يرى الباحث أن الفلسفة مؤهلة لإخراج الإنسان من محنته الحضارية، وبؤس أنظمته الثقافية. ويستبين كيفية تحولها من أداة للحوار العقلي بين القوى المُفكرة، إلى دورها التنويري كأداة للصّراع التاريخي والاجتماعي ضدّ سلطة الطاغية والطبقية والعنصرية، والتمييز الثقافي والديني والعرقي.

الفلسفة وسياسة التكرار

محمد بقـوح

لماذا الجمع أعلاه بين الفلسفة، والسياسة، والتكرار؟ (كلمات) تكاد تكون معروفة، وتبدو بديهية، على مستوى التداول المعجم اليومي، إلا أنها بالوضعية التركيبية التي اخترناها لها، تحتاج منا إلى تفسير أبعاد مفهومها الدلالي المقصود. فسطح (كلمات) عنوان هذه المقالة، يكاد لا يقول شيئا يذكر، بالنسبة للقارئ المتسرع العادي، لأن الفلسفة كفكر نقدي، وكإجراء مفهومي، للنظر والقراءة والتحليل، تنتمي إلى حقل العلوم العقلية الخالصة، بصيغة الجمع، حسب التأسيس الفلسفي الكانطي، وأيضا حسب تصنيف عبد الرحمن بن خلدون في مقدمته. والسياسة علم خاص، يقصد به تدبير الشأن العام أو المحلي، وينتمي إلى العلوم الإنسانية. أما "التكرار"، فظاهرة في الطبيعة وفي المجتمع، وفي سلوك الكائنات الحيّة المتعددة والمتنوعة، ومنها الإنسان. وفعل "التكرار" ظاهرة يمكننا ملاحظتها، ودراستها دراسة مخبرية، وهي المهمّة التي تنهض بها خاصة العلوم الحقة، كالفيزياء والكيمياء، وعلوم الحياة والأرض. غير أننا لا بد من إبداء ملاحظة هامة، تخص الفرق بين ما سميناه بـ"التكرار"، كسلوك طبيعي وضروري، في مسار حياة الكائنات الطبيعية، مفروض فرضا حتميا من قبل الطبيعة ذاته، وبين "التكرار"، كفعل سلوكي، يفرضه على الإنسان، كائن طبيعي من نوعه البشري ذاته. وبالتالي، فـ"التكرار" الأول آلي بالضرورة، لا تحسّ به الحيوانات مثلا أو الحشرات. فالنحلة، تتصرف بشكل آلي ومكرور طبيعي، لا تشعر بسلوكها المتكرّر، وهي تعمل على إنتاج وإعادة إنتاج مادة العسل. لأنها حشرة تملك الوعي (الإحساس) في الذات، ولا تملكه كذات واعية بذاتها، كما فكر هيغل في زمنه التاريخي. وبالتالي، فهذا هو الفرق الأساس بين "التكرار" الطبيعي، إذا صحّ التعبير، والذي هو إحدى المظاهر الأساسية للطبيعة، و"التكرار".

الاجتماعي في المجال البشري، الناتج عن قوة مهيمنة فاعلة، تفرض ذلك "التكرار" الممنهَج والمقصود، لغاية في نفس يعقوب، كما يقال. إلا أن الإنسان كذات تفكر، تعي بذاتها، وهي تكرّر السلوك المفروض عليها، باسم بعض القواعد القانونية والدينية والثقافية والاجتماعية والعرفية.

إذن، هذا بالنسبة للقراءة البسيطة، لمنطوق سطح عنوان مقالتنا: هي (كلمات)، كما لو كانت جزرا، اتخذت لها مواقع، لا توجد بينها أية علاقات جسور، من النوع التركيبي المعتاد، الذي يتوقعه القارئ (الفلسفة، السياسة، التكرار). وبالتالي، فكيف بإمكاننا تحقيق المبتغى الفكري، الذي هو إنتاج معنى (الكلمات)، الذي نطمح إلى استجلاء ملامحه وتفكيك غور أسئلته ؟ كيف يمكننا الانطلاق من ما يبدو مضطربا وغريبا وبسيطا وتائها، وأحيانا تافها ورتيبا للغاية، أو مهمّشا في التداول البشري اليومي، من أجل تأسيس رؤية فكرية عميقة، تحمل رسالة إنسانية، لها معنى متميز، وقوي، وبديع ومكتشف؟ بل كيف يمكن مباشرة المعنى الجديد، انطلاقا من أساس الواقع البئيس للطبيعة والإنسان، في زمن راهني مكبّل بقيود الحداثة المزيّفة، يعجّ باللانهائي الملتبس، لمظاهر أصباغ الأقنعة المثيرة والفتاكة في نفس الوقت؟ لعلنا نطرح هنا هذه الأسئلة المُحرقة، حتى نقترب أكثر من قولنا المباشر، بأن الجواب عنها ممكن عندنا بالإيجاب طبعا. إنّ الأداة الفكرية والمنهجية الصارمة، التي نراهن عليها لتحقيق وتأسيس فعل المعنى المبحوث عنه، والمرغوب فيه، ارتباطا بالأسئلة السابقة أعلاه، تكمن في نظرنا:

في الاستعمال التأسيسي، وليس الوظيفي والمهني، للنظر الفلسفي، باعتبار الفلسفة هنا مفهوم إجرائي، وطريقة تفكير، ونمط حياة، وليست مضمون معرفي، أو مجرد معارف خاصة، تصلح للدرس والتلقين والتدريس داخل الفصول التابعة.

بهذا المعنى، فالفلسفة، في رأينا على الأقل، مؤهلة أكثر من أي علم آخر، لمساعدة الإنسان والتعاون معه جدّيا، لإخراجه من محنته الحضارية، التي تورّط فيها، خاصة محنة بؤس أنظمته التربوية والتعليمية، وأزمة ثقافته القيمية المزمنة، وانتشار التعصّب المختار، والتخلف المراد وغير المراد، وليس معاقبته، وذلك بإبقاء قوته العقلية يقظة بتحصينها، والوعي بخطورة فعل "التكرار"، الذي يعتبر عندنا كمنتوج تحكمي وسلطوي أساسي، لفعل التفكير السياسي المركزي، المستبد بتعصّبه لتنفيذ أجندته، والتغييب المقصود الفعلي والرمزي، للتشارك والتشاور مع باقي الفرقاء الفاعلين في الحقل المجتمعي للبلد.

من هنا، جاء استخدامنا واختيارنا، في عنوان مقالنا، كمدخل لتركيبه اللغوي والدلالي، لفظة الفلسفة، كحاملة مشعل قيادة المعنى (بالتعريف)، والتأسيس المفهومي، لفكر ما بعد السطح، في سياق تعرية واكتشاف تجليات العمق العنيف، الذي يمارسه ما هو سياسي، وحليفه الاقتصادي، على الإنسان البسيط، والطبيعة المسالمة، والمجتمع المتسامح، خاصة.

في بلدان العالم العربي والأمازيغي والاسلامي، بمختلف مظاهر هذه المكونات الحيّة على واقع أرضنا الحسّي. ومن طبيعة الحال، يراهن السياسي، كفكر وكنسق سلطة، لتحقيق أرباحه المادية والرمزية، بتعبير بورديو، اعتمادا على ما سميناه بفعل "التكرار"، كسلوك عملي، يتمّ به توجيه صناعة نمط الإنسان، الذي يخدم وظيفة أنظمة النسق السياسي المهيمِن.

لعلّ "التكرار" هنا بمثابة آلية "جهنمية"، للفرض الاعتباطي الميسّر للمبتغى المراد، وتدجين الكائن، وإخضاع ظلال الممكن، تمهيدا له ولإعداده، لفرض واقع الاحتكار، وشلّ حركته في حالة وجودها، أو إعادة إنتاج واقع العبيد، المشمول بإرادة الأسياد، و"شفقتهم ورحمتهم". إن "التكرار" يعني هنا، يعني وصفة سحرية عنيفة، لتكريس سياسة التعتيم والتخدير، والإتعاب الكلي، والإضعاف القسري، خدمة لحاجيات ورغبة سلطان قوة القوى المهيمِنة، و"المنتِجة" النافعة. حسب الواقع الطاغي للحال الآني. هنا لا بد أن يكون تدخل الفلسفة، حاسما وحتميا وضروريا، كفكر مُقاوِم لأنظمة العنف السائدة، ويدافِع، عن الحق في الحياة والوجود واقتسام القوة بين كافة أحياء البشر. وليس الخضوع الأعمى لقهر السلطة، والتآمر الذاتي ضد الذات الأصلية!!

هكذا تتحول الفلسفة، من دورها الأصيلي والميتافيزيقي، الذي ننظر إليه كأداة للحوار العقلي، بين كل أطياف القوى المُفكرة الفاعلة، في عين دائرة المجتمع المحلي أو الإنساني، إلى دورها النضالي الجسدي، والمحايث التغييري والتنويري المشاكس، كأداة للصّراع التاريخي والاجتماعي الجريئين والمقبولين، ضدّ أنساق السلطة السياسية الطاغية، والفكرية الموجّهة، والمتواطئة، والتكرارية الفجّة، من أجل مقاومة الظلم والفساد والطبقية والعنصرية، والميز الثقافي والديني واللغوي والعرقي... إلخ. محاولة منها طبعا، والتزاما بخاصيتها الفلسفية الصراعية الجوهرية، التي هي أساس جوهر الحياة، على مدى تاريخها الفكري والفلسفي الطويل، ردّ أمور الشأن الوجودي والبشري والطبيعي، إلى بدء أصلها، وتفسير حقائق الحياة الحرة للإنسان وكرامته، كما هي في واقع الزمن المعيشي، وليس كما يمكن أن تبدو، في سطح الأذهان المجرورة البسيط، من خلال ثنايا الخطاب والسلوك الرسميين والمؤسساتيين للعيان العادي في الأسواق والبيوت والمساجد والمدارس.. إلخ.