يتكئ الكاتب على لغة مرارة وسخرية، وهو يشير إلى راهن اليوم، وللاختلاقات الداعشية التي تخلط حابل دينيّة تفتيشيّة بنابل عسكريّة طاغية وبتروليّة تلويثيّة، وبدلا من التطلع للمستقبل والمساهمة في إعمار كون السماحة والتسامح، تعود القهقرى إلى ظلامية الحوليات وتواريخ الحقد، وتهجر محاولة تجريب الحب والتصالح مع النفس التي جربها المتصوفة.

دين الحب

عيد اسطفانوس

بعد أن ابتدعوا دينا سياسيا ودينا اقتصاديا ودينا اجتماعيا ودينا ثقافيا، أخيرا ابتدعوا الحلقة الاخيرة المبهرة دين عسكري، وبدلا من التطلع للمستقبل والانصهار في بوتقة البشرية والاندماج مع بقية الخلق الالهي والمساهمة في اعمار الكون، عادوا القهقرى ألف عام، تراودهم احلام الغزو والفتوحات والغنائم والسبايا، والشيخ باراك حسين الذي أفتى لهم بهذه الخطة يعلم تمام العلم بأنها خطة فاشلة في مواجهة داعش الذي يدعي أنها عصيه، لكن الخطة ستنجح في استنزاف ماتبقى من أرصدة عوائد النفط، فهو ونحن والجميع نعلم أن داعش هي أحد مشتقات النفط السامة، فلولا هذه الصدفة الجيولوجية البحته (أي النفط) ولولا أرصدتها التي تراكمت لما خرج الفكر الوهابي عن حدود نجد، كما يعلم الجميع أن داعش ستظل حتى آخر ريال نفطي أما تلك التي يروج لها جوقات شيوخ هذه الانظمة عن أسباب انتشار داعش فهي أكاذيب مفضوحة لاتدخل عقل ساذج، فداعش هي الجناح العسكري للفكر الوهابي التكفيري، الذي يتبرأ الجميع منه الآن وهم ممولوه ومشجعوه ومريدوه ومروجوه.

وبالطبع سيكون هذا الجيش الديني بقيادة الممولين، ومادام الممولين سنه فسيكون جيش سني، وفي المقابل سيقوم ممول شيعي بتكوين جيش شيعي، أما الجيش السني فسترعاه وتبيع له السلاح راعية السنة في العالم، وفي المقابل ستقوم راعية الشيعة في العالم يتزويد الجيش الشيعي بأحدث ما في ترساناتها، ويتصارع الجيشان وتظل البؤر الملتهبة ملتهبة وتزداد رقعتها، وتتدفق مبيعات السلاح، وتتطهر أوربا من الارهابيين المهاجرين الى ميادين القتل الجديدة ليمارسوا شعيرة الجهاد المقدس ويقتلون بعضهم بعضا، وتظل الحرب مشتعلة حتى آخر برميل نفط وآخر ارهابي نفطي أيضا، وعندئذ يبدأ الفصل الثاني من الخطة السرية سايكس بيكو الجديدة أو الشرق الاوسط الجديد بزعامة تركيا واسرائيل وسيرضخ العرب أو بقاياهم لأي حل لما كان يسمى سابقا بالقضية الفلسطينية، ويستباح الشام كله وتتوسع تركيا في سوريا والعراق، وتقسم العراق وبقية سوريا ومعها لبنان الى كانتونات مذهبية، وتستولي ايران على الكويت والشريط الشيعي من العراق وان أمكن بعض الامارات الاخرى، وبعد أن يفرغوا من آسيا سيتفرغون للجزء الباقي على ساحل المتوسط الجنوبي أي شمال أفريقيا مصر وليبيا وتونس والجزائر، والذين سيتهموننا بعشق التفسير التآمري للأحداث لهم عندنا كثيرا من الردود أولها: انني كلما حاولت الخروج من عباءة التفسير التآمري للاحداث أفشل فشلا ذريعا، فكل المعطيات تسوقنا سوقا لسيناريو محبوك بعناية للخطة التي عرضناها.ثانيا :من هو الساذج الذي يقتنع بأن أكبر وأقوى وأعتى الجيوش بطائراتها وأقمارها الصناعية وترساناتها التكنولوجية عجزت لمدة ثلاث سنوات عن التصدى لبضع مئات من المغامرين، ثم يقذفون الكرة للسذج بمبدأ هذا ارهابكم فحاربوه، ومن يصدق أن قوة داعش تفوق قوة صدام حسين الذي شنقوه ودمروا جيشه ودمروا دولته بالكامل وقتلوا أهله في شهور قليلة.

هذه هي الجوقة التي تنشدنا كل يوم وعلى مدار الساعة نشيد القتل والموت والدماء، وأنغام العزف المصاحبة هي صليل الصوارم وأصوات الانفجارات وعويل الثكالى والارامل واصطكاك أسنان الأطفال من صقيع خيام الصحارى، جوقة تنشد نصوصا من القرن السادس لحنها ووزع موسيقاها جهابذة من كل القرون وكل البقاع من الهند وباكستان وأفغانستان والربع الخراب ابن تيمية وبن القيم والمودودي وابن عبد الوهاب.

ثم أن استرقاق هذه الشعوب وضمان بقائها في هذا الوضع المزري يتحتم أن تظل مقهورة فقيرة أسيرة، وذلك لايتأتى الا باستنزاف مواردها وشبابها كوقود لحروب مصطبغة بصفة القداسة، أي الحروب الدينية أي حروب نصرة الله، ومن يستطيع الاعتراض على نصرة الله؟ ومن يسطبع التساؤل هل هذا الاله ضعيف حتى يحتاج لدعم البشر؟ كلا وحاشا فهؤلاء كذبة أفاقين، فهم استغلوا هؤلاء البسطاء المتدينين بالفطرة وقود لحروب لم تتوقف من القرن السادس وحتى اليوم، وبدلا من مراجعة هذه الحقبة من التاريخ لهذه البقعة المنكوبة من الجغرافيا، ودراسة نتائجها وما آلت اليه أحوال البشر فيها، الا أن الغباء التاريخي المتاصل يجعلهم يتوهمون أن نفس المدخلات قد ينتج عنها مخرجات مختلفة، ولايعون دروس التاريخ فقد جربت امم قبلا نفس السيناريو الهابط نقصد الهابط من السماء أي حكم الدين ورجال الدين للدنيا، أي مزج الدين بالسياسة وثبت فشله فشلا ذريعا ليس لعيب في الدين، لكن العيب في خلط القيم السامية الثابتة المطلقة بالقيم الدنيا المتغيرة المناورة النسبية، ولأنهم كالماء والزيت فشلت كل محاولات مزجهم ورغم محاولات مزجهم بالعنف لكن سرعان مايتم الانفصال الكامل، ألسنا أعلم بشئون دنيانا من رجال الدين، ومحاولات مزج الدين بشئون الحياه الاخرى كالاقتصاد والاجتماع والثقافة والفنون وحتى الرياضة نتج عنها نفس النتائج في كل العصور، وعادت الامم المتحضرة للبحث عن البديل ووجدته، وضعت الدين ورجاله في مكانتهم الساميه، وأعلت المبدأ الالهي الأعلى الازلي الابدي أي الحرية، من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، وكل سيؤدي حسابه عن نفسه في يوم الدين أمام مالك يوم الدين، أما شئون السياسة والاقتصاد والاجتماع فتلك ميادين المتخصصين الدارسين الاكاديميين يتناوبون على كراسيها بالانتخاب الحر وبالكفاءة والعلم، وليس بالوراثة والابتعاث الالهي.

وكما خلطوا الدين بكل شيء وهاكم النتائج على الساحة لاتحتاج تعليق، كنا نأمل أن يجربوا ولو لمرة واحدة أن يمزجوا الدين بالحب، ويجربوا تأثير المركب السحري الناتج، شفاء للنفس والروح والجسد، تصالح مع النفس والغير والخالق، معرفة الخير والحق والجمال، هذا هو المزيج الذي جربه المتصوفون الأول وقبضوا عليه كلحظة حقيقة تشبثوا بها، ولم يستطع أحد أن يثنيهم عنها لأنهم جربوا المنتج عندما تعاطوه فقد أهداهم الى الطريق الوحيد الموصل للفردوس، وهو جهاد النفس وليس جهاد القتل والدم والغزو والسبي، جاهدوا أنفسهم حتى ترق قلوبهم وتصفو عقولهم وتهيم أرواحهم في الملكوت الأعلى، ولم يتركهم المتعصبين المتعطشين للدماء طاردوهم وسجنوهم وقطعوا رؤوسهم وحرقوا كتبهم وحكموا بكفرهم لالذنب جنوه الا لأنهم مزجوا الدين بالمحبة ونادوا بدين الحب فهب المدافعين عن دين الله ليزيلوا هذه الوصمة فكيف للحب أن يقترن بالعقيدة فتلك بدعة وضلالة يجب أن يعاقب مرتكبيها أشد العقاب.