمز إلى الإنسان المعنف في هذا الوجود؟

4 - فـي نهـاية المطـاف:
ومجمل القول، إن الكتابة للأطفال مغامرة لا يعتلي صهوتها إلا خاصة الخاصة، لأنها تتطلب شروطا وضوابط، ترتبط أساسا بتحصيل المعارف العلمية الملائمة لهذه الفئة العمرية، فضلا عن القدرة على النفاذ إلى عوالم الطفولة لسبر أغوارها والكشف عن تصوراتها.

ولا نبالغ إذا قلنا إن الأستاذ الشاعر عبد اللطيف كنون، قد وفق في التعبير عن عالم الأحداث شكلا ومضمونا، كما اتصفت الكتابة عنده بحس طفولي ينبع من جنبات الديوان، ويضيء نورا وهاجا، على امتداد صفحات المجال المدروس.

وفي نهاية رحلتنا، في هذا الدرب من دروب الديوان نقول: إن الدنو من دوحة إسمها عبد اللطيف كنون ليس بالأمر السهل ولا الهين، فهذه الشجرة وارفة الظلال، عميقة الجذور، تناوبت أجيال كثيرة على التلذذ بثمارها اليانعة، والاستمتاع بظلالها الوارفة، ويكفينا شرفا أننا جاورنا هذه الـدوحة.

 

(باحث في أدب الغرب الإسلامي)

 

الهوامش

* عبد اللطيف كنون: هو عبد اللطيف بن أحمد بن المهدي الإدريسي كنون، ولد بمراكش سنة 1937 م، أدخله ذووه منذ صباه الكتاب ليتلقى القران الكريم، وفي سنة 1956 م، انخرط في سلك التعليم الابتدائي، وبعد أن نال شهادة البكالوريا تابع دراسته بكلية اللغة العربية بمراكش إلى أن حصل على الإجازة في اللغة العربية، فالتحق بالتعليم الثانوي ليمارس عمله أستاذا لمادة الأدب في ثانوية للاعودة السعدية بمراكش، وبقي يدرس بهذه الثانوية إلى أن تقاعد.

(1) تأديب التربية، أحمد مختار مكي، مجلة الدوحة، العدد: 78، أبريل 2014م، ص: 32.

(2) مصطلح "أدب الأطفال"، محمد أنقار، مجلة كلية الآداب بتطوان، السنة الأولى، العدد الأول، ربيع الأول 1407هـ/ نونبر 1986م، ص: 154.

(3) أدب الطفل من منظور إسلامي، د عبد الحميد إبراهيم، مجلة الأدب الإسلامي، العدد: 22، 1420هـ، ص: 14.

(4) تأديب التربية، ص: 22 و23.

(5) مدى توافر القيم في عينة من قصص الأطفال في سورية، فاتن سليم بركات، مجلة جامعة دمشق، المجلد 26، العدد الثالث، 2010م، ص: 206.

(6) الشعر الموجه للأطفال: المصطلح وإشكالية المعايير، د العيد جلولي، مجلة الأثر (مجلة الآداب واللغات)، جامعة قاصدي مرباح، ورقلة، الجزائر، العدد السابع، ماي 2008م، ص: 143.

(7) الشعر الموجه للأطفال، ص: 144.

(8) نفسه، ص: 143.

(9) القيم النفسية والعوامل الخمسة الكبرى في الشخصية، د علي مهدي كاظم، مجلة العلوم التربوية والنفسية، المجلد: 3، العدد: 2، يونيو 2002م، ص: 24.

(10) رحلة في دروب الحياة، مولاي عبد اللطيف كنون، المطبعة والوراقة الوطنية، الطبعة الأولى 2014م، ص: 237.

(11) نفسه، ص: 243.

(12) نفسه، ص: 243.

(13) معجم المصطلحات والشواهد الفلسفية، جلال الدين السعيد، دار الجنوب للنشر، تونس، 2004م، ص: 433.

(14) رحلة في دروب الحياة، ص: 235.

(15) نفسه، ص: 235.

(16) نفسه، ص: 235.

(17) القيم النفسية والعوامل الخمسة الكبرى في الشخصية، ص: 23 و24.

(18) رحلة في دروب الحياة، ص: 239.

(19) نفسه، ص: 241.

(20) معجم المصطلحات والشواهد الفلسفية، ص: 63.

(21) نفسه، ص: 230.

(22) نفسه، ص: 234.