يعلن الروائي المصري في جملة مواربة عن ثيمة روايته من السطور الأولى، ليأخذ القارئ في رحلة بحث في العلاقة بين الرجل والمرأة: هذه العلاقة الأبدية والمتجددة في كل رواية بتفاصيلها الخاصة وبنية شخصياتها، هنا مفاهيم مختلفة للحب والخيانة والجنس وغرائب الرجل الشرقي والمرأة في ظل مجتمعات كابتة.

المؤلف (رواية)

محمـود قاسـم

سأفعل مثل فلادمير نابوكوف فى مقدمة روايته "دموع فى الظلام" هذه الرواية تحكى قصة حب بين رجل شبه وحيد، دخلت حياته امرأة، فغمرته بأغلب تفاصيل السعادة، ثم تحولت إلى لهيب من الإلحاح والغيرة.

إذا أردت أن تعرف ماذا ستقرأ، فالملخص في سطرين لا أكثر، لكن سحر الروايات في عبقرية التفاصيل، حتى وإن لم يكن هناك سوى شخصين: هى، وهو.

إذا كنت من هواة قراءة التفاصيل، فدعك من الحدوتة، وتعال معنا.

بالتأكيد لا توجد فى الواقع مثل هذه المرأة..

- وأخيرا أراك ممدًا فوق فراش المرض.

فوجئت بها تقف أمامي، لم أستطع أن استوعب النظر، وهى تمر عبر الزمن، بعد أن فـُتح باب غرفتي، ووقفت أمام السرير، حاولت أن أستجمع الحدث، بنفس الطريقة التى بدت كأنها تدربت لحفظ الجملة التى أطلقتها بإتقان، أقرب إلى ممثل سينمائي غير محترف، عليه أن ينطق أول جملة يلقيها على خشبة المسرح كي يتقبله الجمهور.

تصرفت كأنها قالت كل ما لديها، وما جاءت من أجله، وأنها تريد أن تعود من حيث أتت، لم أصدق أذني، وعينىّ، وأنا أحاول التأكد أنها موجودة، أراها بعد خمسة عشر من الفراق .. رأتنى فوق فراش المرض، وتأكدت أننى ربما لم أعد أصلح للاستهلاك النسائى، أخال أن التردد أصابها، فهى لا تكاد تعرف ما عليها أن تفعله، بحشرجة ملحوظة، ودون إعداد سابق، سألت:

- هل تشمتين فيّ، يا نور..؟

وكأنها تتوقع السؤال، وتعرف الإجابة، ردت فى تحد:

- طبعا.. اشمت.. إنه اليوم الذى انتظره.. ألم أقل لك ذلك مرة..؟

على الفور، تذكرتها حين قالت يوم أن كنا نتأهب للفراق:

- كل يوم، أقف فيه أمام مصعد البرج، أنظر إلى لوحة المناسبات، اقرأ أخبار الراحلين بالأمس ويصيبنى النكد، إن اسمك لم يكتب بعد..

لم تنس هذه المقولة، انها تحملها معها عبر تلك السنوات، وأنا أيضا، كلما دخلت المبنى الضخم، أبحث عن اسمى فى إعلانات الوفيات، ولم أجده بعد، تمنيت لو أرضى أمانيها، وربما لهذا السبب، جاءتنى فى هذه الساعة المبكرة من النهار.. سألتنى، وهى فى مكانها:

- لماذا لم تنشر، روايتك التى كتبتها عنى..؟

لم أجد الإجابة المناسبة، فلم أجعلها تشعر بالإحباط، وأخبرها أننى تراجعت أكثر من مرة فى الكتابة عنها، وأننى محوت الصفحات القليلة التى كتبتها على الكومبيوتر، لا، لم أفعل ذلك، لأننى غشيم فى الكتابة على "وحدة المفتاح"، وأيضا فى حفظ الصفحات فإن الرواية..

- طارت..

سألت بحدة مليئة برقتها القديمة: ماذا؟

قلت الفيروس أكلها، مثلما أكلنا الزمن..

بكل غرور وثقة: الزمن يأكلك وحدك.. مازلت كما أنا، كما ترانى.

بدأت فى استيعاب الحدث، أن نور.. التى طالما حاولت مصالحتها، واعادتها إلىّ، قد جاءت، لا أقول عادت، كى تشمت فى أننى مريض، سألتها:

- كيف عرفت طريقى؟

ردت: أخبارك على الفيس بوك.

سألتها: ماذا حدث، لم أكتب شيئا..

علقت وكأنها تبحث عن مكان تجلس فيه، فى غرفة خوت من المقاعد:

- أنا.. فعلت..

سألتها: ألا تجلسين..؟ تعالى نجلس فى الصالون..

لم تعط أى اهتمام لاقتراحى، كى تفاجئنى:

- إذا كانت روايتك قد ضاعت، فقد جئت لك بها..

تحاول إثارة دهشتى، تحركت فى مكانى، رفعت جذعى، كى استقبل مفاجاءات جديدة، وهى تمد يدها داخل حقيبتها الصغيرة، لم تخرج اسطوانة كما توقعت، بل أخرجت منديلا ورقيا، خلتها سوف تمسح به وجهها، أو دموعها، لكنها لم تفعل، مسحت شيئا ما كاد يتساقط من أنفها:

- دور برد.. ألف سلامة عليك..

مدت لى سلسلة مفاتيح كانت فى يدها:

- ألديك كومبيوتر هنا..؟

- لا..

- إذن، هذه الفلاشا لك..

- هل هى روايتى؟

- بل روايتى أنا..

- هل تكتبين رواية..؟

- لن أمنحك إياها إلا إذا أعطيتنى روايتك، التى تزعم ضياعها..

وتأزم الموقف، "نور" تود مقايضتى، وهى تعرف أننى لا أملك شيئا معى الآن، لا كومبيوتر، ولا اسطوانة، وأيضا ليست معى فلاشا، أنا مجرد مريض، متمدد فوق فراشى الأبيض، بدأت تتحرك فى مكانها، وتقترب منى، هنا سمعت صوت الباب ينفتح من جديد، دخلت "أمينة" لتقدم لى وجبة الفطور الجافة، قبل أن ترى بها عند طرف السرير، عادت إلى "الصالون"، واستحضرت مقعدًا صغيرًا من أجل ضيفتى، صاحبة الصوت الفريد، الذى كم سبب لها مضايقات، والكثير من الإعجاب من مستمعين اتصلوا بها على "المباشر" يغازلونها، أو يسألونها اسئلة ممزوجة بالجرأة..

شكرت "نور" الممرضة، وبدأت فى الجلوس، قلت لها بعد أن سمعت أمينة تغلق الباب الخارجى:

- كان اسمك "ضياء" فى الرواية..

أحست أننى أحاول أن أعرف بأى اسم نادتنى فى الرواية المزعومة التى كتبتها، قالت وقد تمكنت من الجلوس فوق المقعد:

- بطل روايتى ظل دوما بلا اسم..

- لن أعترف بهذه الرواية، أحب أن يكون لى اسم، لا يهم ما هو، المهم أن يكون لى اسم، أبى اختار لى ما ينادينى الناس به.. وأريدك أن تمنحينى البديل بطريقتها التى أفتقدتها:

- أنت تعرفه..

- بيبى..؟

هزت رأسها، وقد بدأت تبتسم، قلت:

- يا عبيطة..

صارت ابتسامتها أعرض، هى تحب دوما أن أناديها بمثل هذه الألفاظ، "يابت"، "يا أم نصف عقل"، "يا"..

- وحشتنى هذه الكلمات..

- وأنا أيضا..

- أخبرنى.. كيف صحتك..

- القدم السكرى..

- هل ستموت قريبا؟

- بالطبع، سيقطعون قدمى، وبعدها أموت.. ربما من النزيف، وربما لن يعجبنى الحال، فأقدم على الانتحار..

- أمثالك لا يجيدون الانتحار..

- أشعر كأن الأمس، كان بالأمس.

فجأة، هبت من مكانها، رمت لى بالفلاشا، بالطريقة نفسها التى رمت بها أمينة، وجبة الفطور الجافة كأنها تقلدها:

- يكفيك هذا اليوم، عن إذنك..

وقبل أن أندهش غادرت الغرفة، وسمعت الباب ينغلق وأعود إلى وحدتى مجددًا، الشىء الوحيد الذى يؤكد أن "نور" كانت هنا بالفعل، هو المقعد الذى جلس عليه لأقصر فترة ممكنة..

سرعان ما تناثرت من المكان، هذه هى "نور"، التى كانت تتعمد أن تنهى لقاءاتنا الحميمة بمثل هذه التصرفات، عدا المرات الثلاث الأولى..

لم تلفت أنظارى فى المرة الأولى التى وقفنا فيها معا، أمام المصعد، فى الدور الرابع من المبنى الضخم، مذيعتان، ومعد، والساعى مهران، انضم إلينا شخصان آخران، فوجدنا نفسينا نستند إلى الحائط المقابل إلى المصعد، وننفرد بحديث ثنائى.

لا أتذكر ماذا قلناه فى هذه الوقفة الطويلة، بعد أن انفض كل من كانوا معنا، لكن يبدو أنه كان كلاما مختلفا لكل منا، والدليل أنها دخلت مكتبى صباح اليوم التالى، على غير موعد، مثلما حدث فى المستشفى، بدت بجسمها الملىء بالقوة مختلفة عن كل من عرفت من نساء فيما قبل، وأنا الذى شغلتنى دوما أجنبيات بالغات الرشاقة والثقافة، صافحتها بالدهشة نفسها، قالت دون أن اسألها:

- وددت أن أعرف من هو ذلك الشخص المدهش الذى تحدثت إليه بالأمس، وعلى طريقة رد الاعتبار لنفسها قالت:

- كنت فى طريقى إلى معهد جوتة، وفوجئت أننى قريبة من مكانك، فجئت بعد ساعتين، كنا داخل المعهد، عرفت أنها تتحدث الألمانية، والانجليزية، بطلاقة، قلت لها بكل اعجاب:

- كم تمنيت لو تعرفت على فتاة مصرية لها نفس الصفات..

أكملت: أن تتقن لغتين..

وبكل أنوثة قالت: فقط..

لم اشأ أن أخبرها أن هذا وحده يكفى لشخص مثلى، لا يميل إلى امتلاء الجسم إلى حد ما، ولعله يشعر بالحرج لو مشى فى مكان، والى جواره مثل هذا الجسد، ولم انتبه إلى معهد جوتة، إن قامتها القصيرة ساعدت فى الاحساس ببدانتها، جمعتنا "كافيتريا" المركز، وتناولنا نفس المشروب، وأوصلتنى بسيارتها إلى باب منزلى..

عند نفس الباب، جاءت لتأخذنى بعد يومين كى نجلس فى احدى الكافتريات الفخمة الكثيرة التى كانت شاهدة على ما ارتبطنا به، لكن قبل أن نفعل ذلك، بدأت تدخل على مفرداتى الحياتية مفردات مختلفة.

فى الساعة الثانية بعد منتصف الليل، دوى جرس الهاتف:

- أنت.. مستيقظ؟

لا أعرف هل أبلغتها أننى رجل نهارى، أنام بعد اختفاء الشمس بساعات قليلة، وتنفتح عينى على الدنيا، بمجرد بلوغها ، الشمس، أفق المدينة.. قلت والنوم يهرب من عينى:

- طبعا، طبعا..

سألت: ماذا تفعل، تقرأ، تكتب.. لكن من عندك الآن..؟

أجبت: أنا نائم.. هذا صوت التلفزيون، أحلم على برامجه، وأفلامه..

- أعتقد أننى أفضل من التلفزيون..

- بكثير.. كثيرًا..

- ماذا تشاهد الآن..؟

- فى بعض الأحيان لا يهم ماذا نشاهد، نحتاج إلى أصوات تشاركنا ساعات الليل..

سألتنى: هل ستذهب غدا إلى العمل..؟

لعلها تود تكرار الزيارة، قلت: كل يوم أنا هناك، أدخل مكتبى فى السابعة والربع، استمع إلى الموسيقى، أكتب حتى يبدأ الزوار فى الحضور..

تسأل بلا توقف، مثلما أشارت بالامس، تريد أن تعرف عن هذا الرجل الذى يعيش مع من حوله بجسده فقط، وأغلب وقته للكتب والموسيقى، والمجلات، والأفلام، لذا، أجادت استحضاره أينما شاءت، ووقتما تود، لا يهم الساعة، ولا الطريقة، المهم أن تجده، وأن تتحدث إليه، وتصاحبه إلى حيث لم يذهب من قبل، فى مدينة مكتظة بالعشاق والناس، وبمن يعرفونه، وأيضا هى..

صارت تطل عليه من هواتفها الأرضية والمحمولة، لكنها لم تخاطبه عن طريق البريد الاليكترونى، ربما لأن الوسائل الأخرى خصوصيتها، لم أعرف لها عنوانًا إليكترونيًا قط، ولم أسألها عن السبب، كان ذلك قبل أن يتوصل زوكر إلى الفيس بوك، بحثت دوما عن اسمها فى الفيس بوك فلم أجده، أغلب الظن أنها تستخدم اسما مستعارًا..

دائما حولى، قد أراها فى سيارتها أمام المنزل، أو فى مكان قريب، تأتى إلى الاستوديوهات لترانى مباشرة أتحدث كضيف، من برانامج إلى آخر، ما إن تدق الساعة الثانية صباحًا، حتى تصهل أصواتنا عبر الخطوط، لنقول ونفعل ما لم أفعله من قبل، تأخذنى فى سيارتها إلى حيث تسوقنا رغبتنا ومشاعرنا، وسط الأماكن المظلمة، والبعيدة عن الأعين.. تجرفنى بكل ما بها من قوة ورغبة، ودهشة.. لست فى حاجة أن أجد تفسيرا لأى شىء من حولى، فقد ادخلتنى ماسميته بنكاح الكلام، تمتلك سحرا غير ملموس فى الكلام، تتصرف كأنها شهر زاد تذيع برنامجًا على الهواء، أستعذب أسلوبها فى كل شىء تفعله، حين تصب لى الشاى بالحليب فى الأماكن المختارة التى تجمعنا، وحين تمر أصابعها فى أطراف كف ممتلىء صغير، كى تتعانق أطراف يدى اليسرى، بيدها التى قلت لها ذات يوم:

- كم أتوق إلى لمسة يدك، افتقدها..

حدث هذا حين، عزّ علينا أن نرجع إلى سيرتنا الأولى..

أرقنى السؤال دوما: ماذا أكتب لو حكيت ما حدث فى رواية..؟

شخصان فقط، لم يعرف أى طرف ثالث أن هناك علاقة ما ربطت بينهما، فى أى مكان، رغم أن أماكن عديدة مفتوحة فى المدينة نجحت فى اخفايهما لشهور طويلة، لم يسعيا إلى إشهار ما يربط بينهما.

ترى لو كتبت الرواية بعد فترة وجيزة من فراقنا الأخير، كيف تمت الصياغة، ربما لأن الصفحات الأولى ضاعت من سطح الكومبيوتر، جعلتنى أحس بالخسارة لبعض الوقت، أذكر أننى قابلتها فى تلك الآونة، وأننى أبلغتها بالأمر، فلم تصدق، هى واثقة تماما أن الرواية مكتوبة وأننى أخفيها عنها، وربما لأن الأمل ظل يتمسك بى أن علاقة بمثل هذه القوة لا يمكن أن تنتهى، وأن هناك أملا يحدونى فى الرحوع، بشكل ما..

أربعة عشر عاما متوالية، نتقابل فى أماكن ما، عيناها تتكلمان، وتبحثان عمن تحب، إلا أن لسانها ظل معقودًا، لا تريد أن تعود الىّ، حتى لا تتعذب تلك العذابات التى سببتها لها..

الحيرة التى تستبد بى وأنا استجمع كل النثار الذى تبقى الآن فى الذاكرة، فعلا سببت لها الألم والحيرة، وتوصلت الآن كم كنت أنانيا، و"جلنف" فى التصرف معها، ما حكته لى عن ترقبها لعودتى من رحلة الاسابيع الثلاثة إلى جنيف ظلت تترصد خيالى، كما حكت، ولو أنها كتبت روايتها لقرأتها بمنظور يختلف تماما، ولقدرت مدى ما اتسمت به من قسوة..

من المهم أن أكتب الرواية بلسانها، ولكن، يمكن كتابة الحدث، لكن أبدا، لن أتوصل إلى مفرداتها اللغوية، ولن أتمكن من الرقاد فى سريرها، أشرد فى ما يفعله من أحبته فى السفر، لم يتصل بها سوى مرة واحدة، وهى التى تجيد فن الكلام بكافة تفاصيله، شهر زاد بكل المعانى، قالت له أنها رأته، من سريرها، ينزل من الطائرة القادمة من جينيف، يوم الجمعة، الساعة العاشرة مساء، رأته ينزل من باب الطائرة، ثم يقف فى طابور العائدين، ويقدم جواز سفره إلى ضابط الداخلية، قبل أن يدفع به إلى مساعده لمراجعته، وما إن استلم الجواز، حتى بحث عن العربة الحديدية، ودفع بها نحو السير، حيث تم تنزيل الحقائب، رأته وهو يبحث عن هاتف ليتصل بها، لا، هذا الأنانى، كان يفكر فقط فى حقيبته، وفى الخروج من الدائرة الجمركية، قبل أن يبحث عن سيارة أجرة، يتفق معها أن تأخذه إلى داره، لم يهتم بالحبث عن هاتف ما، كى يكلمها، لعلها ابتهلت أن يفعل، قبل الوصول إلى داره..

وما إن فتح باب الشقة، حتى سمع الهاتف الأرضى:

- ألو.. حمدا لله على السلامة..

بكل شوق إلى صوته كانت تهتف، وبكل الاشتياق رد:

- حبيبتى، كم افتقدك..

علقت: لو تنتقدنى، لكلمتنى من هناك، أو من هنا..

لا، لن أستكمل كتابة الرواية، فلن تكون صادقة، عليها هى أن تكتب، أن تصف مشاعرها طوال أيام السفر ولياليها، لم لا يتصل بها، لأنها غير موجودة، بالتأكيد هو لا يريد أن يكلف نفسه سعر مكالمة، هذا الأنانى لم يشعر بما تعانيه حبيبته، ربما لم يصدق أن حبا جديدا دخل حياته من خلالها، تعرف أنه ذاهب إلى بحيرة ليمان لاسترجاع ذكرياته مع حبيبة الصيف الماضى، إنها تريده، لكنه صعب الاستحواذ، لعله بارد بدرجة شديدة، أو غير مؤهل لتجربة شديدة..

ترى هل يحتوى هذه الفلاشا على رواية كتبتها "نور"، بديلا عن الرواية الضائعة، من المهم أن استحضر الكومبيوتر، دائرة، وأبحث فى سطورها أو صفحاتها عن مشاعرها أثناء تلك الأيام..

لكن، هل من الممتع أن اقرأ روايتها، أم أن أقوم من عثرتى، وأحرك مرضى بعيدا عن الغرفة، واسترد عافيتى وأكتب الرواية المفقودة منذ أكثر من عشر سنوات، لكن من أدرانى أن التى منحتنى الفلاشا، كانت هى، لم تتغير ملامحها كثيرا عندما رأيتها قبل عام ونصف تدخل من باب التلفيزيون.. كانت موجودة، والدليل هذه الفلاشا، القطعة الاليكترونية البنفسجية اللون..

ترددت، وشردت كثيرا.. هذه فرصة حقيقية للشرود، والتفكير، مريض راقد فوق سرير، فى الدور الخامس، لم يأت أحد لزيارته بعد، وأمامه متسع من الوقت لاستحضاره كافة تفاصيل القصة..

الآن، فقط، تذكرت شيئا مهما جمعنا منذ اللحظة الأولى، وجعل كل منا يبحث عن الآخر، لقد ولدنا معا فى نفس التاريخ الميلادى، مع فارق خمسة عشر عاما، بما يعنى أننا من البرج المائى نفسه، بما يعنى أننا متقاربان، كأننا تؤام، هذا كفيل أن يوجدنا، لكن بالتأكيد لسنا متشابهين، هى حسب كلامها، فعلت ما عجزت عنه منذ عشرة أعوام، "تأليف" رواية، لا، لاداع لكلمة تأليف، بل "كتابة"، أو "صياغة"، فأننا لا أحب القصص المؤلفة، لأن التخيل الموجود فى الواقع، أكثر صدقا مما حدث فيما بيننا، هل تخيلت فى حياتى أن تحبنى أمرأة بكل هذا القدر، وأن تفعل ما أجدبت عنه، لم أعد بقادر أن أفعله، كتابة رواية، أقرب إلى جلدى..

بالتأكيد ستكون روايتها أكثر صدقا وأهمية من كتابتى، فحسب كلامها فإنها ظلت تترصدنى كل هذه السنوات، تقف عند مصاعد المبنى، تطالع لوحات المناسبات، وتبحث عن اسمى تحت عناوين "البقاء لله" ساعتها سوف تشعر برضاء حقيقى أنها تخلصت منى إلى الأبد، من جسدى الذى طالما انتفض بها، ومن مخى الذى لا تعرف أنها شغلته بقوة بعد أن قررت الانفصال عنى، هذا الجزء الأساسى فى حياتى، لم تعشه فى الواقع، ولم تكن شاهدة عليه، وبالتالى فسوف تهمله تماما، لن تكتب قط أننى كم استيقظت فى ساعات الليل، أتصفح كافة هواتفى، أتأكد أنها كانت هناك، لكنها لم تفعل، هذا جزء مهم فى الرواية، بعد أن تعاملت مع العلاقة  باستخفاف شديد، لم أكن صادقا قط معها، فى البداية، حتى عندما جمعتنا السيارة فى ركن من الشارع قريبا من مول ضخم فى المدينة.

أو "السيارة" هذه هى روايتى، سيارتها البيضاء التى كانت شاهدة على رواينا، هى رواية وحدها، لعلها المكان الأكثر حضورا فى الرواية.. آه، هذه رواية فى حد ذاتها، ماذا سمعت وكيف ظلت صامتة، لا تتكلم، حتى وإن عرضناها للمخاطر تبعا لتهورنا، ومشاعرنا الفياضة واندفاعات لم توقفها شهوات، السيارة، هى الأحق فى أن تكتب قصة صاحبتها، بافتراض أن بداخلها مسجل وكاميرا، وتتذكر ما قلناه وفعلناه بتفاصيل نسينا الكثير من أحداثها..

السيارة..

ماذا لو كتبت السيارة روايتنا؟

من الملاحظ أن المؤلف أصابه الجدب، وانه ليس بقادر أن يستكمل الكتابة، حول "نورا" أو أنه لا يريد استعادة التفاصيل، لكن رقدته فوق الفراش لأول مرة، جلبت له متاعب وهلوسات وتخيلات مريضة، أن "نور" دخلت غرفته فى ساعة مبكرة، ونطقت بكلمات مبشرة وتركت له الفلاشا، واستودعته، وذهبت..

توهم أن من كانت حبيبته جاءت للتشفى فيه، وأنها أشبعت عينيها بالشماتة، وهى تراه فى هذا الحال، فقد ضايقها دوما، وهو يفتح بابى الأيمن الأمامى، ويغادر المكان، أثناء أى اختلاف فى الرأى بينهما، خاصة فى أيامها الأخيرة معا، هى تصر أن يترك شقته تماما، وأن يأخذ حقيبة ملابسه فقط، وينتظرها عند باب المنزل، ويفضل ألا يكون بدون شنطة، وهى سوف تحضر، وتأخذه معها إلى حياة جديدة، أصابتها الفكرة بجنون ملحوظ وإصرار، إنها تريد الحصول عليه بأى ثمن، أما هو فيرى ما تريده أمرا رومانسيا يصلح لواقع آخر، فلكل منهما حياته، والانتقال إلى عالمها، لن يتم بالوقوف فوق رصيف منزله، حتى أصل إليه، وآخذه معى إلى حيث لا يعرف واحد منا نحن الثلاثة.

هو الآن، كيان مريض، يرقد فوق فراشه، يكاد يتحرك على قدميه، اللتين لم تعودا تحتمله، فتمدد فوق الفراش، ينصاع لمن يضعون له المحاليل، ويغزون سنون الحقن فى جسمه، ويقومون بالتغيير على الجرح الذى ينز سوائل تنذر بحدوث غرغرينة فى أسفل ساقه اليسرى، ما يؤدى إلى بترها..

ليس أمامه، سوى قراءة صفحات من المجلات، أتى بها قبل أن يتم حجزه فى الغرفة، أو يشاهد النشرات، والأفلام التى تسحبه إلى نوم متقطع، لا يهنأ فيه بأى راحة، وعندما يفتح عينيه، يحرك عينيه فى المكان، ويستوعب بعد قليل أنه غير فراشه، وموجود فى المستشفى، ولعله فى احدى المرات فتح عينيه ليرى نورا أمامه، هكذا تخيل أو تمنى، أو ربما حدث بالفعل..

أنا شخصيا لم ار هذا المشهد، فمكانى هو الشارع، ولعل هذا قد حدث فعلا، وأنا عند كهربائى السيارات، وكانت فى تلك الفترة تستخدم سيارات الأجرة، لذا، فلا أستطيع أن أذكر أنها ذهبت إلى المستشفى، لكننى، منذ يومين، رأيتها تقف أمام "كشك" الصحف، وتخرج منه، وهى تتصفح جريدة خاصة، ثم تقف على الرصيف، وتقرأ، ثم قامت بتطبيق الجريدة وألقت بها، بلا أى اهتمام، فى علبة مهملات..

يريد المؤلف أن يوكلنى فى أن أحكى نيابة عنه ما شهدته بداخلى من وقائع، فى الشهور الأولى التى اشترتنى فيها "نور" منذ أكثر من عشر سنوات، كنت جديدة على الزيرو، وكانت تأخذنى إلى أماكن كثيرة، تبعا لطبيعة عملها، أوقفتنى أمام مؤسسة ثقافية ذات يوم، ونزلت وغابت فترة، وبعد ساعة ونصف، رأيتها تخرج من المبنى، ومعها المؤلف، محل حديثنا، وكانت صدمتى أنهما سارا فوق الرصيف، وابتعدا تماما وسط شارع ملىء بالصخب، والبشر والحركة، ولم تعد إلا فى الخامسة مساء، كان معها، وركب لأول مرة معى، فتحت له الباب وبدت الاثنان وقد انهمكا فى حديث لم أفهم منه الكثير.. لم يهمنى أن أفسر ما يدور بينهما من حديث، لكنها سألت:

- قلت لى أين تسكن.. آه.. تذكرت..

وقادتنى، وهى يستكملان الحديث بطريقة ودية، كأنه يعرف أحدهما الآخر منذ سنوات، وسرت فى طريقى المعهود إلى منزلها، جعلنى أتأكد أنه سوف يذهب معها إلى بيتها، لكنه ما لبث أن راح يصف لها طريقا آخر، حتى وصل إلى بيته..

هذا الطريق، صار بعد ذلك ولعدة أشهر هو طريقى المألوف، فى الذهاب والعودة، سواء كان معها أم بمفردها، بدت كأنها ألفت هذه السكة، ولاحظت عليها مرارا، حيت تكون بدونه، إنها تبطىء من سرعتى أمام باب المنزل، وتنظر نحوه، كأنها تتوقعه، تخيلت فى بعض الأحيان أنه سيخرج إليها، ولكنه لم يكن يفعل ذلك  إلا مرات أقل من مرورنا هناك لم يكن يخرج من باب منزله إلا عندما يهل المساء، يبدو بسيطا، غير متأنق، يطلق تحية المساء، ويدخل، وانطلق بها إلى حيث تريد..

يريد المؤلف أن أكتب رواية، حسبما شهدتهما، بدت "نور" وقد تغيرت كثيرا، فقد صار لها رفيق تتحدث إليه، أكاد أحس به موجودا حتى وإن لم يأت، غيرت المحطات التى تسمعها، وصارت تضع شرائط أغنيات عاطفية متنوعة لتسمعها، خاصة أغنية شيرين "جرح تانى"، ثم بعض أغنيات أجنبية، ورأيتها مرة، تخرج شريطا من حقيبتها الصغيرة، وتقدمه له:

- هذا شارل أزنانور، مطربك المفضل.

قال بامتنان وهو يتأمل الشريط: أوه.. "مورير دايميه".. كم أحبه.

يريد المؤلف أن أحكى مثل هذه الحكايات، ربما كى يسترجعها بذاكرته، من خلالى، كافة ما حدث فى تلك الأيام، منذ أن صار يتصرف كأنه يمتلكنى، حتى اليوم الذى أبلغته فيه بحدة واضحة:

- ابدا.. لن تركب هذه السيارة ثانية..

وأصرت على موقفها.. وذهبت على قدميه..

أحداث كثيرة دارت بداخلى فيما بينهما، لا أستطيع أن أرتبها وراء بعضها البعض، فأنا لست مؤلفة، وليست مصنوعة كى أحكى قصصا للناس، بل وظيفتى هى توصيل لن يقودنى إلى حيث يشاء، طالما أن "تنكى" مملوء بالنزين، والزيت فى مستواه العادى، وبى من الماء ما يكفى لأن تحرك بحرارتى المعتادة..

كل ما أستطيع أن أسأله هو: ترى هل كانت هذه العلاقة حب حقيقى؟ أنا شخصيا لم أعرف عاشقين غيرهما، هى تود أن تمتلكه، وأن تستحوذ عليه، كم طلبته وهى معى فى الهاتف، تبدو كأنها تلقى بظلها فوقه، فلا يكاد ينظر إلى أى شىء آخر، عداها، هذا إذا تعاملنا معها على أنها شىء..

كل ما أستطيع أن أقره، أننى لم أحس به أبدا صادقا، كان يرغب فيها، منذ المرة الأولى التى توصل فيها إلى نقطة ضعفها الكبرى ، بدا كأنه يختبر قوة مقاومتها له، تسربت يداه اليسرى إلى رقبتها، أسفل شعرها القصير الناعم، تلوت بحدة شديدة، دون أن تعلق بكلمة واحدة، قال وهو يرتجف:

- كم هى دافئة.. رقبتك..

يتصد "قفاها" حيث تحركت أصابعها، لم يعلق بشىء آخر، وهو يلمس الرقبة المكتنزة وينتشى بالدفء الذى أحدثه شعرها، وبدت كأنها تريد المزيد، فى هذه اللحظة، أختصر المسافة إليها، عرف كم هى ضعيفة تجاه اللمس، لم يحاول استغلال إحساسها، على الأقل هذه المرة، تركها تسترد جأشها، وتماسكت، ومست شعرها من أطرافه، كأنها تعدل من شأنها، وسرعان ما بدأت ترد على الشخص الذى طلبها فى الهاتف:

- آلو.. نعم، ماشى..

ثم أنهت المكالمة، لم يفهم أى منا، ماذا تعنى الكلمات الثلاث، بدت كأنها ترمى بارتباكها فى ما قالت، كى تعود إلى حالتها الأولى، بينما أطلق تنهيدتين لما تسمعهما، وساد صمت فى داخلى، داعبته أصابعه كى يكرر المحاولة، لكنه قاوم نفسه، وقال:

- تعالى نشرب شيئا هنا..

وددت أن أسبه، وأن أنبهه أنها تحب اللمس، وعليه أن يبقى، وأن هذه الدعوة على غير إرادتها، لذا تحملت قليلا، دون أن يلحظ، فتحت الباب المجاور لها، دون أن تتكلم، كان يتمنى أن ترفض، لذا تأخر خروجه، كان مستثارا بشكل ملحوظ، عندما خرجا، بدأ كل منهما فى تعديل نفسه، وسارا متجاورين، حتى ابتعدا عن مكانى..

بالطبع لا أعرف أين جلسا، ولا ماذا تناولا من مشروب أو ربما بعض الحلويات، لكنها بدت ضاحكة، وهى تفتح بابها، ثم تدوس كى ينفتح له بابه، لم أتمكن من قراءة ملامح الوجهين إلا، بعد أن أضاءت نور صالتى، لم يتكلما، فقد جاءتها مكالمة، صار عليها أن ترد، وتتكلم من جديد، وهنا بدأ المكر يأخذ مجراه، شعر أن المكالمة طالت، أما هى فلم تبدأ فى قيادتى بأى حال، وكان الانتظار فرصة لأن يعيد يده اليسرى إلى رقبتها، تكلمت أصابعه نيابة عنه، وبكل رضاء، وارتجاف استقبلت لمساته أسفل شعرها، فى المكان نفسه، حركت رقبتها من النشوة التى اعترتها، فهم أنها تقاوم على طريقتها، واستمرت فى مخاطبة من يكلمها، وبدون قصد حاولت أن تبعد يده، إلا أنه همس:

- هكذا أفضل..

فتقبلت المحاولة، قال لها ما انتهت المكالمة..

- أنت شديدة الدفء، هل تعرفين..؟

اهتزت، لم تتكلم، وسط الظلام انزلت يديه، فتعانق الكفان، دون أن يتكلما وبقيا على  هذا فترة، قبل أن تقول:

- لنذهب..

هز رأسه بالموافقة، كان كل منهما يود إبقاء الحال كما هو عليه، لكنها أدارتنى وسارت فى الشوارع المظلمة القريبة من بيته، وتعمدت تشغيل مسجل السيارة، التى انبعثت منها موسيقى خفيفة ساعدت فى تقليل حرارة انبعثت من كل طرف تجاه الآخر، ام يكرر أى محاولة، ورأى أن ما حدث كفيل أن تكون بداية طيبة تجمع بينهما.

مقاطعة من المؤلف

معذرة، يجب أن أكمل ما حدث فى تلك الليلة، فأنا الوحيد الشاهد على ما تم فى هذه الأمسية، فما أن دخلت شقتى، وغيرت ملابسى، حتى ظهر رقم هاتفها على محمولى:

- هل نمت..؟

قلت بكل بساطة: العشاق لا ينامون فى مثل هذه الليالى.

سألتنى: هل تعرف لماذا؟

أجبت: لأننى أضعت على نفسى فرصة ذهبية.. فتأخر اكتشافك..

قالت: اكتشفنى كما تشاء.. مسموح لك..

قلت: أشعر بالندم لأننى غادرت السيارة، انتابتنى الرغبة أن أقبلك..

قالت: افعل ما تشاء.. قبل كما يروق لك..

ضحكت، ممئتة بها، وسط دهشة لجرأتها، تبدو كأنها ممحونة بشدة، قلت:

- فى هذه الحالة فإننى أقبل التليفون، قطعة من المعدن البارد..

- ولم لا نسخنه، لا نشعله..

- هل غيرت ملابسك؟

- لم تكلمنى عن ملابسى، لست فى حاجة إلى أى ملابس..

ارتبكت، لم أفهم، هل عادت بهذه السرعة إلى منزلها، وقامت بتغيير ملابسها وطلبت رقمى؟ قلت:

- أرى حياتى تتغير، تتعلم لغة جديدة..

- أنت محظوظ.. أنا لست جديدة، أنا متفردة..

- فعلا، أنا محظوظ..

معذرة، لن أستطيع أن أضع خيط الحوار كله فى هذه الصفحات، باختصار لأن الرقابة سوف تعاقبنى بشدة لأننا نطقنا بمثل هذه العبارات، وأننى وضعتها على الورق، كانت تعرف ماذا تريد بالضبط، ومن المؤكد أنها فعلت ذلك كثيرا من قبل، أما أنا فلست فى حاجة قط إلى مثل هذه العبارات، وما يصحبه من غنج، لكنها الشهرة، ليس هناك من هو كبير عليها، حين تستبد به، لا لست قديسا، وان كان الكثيرين ممن يدعوا القديسة يفعلون ذلك..

لك أن تتصور ما قلناه، ومدى طول الوقت الذى استغرقناه، كان أكثر ما أدهشنى هو ترى كم تدفع مقابل المكالمة الطويلة للغاية لشركة الهاتف، أمام شخص حريص ألا تزيد مكالمته المهمة عن دقيقة، أو اثنتين..

عودة إلى السيارة:

صباح اليوم التالى، مررت بها من أسفل منزله، بدت كأنها تحب هذا الطريق الجديد فى حياتها، تعمدت الوقوف قليلا أمام بابه، ولم تتحرك من مكانها إلا عندما انطلقت أبواق سيارات من الخلف، إلا أنها عندما انتظرته معها فى الثامنة مساء، قالت وهو يدخل من بابى:

- كله تمام..؟

بدا منشرحا، رد: تمام.. كيف حالك؟

من الواضح من ردها أنها خابرته من هاتفها أكثر من مرة أثناء النهار، لم تغادر منزلها، فاليوم اجازة لها من عملها، لكنها لا يمكن أن تضعه فى بند الاجازات، لم يسألها إلى أين تأخذه هذه المرة، فهى تعرف طريقها، لكنه اندهش أن تذهب به إلى نفس مكان الأمس، أمام المول، المشع بكافة أضواء المصابيح الحديثة، والمزدحم برواد أغلبهم من الشباب الذين فضلوا الجلوس، والوقوف، عند الباب الرئيسى، ورغم كل هذه الأنوار والأصوات، فإنه وجد نفسه فى مكان أقرب إلى الظلمة، بعيدا عن الأضواء..

يبدوا أنها تيمنت بهذا المكان الذى وقفنا عنده بالأمس، وأنه صار الأنسب كى يلمس عنقها كما يشاء، وربما أكثر، هز رأسه عندما قالت:

- هنا أفضل..

ثم قال: أجد نفسى شخصا مختلفا، أفعل ما لم أتصور أنه سيحدث لى يوما..

نظرت إليه بعينيها الواسعتين وسط وجه مكتنز قليلا، دون أن تعلق، وكان عليه أن يستكمل:

- فتحت أمامى أبوابا ظننت أنها أغلقت منذ فترة، وهأنذا أفعل أشياء غريبة.. نعم.. معذرة ان... (ارتبك، تردد، لكن عينيها فقط تتلقى، ربما أكثر من أذنيها) بالأمس، وجدت نفسى استيقظ مجددا بعد الثانية صباحا، هاتفك يتصل بى، عقب مكالمتنا الأولى بثلاث ساعات فقط، أحسست أننى فى ليلة عرسى الأولى، كنت مليئة بالحب، والحيوية، أخذنى نوم متقطع، حتى جاءت مكالمتك الثانية، انتظرتها، لكننى لم أتأكد من حدوثها، سألتينى ان كنت سعيدا.. بالطبع، أكثر من سعيد، هناك خلايا كثيرة ماتت فى جسدى، أحسست بها تنبض من جديد، وتتحرك فى مكانها، بعد أن أنتهينا، تأكدت أنها ما تزال تنبض، لم تشبع، طلبت منى أن أطلبك من جديد، لكننى خشيت أن أسبب لك إحراجا فى دارك، جاءت المكالمة من جديد، غمرتنى سعادة، لإننا فكرنا واشتقنا، وتصرفنا فى نفس الدقيقة، صوتك المميز يسرى فى جسدى ووجدانى، ماذا فعلت بى يا "بت"؟

"بت"، بدت كلمة غريبة تنادى بها، استحسنتها للمرة الثانية، وهى تسمع، تعمدت ألا ترد عليه، اكتفت بالاستماع إليه، فهى ترغب فى ذلك بقوة، كان صوته ينخفض أحيانا، وترتفع نبرته قليلا، وهو يقول:

- رجل مثلى يستخدم مفردات قديمة فى صياغة جديدة، ماذا حدث لىّ، يبدو أننى أحببتك. ماذا فعلت بى؟

تحسس أنامل يدها اليمنى المكتزة قليلا، وقال:

- لم أقلها من قبل لأى امرأة، فى سيارة، وفى مثل هذا المكان، لذا فهى جديدة..

بدا أنه لم يقل شيئا، بلسانه، ولكنه فعل ذلك بأصابعه التى تلمسها، لم يضع فى اعتباره أنهما فى شارع عام، فالزجاج مغلق لزوم برد الخريف الليلى، بدت شحنته قد فرغت، لكننى، لا أعرف لماذا، لم يكن صادقا يحاول استمالتها على طريقته، حتى يكسب أكبر قدر من الاحساس أنه مع "نور" التى صارت شيئا ثمينا فى حياته..

لم ترد بكلمة، ولا أستطيع أن أحس بما فى أعماقها، حيث بدا وجهها محايدا، وأن كانت قد حققت هدفها بأسرع ما استطاهت، بعد أن أحاطته بكل هذا الاهتمام الذى حامت به حوله، فلم يتمكن قط من التقاط أنفاسه، أنها تلاحقه إلى حيث يكون، وأنا شاهدة على الكثير مافعلت، وقد تمكنت من استحواذه، يبدو أن هذه هى طريقتها فى امتلاك الرجال فى حياتها، هى التى عرفت من مكالماتها الهاتفية، أنها تزوجت مرتين من رجلين، لم يحتملها كل منهما، تبدو شديدة الرغبة، وتحتاج إلى قطعان من الراغبين، ولا أعرف عدد من دخلوا فى حياتها، عن طريق غير الزواج، فأنا جديدة معها، اشترتنى من أشهر قليلة، لكن يبدو أن أحدهما قد نفد بجلده، وهو غير القادر على مسايرتها.

هذا هو وافد جديد، يدخل حياتها، يبث لو أعجبه إليها، فهمت من كلامه، أنه بعد عودته البارحة إلى المنزل، فوجئ بها تتصل به، كان قد اكتشف علتها، فسألها بعد قليل عن ملابسها، وعندما أجابته بأ،ها لا ترتدى ملابس داخل غرفتها، اندهش، وانبهر بقوة، لكنه تماسك، وأبلغها أنه من الأفضل أن ترتدى أجمل ما لديها، وأن تنزعها قطعة تلو الأخرى، وأن تبلغه بتفاصيل ما تفعل..

يبدو أنه وقع فى فخها بقوة، ومن الواضح إجادتها لما تفعل، فهو يستطرد، كأنه انكفأ عليها، أو لعله يلعب دور القناص، كى ينال منها ما يريد، سواء الآن، وهو يبثها كافة مشاعره، أو عندما توقظه بعد منتصف الليل..

بدت كأنها سطح بارد تتلقى كلماته، دون أن يبدو عليها اللهيب الذى يعتمل فى داخلها، انتبه إلى وجهها المحايد، كأنها تكشف عن نواياه، فلا تصدقه، أما هو فتصرف كأنه يود أن يقسم لها بكافة أنواع اليمين أنه يحبها، قال:

- يبدو أننى لم أستطع العثور على الكلمات المناسبة لأعبر عن مشاعرى..

لم تعلق، وبدت كأنها تستخدم كل ما وهبتها السماء من ذكاء، نطق بحروف اسمها بشكل متكرر، وهو يضغط على يدها، ويشعر بنشوة، قال:

- تعال نبحث عن مكان آخر، خارج المدينة..

تكلمت عيناها كأنها تسأل عن السبب، وتكلمت لأول مرة:

- هنا مكان مناسب، كم أتمنى لو يسمعك كل هؤلاء الناس، أنا سعيدة..

اهتز فى مقعده، كأنه يستريح، ثم زفر من أعماقه، قرأت "نور" معانى هذه الزئرة، فأدارتنى وتحركت بى، كى آخذهما إلى أطراف المدينة..

أطراف المدينة.. فى التاسعة مساء، فى جو خريفى، مكان لايذهب إليه الناس، بعيدا عن البنايات المتناثرة فوق الرمال، أغلبها لم يكتمل بعد، غادرها البنائون، والصنايعية.... قبل ساعات، وتركوها هياكل مظلمة، فتبدو أشباحا عملاقة وسط المكان.. إنها المرة الأولى التى آتى إلى هنا، لكن، والحق يقال، يبدو أنها تعرف المكان جيدا..

المؤلف:

معذرة ، هذا فقط، يجب أن أتدخل، وأحكى بنفسى عم أحسسته عندما تلاقت شفتانا لأول مرة.

هل جرب أحد ما يسمى بالفولت العالى، تلك الطاقة التى تكهرب أى شىء بقوة، فلا يستطيع أن يحتملها، حين تسرى فى بدنه من الفم، فتهتز لدرجة الارتجاف بقية أعضاء الجسد، ولا يمكن أن توجد قوى أخرى يمكنها أن تحدث التأثير نفسه، فرغم كل هذه السنوات، والتجارب، فإن ألف امرأة ملتهبة، ومحترفة، لا يمكنهن مجتمعات أن يتركن نفس الأثر الذى مسنى، وشفتى تلمسان فمها للمرة الأولى، هذا القلم العاجز، لا يستطيع أن يعبر عما انتابنى من مشاعر، ترى هل هى الشهوة، لا أعتقد، فلقاء الشفتين، لم يترك أثرا حسيا، بقدر ما سرت نيران، أو كهرباء، أو مشاعر أقوى وأشد من الفولت العالى، لا أعرف ماذا بها، ولا كيف انسكب هذا اللهيب فى بدنى، فارتجفت، وأحسست أننى هراقليس، صارت لدى القدرة على تسخين الكون.

كل شىء مظلم من حولنا إلا "نور"، نورها، داخل السيارة وخارجها، كتمت تأوهاتى بداخلى، لكننى تمتمت:

- ما هذا؟

كانت تتوقع السؤال، بالتأكيد تعرف سر قوة شمشوم التى تنبع منها، قالت كأنها تتأكد من لهيبها:

- حلوة؟

لو أجبت بالكلمة نفسها، فسوف أضع للحلاوة حدودا لن تخرج عنها، وهذه هى مأساة اللغة، لا تعبر عن المطلق الذى يتحرك حولنا، هاتان الشفتان تطلقان ما لا نهاية من اللهيب الأنثوى، مثلما كانت معى بالأمس عبر الهاتف، تحولت كل أسلاك، ولا أسلاك الهواتف إلى كتلة من النيران، اللهيب المتنامى المتناهى، إنها المرة الأولى فى حياتى، تخلى كل منا عن وقاره، وقلت ما لا يناسب مكانتى، وسنى، لكننى يجب أن أشعر بالندم الشديد، لأننى لم أفعل هذه الأشياء من قبل، خيل لى أننى يجب أن أولد من جديد، وأن أمسح هذه الحياة الساذجة التى عشتها من قبل.

أعترف أننى لست بهذه البراءة التى أدعيها، لكن كل ما فعلته، وقالته بالأمس عبر الهاتف، وملمس شفتيها داخل السيارة قد أثبتا أننى عشت حياتى ساذجا، أعرف الأشياء بأسمائها، وأجهلها كل الجهل..

لم أودها أن تنتزع شفتيها بعيدا عنى، أنها تمنحنى نوعا خاصا من الأكسجين، يبعث الحياة فى الرميم، ويمنح النيران فوق جبال الجليد، ويجعلنى أحصل على حقى من نشوة جاءت على أثر كلمات عبرت فيها أننى أحبها، لا أعرف ان كنت صادقا أم لا، لكننى أعيش حالة من المشاعر ذات الفولت المتناهى، وهى تمنحنى شفتيها، يا إلهى، هل هناك نساء يشععن كل هذه الحرارة، وهل كانت الشفاة الأخرى فى حياتى مجرد بلاستيك بارد، وانهن جميعا قد خدعونى، تحت إدعاء إنهن نساء.. نسوة..

لا أريد لقلمى أن يغادر الصفحة، وأن أكتب رواية كاملة عن القبلة الفولت الأولى التى طبعتها "نور" على شفتى.. تململت، الكهرباء تشحننى كى يشع الضوء والطاقة، كى أضىء الصحراء فى أطراف المدينة، لأشهد أبنائها أن هناك طاقة كهربية تجعلنا آمنين من انقطاع الطاقة لعشرين عاما قادمة..

سمعتها تئن، بل أن هذا الأنين يخرج من بين شفتى، وأعماقى، معلنا عن عجزى فى الاستمرار فلكل إنسان حدود لطاقته، ويجب أن أنزع نفسى عنها، حتى لا تحرقنى نشوتى، لكنها لم تمنحنى الفرصة كى أفعل، فالتصقت بشفتيها من جديد، والأنين يتبادل فيما بيننا، تمنيت لو نطقت بكلمة، أى كلمة، وددت لو قلت "أحبك"، لكن هذه الكلمة الغالية انحبست بين شفاهنا، فنحن عادة ما نردد الكلمات عند الأفعال المثيلة، لنزيد من الإحساس ولنجسده أكثر.. لكنى لست فى حاجة أن أحرك لسانى الذى كان منشغلا بلعقها، على ما أتصور..

يبدو أن الشفاة الأربعة التصقت تماما ببعضها، فلم أعد أعرف أيهم يخصنى، ولا أى منهم صاحبته "نور" التى تعمدت أن تحرك وجهها.. وددت لو أستغيث بأى مغيث، كى أحرر نفسى من اللهيب الذى حلّ علىّ، لكن لاشك أن هذا لو حدث فسوف أشعر بالندم العميق..

وأخيرا تراجعت، ولهثت بشدة:

- يخرب بيت أبيك..

ضحكت، كأن هذه الشتيمة، قد تواءمت مع ما فعلته، وأننى يجب أن أسبها بما هو أشد وأبعد وطرا، ثم كررت:

- حلوة..؟

بكل تلقائية: "أنا عايز أروح..

رددت: لن تجدنى، هناك، أنا هنا فقط..

التصقت الشفاة مجددا، ربما بشكل تلقائى، أو بدافع الخوف أن ينطفئ كل هذا اللهيب فجأة، حدث مثل "فيشة" الكهرباء، استمد كل هذا الفولت العالى من شفتيها، ورحت أهز رأسى بقوة، وفمى ملتصق بها، وهنا فقط أدركت لماذا يتم قطع القبلات من بعض الأفلام عند عرضها فى قنوات التلفزيون.. هىء لى أنها ساعات، وليالى طويلة، وسط لهاث حقيقى انتهى بتكرار "عايز أروح"، ضحكت، وقالت:

- ما رأيك؟

أجبت: هذه قبلة امرأة عاشقة..

بكل ثقة، قالت: هذه قبلة "نور"، لا تمنحها أى امرأة لمن تحبه..

هذه هى المرة الأولى التى تعترف فيها بحبها، بعد أسابيع من تعارفنا، بدت كأنها تتوج المرحلة الرقيقة، والساخنى من علاقتنا، وجدت نفسى أردد كنوع من المجاملة، أو ربما كان هذا صحيحا فى تلك الليلة:

- وأنا أيضا أحبك..

نظرت حولها، إلى خارج المكان، ولعلها تتنبه أن شخصا ما قد رآنا، ما نبهنى إلى خطورة ما نفعله، لكننى شعرت بآمان خاص، فلاشك أن خطرا يحيق بنا فى هذا المكان المظلم البعيد، وسط بنايات تنزرع فوق الرمل، لن يرتفع إلى مستوى ما فعلناه، ورحت أداعبها:

- لا داع للعودة إلى البيت..

قالت: حتى لو عدت إلى دارك، فستجدنى هناك، معك..

لا تريد أن تتركنى، وتسعى إلى أن تشملنى فى الأماكن والأزمنة، قلت وأنا استجمع أنفاسى:

- من أين أتيت بكل هذه الطاقة الهائلة..؟

ردت: "نور".. يا أستاذ..

ابتسمت عندما شتمت هذا النور، وقالت:

- أحبك حين تشتمنى..

تنبهت إلى أننى يجب أن أهندم ملابسى، خاصة قميصى الذى خرج عن مكانه، قلت بتلقائية:

- آه لو شهدت هذه السيارة عم فعلناه..!

علقت: وهل فعلنا شىء.. مجرد قبلة..

وددت أن أبلغها بكلمات مكشوفة أن ما فعلناه يفوق القبلة عشرة آلاف مرة، لكننى كتمت كلماتى، وأنا أدرك تماما أن البوح بالحروف لا لزوم له بالمرة فى مثل هذه الأمور..

السيارة:

واستمرا فى جرأتهما، بداخلى، فى هذه اللحظات، تمنيت لو كنت بشرا، من لحم، ولحم وشعرت بالغبطة لكل البشر بما وهبهم الله من ممتلكات ونعم، وصار علىّ لعدة أيام أبحث معها عن مكان مماثل، فى منطقة قريبة، تحت الإنشاء، لم يكتمل تعميرها، بما يضمن أن أحدا لا يعيش هنا، وأن البوابين يكمنون داخل البنايات تحت التأسيس، ولا يجرأون على الخروج، وصارت المهمة عسيرة..

كانا فى حالة من الجاذبية، يفعلان ما يمكنهما عمله بداخلى، رغم أن كل ما يفعلاه، لا يتعدى القبلات التى تكفيه، وفى بعض الأحيان، يتحسس صدرها من الخارج، ورغم كل هذا التصرف، من ناحيتها، فلم تكن تجعله يتجاوز أى حد، حتى باللمس، وأكاد أجزم أنه أنامله لم تعرف الطريق إلى أى منطقة ثمينة من الداخل، لعل أعلى المناطق هى رقبتها المكتنزة، وبعضا من شعرها الناعم، وملابسها من الخارج، إلا أنها رغم كل هذا كانت مصابة بكهرباء ذات فولت عال، حريصة ألا ينال أى من ثمراتها، لا أعرف أى تفسير لهذا الأمر، من تصرفاتها، يمكن أن تتأكد أن أكثر النساء عهرا، لا يقدمن للرجال ما تقدر عليه، تتحول إلى شخص آخر، مختلف، عندما تبدأ معركة التلامس، انهما يفعلان ذلك حين تختار لى مكانا آمنا، ربما جاءت إليه من قبل مع أشخاص آخرين، تبدو شديدة التناقض، خاصة عندما سألها:

- لماذا لا نصعد معا إلى شقتى؟

تصرفت كأنها لم تسمعه، لم يكرر السؤال، بل ردد: هه؟

أجابت: هنا أفضل..

هنا، فى هذا الظلام، قد يأتى الخطر، فى العديد من الصور، لكنها لا تريد الصعود إلى شقته:

- لست عاهرة، أصعد إلى شقق الرجال..

وقبل أن يسألها، أو أن يخفى تساؤله عم يفعلان، حسمت الأمر:

- لأننى أحبك..

هذه العبارة وحدها تجعله يبتلع كل الرغبات والأسئلة، ويشعر بالامتنان، أن امرأة بمثل هذه السمات، تكن له مشاعر الحب، وتعطيه أكثر ما يريد، لكنه يطمع فى المزيد، مثل كل الرجال، يود أن يغوص فى أعماقها، أن يلتهم نشوتها، ترى هل تفعل ذلك حتى تشبعه أم أن هذا هو قياس الفولت العالى الذى تمتلكه، لعلها تحاول الاستثار به، بعد أن فقدت رجلين فى حياتها، عقب زواج لفترات قصيرة، لم يحتملا كل هذه الكهرباء التى من الصعب العثور على أجهزة لقياس درجاتها..

يبدو، حتى الآن، أنه لم يعثر على مفاتيحها بعد، وعليه أن يفعل ذلك بكل صعوبة، أن يقوم باعادة تشكيلها، لكن لا شك أن الأمر بالغ الصعوبة، فهكذا خلقت، تلك التى تبدو بالغة الهدوء، والأتزان أمام الناس، لا تنبض عنها أى أنوثة، ما إن تنفرد برجلها، حتى تستنفره، وتحول ما تحت قدميه إلى  نيران رائعة متقدة، تفقدها الاتزان، وقد يتعرضان لبعض المتاعب..

فى ذلك اليوم، انطلقت بهما إلى إحدى المناطق فى القاهرة الجديدة، حيث مصابيح الشوارع قليلة، لكن الميكروباص، والبشر يتنافسون لإيجاد مكان لهم، تقودنى، بطريقتها المليئة بالحزم، والانتباه إلى الطريق، حتى لا تسبب حادثا، تندم عليه، استغل المؤلف ظلمة الشارع، والزجاج المغلق وراح يداعب رقبتها المكتنزة، وهو يحاول أن يدخل أنامله إلى صدرها، أحست أنها تخرج عن المألوف رغم كل ذلك، فراحت تقاوم وترفض، وهى التى تبدأ فى بعض الأحيان:

- أرجوك.. كف عن ذلك، لا أكاد أرى الطريق..

كأنه لم يسمعها، ألا أنها لم تستطع تتفادى تلك الحفرة على الجانب الأيمن، حاولت أن آخذ حذرى، وألا أسقط مع العجلة الأمامية فى الحفرة، أهتززت بقوة، وأنا أفتقد اتزانى.

لم أدرى ماذا حدث لى، ولا كيف كان رد فعل كل منهما، وجدت نفسى وقد انغرست العجلة اليمنى الأولى فى الحفرة المليئة بالماء، بدا قلب كل منهما وقد انغرس فيه الرعب، حاول أن يفتح الباب، لكن الأمر ليس سهلا، ورغم أن الشارع شبه خال من البشر فإن صدى الارتطام نبه الآذان إلى مكاننا، فأسرع عدد من الرجال نحونا، وراحوا يطمئنون إلى فداحة الحدث، فلما تأكدوا أن من بداخلى لم يصبهم سوء، راحوا يرفعوننى إلى أعلى الحفرة، وبدأوا يسدون نصائحهم، أن توجه المقدد، للخروج من دائرة الخطر..

ما إن عادت الأمور إلى طبيعتها، حتى انهالت النصائح لها أن تنتبه ال ى الظلام المحيط بها، أما هو فلم أسمع له صوتا كأن ما حدث خارج دائرته تماما، أما هى فلم تعلق على ما حدث، واستكملت طريقها باحثة عن مكان لا يراهما فيه أحد، فى تلك المناطق التى تقع فى أطراف العاصمة، قريبا من مناطق سكنية جديدة ستقام هناك، يبدو أنها لم تشعر بأنها تدخل فى دائرة الخطر، أنها تستمته بوجود رجل فى حياتها، يلمسها حين تشاء، وتكتشف معه الأماكن الآمنة، كى يتبادلا التلامس، حريصة دوما أن تفعل كل شىء مجاب دقيق..

وبعد دقائق، كانت حرارة الملامسات، والقبلات قد أنستها فزع سقوط عجلتى اليمنى، فى تلك الحفرة، لست سوى شىء جامد، مطيع، أتحرك بوقودى، وأسير فوق الأرض الوعرة حتى أصل إلى مكان آمن.. وتبدأ حالاتهم التى تختارها، نعم، هى التى تحدد ماذا يلمس، وماذا عليها أن تفعل به، هو سعيد منساق لها، لا يكاد يفكر، وهو الذى يزعم أنه مؤلف، محدود الطاقة بالنسبة لها..

فى طريق العودة، أحس بالحاجة إلى طعام:

- ما رأيك فى شطائر، جوعان؟

أجابت: انتظر، سوف اختار مكانا مناسبا..

توقفت بى، نزلا معا إلى المطعم الصغير، وعادا ومعهما ما اختاراه، من طعام وشراب، وراحا يلتهمان بنشوة ملحوظة، بدا الاثنان كأنهما متوحدان فى أشياء كثيرا.. فبعد أن ينتهيا من الملامسة، يتوحدان فى الحوار، تمارس عملها كمذيعة تحكى القصص أمام الميكرفون، ومثلما يتمنى ألا تنتهى الملامسات، فإنه أيضا يتعمد الإطالة فى الحديث إليها، وهما يأكلان ما أتيا به من المحل الصغير..

رأيت هذا النحيل يدور حول السيارة، قبل أن يطرق على زجاج بابها.. انتبهت إليه عندما فعل ذلك خمس مرات، نظر إلى الطارق بدهشة انزلت الزجاج.. أطل الرجل برأسه داخل مقصورة السيارة، كأنه يبحث عن شخص ثالث معهما، وبكل أدب طلب البطاقة الخاصة، لم ترد، أما هو فقد صار عليه أن يصير عنترة:

- ماذا تقول..؟

- البطاقة من فضلك..

- أى بطاقة..؟

- الرقم القومى!

- هل لديك أنت بطاقة..؟

ارتبك الرجل، كأنه لم يتوقع السؤال..

- ماذا؟

فتح بابه، وخرج إليه، بينما جلست تترقب متماسكة، دار حولى، ووقف أمامه فى حالة تحفز:

- هل معك بطاقة..؟

رد الشرطى، هذا إذا كان شرطيا:

- طبعا.. طبعا..

طلب منه البطاقة، ارتبك الرجل، قال:

- وددت حمايتك..

بدأ يتصرف كأنه يحاول احتواء الموقف..

- معى بطاقتى الصحفية، هل تريد أن تراها..؟

أشار إليها، وأخبره أنها مذيعة، وهو صحفى، وأنهما عائدان من مهمة عمل، تمتم الرجل:

- لكن..!!

سأله: هل رأيت شيئا جعلك تنحشر بيننا؟

هز الرجل رأسه، وحاول أن يعتذر، لكنه أراد أن يعزر موقفه:

- لكن، المكان مظلم، و...

علق: هذا شأننا..

وانصرف الرجل دون أن يعلق، لعله كان يبحث عن مكافأة خاصة، ولأنه لم يحصل عليها، فقد التفت وعاد إليه، وقال له قبل أن يدخل السيارة:

- من فضلك، هذا المكان حساس.. تسكن به شخصيات مهمة..

ردد كذبا ليزيد نفسه أهمية:

- أعرف، سعادة الوزير.. إنه صديق..

فى هذه المرة، قرر أن يذهب دون أن يتردد، أو يلتفت خلفه، أما هو فقد فتح الباب، ودخل، لم يبحث عن ملامح وجهها، لكنه أحس بالسعادة، لأنه نجح فى حمايتها، فقد كذب أكثر من مرة، ادعى أنه صديق للمسئول، وأنهما فى عمل، قال لها:

- هل أعجبتك؟

بكل ثقة: أمر طبيعى، كان يجب أن تفعل ذلك..

شرد قليلا، بدا كأنه يتصور لو أن الرجل، شرطيا كان أم غير ذلك، لو ضبطهما قبل قليل، عند أطراف المدينة، فترى أين سيذهب بهما، وماذا لو نشر خبر فى صفحات ما بعد الغد عن رجل، كان يعانق امرأة، مكشوفة الصدر فى سيارة بيضاء، فى ركن مظلم من أحد شوارع المدينة، لا شك أن الوضع سيكون سيئا، لكن يبدو أنها سعيدة الحظ، وتعرف ذلك جيدا، وأنها كم فعلت ذلك، وسارت الأمور على ما يرام..

تعليق من المؤلف:

فعلا، ما روته السيارة أقرب إلى الحقيقة، تبدو "نور" دوما واثقة فى نفسها، وتكاد تعرف أنها تخرج فائزة، فهى حريصة فى كل ما تفعل، ورغم الانذارات التى أرسلتها لنا تلك الحوادث، وغيرها، إلا أنه لم يحدث لنا أى مكروه حقيقى، كم غبطتها، على هذه القوة التى تمتلكها، هى تعرف كيف تحمى نفسها دوما، وتحمنى أيضا، لو أعرف من أين جاءتنى تلك الجرأة وأنا أرد على الشرطى، رغم أنه فى أغلب الأحيان ليس شرطيا، فالعادة أن هذا النوع من "الكبسات" يتم بأكثر من شرطى، أو ربما هو شرطى يبحث عن فريسة، أو بعض الأكرامية، على كل، هى المرات الأولى، والأخيرة لى، ولا استطيع أن أقدم تحليلا حقيقيا..

لكن، طالما أننى أحاول كتابة رواية عن "نور" بعد فترة من الجدب الحقيقى، فلا يمكن أن أنسى تلك المرة، باعتبار أن السيارة شهدت فقط الجزء الثانى منها، فالرواية لا تكتمل إلا بما حدث، أنا دائم الخلاف والنزاع مع قرينتى، التى فوجئت بهاتفى يرن ظهرت أرقام "نور" على الشاشة، قالت بإيجاز شديد:

- أنا أسفل بيتك..

تفعلها دائما، أسرعت بارتداء ملابسى، دون الحذاء، واكتفيت بصندل، ونزلت مهرولا، لأجدها تنتظرنى بعيدا قليلا، كانت السيارة تطلق ومضات حمراء، فاندفعت نحوها، وقلت فور دخولى:

- إنها هناك، جاءت فجأة..

هزت رأسها، بلا مبالاة، وتحركت بالسيارة، هكذا اعتدت عليها، تفعل ما تريد عندما ترغب فى أن نلتقى، وهذا هو موعدنا للخروج، يبدو أنها لم تصدق إنها هناك، سألتنى:

- هل تناولت العشاء؟

قلت كذبا: لا، ليس بعد..

سألتنى: ما رأيك فى المزرايللا..؟

هززت رأسى بالإيجاب، رغم أنه ليس فى معدتى مكان لجرعة من مشروب غازى.. ووجهت سيارتها إلى مطعم الموزاريللا، القريب من كلية البنات، سألتنى:

- كيف قضيت نهارك..؟

- كالعادة، لا جديد، أنت الجديد فى حياتى..

سألتنى: هل تريد مشاهدة فيلم جديد؟

سرعان ما جاء الجواب، أخاف أن يغلبنى النعاس..

لم أضف "أنها هناك"، لكن هذا حقيقى، ليس فقط لأن فى منزلى الآن قرينة، قليلا ما تأتى إليه، بل لأننى لا أضمن أننى سأتمكن من مشاهدة الفيلم، ففى الحفلات التى تبدأ فى التاسعة والنصف، فإن النوم يأخذنى بعد دقائق من بداية انهماكى فى الفيلم..

جاء رنين هاتفها، من داخل حقيبتها، صار علىّ أن أقطع حديثى معها، وأن أفكر فى ما ينتظرنى لو نمت أثناء الفيلم، سمعتها تقول:

- هذه نمرتك..

سرعان ما بحثت عن تليفونى، اكتشفت أننى نسيته فى المنزل، وسط "اللهوجة" التى ارتديت بها ملابسى، والسرعة التى انطلقت بها للنزول إلى "نور" مدت الهاتف نحو عينى، وقالت:

- أهذه نمرتك؟

لم يكن هناك أى شك فى أن المتصل "ة" من بيتى، هززت رأسى دون أ، أتكلم.. عجزت عن التصرف، أما هى، فقد ظلت تسمع الرنين، دون أن ترد على المكاملة، حتى انتهت، وبدأ يرن من جديد، شعرت بالغبطة، لأن هذه العلاقة السرية بدأت تخرج من جحرها، وأن الشك انتاب شخصا لا يكاد يعبأ بأمرى، بقدر ما يهمه ما فى جيبى، يتمتم معبرا عن دهشتى، قلت متلعثما:

- نسيت الهاتف إلى جوار الفراش..

إنها تركز فى الرقم الظاهر أمامها، هناك من يتصل بهاتفها من تليفونى الذى تركته، قلت:

- ولا يهمك..

كانت قد أغلقت غطاء هاتفها قبل أن تنتهى حروف كلمتى، وضعت يدى على رقبتها المكتنزة، وسط الشارع المظلم الذى تسير فيه سيارتها، سألت:

- هل نذهب إلى السينما.. أم..

وبعد قليل وقفنا نأكل الموزريللا، نلتهم شطيرة كل منا، بدت السلطة مختلفة الطعم، وغازلنا هذا النوع  الجديد، علىّ أنا على الأقل، من الأطعمة التى انتشرت فى المدينة، هى تعرف أماكن هذه المحلات، وعناوينها، ومواعيدها، ولنا فى كل واحد فيها ذكريات، لا يمكن لرواية أن تكتمل إلا بالحديث عم دار فيها.. تكشف عن المسافة الواسعة بين رجل غشيم، يجيد قراءة الكتب، وامرأة اعتادت على أن تأكل وتشرب فى هذه الأماكن، إما وحدها.. لكن..

شيئا فشيئا، راحت تثقل عليه بما تطلبه، تعرف أنه يعيش وحده أغلب الأيام، وأن امرأته تقضى أغلب أوقاتها عند أهلها فى مدينة أخرى، ورغم هذا سعت إلى أن يكون ملكا لها وحدها، وأن يكون من بين ما ورثته من الحياة، تضغط عليه أن ينفصل عن زوجته وأن يرسل لها بورقتها، لم يعد لها من حديث وطلبات إلا أن يترك حياته القديمة.. وأن يبدأ معها صفحة جديدة..

أحست أنه ليس جادا فى علاقته بها، ولم تعد تصدق ما يقوله لها، فى البداية، لم تكن ترى سوى نفسها فى المرآة، ثم تنبهت إلى مرآته الخاصة، أرادت أن تكون وحدها فى داخلها، إذا نظر إليها، وأن تمتلكه، مثلما امتلكها..

بدأت تستخدم وسائل عديدة كى يمتثل لها، منها البكاء:

- أنت تبكين، دموعك غالية علىّ، لست شيئا ثمينا كى تبكى من أجلى..

لم تعلق على الجملة الطويلة التى حاول أن يستميلها ، تحسس كتفها.. ثم انحنى عليه وقبل سترتها، قال:

- لا أحتمل دمعة واحدة منك..

التفتت إليه: افعل ما أطلب منك..

رد: لكل شىء أوان سيأتى وقتنا، حتما..

ردت بكل ثقة: افعل ما أطلب منك..

كان عليه أن يغير رد فعله، قال: هناك شخص آخر..

قالت متكئة على حروفها:

- ابنتك..

- ليس لها ذنب..

- وأنا ليس لدى ذنب..

- هى ابنتى!

- وأنا، أنا حبيبتك..

- أنت نور عينى.. وهى أيضا نور حياتى..

- افعل ما أطلب منك..

- لا استيطيع..

- كنت أعرف مصيرى لو أحببت رجلا لديه زوجة وأبنة..

- هى ابنتى.. وأنا أحبها..

ورمت بجملتها القاتلة، دون تفكير: يارب بنتك تموت..

سمعته يفتح بابى الأمامى، ونزل وضرب الباب بقوة تعكس شدة غضبه الذى لم أعرفه..

شهادة أخيرة:

اعتادت فى الفترة الأخيرة أن تعود مرة أخرى لوحدتها، تأخذنى معها إلى أماكنها القديمة، دون أن تتكلم، لم أستطع أن أحدد ماذا حدث بينهما، لكنه لم يظهر فى حياتها، إلى أن ظهر يوما مصادفة خارج احدى الحفلات، راحا يتحدثان على مقربة منى، فلم أسمع تفاصيل ما بينهما، ولم أحاول أن أفهم، من الواضح أنها رفضت الامتثال له، فهمت أنه يطلب منها ركوب سيارتها، مثلما كان يحدث فى الأيام الخوالى، إلا أنها تجاهلت طلبه، وقف عند بابى يحاول فتحه، وبدا كأنه لم يصدق أن المرأة التى ركب معها قبل أشهر، كانت الأخيرة، بكل انكسار، وهو يضحك، أولاها ظهره، وابتعد عن طريق الحفل، الذى دخلت إليه كأن شيئا لم يحدث لها..

تعليقى الأخير، أننى أدليت بشهادتى كما حدثت، دون زيادة أو نقصان، وأن هذه هى المرة الأخيرة التى رأيتها فيها، ظللنا معا أربع سنوات، بدأت أجهزتى فى التآكل، وشهدت المدينة استيراد طرز جديدة، وألوان بهيجة، وبدون سابق انذار تخلصت منى، مثلما فعلت معه، لعلها اشترت سيارة تناسب المرحلة التى دخلت فيها.

لا أستطيع أن أكتب رواية جديدة، من المؤكد أننى أجدبت، ساعدتنى السيارة فى أن تتذكر فقد كنت أعرفها من بين آلاف سيارات المدينة، بأرقامها، ولونها، واعتبرتها دار عشق، طالما أن "نور" ترفض الصعود إلى شقتى، أو أن تؤجر شقة للإقامة فيها، هى تريد علاقة شرعية، وأن تكون الشقة مسكنا لزوجين، وصارت تلح علىّ، أن أنفصل عن بيتى..

ابدا، لم نعرف الأسقف، كى نمارس أسفلها كل ما فعلناه فى السيارة، وعبر الهواتف، فى الخفاء، والظلام.. كم بدت امرأة مختلفة بين الناس، يبدو عليها الوقار الشديد، والتحفظ وتعشق الذهاب إلى كل المطاعم التى عرفتنا..

قضينا فى هذه الأماكن أضعاف ما فعلنا فى السيارة، أو فى أى مكان آخر، أثبتنا أن علاقة المرأة بالرجل لا تكتمل دون الجلوس فى المطاعم، نهارا، ومساءا، نأكل، نتفنن فى طلب المشروبات والأطعمة وقليلا ما ذهبنا إلى المطعم نفسه مرتين، لم يكن لنا مأوى إلا تلك الأماكن، المكدسة بالشباب أحيانا، المخصصة للعشاق، متناثرة الشموع، والأضواء الخافتة، مرتفعة أسعار فواتير الطعام، هذه الأماكن هى الهدف الرئيسى عندها..

آه، لو عادت من جديد، كى أطلب منها أن تستكمل الحكى من خلالها علاقتها من المطاعم التى اختارتها، لكننى لا أعرف لها رقم هاتف، تلاشت أرقامها الأرضية، والاليكترونية عبر السنين، ولا يوجد الآن سوى الفلاشا، التى لا أعرف ما بها، وهل هناك رواية بديلة كتبتها، فقدت الفلاشا قيمتها حتى أتمكن من استحضار الكومبيوتر..

عبر كل السنوات تلاشت نور وذكرياتها، وبدت شبحا من الماضى، عاود الظهور اليوم دون أن أتأكد، هل هى التى جاءت وأعطتنى الفلاشا، أم أنها توهمات مريض، يرقض فوق سرير مستشفى للمرة الأولى فى حياته، دون يشغله شىء آخر..

علمتنى السيارة، أن ذاكرتها مليئة بالخصوبة، رغم أنها تحولت إلى خردة، أو لعلها الآن صارت سيارة أجرة، تحتفظ باللون الأبيض، ولها لوحة معدنية صفراء عليها أرقام تختلف تماما عن رقمها القديم..

الخردة، أكثر خصوبة منى، حكت بالتفاصيل بعضا ما شهدت عليه، كيف كنا نتكلم، وكيف كنا نتلذذ، لكنها نست الكثير من الأماكن التى ذهبنا إليها، نعم، اليوم أنا، فى وضح النهار، أتذكر، ذلك الشارع الذى يقع المشفى عند أطرافه، نعم، لم تحك السيارة عنه، كنا نذهب هناك، كل مساء لعدة أسابيع متوالية، فى الخريف، والشتاء، مكانه آمن جمعتنا فيه الشهوة، والتواصل، واستطعت أن ألمس صدرها، بل أن أنتزعه من حمالته وأن أراه، هذا مشهد لا ينسى، كم أسعدنى، أنها تقاوم بشدة، لكنها تستسلم ثم تعاود المقاومة، الآن، لا أصدق أن أحدا لم يرنا قط، كأننا كنا فى أعماق الصحراء، الغريب أننا كنا، على الأقل أنا، نشعر بالخشية من أن يضبطنا أحد فى أطراف المدينة، أما فى نهاية هذا الشارع، فقد أحسسنا بالأمان الكامل ابتداء من أمسيتنا الثالثة، ولم ننقطع عن الحضور كان يجب أن نأتى، كأننا نقوم بمراسيم مقدسة، سواء بعد أن نتناول العشاء، أو قبلها، فى كل مرة يوجد طعم خاص، لما نلتهمه، ثم لما نفعله داخل السيارة فى الشارع المظلم، هناك سيارات تركها أصحابها بعيدا عن بيوتهم، اكتشفت بعد سنوات أن المكان الذى كنا نقف إلى جواره، هو سور مدرسة، طويل، وعال، أى أن المكان لا يخلو من السكان على الأقل، فى الجانب الذى تقف فيه السيارة، ولا شك أن أصحاب هذه السيارات، قد وضعوها فوق الأرصفة، ويقيمون فى منازلهم يشاهدون برامج التلفزيون فى القنوات الفضائية الجديدة..

أما نحن، فلم يكن لنا سوى مكانين فقط ننتقل إليهما بكل ارتياح، وباطمئنان شديد، وبهدة، فيما بينهما، السيارة، والمطاعم بكافة أشكالها.

أول مطعم تناولنا فيه طعامنا، فى اليوم الذى زارتنى فى مكتبى بهدف استكشافى كان كافتريا معهد جوته، هنا يمكنك أن تشعر أنك فى برلين، الناس الذين حولك، الأطعمة والمشروبات التى يتناولونها، ونبرات اللغة الألمانية المتناثرة من حولك، وملابس الفتيات، لم أنتبه أن "نور" فى ذلك الوقت كانت أبعد ما يكون عن رشاقة بنات أوروبا، لذا تعاملت معها بسخرية وكل ما شدنى إليها هى لكنتها الأجنبية التى وقفت تتحدث بها مع الدولة التى جاءتنا بقائمة الطعام..

مثل هذا المكان، يبدو ضعيف الذاكرة، لا يمكنه أن يتذكرنى، أو أن يحكى عما دار بيننا من حديث، إنه مكان محدود الاتساع، لكن يتردد عليه، خاصة الكافتريا، الكثير من الناس، أغلبهم من الشباب الدارسين للغة الألمانية، ورغم أننى جئت هنا مرارا لاستعارة الكتب من المكتبة، فإن طوفان البشر، وحكاياتهم لا شك أزال تماما تفاصيل ذلك الحضور الوحيد الذى جمعنى معها هنا لمدة ساعتين، قبل أن تصحبنى معها فى سيارتها لتوصلنى إلى منزلى..

أنا الآن مجرد كاتب فاشل، متمدد فوق سريرى فى الغرفة الأولى بالدور الخامس، أمسك بيدى فلاشا، لعلها الدليل الوحيد على حضور نور من الماضى، أو ربما الحاضر، ويوجد بداخل الفلاشا، ربما، قصة تدعى "نور" الشامتة فى رقدتى هذه، إنها كتبتها، بعد أن عجزت عن تأليف رواية أحكى فيها عم دار بيننا منذ عدة سنوات..

أعترف أننى عاجز بشدة، ليس فقط عن الحركة فوق السرير، وأن أتحقق هل زارتنى "نور" منذ قليل، وأن أفتح الفلاشا لأتأكد أن بداخلها وقائع رواية من وجهة نظر المرأة التى لم تمر بها كل تلك السنين، لا يوجد أمامى سوى التذكر، لكن كتابة رواية عن "نور" أمر يختلف تماما عن تذكر أحداث متناثرة عبر الأماكن، والأشياء الجامدة التى لا يمكنها أن تكتب رواية قط..

ترى هل تتذكر فى كافة المطاعم، والكافيتريات التى شهدتنا معا، نأكل ونشرب حول موائدها؟ كافتريا الدور العاشر بالمبنى، ذات الحوائط الزجاجية التى تدفعنا للجلوس قريبا من الأفق، نرى الشمس منذ وقوفها وسط السماء، حتى تغرب أمام أعيننا فى الأفق البعيد..

الكافيتريا، ليست سوى مكان جامد، بلا ذاكرة، ولا عيون أو قلب، ولا يمكن أن تتذكرنا، ولذا لا يمكن الاعتماد عليها فى أن تروى كيف كنا نأتى إليها مرارا، فى الفترة التى كانت اللهفة والأستكشاف هما الهدف الأول لها، وكانت الدهشة والإحساس بالأهمية هى المشاعر النابعة منى نحوها، لم نكن من الأسماء التى يمكن حفظها، حتى بالنسبة للعاملين هناك، فيعرفون ما1ا نحب، كى يحضروا لنا به دون طلب، خاصة أن فترة تناول وجبة الغذاء التى كنا نأتى فيها مزدوجة بالزبائن والضيوف، وأغلبهم يعرفون بعضهم، إن لم يكن بشكل مباشر، فمن خلال الأنشطة التى نمارسها، إذاعة، تلفزيون، صحافة، ولا أعتقد المكان ألف مجموعات أو ثنائيات فترة طويلة، فالأمور تدفعنى إلى الحضور من وقت لآخر، أتناول طعامى وحدى، أو قد تكون معى صحبة عابرة، لكن الوجوه القديمة اختفت، وكم تغيرت الوجوه، ابتداء من مدير المكان، والعاملين فيه، والمترددين عليه..

لهذا السبب، من الصعب أن أمنحه الحيوية، وأعطيه قوة الذاكرة كى يروى قصتنا نحن بالذات، بالتأكيد سوف تختلط قصتنا بالعديد من القصص العاطفية وغيرها، فلسنا وحدنا اللذين اضطرتنا ظروف العشق أن نكون هناك فى أغلب أيام الأسبوع، إبان بداية شغف كل منا بصاحبه، ثم قلت اللقاءات بشكل ملحوظ..

قالت لى قبل أن نصعد إلى الدور العاشر:

- شعرت بالفخر وأنا أراك أمام الكاميرا، تتحدث إلى المذيعة.

أصرت أن تحضر التصوير، وجلست فى ركن من الاستوديو، حتى انتهيت، لمست كفها المكتنز فى سرعة  ملحوظة، واتجهنا إلى المصعد، قلت:

- يجب أن نلحق بمائدتنا المفضلة.

تقع هذه المائدة إلى جوار الزجاج البللورى الممتد بطول القاعة الواسعة، فى منتصفها، وعادة ما تغلب الآخرين بالحصول عليها، بأن نحضر فى ساعة مبكرة من مواعيد الغداء، ولعل هذه سمة مميزة لنا، إذ تفوز لثلاث ساعات على الأقل بحوار ثنائى لم أجربه مع أى إنسان آخر فى حياتى، ونتناول ما نطلبه على مراحل بتلذذ ملحوظ..

كانت الكافتريا هى أول مكان نجلس فيه فى اليوم التالى لوجودنا فى معهد جوته، أعرف مدى سحرها، ومتعة الجلوس فيها مع الأصدقاء، فى بال أن تتناول أول غذاء لك مع هذه المرأة التى تبدو كمكان غامض من المهم اكتشافه، سيصبح لرؤية النيل معنى مضاعفا، فى هذه الظهيرة، مارست حواسنا الخمس كل كفاءتها، للأكل والتذوق، والسماع، والكلام.

يارب، ما أعظم حكمتك، خلقت لنا كل شهوات الحياة، ورغباتنا وطموحاتنا مقرونة بالإحساس باللذة، وقد تعلمت ذلك من خلال تجربتى مع "نور"، ففى الطعام شهوة، وتلذذ بكل ما ندخله إلى أجوافنا، عبر أفواهنا، وألسنتنا، والرغبة مقرونة بالشعور بمتعة تتصاعد حتى الذروة، ثم تتجدد فى وقت آخر، ويبدو الجوع كأنه يلتهم كل شىء فينا، الرغبة فى الإشباع تجعلنا ندفع أغلى ما لدينا.

لذا أجد نفسى منساقا لها، إلى حيث تأخذنى، وأتذوق كل ما يتاح لى، حسب المكان الذى نتواجد فيه، من فمها، ولمس ما يتاح لى، وتجرع ما يقدم إلينا ونطلبه، كأننى ظللت طيلة عمرى صائما عن كل المتع، وعندما حان وقت الاقتطاف، صرت أتناول منها ومن حولى ما لم أصدق أننى حصلت عليه، والدليل أننى أشعر أن الأطباق تزداد شرائحها عن المألوف، والأكواب لا تخلو من المشروبات ساخنة أو باردة..

اعتراض:

اسمحوا لى أن أتدخل، يجب أن أدلو براىّ فيما يدعيه المؤلف عليه، إنه شخص ساذج قليل الخبرة، والتجربة، ليس مثل الكثيرين من الرجال الذين يأتون إلى هنا، من كافة درجات الوظائف، أننى أتذكره جيدا، لكن ليس أكثر من الذين جاءوا للجلوس فى قاعتى، لكنه كان يأتى، ليس فقط مع "نور" بل كم جاء مع نساء أخريات، قبل أن يأتى معها، وأيضا بعد أن كف عن الحضور بصحبتها..

إذا أردتم أن تكتبوا  رواية بها كافة الأسرار العاطفية، فالرجا أن تعهدوا بها الىّ، أنا أعرف الكثير من القصص، وشاهدة عليها، ولو كتبت روايتى على لسانى، فسوف يتم تحويلى إلى المسائلة، لأننى أعرف الكثير، لقد اختارونى لأكون فى الدور العاشر والأخير من المبنى، منذ نصف قرن وأكثر، وقبل أن يبنوا سبعة عشر دورا فيم يسمى بالبرج، وطوال هذه السنوات، كم استمعت إلى حكايات، وعرفت الاسرار، فقد أسسونى لأكون المطعم الخاص بكبار المسؤولين، يدعون ضيوفهم من كل مكان، يتناولون الغداء، وأحيانا العشاء وكم سمعت من أسرار فى الحياة الخاصة، والسياسية العليا، وكم لاحظت نظرات تحتانية متبادلة بين مسؤول، واحدى الحسناوات اللائى يجلسن على نفس المائدة، وقد شهدت موائدى دوما بدايات علاقات قصيرة أو طويلة، ولا أعتقد أن المكان هنا يليق أن أقضى بكل ما أعرف، لكنها مداخلة لا أكثر، حتى لا يكتب لكم بما لا يعرفه..

تكملة:

فى القليل من المرات، انضم إلينا بعض من يعرفوننى، ولا أذكر أن أحدا من طرفها جاء لتحيتنا، تبدو كأنها تعيش حياة معزولة، وكثيرا ما تذكر صديقاتها بالانتقاد، وتلمح أن بعضهن سيئات السلوك، حصلن على ما يتبوأن به من خلال علاقاتهن الخاصة، وكى تؤكد على صدق كلامها، رفضت دوما أن أساعدها فى أى أمر يخص مهنتها، هى تؤديها كما تريد، سواء كان لها جمهور، أم لا..

لم أشعر أننا نقول الشىء نفسه، هناك دوما ما نتحدث فيه، ونستكمله، هذه الساعات الطويلة التى فقضيها فى الكافتريا، تؤكد أن علاقاتنا لا تقتصر على الإشباع عبر الهواتف، أو فى أطراف المدينة وفى الشوارع المظلمة، والسيارة، لكنها تؤكد أن هناك نوعا مختلفا من الإشباع يأتيك عبر الجلوس إليها، خاصة أن لا أحد هنا يتصنت عليك، ولا ينتابك الإحساس أن يتم توريطك بالتسجيل لك، فتصبح رهينة بين أيدى جهات أمنية، قد لا يقومون بالقبض عليك، لكنهم قد يستخدمون التسجيلات لو ضبطوك يوما فى مظاهرة، أو لو كتبت ما هو ضد السلطات، مثلما حدث لصديقى المعارض الذى نشروا له مقاطع فيديو يتحسس مؤخرة زميلة له، وصار صورة متناقضة بين السياسى، والإنسان، كما أن أجهزة البث الحديثة يمكنها أن تنقل مكالماتك إلى هواتف حساسة يمتلكها الجيران، ياللفضيحة، لو طرق عليك أحدهم ذات يوم، وأنت قبل الذروة، وأخبرك أن ما تفعله يفض بكارة أبنائه، وربما زوجته..

هنا، فى الكافتريا، نتكلم، ونأكل ، ونشرب، تحت مسمى أننا زملاء، لا نستطيع أن نخرج عن حدود المألوف الذى نمارسه فى أماكن أخرى، تختلط بداخلنا شهوات عديدة لحمية، فأنت تأكل أفخم الأطباق المتاحة لك، والكافتريا ذات سمعة جيدة، وأسعار مقبولة، لذا تزدحم بالزبائن، يأتون فى مجموعات، وكثيرا ما يحتفلون هنا بعيد ميلاد أحدهم، أو بخروج إلى المعاش، فتسمع أصوات الفرحة، تتداخل مع ما تقوله إلى رفيقتك..

لا يمكن لأحد أن يضع سماعة قريبة منك، ليسجل لك، وهناك اطمئنان فى القلوب وأنك فى أمان حقيقى، وهنا يغدو الكلام العادى أقرب إلى الشهوة، دون أن تكون هناك ذروة للإشباع، وحين تغادر تحس بالارتياح، دون أن يلحظ أحد ذلك ممن حولك، وتعود إلى منزلك نشوانا بما أسميه "نكاح الكلام"، أرجوكم لا تفهموا المعنى بجانبه البذىء، أقصد أن لذة أى كلام عادى بينى وبينها هناك يعادل شهواتنا الملتهبة فى الهواتف، والسيارة، لذا، فهى حريصة أن تنوع كل الشهوات، والرغبات التى تتحرك داخلنا، وتمنح لكل منها وقتا، وطقوسا، وأعرف دائما أن هذه وجبة الغذاء معها تصورت أن إجادتها للغات كفيلة أن تجعلها قارئة، وأغبطتها أن فى قدرتها القراءة بسهولة بلغات أوربية، تعملت فى مدارسهم، وتنطق بها فى كأنها مولودة هناك، لكنها تفضل أن تتكلم بلغتنا..

فى الكافتريا، حاولت أن أكون ذلك المتدرب الجاهل الذى يود تحسين لغته، بحشر الكثير من الكلمات التى أعرفها، حتى أؤكد لها أننى ابن ثقافتها التى تجيدها، لم ألحظ قط انها لا تتقبل ذلك، ولم تحاول أن تسخر من لكنتى الصعيدية، أو الريفية، للغة، لكنها عبرت عن مشاعرها، ونحن نتكلم فى الهاتف، خاصة قبل الذروة:

- كلمنى عربى.. كلمنى عربى..

قال العشاق، قبلا، انك كى تتقن لغة ما، فعليك أن تمارس الحب بهذه اللغة، لذا فلسرعان ما اتقن العشاق لغات نسائهم، وكم اتقنت الزوجات الأجنبية لهجات بلاد الزوج، خاصة من عاشت معه فى وطنه..

لذا، أفضل أن نكون معا فى الكافتريا، كأننى أحاول الاستفادة منها، فصارت تعرف أن من أسباب تعلقى بها هى لغتها، و:

- فقط..؟

- ذلك سبب لو تعرفين عظيم.. ثقافة..

تبتسم دون أن تعلق، ربما أن هناك شيئا ما يجمعنا فى المقام الأول، ويشدنى إليها، لم تكن تبالى كثيرا بالأمر، بعيدا عن الهواتف، أو السيارة، لكنها تدفعنى بقوة أن أتحدث بكل مفردات الشهوة بالألفاظ الشعبية، التى كنت أراها سافلة منحطة، يجب عدم النطق بها، حتى وأنت تفعل ذلك، وامرأتك بين ذراعيك، لكن لا شك أن التلفظ بهذه التعبيرات عبر الهواتف، أو عند القراءة، يعوض عدم وجود الجسد بين أناملك، فينطق العشاق بها..

فى بعض الأحيان، قد أنظر حولى، وأتساءل فى عجالة، هل هناك فى القاعة الكبرى، من يعيش نفس الحالة، وترى فى أى مرحلة منها يمرون، وسرعان ما أتراجع، فنحن، نأتى هنا على الأقل يوميا، فى البداية، تذوقنا طعم كل شىء لأول مرة، استعذبنا طبق المشروبات، ثم تنوعت الطلبات، بيكاتا، أسماك، دواجن مشوية، أو مخلية، ننتظر أطباق المشهيات، ونتعجلها، إلا أنهم لا يقدمونها إلا قبل إحضار الطبق الرئيسى بقليل، فتكون البطون قد اشتد لهيبها، كل شىء فى حياتنا مرتبط بإشباع الجوع، والشهوات، وما إن يتم فرش أطباق السلطات والمشهيات، حتى تتحرك أصابعنا وألسنتنا، ويمكن أن "نتفتف" الزيادات ونمسح بالفوطة، ونتعمد طلب المسطردة، والكاتشب، وخاصة مع أطباق البيكاتا، وحين يأتى الطبق الرئيسى، لا تهمنا الكمية الحاضرة، قليلة أم عادية، وغالبا ما نأكلها كنوع من تحصيل الحاصل..

أطباق المشهيات، والخبز الساخن بأشكاله المتعددة، كفيلة بأن تجعلنا نشعر بالشبع، لكننا فى كل الأحوال نتذوق اللحوم، ونلتهمها بشهوة تتناسب مع أسعارها وقيمتها، لم تكن تقدم على الأكل بالنهم نفسه الذى يتملكنى، لعلها تحاول تخسيس جسدها، خاصة بعد أن أحست أننى أميل إلى الرشاقة الفرنسية، قالت ذات مرة:

- لو كنت تفكر على الطريقة الأوربية، فالجمال ليس سببا أساسيا فى الحب..

هززت رأسى بما يعنى "أعرف"، فقد سمعتها ذات يوم من أستاذة تجاوزت الستين فى احدى حدائق جينيف، كما أننى سمعتها فى فيلم "التجربة الدنماركية"، بعد أن افترقنا بأربع سنوات تقريبا، لذا كنت أحاول إشباع شهواتى بطريقتى، فلا أترك الأطباق إلا وقد مسحت من فوقها كل ما تحتويه من طعام، ولشدة اعجابى بالخبز المتنوع، كنت أدس المتبقى منه فى حقيبة كتفى، وربما أطلب المزيد من النادلة الجميلة، التى تتكلم عيناها مع الزبائن، أكثر ما تتكلم بلسانها، وتبدو متفهمة مطيعة، تبدو إشارات "نور" كأنها تشجعنى أن أفعل، فهى تعرف أننى أعيش بمفردى أغلب أيام الشهر، وأننى فى حاجة إلى هذا الخبز المصنوع جيدا..

هنا، نبدو أشبه بكائن واحد، وحيد، يعيش معتزلا، رغم كل هذه الأعداد من القادمين لتناول الغذاء، ليسوا مثلنا، فنحن نأتى أولا، ربما قبل أن تفتح الكافتريا بابها بشكل رسمى، وتقريبا، نكاد نكون آخر من يغادر، ولم لا نستغل كل لحظة من وجودنا معها، لم يكن هناك فى حياة كل منا سوى الآخر ينتظره، ويسأل عنه، ويبحث أين هو، ويحاول التواصل، خاصة هى، فقد صرت برنامجها الأوحد، لا تكاد تريد أن تنفرد بنفسها، طالما أنا وحدى..

هنا، فى هذه الكافتريا، تكمن أجمل حكاياتنا، وأروع ما قلناه، أحسست بسكينة عميقة، لم أعرفها قط مع واحدة من الأخريات، وهنا أيضا بدأت تتغير:

- من.. ماذا قلت؟

هنا ابدأ فى التوجس، وأعرف أن المواجهة، سوف تلتهب درجات وراء بعضها..

- كل شىء على ما يرام..

- لا، ليس على ما يرام، طالما أنها فى حياتك، فأنا لست على ما يرام..

- هى ليست فى حياتى.. أنت فى حياتى..

- تحمل اسمك، أما أنا..

- تحملين روحى..

- ليس صحيحا، أعطنى دليلا..

- أننا هنا، معا، كل يوم هنا..

- لا يكفى.. أريدك أن تهجرها..

- إنها تهجرنى، فى أغلب الأوقات..

- اذن، أطلب منها الطلاق..

- أوه.. كم طلبت، منذ سنوات طويلة..

ويمتد الحديث، وصارت تقتطع من أوقاتها الصافية، كى يحل الجدل الساخن مكان التواصل الرقيق وغالبا ما يصاب سطح تلك البحيرة بالعكارة، وتبدو كأنها تتلذذ بما تقوله وتفعله، شىء ما يتحرك فى داخلها أن الجالس أمامها، يتظاهر بأنه حبيبها، مملوك لمخلوقة أخرى، وأنها عندما تأتى إلى البيت، فلابد أنه "يفعل" كل مت تمنحه الشريعة، بما يعنى أنه يمتلكها، تحس أننى لست خالصا لها، بدليل أننى لم أر شيئا من جسدها حتى الآن، ولا أجرؤ أن تتدخل أصابعى أسفل ملابسها، كأنها مثل الخطيبة، تحتفظ لى بسعادة، ومتعة جسدية إلى يوم آخر..

لا يمكن أن يخطر ببالى أن صاحبة هذه العقلية، تودنى أن أكون عريسا بالطريقة التقليدية، أن  أنتظرها أسفل بيتى، عند الباب الزجاجى، فأدخل إلى سيارتها، وتصحبنى إلى منزلها، أتحدث إلى أسرتها، طالبا الاقتران بانتهم، يشترطون علىّ، ويسألون عنى، ويتأكدون أننى غير مرتبط، وأنه لا توجد فى حياتى سوى أبنتهم، كى أكون الزوج الثالث فى حياهها، وأصير رجلا مختلفا، لا أخابر النساء فى الهواتف، ولا نذهب مجددا إلى الصحراء فى أطراف المدينة، ولا داع بالمرة للحضور إلى كافتريا الدور العاشر..

ترى هل سيحرمنا الاقتران، من ممارسة هذه العادة، الحضور إلى هنا، والجلوس إلى جوار الجدار الزجاجى نطل منه على النيل، ونظل حتى يغيب قرص الشمس قبل أن نبحث عن أماكن أخرى، نستكمل فيها أحوالنا..

هكذا صارت، أحوالنا، تحاول أن توجد عقيلتى هنا، بأى ثمن، تراها من حولى، أكثر ما أحس بها، وتضطرنى أن أتحدث عنها، دون رغبتى، ربما لإرضائها.. بدا شبح آخر يطل من وراء قناعها، أنها ذات فولت عال فى كل شىء، فى التوسل، والبكاء، مثلما هى فى سخونتها، ومشاعرها المتقدة..

أصابتنى بالحيرة، ولم أعد أعرف كيف أتصرف.. وبدأت أقرأ صورتى فى أيام قادمة، أن أعيش معها دون أن أكف عن مغادرة الفراش، حتى أرفع كل راياتى البيضاء والسوداء أننى غير قادر على الاستخدام الآدمى، وأنه من الأصلح لها أن تبحث عن فحل حقيقى لا يحتملها إلا لعدة أيام، وسرعان ما يفل من البيت مثلما فعل الرجل الثانى الذى تزوجها شرعيا، لم يكن يغادر الفراش لأسباب متباينة، فى البداية بالطبع لأنه لا يكف عن إشباعها، هذا التصور من تخيلى، بعد أن أبلغتنى أنه فى المرحلة التالية من الزواج، كان يتصنع النوم لأنه لا يريد اعتلائها، أما فيما بعد، فقد أصابه الإنهاك، والشيخوخة المبكرة، تخيلت كيف كانت حياته معها، وتفهمت الأسباب التى دفعته إلى مغادرة المنزل بلا رجعة..

سرعان ما وجدتنى أمر بالمراحل نفسها، وينتهى أمرى بالفرار، فلا أجد لى مأوى سوى الشوارع أمشى بها بملابس مرتقة، وأنا أمسك ربابة أحكى للناس عن كل شىء بصراحة ناطقا بالعبارات التى ننطقها معا عبر الهاتف بعد منتصف الليل..

صار الحضور إلى مطعم الدور العاشر، بمثابة ذنب يجب أن ندفع ثمنه لما اقترفناه، قلت ساعات التواصل على حساب لحظات الغيم الذى تتعمده، كى أكون ايجابيا أكثر.. صرت أتأكد أن كل من حولنا فى المطعم يعرف تفاصيل علاقتنا، رغم أننا نتكلم بما يقرب الهمس، لعل ملامح وجهى الذى صار قلقا مضطربا يمكنه أن يفضح ما أحس به، بدت كأنه قد عز عليها أن نكون سعيدين، فتملكتها غريزتها، وفسرت بتصرفاتها إلى أى قدر تود أن تتملكنى، بينما أحاول أن أتحرر منها، مثلما لم تتملكنى امرأة طوال حياتى..

بدا الطعام اللذيذ ماسخا، وفقد النعناع فى كوب الشاى عطره وطعمه، وشعرت أننى آت إلى هنا تأدية لواجب، أو ربما خشية أن أفقدها، ولعله الأمل أن نعود مرة أخرى إلى سابق عهدنا..

لكن أشد ما يؤلمنى أن كل الأماكن التى صرنا رفاقا لها، كانت شاهدة على تحولها، وعلى إلحاحها، وإجادتها لاستخدام كافة وسائلها.. الدموع، والصد، والشح فى العطاء، وكثرة اللوم، والأوامر، فى السيارة، والمطاعم المتناثرة فى ليل المدينة، نحن نتردد على كافتريا الدور العاشر فى وجبة الغذاء، وما أكثر المطاعم والكافتريات التى نادتنا بأناقتها فى المساء كى نذهب إليها، أنها شديدة الخبرة بأماكنها وأسمائها، تعرف أماكنها الهادئة، المناسبة لشخص عصبى مثلى.. لا يرغب فى أن يدفع مبلغا يراه مغاليا فيه مقابل المشروبات، أو الطعام، ويحاول اثبات أن هذه الأماكن لا تختلف كثيرا عن مطاعم ومقاهى "نص البلد"، وأن الفاتورة العالية هى مقابل منح العشاق الفرص ليعيشوا لحظات، ودقائق هى أغلى ما يدفعون..

لم أعد أتذكر ذلك المطعم، الذى كان أول ما جمعنا معا، هى التى اختارته، لم يعجبنى ظلمته الشديدة إلا من شموع قليلة متناثرة، كأنهم يتيحون للزبائن أن يفعلوا ما بوسعهم، أثناء التهام الطعام، أو تناول المشروبات، صدمت عيناى من تناقض الاضاءة التى دخلنا منها، إلى مكان ضيق، ليس به الكثير من الرواد، ورغم ذلك فالمقاعد تكاد تتلاصق، هذا يعنى أنه فى ساعة بعينها تمتلئ كل هذه المقاعد بالزبائن، أيا كانت هويتهم، المهم انهم يقدرون على دفع ثمن الفاتورة، التى أذهلتنى وأنا أرى القائمة وأسعارها..

نجحت فى أن أخفى غضبى، وعدم رضائى عن المكان، وأنا أتصفح القائمة..

- هل علينا أن نتمهل فى الطلب؟

أننى لم أحتمل أن ألاحظ أننا نجلس متقابلين حول مائدة لا تختلف كثيرا عن مثيلتها فى منطقة سينما "كايرو" حيث أتردد دوما لالتهام صدور الدواجن، ولاحظت المفرش البلاستيك الذى فوقها، يخلو من أى جاذبية، قلت:

- هل أنت متأكدة أننا فى مطعم متميز؟

وقبل أن ترد، كنت قد قمت من مقعدى:

- من الأفضل أن نذهب إلى مكان آخر..

حاولت أن تدافع عن المكان، لم أتساءل عن شىء، الأشياء قبول من النظرة الأولى، خرجت إلى حيث تنتظر سيارتها، ولا أعرف نوع النظرات التى وجهها إلينا النادل، ونحن نخرج من باب المطعم..

مطعم رقم واحد:

بناقص زبون، ورفيقته، فأنا مطعم يأتى إلينا الزبائن الذين يشعرون لدينا، بالألفة، أما القادمون لأول مرة أو فى ساعات مبكرة، فهؤلاء عابرون بالنسبة لنا، قد يتناولون وجباتهم بسرعة ملحوظة، ويذهبون..

الزبائن الحقيقيون يصلون عند الساعة الحادية عشر، وأمامهم ساعات طويلة، لطلب ما يريدون من مشروبات، وطعام، كلهم يأتون ليتذوقوا أطباق الشيف مصطفى..

هذا العاشق بالغ السذاجة ولا يستحق أن يكون عاشقا بالمرة، لقد أحرخ فتاته التى جاءت به إلى هنا، لقضاء وقت جميل، بدا كأنه يتحجج بأى شىء، ورأى أشياء لم ينتبه إليه زبائننا المألوفين، وأشار إلى "المفرش" البلاستيك، وتصنع الغضب، وخرج، بينما راحت تلملم أشيائها، وخرجت فى أعقابه..

آه لو يعرف، لماذا أتت به إلى هنا، هى تأتى عادة وحدها، تعرف أن لدينا أجمل أطباق أطعمة البحر فى المدينة، وأننا نفخر أن لدينا "الشيف" صدقى، الذى يمتلك خلطته السحرية، إذا كنت من سمعوا عن هذا الاسم، فعليك أن تصر، أن تنتظر ألا تنظر تحت قدميك، فقط أن تنتظر طبق المشهيات، ألا تعمل للوقت حسابا، قد تشعر بالجوع لكثرة الانتظار، وإذا كنت حديثا معنا، فسوف تتعجل النادل، لكن فجأة ستتزاحم الأطباق أمامك، ولن تتمكن من اللحاق بها، أو التهامها، ولن تعرف بأى طبق ستبدأ وجبتك.. وسوف تتشمم روائح غريبة للأسماك قادمة من ناحية المطبخ، فتزداد شهوتك للأكل، وعلى النادل أن ينصحك بعدم التعجل، كل ببطء شديد، ولا تكتف بطبق واحد، أو تهمل طبقا آخر، هنا ستعرف لذة الأكل، وستعرف أنها لا تقل عن لذات كثيرة فى حياة البشر، هؤلاء الذين يعرفون قيمة الشهوات التى تتملك الجسد البشرى.. الطعام والشراب، واللمس، والعطور، وروائح أسماك طباخنا، وأيضا النوع المميز الساخن..

كل هذه الأشياء، لم يستشفها زبوننا العابر، وخرج من المطعم، أما هى فكان عليها أن تشعر بقيمة ما خسرته، يبدو أنهما يخرجان لأول مرة، فلم أرها هنا من قبل فى مرات قليلة سابقة مع أحد، انها دائمة وحيدة، تفضل هذه المائدة المظلمة، ولا يهمها أن تكون مفترشة بغطاء من البلاستيك، هذه المائدة تبدو كأنها مصنوعة لهؤلاء الذين يأتون بمفردهم، لذا فيبدو أنها عندما تعرفت عليه أرادت أن تتخلص من وحدتها، أن تشهدنى كمطعم انهان وجدت رفيقا، لكنه تصرف بصلف، وبدا مشمئزا، دون أن يتأنى فى موقفه، وخرجا..

أنا واثق أنه لو جلس، وتذوق أسماكنا، وأطباق مشهياتنا، لشكرها على حسن اختيارى ولجاء معها فى اليوم التالى، وجلس أطول.. لكنه حرم نفسه من مميزاتى، ولعله الآن موجود فى أحد مطاعم المول القريب، وسط الناس، والأضواء، وللأسف فأننى أتوقع ألا ترتبط به لفترة طويلة، فالعاشق يجب أن يتخلى عن عصبيته بمجرد دخوله أى مكان سيجلس فيه إلى حبيبته، لقضاء وقت جميل..

المؤلف:

دع هذا المطعم الكئيب يكتب ما يشاء، وليذهب هذا الطاهى إلى الجحيم، لأنه يجب أن يوصى صاحبه ببعض الإصلاحات والتطوير، لقد اعتاد أن تكون مقاعده أقرب إلى مقاعد المقاهى الشعبية، كما أن النادل لا يهمه تغيير الملاحات القديمة، كما يبدو أنهم بخلاء يقتصرون علينا أن نذهب إلى مكان آخر.. سوف اختاره بنفسى، حتى وإن كان بعيدا، فلا تزال الساعات أمامنا.. قلت:

- إلى الزمالك..

إنها تعرف طريق الزمالك، لكنها بالطبع لم تأت إلى هذا المطعم الذى يقع فى الدور الثانى فى عمارة مجاورة للسفارة الألمانية، بدت كأنها تود أن تقول أن الذهاب معى إلى أى مكان يعنى السعادة، سواء كان قريبا، أم بعيدا..

أول شىء استرعى انتباهها أن كل شىء مضىء بشكل جذاب، أطلقنا التحية على من استقبلونا، شرحت لها فى السيارة أن الملحق الثقافى الألمانى، دعانى لزيارة مكتبه، وشكرنى عن مقالى حول الكاتب الفائز بجائزة نوبل، وقبل أن أغادر مكتبه، حاملا بعض الكتب عن أدباء حصلوا من قبل على الجائزة، اشار لىّ أنه يسعده أن نذهب للغذاء فى مطعم قريب..

تناولنا الغداء يومها على شرف الثقافة الألمانية، يومها اصطحبنى معه، ولم نمشى كثيرا حتى المطعم، لكن ما أدهشنى أنه داخل احدى العمارات السكنية، وكأن صاحبه أسسه لخدمة مؤسسات عديدة فى الجهة الشرقية لنادى الجزيرة..

لم أستطع أن أستدل عليه بسهولة، لكن قلة عدد العمارات، ساعد فى الوصول إليه، بدت "نور" كأنها تتشكك فى وجود مطعم داخل العمارات، ولا أعرف هل ساورتها شكوك، ونحن ندلف من باب العمارة، أشارت إلى لوحة نحاسية:

- هذا هو.. أنه هنا..

وركبنا المصعد، بدوت مندهشا، وأنا أفتح الباب لنلق نظرة على المطعم الذى يشغل الدور الأول، فتح لنا أحد العاملين الباب الزجاجى، أحنيت رأسى إليه، وهمست فى أذنها:

- انظرى.. وقارنى..

اختارو لنا مكانا على مزاجهم، فى منتصف الصالة، بدوا كأنهم يرحبون بزاءر العشاء، الأول، وقبل أن أجلس، اقترب منى رئيس النادلين، وقال:

- حضرتك..

هززت رأسى بالإيجاب، أعطانى هذا الاحساس بالفخر الشديد، وأن هذا لا شك سيجعلها فخورة أنه فى صحبة شخص يعرفه النادل فى مطعم أنيق بحى الزمالك..

أحسست أننى فعلت الشىء الصح، عندما اخترت الحضور إلى هنا، بعد أن قرأت فى صمتها شيئا من الاحتجاج، فنحن لا نستحق بما نحمل من مشاعر أن يحبسنا ذلك المكان، غير المعتنى به، وكأنه كان مخزنا لاطارات حولوه إلى مطعم لا تزال رائحته القديمة تنبعث فيه..

هنا، لم نعد وحدنا، رغم أننا أول من جاء، تقريبا، لتناول العشاء، يحيطون بنا، رغم أنهم لا يقتربون إلا إذا أشرنا لهم، قال رئيس النادلين:

- المطعم كله تحت أمرك..

مد لى قائمة الطعام البالغة الفخامة، التى أراها للمرة الثانية بعد غذائى الأسبق مع الملحق الثقافى، رفعت عينىّ إليها، كأننى اسألها رأيها فى أشياء كثيرة القائمة، والأناقة، وأنواع الأكل التى يقدمها المطعم، وأيضا سلوك العاملين اللذين يحوطوننا، نظرت إلى الرجل:

- أريد شايا بالنعناع مع الأكل..

ثم بدأنا فى تحديد وجبتنا فى تلك الأمسية، كنت قد عرفت لتوى أنها من البرج الذى أفخر أننى أنتمى إليه، بل من مواليد اليوم نفسه، مع فارق خمس عشرة سنة، وان ذلك بالضرورى يجعل لنا الاختيارات نفسها، تركتها تختار، ربما أيضا لأننى فعلت ذلك مع الملحق الثقافى، أيضا لأننى لا أعرف ماذا تكون كل هذه الأنواع من الأسماك، واللحوم، والدواجن، وأيضا المشروبات، قلت بعد أن ابتعد الرجل:

- هل سمعت، أنهم يعرفوننى؟

ردت: وأنا أيضا، لم أكن أعرفك قبل لقاءنا الأول.

أخذتنا شهوة المكان، كى نتعارف أكثر، أسألها فترة، وتطرح علىّ استفسارات، وأتكلم فخورا بالشخص الذى يعرفه نادل آخر قلت معلقا على ما قال:

- أخبرنى، هل لديكم وقت لمشاهدة برامج التلفزيون؟

رد بكل ثقة، وهو يؤكد لى أنه شاهد آخر برنامج استضافنى؟

- الكثير من الزبائن، نراهم فى التلفزيون..

ما أجمل اللقاءات الأولى التى جمعتنا فيها الأماكن، خاصة المطاعم، لا تكف عن الكلام، بغية الاكتشاف، أحس أن السعادة ترفرف عليها، وأن أهم ما يعتريها هو الاهتمام الزائد بى، تمسح نقطة العصير التى سقطت أمامى بمنديل قماش فخم من علبة تحمل اسم المطعم، أحسست أننى استخدم كافة حواسى الملموسة، وغيرها، والوقت ينصرم، وأعين العاملين من حولنا سلطت علينا، دون أن يجعلوننى أشعر بذلك، كأنهم يسمعون همسنا، ويعرفون مدى لذتنا فى التهام عينة السمك بالزيت التى قدموها كوجبة رئيسية، وهم يدركون كيف تذوب قطعة السمك فور أن تدخل فوق ألسنتنا..

الغريب أن المطعم ظل مقصورا علينا طوال الساعتين اللتين مرتا بسرعة، ونحن نأكل، ونشرب، ونثرثر، قبل أن أضع ثمن الفاتورة، ويزيد، فى العلبة الأنيقة التى استخرجنا منها مناديل ملونة معطرة والى جوارها زجاجة عطر صغيرة، منحتها إياها..

استودعونا عند باب المطعم بمصافحات، ممزوجة بأمنيات أن نعود مجددا، ولا أعرف لماذا لم نكرر الزيارة، رغم أننا كنا دوما فى الزمالك، فى أنحاء عديدة من أركانها، ومناسبات كثيرة، لكن ما حدث فى تلك الأمسية فسر لى لماذا يأتى العشاق أو الثنائيات إلى المطاعم، وما إليها، أنهم يريدان أن يتركوا فيها ظلالا من الذكريات، وأن يأخذوا منها صورا ثابتة تبقى فى أذهانهم، بينما تحاول الأيام أن تمحوها..

الآن، وأنا راقد فوق فراشى كمريض، قد لا أتذكر كيف كانت "نور" حقيقة فى تلك الأمسية، ولو كنا فى زمن الأندرويد، ربما تخلينا عن وقارنا، والتقطنا لنفسينا السيلفى، أو لطلبنا من رئيس النادلين أن يلتقط صورة تبقى فى الذاكرة، حسب رغبة كل منا فى الاحتفاظ بها..

لا أستطيع أن أطلب من المطعم أن يشاركنى كتابة الرواية التى أعجز عن تأليفها، فلا شك أن الوقت الطويل الذى انصرم منذ تلك الليلة، أصابته بالنسيان، لكن دعوه يساعدنى فى الحديث عم شاهده فى تلك الأمسية..

مطعم الزمالك:

تنتابنى رغبة شديدة فى الضحك العميق من هذا المؤلف المغرور، صدق كلمات الإطراء التى رددها أكثر من شخص من العاملين هنا، على مراحل، وبشكل يبدو عشوائيا، فانتفخ صدره وأحس بما يزيد مكانته، وأنه شخص مشهور، يعرفونه هنا..

تلك عبارات متفق عليها فى المطعم، تمثيلية يتم تنفيذها باتقان شديد، كى نجعل زبائنا يشعرون كم يتمتعون بأهمية، ومكانة، خاصة إذا جاء هنا رجل مع امرأة، أيا كانت علاقته بها: زوج، زميل، عاشق، لا شك أن هناك الكثير من النوايا التى خططتها إدارتى، منها جذب الزبون للحضور فى المستقبل، وأيضا كى يدفع قيمة الفاتورة وعليها إضافات ملحوظة، وهو بالغ الرضا عم يدفع، دون أن تكون لديه أى غصة من قيمة المبلغ المطلوب..

إنه حالة جديدة، يمكن تسميتها "حالة المطاعم"، فالناس الذين يأتون هنا يبحثون عن الإرضاء، لا تهمهم كميات الأطعمة فى الأطباق، لكنهم يندهشون بكثرتها وتنوعها، وعلى قدر ما يقدم لك ستدفع، بلا أى تساؤل أو اعتراض، هذا هو ما فكر فيه صاحبى عندما استمع إلى نصائح زميل له، أن هذا المكان قريب من السفارات، وشركات الانتاج التلفزيونى، والسينمائى، والفضائيات لذا، فالوجبة الرئيسية هنا هى الغداء، يأتى موظفوا السفارات فى الوحدة تماما، فترة البريك.. لتناول طعامهم، يجلسون معا، هو المائدة، الكبرى فى منتصف الصالة الكبرى، تملأهم الحمية والبهجة، رغم أن الألمانى أكثر تحفظا، وبالإضافة إلى الوجبات الجاهزة التى نعدها ونرسلها إلى شركات عديدة، وسفارات غير بعيدة، فإن الدعوات الخاصة لا تتوقف، دائما هناك ضيوف وزبائن، وكل ما يفعله الموظف الذى أتى بضيوفه أن يوقع على الفاتورة، التى تذهب فى آخر الشهر إلى الشئون المالية..

وجبة الغداء هى الأساسية بالنسبة لنا، يأتى فيها موظفوا السفارات المجاورة، لتناول الطعام ومعهم ضيوفهم، وأغلبهم يعملون فى الصحافة والتلفزيون، إلا أننى سمعت أحدهم يردد على المائدة:

- من المهم أن تنشىء كافتريا داخل السفارة، هذا أرخص..

وعلى الفور قام ملاكى يعمل تخفيض على أسعار الوجبات، والإعلان عن وجود وجبات جاهزة طوال ساعات النهار، وتم عمل فريق لإرسال وجبات فطور إذا أرادت بعض المكاتب، أيضا بأسعار مناسبة، وشهدت نشاطا ملحوظا، وإقبالا، لكن يبقى العشاء لمن يعرفوننا، وهذا المؤلف، لابد أنه أعجب بنا عندما جاء مع "هيرفالتر"، ولذا ساقه هواه بعد أسابيع للحضور مرة أخرى، مع رفيقته الممتلئة إلى حد ما، بدت منبهرة بالمكان، وأيضا أحست بالفرحة، وهى تسمع أكثر من شخص يحاول التقرب إليهما، ويتصرف كأنه يعرفه جيدا، على الأقل من خلال حضوره على الشاشة الصغيرة، وابتلع المسكينان اللعبة، وصدق هو أنه مشهور، أما هى فقد أحست بالفخر، ولم تتصور أن كل شىء يتم اعداده هنا، كما أن الكثير منهم مشاهد جيد، وقارئ محترف..

عندما انصرفا، لم يخطر ببالنا أنهما فى زيارة وحيدة من نوعها، وأنهما لن يعودا، ليس أبدا بسبب أسعارنا العالية، ولكن لكل ثنائى ظروفه الخاصة، فكم من ثنائى سرعان ما يتفسخ، ويستكمل طريقه بعيد عمن كان شريكا له، لكن يبدو أن المؤلف أصابه مرض النسيان، فقد عاد بعد عام تقريبا لتناول الغداء على المائدة الأكبر فى الصالة، لأنه لم يكن وحده، بل بصحبة مجموعة من الضيوف العرب، طلبوا السمك، ومشر وبات روحية، دفع حسابها أحد الضيوف، أما الباقون فقد قاموا بتقسيم ثمن الفاتورة على عددهم، وأخرج كل منهم ما يخص أن يدفعه ومكثوا حتى الرابعة مساء، موعد انتهاء تقديم الوجبات، وخرجوا لا يكفون عن الثرثرة.

الثرثرة، إنها أكثر الاشياء التى يفعلها الناس فى حضرتى، أكثر من التهام الطعام والشراب، لم ألحظ على المؤلف أنه التفت إلى المائدة التى جمعته مع زميلته فى المرة اليتيمة، لعله تعمد أن يوليها ظهره، وانهمك فى الحديث مع الآخرين، يبدو أنهم كانوا يجهزون لعمل يقوم هو بتأليفه، وبدا منهمكا بشدة فى اقناع رفاقه أنه كتب لهم شيئا جيدا، أو ربما أن المائدة إياها كانت مشغولة بعائلة صغيرة، رجل وزوجته وطفليه، فتغير شكل المكان ظهرا عن تلك الليلة التى حظيا فيها باهتمام شديد، وهو الذى لم يلتفت مرة ثانية إلى مكانه القديم كأنه لا يريدان يتذكرا شيئا صار بالنسبة له أمرا يجب أن يتجاهله تماما..

انتهت ملحوظتى..

عودة إلى المؤلف:

مللت من قص الحكايات المرتبة زمنيا، هذا أولا، ثم يأتى الدرج الثانى يليه الثالث، فبعد أكثر من ثلاثة عشر عاما من الذاكرة الضائعة، وإصرار أن أمحوها من ذاكرتى، فإن هذه الرقدة غير المنتظرة فوق الفراش، وزيارة نور لى هذا الصباح، ليس أمرا كافيا أن استرجع كافة الأماكن التى نادتنا فى أنحاء المدينة، للجلوس فيها، وسرقنا من الزمن أحلى ما فيه، دون أن نضع فى الحسبان ماذا سيحدث فى الزمن التالى، لقد أخذتنا المطاعم إلى قاعاتها، وأطباقها، كى نهنأ بوجودنا، وهناك أماكن بعينها عدنا إليها أكثر من مرة..

لست واثقا إذا كانت طريقة المحاسبة فى المركب الراقد عند أطراف الجانب الأيسر للنهر هى التى دفعتنا إلى العودة إليه أكثر من مرة، فقد كانت هناك أشياء أخرى تجذبنا إليه، الموسيقى المتحركة التى تنبعث فيه، والملصقات الأمريكية المعلقة على الجدران، بعضها يحمل صورا قديمة لألفيس بريسلى، والبعض الآخر لفرق حديثة، توحى أننى مازلت أصغر سنا، وقد تم ترتيب المقاعد والموائد، كأننا فى يخت سياحى، يرتدى فيه النادلون أزياء البحارة، واحدهم يضع عوتية سوداء على عينه اليمنى، وبدت أقداح المشروب أكبر من اللازم، عليك أن تشرب حتى تنتفخ بطنك، وحسب التعليمات فإنك لن تدفع سوى قيمة أول قدح زجاجى، وأيضا أول طبق تتناوله، ولا داعى لدفع ثمن المشهيات، أما مناديل المائدة فهى أقرب إلى الفوط القماشية، متعددة الألوان، ما عدا ذلك فعليك أن تطلب ما تشاء دون أن تدخل الإضافات فى الفاتورة..

فى تلك الأيام، صرنا نتقاسم التكاليف، حتى لا تؤذى الفاتورة ميزانية أى منا، وكم كان ذلك محببا بالنسبة لى:

- هنا، سندفع أقل، ونأكل أكثر، وأيضا نشرب على راحتنا.

لكننا لم نحسبها صح.. فالمشروب لذيذ الطعم الموجود فى كأس كبير بشكل ملحوظ، لن يدخل بأكمله فى الجوف، انه أكبر من أن تستوعبه بطن مؤهلة لتأكل، والسوائل لا تسد جوع البطن قط، والمرء لن يأكل أو يشرب ما يزيد عن حجم ما تتقبله البطن، وإلا:

- أشعر أننى سوف..

وأسرعت إلى الحمام أفرغ ما زاد عن مساحة بطنى، وصار علىّ أن أنتظر نصف ساعة على الأقل كى أكون مستعدا لتناول الطعام، وأن أنتظر بعض الوقت كى يتم وضع جميع الأطباق لنسد جوعا لم يعد موجودا..

سألتنى، ونحن نصعد السلم الذى يؤدى إلى الرصيف الخارجى:

- ما رأيك؟

سألتها بدورى: كيف تعرفين هذه الأماكن؟

لم يخطر ببالى، ولم يهمنى، انها جاءت إلى هنا مع آخرين، أو أخريات، لكننى تفهمت أنها امرأة وحيدة، تضطرها طبيعة عملها أن تقضى خارج المبنى ساعات بلا عمل، وأنها تفضل الذهاب إلى الزمالك، أو المنيل، أو شارع قصر العينى، لتتناول ما تريد لى أوقات الانتظار، وهكذا قالت، وصديقتها، وصارت خبيرة فى مطاعم المدينة، خاصة وجبة الغداء، فى هذه الأماكن لا يوجد من يتدخل فى شأنك، ويمكنك أن تكون وحيدا لفترة، تأكل، وتشرب دون منغص عليك..

آه.. منغص..

ما إن خرجنا من السفينة عقب العشاء الأول، حتى قلت:

- دعينا نتمشى قليلا إلى جوار النيل.. احتاج إلى المشى..

كانت قدماى قد صارتا ثقيلتين لطيلى الفترة التى جلسناها، لاحظت وأنا أمشى إلى جوارها، أنها أقصر منى بشكل ملحوظ، وأن هذه القامة اكستها إطلالة بدينة، ربما أكثر من اللازم، قلت:

- الهواء هنا منعش..

لم ترد، دموع تبرق فى عينيها منعتها من الرد، والكمتنى، تلجلجت، سحبتها إلى أقرب مقعد خرسانى كان فى طريقنا:

- ماذا دهاك؟

لم ترد... أكرر السؤال.. تنظر إلى والوجه يلمع من اللآلئ الزاحفة من عينيها:

- ماذا حدث؟

بحشرجة غير منتظرة، ونبرة غير معهودة:

- أنت؟

أدركت أن المناحة سوف تبدأ، على طريقتها، لم أكن أعرف هل كانت تجهز لاخراجها كفنان مبدع، أم أن الأمر تحرك بشكله الطبيعى، كنا فى حالة ملحوظة من الصفاء فى الباخرة الصغيرة، أكلنا، وشربنا، وتقيأنا، أنا الذى تقيأ، ودفعنا الحساب، وأمسكت بأناملها المكتنزة أكثر من مرة، ورأينا الشمس تغرب وتغوص فى أفق الجبل الذى يلف القاهرة من جهة الشرق، وتكلمنا حتى كادت الكلمات أن تنتهى إلى الأبد، وخرجنا من الدور المنخفض إلى السطح قبل أن تختتم فصول البهجة بهذه الكلمة:

- أنت؟

يعنى هذا أشياء كثيرة، أنها تكرر علىّ مسألة أن أهجر بيتى، وأذهب لمقابلة أسرتها وأطلبها للزواج، وأيضا أننا نعيش فوق أرض هشة قد تمنعنا من الحضور هنا مجددا، قلت بما يخفف حدة المتوقع:

- لا تفسدى علىّ احدى أجمل ليالينا.

هذه الجملة كافية لتبكى أكثر، ما أربكنى وأنا ألاحظ أن من يمرو قريبا منا، لاحظوها، لكنهم اكتفوا بنظرو عابرة، وخص كل منهم إلى حاله، مع رفيقته، أو صاحبها، وقد خص كل منهم قصته إلى نفسه، أما أنا فقد كان علىّ أن أتأقلم، وأعتاد على ما تثيره من "نكد" كأنها يجب ألا تستكمل بقية وجودنا معا..

بدت "نور" منطفئا، غير المرأة التى جلست أمامى ثلاث ساعات لا تكف عن الثرثرة والأكل والشرب، هذه المرأة التى أعرفها جيدا، تبدو شديدة الحمية والسخونة فى كل ما تفعل، من الصعب أن توقف جريانها فيما اختارت، وهى تبدو الآن عصبية على أرضائها بكافة التبريرات الكاذبة التى أسوقها عليه، وصلنا الآن إلى مرحلة تستطيع فيها أن تميز أنواع حروف الكلمات التى انطلق بها، هذا حرف كاذب، والآخر مخروج بالتسويف، أو التملق والمبالغة، وكأنها بوصلة حقيقية لتستقبل كلماتى وما به من مشاعر متناقضة، ما أكثرها..

لم أستطع أن أتكلم، ولم يسعفنى قاموسى فى العثور على الجمل التى ترضيها، قبلت أكثر وسقطت للآلئ عينيها دون أن تتكلم، أو أن تنهنه، كأنها تبكى لى وحدى وأننى الذى يجب أن أتلقى رد فعلها عندما قلت:

- ألا نكف عن هذه النهايات الصادمة؟

قبل أن تجيب، اجابتها التى أعرف أنها لن تقولها، قلت:

- هيا بنا إلى السيارة.

تعرف أن السيارة هى المكان الأنسب كى تخفى دموعها، وأننى هنا عند طرف الرصيف فوق المقعد الخرسانى، لا يمكن أن أميل عليها، وأقبل فمها المبلل بالدموع الملتهبة.

لاحظت أن قدميها لا يلمسان الأرض، بما يكشف قصر قامتها بشكل ملحوظ، حاولت أن أضحك وأنا أردد:

- بودى أن أرتشف دموعك قبل أن تجف..

نظرت الىّ، لمعت عيناها وسط الظلام، وقلت:

- يمكننا أن نعود إلى الباخرة، وأن نستكمل عشاءنا، هل سندفع شيئا هذه المرة؟

ابتسمت، وكأنما الشمس تعود مرة أخرى إلى شارع النيل الذى تضيئه مصابيح صفراء، يحجب هذا الضوء أشجار الفيكس كثيفة الأوراق، قلت:

- لم اقل شيئا يدفعك إلى الابتسامة، كما لم أفعل شيئا يدفعك إلى البكاء..

رددت فى حشرجة:

- أيوه.. لم تفعل شيئا.. أنت سبب أحزانى..

- هل تعود إلى المطعم؟

- بطنى امتلأت..

- وأنا، مازلت جائعا..

- لا أتصور..

- هذه اللآلئ، التى سقطت هباء، جعلتنى أشعر بالجوع لاسبوع قادم..

- حسنا، لنأتى إلى هنا الاسبوع القادم..

وعدنا فى اليوم التالى..

المطعم:

إذا أردت أن يأتيك الكثير من الزبائن، فضع عينيك على الشباب، أكثرهم فى حالة عشق، حتى وإن جاءوا إلى هنا مجموعات..

كما عليك أن توحى إلى زبائنك أنك تمنحهم الكثير من الأشياء هدية مجانية، من العصائر والمشروبات، وأيضا المأكولات، وضع أشياء كثيرة فى طبق كبير يملأ العيون النهمة، ما يجعلهم يشعرون بأنك الخاسر وهم الرابحون..

إنها النفس البشرية، تريد أن تحصل على الكثير من الأشياء بأسعار قليلة، لكنهم لن يأكلوا أكثر ما تطلبه المعدة، وتهضمه الأمعاء، وكل شىء مقنن، لدينا نحن مشوربنا الخاص، مصنوع من استيم غازى طعمه لذيذ، يحبه الشباب، والأطفال، ويستعذبه الكبار ونحن نمتلك أكبر أوانى الشرب فى مطاعم المدينة، اشرب كما تشاء، واطلب ما ترغب فيه دون أى مراجعة، فالفاتورة هى الفاتورة..

قاعتى مزدحمة دوما بالزبائن، وأرصفة شارع النيل الملاصق لمكانى عند جانب النهر تزدحم بالسيارات، وزبائنى يختلفون حسب الأوقات، لكننى على مقربة من الجامعة، ويميل الزملاء الميسورون للحضور هنا، يعرفون بعضهم البعض، وبعد عدة أيام تحول بعضهم إلى مجموعات وصار اسمى يتردد بين طلاب آخرين، يمكنهم تقدير الخدمات التى نقدمها، ليس من مصلحتى أبدا أن يزداد عدد زبائنى، فقاعتى الطويلة، لا يمكن أن تتسع، وسطحى لا يحتمل أن يتحول إلى نشاط آخر، كالحفلات مثلا، عدا يوم الخميس..

عادا مرة أخرى، وكان اليوم.. الخميس.. حيث يزدحم سطحى بالشباب من الجنسين، بدت سعيدة وهى تمشى إلى جواره، حاملا حقيبته المعلقة على كتفه، أحسا أن المكان أقرب إلى طبيعتهما، واختارا نفس مائدة اليوم السابق، وطلبا مشروب المطعم الخاص، فى كأسين كبيرين، كلما شربا، خاصة هو، أحسا أنهما فى حاجة إلى المزيد، انها مثل كل العشاق الذين يأتون هنا، يحاولان الاستمتاع بالحديث والطعام والشراب، فى مثل هذه الآونة، يأتى الشباب إلى أعلى ويشكلون مجموعات تتبادل الموسيقى والرقص والعزف، ترتفع أصواتهم وقد تصل إلى الدور الأسفل حيث يجلس الثنائيات، ويمكن إضافة موائدا أخرى، لعدد أكبر من الزبائن يأتون تباعا، وهذا التقليد الذى نقدمه يشجع الحاضرين على البقاء لأطول ساعات ممكنة، حتى تبدأ الأسر فى التسرب إلى بيوتهم، أما العشاق فإن كل أنثى تود عدم احراج نفسها، وتطلب العودة المبكرة، خاصة المخطوبين حديثا، أو المتزوجين لتوهم..

طلبت له طبق الأمس الذى أكله كله، كان قد ملأ بطنه تماما بالمشروبات، ولم يلحظ أن قطعة السمك ليست بالمواصفات المنشودة من ناحية الوزن، رغم أن من حقه أن يطلب طبقا إضافيا، أو قطعة زائدة دون أى تغيير فى الفاتورة، حاول أن يمسك معدته، أو أن يجعلها أكثر اتساعا، لكنه لم يستطع فقد دخل إلى جوفه ما يكفى شخصين من طرازه، قال:

- ما رأيك أن نصعد إلى السطح؟

ردت: ضوضاء..

- تنتابنى الرغبة فى الرقص..

ضحكت ساخرة: كنت أتصور أن الصخب سيزعجك..

- فى بعض الأحيان أعشق خلق الفوضى..

- اذن، فما يفعله هؤلاء الشباب فوضى..

- تبدين متحفظة..

- كما ترى، هم ليسو فى سننا..

- من المهم أن ننسى أعمارنا خاصة وأنا معك..

من الواضح أن مسألة الفارق فى السن بينهما تؤرقها، بدت متأقلمة، أنه يكبرها بخمسة عشر عاما، يتصرف كأنه يضغرها بمثل هذا العدد من السنوات..

- لا أحب أن أكون عجوزا.. هيا أيتها العبيطة.. لنحاول..

سمعتها تقول: كم أحب هذه الكلمات..

- عبيط؟

- وأيضا كلماتك الأخرى..

- "هبلة"

- و...

- أنت هكذا فعلا..

- فعلا، لأننى وقعت فيك..

- وقعتك متعددة الألوان..

- وماذا أيضا..؟

- أوه، ما أكثرها..

- أحب هذه الصفات، لكن..

وبدأت المتاعب عقب "لكن":

- هل ستظل تردد حالى، بعد أن نتزوج..

أرتج فى مكانه دون أن تلحظ، وبدأ الاحتفال الحزين، هى تريد أن تأخذ منه تعهدا أن ينفصل عن امرأته، وأن تأخذه إلى بيتها، دون أى متعلقات من منزله الحالى:

- هل أسرتك مستعدة لاستقبالى..؟

- لست صغيرة، أنا صاحبة قرارى..

يبدو كأنه يريد أن يقول شيئا، وسط كل هذا الصخب، حيث كل يضع لنفسه متعته الخاصة، وطال بينهما حديث طويل لم اسمعه، لأنهما تلذذا بتبادله وسط الضوضاء المختلطة بالموسيقى والأغنيات، والأكل، والشرب، ولعله وعدها أن ينفذ لها كل ما تشاء، بدليل أنهما ظلا فى مكانيهما حتى انتصف الليل..

حسب قول الشاعر المكسيكى أوكتابيوباث، فإن عملية الكتابة أشبه بالجماع بين رجل وامرأة، تبدأ بلحظة رغبة، يكتنفها غموض، ومحاولة استكشاف، وملامسات ومداعبات، واتجاف ولذة، ورغبة فى الوصول إلى الذروة، التى لا نلبث أن نصل إليها، فنشعر باهتزازات عنيفة حتى تهدأ الأمور تماما، فنضع القلم جانبا، ثم نستأنف حياتنا..

وحسب تجربتى فى "النكد" مع "نور"، فالأمر لا يختلف كثيرا كلما صرنا نلتقى، حيث تبدأ الأمور باتصال منها أنها ستنتظرنى بعد دقائق داخل سيارتها قريبا من منزلى، فلا أملك حق الرفض لهذا الشرف الكبير، وسرعان ما أرتدى ملابسى، وأنزل لأجدها فى مكانها المألوف، أدخل، وألقى عليها التحية، وقد ألمس كفها المكتنز، وبشكل تقليدى:

- إلى أين؟

فترد كأنها خططت أن تجعلنى فى كل مرة أجالسها فى مكان جديد، غالبا ما يكون مطمعا، وسط الناس، كأنهم شهود على ما تربطنا مشاعرا، لذا فإننا فى الغالب لم نتناول الأطباق نفسها، وفى كل مطعم أحسأننى أريد المزيد من نور، وفى الأيام الأخيرة، بدأت أعانى من تفننها الشديد فى لزوم التنكيد، لكنها، ابنة المهميز، كانت تجيد مصالحتى، خاصة بعد أن توصلنى إلى المنزل، وما إن أصعد إلى شقتى، حتى تهاتفنى وأنا أغير ملابسى وتبدو بالغة الشبق، فتهيجنى، وتستكمل حفلها بعد أن تدخل غرفتها، ولساعات غير قصيرة، وصرت مثل سيزيف، يجب أن ابدأ معها من جديد، وبدأت أعرف أن اللقاء سينتقل من اللذة والمتعة، والاحساس بالصفاء، والرضاء، وينتقل إلى الحالة التى صارت تجيدها، تبدأ فى تبكيتى، وتذكرنى أننى متزوج، وأن امرأة أخرى تحمل اسمى، حتى وان لم تكن تسكن بيتها أغلب أيام الشهر، وتحثنى على أن أنفصل عن المرأة الأخرى، لاحظت أنها لم تعد تتكلم عن الزواج، ولا عن مصيرى بعد الطلاق، بقدر ما أن أحقق هدفها، أن أصير لها وحدها، بدأت اعتاد عملية الصعود إلى قمة "النكد" قبل أن أحاول إرضائها..

هذه العملية صارت مثل الكتابة، والمضاجعة عند الشاعر، يجب أن أمر بهما، دون أن يتعدى مرحلة مسابقتها، وأنه من المهم أن أصعد الجبل خطوة خطوة: العثور على المطعم الذى تريده، واختيار المكان المناسب، ثم غسل الأيادى، وطلب ما سوف نتناوله، والكميات، ثم يبدأ حفل الكلام، نبدأ فى استحضار ما نشاء من أمور، عدا السياسة، وكرة القدم، ومشاكل الحياة من حولنا، وهكذا تبدو الأمور بعيدة عن أى منغصات ورغم أننا وسط البشر، فى مكان شبه عام، فإننا نتصرف كأننا أبعد الناس عن كل ما يدور فى المطعم، أو النادى، على الأقل ومن هذه الخصوصية تتخير الوقت الأنسب لـ "النكد"، وتحرص ألا يكون قبل الجلوس، أو احضار الطعام، ولا أثناء تناوله، بل يتم ذلك عند مقربة انتهاء مراسيم الحفل، أقصد جلستنا معا..

فى هذا اليوم المأساوى، اختارت مطعم يجمع بين الوجبات الجاهزة، أو التى يمكن اعدادها، يقدم الدجاج المشوى فى قطع صغيرة، إلى جوار سلاطات متنوعة، ولك ما تشاء أن تطلب من مشروبات ساخنة أو غازية..

هذا النوع من المطاعم يناسب رب أسرة، يود الخروج بابنائه وزوجته فى نهاية الأسبوع كنوع من الترفيه، فيتراصون حول المائدة، ويجمعهم حديث دافئ، تبدو فيه الزوجة حريصة على راحة ابنائها الذين يسمعون الكلام جيدا، حتى لا يحرموا من الحضور فى الأسبوع القادم، كانت هذه الأسرة هى الوحيدة التى جاءت طوال المدة القصيرة التى جئنا فيها..

لم يكن اختيار المطعم، أمرا سهلا بالمرة، أذكر أنه فى تلك المرة، غيرنا المكان عدة مرات ومررنا على أكثر من كافتريا فى المنطقة، كى نختر، المكان الذى يلائمنا نحن معا، كنت أنا المعترض الأساسى، أما هى فتريد ارضائى، وتأخذنى بسيارتها إلى مكان آخر، لم أكن أميل إلى مصاحبتها إلى الأندية الرياضية التى لدينا عضوية فيها، فبداخلها مطاعم مشابهة، كنا هناك فى بعضها لمرات قليلة، واخترنا مطعم الليلة بعد تردد، ولم يكن بالأنسب، لكننا شعرنا بالارتياح لعدم وجود زبائن..

من الأفضل أن أعيش الحالة، فأنا بحاجة إلى وجودها، وأخبرتها دوما أن مجرد الحديث معها أقرب إلى لذة المضاجعة، فما أجمل أن تجد شخصا له ثقافته، ومكانته الأسرية، والاجتماعية، والوظيفية يتحدث إليك، ويبدو كلامها أقرب إلى سحر حكايات شهر زاد، وهذا هو سر أننى كثيرا ما أنسى ما حدث فى نهاية لقاء الأمس، طامعا أن تكون قد أقتنعت اليوم بأننى لن أنفذ ما فى رأسها مهما كانت الاغراءات، قلت لها قبل يومين:

- ابنتى..

وشرحت لها أنه ليس لابنتى ذنب فيما يحدث، وأننى أنجبتها كى أوفر لها الأبوة بكافة أشكالها، وليس علىّ أن أجعلها تدفع ثمن علاقتى المتوترة بمن تزوجت، لم ألحظ الغليان الذى بداخلها وأنا أجعلها تشعر أن هناك من يمتلك علىّ مشاعرى أكثر منها، من الواضح أنها كتمت مشاعرها، فكانت بتغيير وتر "النكد"، وتحولت إلى موضوع آخر..

كررت اليوم نفس الكلمة:

- ابنتى..

حدث ذلك بعد أن انتيهنا من التهام ما بالأطباق، وبدأنا فى شرب الشاى الأخضر، المفيد صحيا، وربما يمكنه تهدئة الأعصاب، قالت:

- ماذا تقول..؟

أجبت: يجب أن تفهم ابنتى الأمر..

سألت: ومتى يمكن أن يحدث هذا؟

أجبت بهزة صامتة من رأسى، وبكل هدوء من الخارج فقط:

- آه لو تعرف كم أدعو الله أن يخلصنا من امرأتك للأبد.. والآن، جاء دور ابنتك..

وبدون مقدمات منتظرة، ألقت بقنبلتها:

- يارب ابنتك تموت..

لم استوعب ما قالته فى البداية، رغم أننى سمعت الجملة بوضوح، ولم تكن فى حاجة إلى أن تكررها إلا لسبب واحد، هو أنها متأكدة ما تقصده..

فعلت ما يجب أن أفعله، أى أب له ابنة وحيدة، تتمتع بما تتسم به ابنتى التى اتصلت بها فى عيد ميلادها الثامن عشر، وهى فى المدينة الأخرى أشكرها أنها وصلت إلى هذه المرحلة دون أن تجعلنى أحس أننى أب لفتاة مراهقة تغلبها مشاعر الفتاة فى هذا السن، تبحث عمن تحبه، أو تخرج معه، أو تبادله الرسائل الاليكترونية، هذه الجميلة، أصابتها الآن لعنة من امرأة تدعى أنها تعشق أباها، وتقوم بالدعاء عليها بالموت، هكذا بكل وضوح..

لا أعرف كيف خرجت من المطعم، وتركتها، ولم آبه لمسألة دفع الفاتورة، فقد فعلت ذلك قبل قليل، لم أر شيئا فى الشوارع المظلمة فى المنطقة التى يقع بها المطعم، سوى ذلك الكم الزخم من السيارات الواقفة فى كل مكان حولى، تسد علىّ رغبتى فى الركض إلى لا مكان، فقدت الاحساس بالاتجاهات، وخدعتنى الشوارع والحارات، وأضواء السيارات، وأصواتها العالية المزعجة، ولم أبال أن تضربنى إحداها فتسقطنى أرضا، شممت روائح مختلفة، كأنما قنبلة من الدخان انطلقت فى دائرتى، وسمعت الشياطين تنادينى أن أهرول ورائها، ففعلت، ولم أهتم برد فعل تلك المرأة شديدة القسوة، التى هدمت معبدا بنيناه من النشوة، والاهتمام، والمناشدة، لم أهتم بخروجى إلى الشارع الرئيسى، ولم أنكر أن أشير إلى سيارة أجرة كى تأخذنى إلى بيتى الذى لا أستطيع الوصول إليه على قدمى، ورغم ذلك ظللت أركض بدون توقف، دون أن انتبه إلى أن قلب الزرافة يموت من اللهاث أثناء مطاردة الوحوش لها، كى تلتهم جسدها الشهى، ووجدت نفسى أمام منزلى، محاولا استعادة أنفاسى، لكنن أيضا لم أعبأ بما يحدث داخل جسمى، خاصة رئتى وقلب، فقد كانت جالسة داخل سيارتها..

نظرت إليها فى لامبالاة ملحوظة، وقفت مكانى مترددا بين استكمال طريقى، فى فتح باب العمارة، والدخول إلى المصعد، وبين أن أتوجه إليها، لكن شبح ابنتى سرعان مادفعنى نحو السلم لأصعد خمسة أدوار مستملا لهاثى، دون أن أستطيع النظر خلفى، واثقا أننى لن أراها واقفة عند باب شقتى، سواء بمفردها، أو موجودة داخل السيارة..

تعليق ضرورى:

عمرى، أثناء كتابة الرواية فى هذا المكان، يزيد عن الربع قرن، وقد كنت فى الحادية عشر حين دار هذا الحوار بين اثنين من الزبائن، أحدهما كما عرفت مؤلف، فقد كان يظهر فى بعض البرامج الثقافية فى قنوات التلفزيون الثلاثة، وأكاد أجزم، أننى طوال هذا العمر غير القصير، لم أسمع أبدا مثل هذا الدعاء بالغ القسوة التى نطقت به المرأة التى تميل إلى البدانة، ضد ابنة هذا المؤلف، أبدا بمعنى أن الناس غالبا ما تأتى إلى هنا، بهدف قضاء وقت قصير سعيد، يأكلون، ويتبادلون الكلمات والمشروبات، ويذهبون، كى يعودوا مرة أخرى، الغالبية من أبناء المنطقة، يأتون، ويخرجون سعداء، بعد أن وفرت لهم اللذيذ من المأكولات والشهى من الحلويات، وما يطلبونه من مشروبات، يدفع أحدهم نيابة عن الكل، أما من جيبه الخاص، أو يقوم بلم نصيب كل فرد، ثم يغادرون وقد تركوا المزيد من المال، ويستودعون من خدموهم، وهم يشعروا بالامتنان..

أعمل أغلب ساعات اليوم، وحتى ما بعد منتصف الليل، فلى ورديات يتقاسمها العاملون حسب جدول يحترمه الجميع، ويتم تدبير وجبة كاملة لمن يعمل فى أكثر من وردية، بالإضافة إلى نسبة أكبر من الاكرامية، لذا، فأنا أعتبر مطعما شعبيا إلى حد ما، زجاجى يطل على ناصية بناحيتيها، مضاء فى أغلب الأوقات صيفا وشتاء، بداخلى هواء مكيف ما يجعلنى جذابا للمزيد من الزبائن الذين أصبحت مقصدهم فى هذه الضاحية من المدينة، ألفنى بعض منهم، فرأيتهم يأتون إلى هنا لأول مرة، وبالأمس فقط جاء اثنان منهم، ومعهم ابنائهم الثلاثة، أحدهم يستذكر دروسه أثناء الوجبة، وأخته تلون اللوحة المرسومة الموضوعة فوق المائدة، كى تدخل آخر الشهر فى المسابقة التى تتيح لعشرة فائزين هدايا متنوعة، ليس هذا هو السبب الذى من أجله يأتى الزبائن، فمن بينهم أيضا يوجد تلاميذ المدرسة المجاورة، وطلاب المعهد القريب..

أشهد أننى عرفت الكثير من قصص الحب التى ولدت بداخلى، أو، على الأقل، تنامت عندى، والكثيرون من الزبائن قد يأتون مرة واحدة، بلا عودة، مثل المؤلف ورفيقته التى قالت هذه العبارة شديدة القسوة، فغادر المكان لتوه، ولم ينظر خلفه، رأيته يركض كالمجنون الشارد حتى اختفى بسرعة ملحوظة، وسط الشارع المزدحم بالسيارات، بدت المرأة مندهشة، ربما تعنيه عبارتها بالنسبة له، أو لرد فعله السريع إزاء ما قالت، جمعت حاجياتها بسرعة، وأرادت أن تدفع الحساب، إلا أن النادل رفض، وأبلغها:

- البيه دفع يا هانم..

لم تنتظره يكمل جملته، خرجت من الباب الجانبى، رأيتها تجرى هى الأخرى، فى اتجاه معاكس، ربما حيث تركت سيارتها، واختفت،،

لو طلب منى المؤلف أن أكتب شهادتى فى روايته التى يود أن يكتبها فى مثل هذه الظروف، فسوف أدونها، ولو كان بيدى لأرسلت بها إلى الصحف، لكن لا داعى أن يعرف زبائنى الآخرون أن هناك امرأة بمثل قسوتها، طاوعها لسانها أن تقول هذه الجملة، لو عرف أحد أن الجملة نطقت عندى، فسرعان ما سيهجرنى زبائن كثيرون، خاصة الآباء، والأمهات، ولربما أغلقت أبوابى، وأتحول إلى مخزن لعجلات السيارات وفقدت كل هذه الحيوية..

اشترك الآن فى الحكى، فالمؤلف لم يذكر اسمى، وكم من مطاعم أخرى فى المنطقة بحيث يمكن توزيع التهمة عليهم جميعا، إذا حل وقت التساؤل..

مر الحدث بسلام، واختفى، لا أكاد أعرف ماذا صارت عليه الأمور، لكن لا شك أن هذا الرجل لن يعود إليها قط، فهى امرأة غير صالحة للاستخدام الأنثوى، ولا تستحق لقب الأنثى، إنها بقسوة كافة النساء اللاتى ارتكبن أبشع الجرائم فى التاريخ، ولا شك أنها تحمل فى داخلها نوايا شريرة، تدفعها إلى أن تقتل كل من لهم علاقة برجال فى حياتها، وبدم بارد للغاية..

توابع:

مثلما توقعت، فقد بدأ الهاتف يرن بقوة طيلة ساعات، فأغلقت التواصل تماما، ولم رميت به فى مكان لا يخطر على بالى، وجلست بعيدا عن الهاتف الأرضى، وغفت عيناى، وأنا أعرف أن هناك من يطلبنى، لم أفكر، ولم أضع حلولا أو توقعات فيم علىّ أن أفعله فى المرحلة القادمة، وعزّ علىّ أن تنتهى العلاقة بشكل هزلى، لم أتساءل عن سبب ما قالت، وإذا كان هناك تبرير، هل هى مجنونة، أم هل أعدت نفسها لأنها، كل شىء، بشكل مأساوى وعندما غادرت مكانى عائدا إلى حيث التليفون الأرضى كانت الساعة تجاوزت الثالثة صباحا، ورأيت الإشارة الحمراء المنطلقة من الهاتف تؤكد أن شخصا ترك رسالة، أو أكثر، انتابنى الضعف، والفضول أن أعرف من المتصل، واثقا أنها فعلت ذلك..

"مساء الخير، أنا آسفة، أرجوك تقبل عذرى، لا أعرف كيف نطقت هذه الكلمات، أنا مستعدة أن أذهب إلى ابنتك حيث توجد، وأقبل رأسها، وأدعو لها بطول العمر، لا تعاملنى بقلة عقلى، وبعدم اتزانى، أرفع السماعة، أنا أعرف أنك قريب منها، وسأعرف أنك سامحتنى، لا يمكننى أن أنام وأنت بهذه الحالة النفسية، أعرف أن لك قلبا كبيرا، وأنك تتألم مثلنا، ما زلك على الخط حتى أسمع صوت سماعتك، وقد أمسكتها بيديك، لا تقل شيئا، وآنذاك سوف أفهم أنك ستنام وقد سامحتنى، لو لم تفعل ذلك، فسأظل على الخط حتى ترضى عنى، هه.. اسمع، هل نمت، ربما، لكن أنا متأكدة انك لن تنام قبل أن أفعل، وأنا لن أنام قبل أن...

وتحول الهاتف إلى نحيب.. انه التليفون المنتحب.. ظللت إلى جواره، أنظر إلى الإشارة التى تدل أنها على الطرف الثانى من الخط، أكاد أسمع أنفاسها، بعد أن توقف النحيب تماما، لعلها قد غطت فى نعاس حتى تطرد الإحساس بالندم، وان كنت واثقا أن الاتصال لم ينقطع..

عندما نزلت إلى العمل فى ساعة مبكرة من الصباح، كعادتى، رأيت سيارتها على الضفة الثانية من الشارع، ما يؤكد أنها لم تعد إلى منزلها، وأنها لا زالت فى مكانها، لكننى لم أصل إلى هذا إلا فيما بعد، عندما صرت وحيدا بدون صوتها، كل ما فعلته أن عدت أدراجى نحو المصعد، ورجعت إلى شقتى، وجلست إلى جوار الهاتف، فى حالة ترقب لكل ما يمكن أن يحدث..

الهاتف يتكلم:

أنا المؤلف الحقيقى فى هذه الرواية، وأستطيع أن أروى ما لا يتذكره أحد، ويمكن اعتبارى البطل الرئيسى هنا، وأنا أعترض تماما على تسمية الرواية بعنوانها الحالى "المؤلف" بعد أن تغير هذا الاسم أكثر من مرة، حيث قرر الكاتب أن يعتبرنى "الرواية الناقصة"، أو "الرواية الفاشلة"، ثم استعذب اسم المرأة، وقرر أن يسمعنى روايته "نور" الاسم الحقيقى للفتاة، وانتهى إلى الاسم الحالى، وأنا اعترض بشدة على كل التسميات، فالاسم الأنسب هو "أنا" "الهاتف يتكلم"، أو "التليفون" فقط، فقد كنت دوما أداة صلة حقيقية بين الطرفين، أنا هاتف محمول، لى رقم مميز بشكل ملحوظ، تستخدمه سيدة اقتربت من الأربعين، يقوم علمها فى المقام الأول على استخدامى فى اجراء الحوارات مع الضيوف، والحديث إلى أفراد أسرتها، وهى التى تجبرها وظيفتها إلى العودة إلى البيت فى ساعات متأخرة، حسب طبيعة العمل، وأيضا حسب هوية الأشخاص الذين تتعامل معهم، أنها تستخدمنى فى كافة الأوقات، ولا يكاد يراها أحد إلا وقد رفعتنى إلى الجانب الأيسر من وجهها ولا تكف عن الحديث، أحيانا إلى زملائها الذين يشاركونها برامج الهواء، وأيضا الضيوف الذين ينتمون فى الغالب إلى السلك الدبلوماسى، يتحدثون فى السياسة، والأخبار الطازجة عم يحدث فى البلاد..

وجدتنى صاحبتى دوما طيعا، أحضر لها أى شخص أينما كان، فى الداخل أو الخارج، طالما أنها تدوس على الأزرار، تمتلك ذكاء هاتفيا ملحوظا، سرعان ما تحفظ الأرقام، وتسجلها، وتعرف من المتصل حتى وان لم يكن الاسم مسجلا، وأستطيع أن أذكر أنها تمتلك حاسة الهواتف فى أعلى درجاتها، مثل بقية الحواس التى تتمتع بها، ومنها السمع، والحسية التى تكاد تنهشها فى أغلب الساعات..

أنا الشاهد الحقيقى على القصة التى لابد أن تتوقع فشلها منذ اللحظة الأولى، عندما أملت عليه رقمى أو ظهرت على شاشة، ثم سجلت اسمه بحروف لا يعرفها أحد سواها، لا أعرف بأى اسم سجل رقمى على هاتفه، ومنذ تلك اللحظات، صار رقمه هو المفضل، والأنسب بالنسبة له، وبدن واثقة فى أنه سيكون له حيثية فى حياتها..

أنا مجرد هاتف، تدب الحياة فى برامجى، ما إن تدوس على أرقامى، أو الاسماء المبرمجة فىّ، لكننى لست جاسوسا مثلما يتوقع البعض، أو يزعمون، يقولون فى مناسبات عديدة أن الأجهزة الحديثة يمكنها أن تسجل كل ما يدور حولنا حتى وان كنا فى وضع "صمت"، أو يتم اغلاقنا، ربما أن هناك من الأجيال اللاحقة بنا، لديها مثل هذه الخواص، وأكثر، أما أنا، فلم امتلك يا من هذه الخواص..

وسرعان ما صار فى سجلى اسم المؤلف الذى بدت معجبة به، وهو يتمرث معها، ورفاقها الذين لا تعرفهم فى الدور الرابع من المبنى، فما أن غادرت فى المصعد، حتى بنت علىّ، لعلها أحست بالامتنان أننى احتفظ لها بغنيمة حياتها، لا أعرف ماذا أعجبها فيه، فليست السمات الاستثنائية من ممتلكاته، لكن يجب أن أقول أيضا أنها لا تلفت الأنظار للمرة الأولى، هى قصيرة بشكل ملحوظ، وقد ساعدها طولها هذا أن تبدو أكثر بدانة، ما لو كانت أكثر صعودا بجسدها نحو الأسقف، ولا أعتقد أنها تهتم بوضع أى إضافات ملحوظة على ملامحها، ربما روز خفيف عندما تخرج إلى أحد الاحتفالات ليلا، لعلها تعرف من رفيقاتها أن الاستخدام المغالى فيه للهواتف المحمولة مرتبط بازالة المساحيق على الخدود، وأيضا أحمر الشفاة، لكنها فعلت ذلك فى اليوم التالى قبل أن تخرج، شعرت بالارتياح، وهى تضيف لمسة من الجمال على وجهها، قبل أن تذهب إليه مباشرة، من البيت، إلى حيث يعمل..

حرصت فى هذا اللقاء الذى قضياه فى ساحة معهد جوته ألا ترد على المكالمات التى تأتيها، بدت مهمته ، بالمؤلف الذى تعرفت عليه، يدهشها كلما تكلم، فمر وقتا هما معا فى حالة من الاستكشاف، على الأقل بالنسبة لها، واعتقد أنها تمنت لو كان باستطاعتى أن أسجل صوته، لكن هذه الخاصية لم تكن موجودة آنذاك فى الهواتف المحمولة، بعد أن غادر السيارة وصعد إلى بيته، عانقتنى، وقبلت شاشتى بكل امتنان، وسرعان ما طلبته:

- آلو..

- أهلا، كنت أفكر فيك؟

- كيف..؟

- أفكر، أقصد..

- هل أنت سعيد..؟

- أفكر.. وسعيد، رأيت المعهد اليوم بعينين أخريتين..

- هل هناك أحد معك..؟

- أخبرتك أن شريكتى تقضى أغلب أيامها فى مدينة أخرى؟

- هل هناك امرأة عاقلة فى الدنيا تترك رجلا مثلك إلى أى مكان آخر..؟

- وجهات نظر..

- لا أتصور أنها تبالى بك..

- لا أحب أن أذكر هذه السيرة فى حياتنا..

- لماذا لم تنفصلا..؟

- نحن أقرب إلى ذلك، لكنها..

- ماذا..؟

- أقصد ابنتى، ما ذنبها.. غيرى الموضوع..

- هل تناولت العشاء..؟

- لا تزال وجبة الغداء فى بطنى..

- هل تود أن تخرج ونتعشى فى مطعم قريب من منزلك..؟

- ولم .. لا..

- سأكون عندك بعد ربع ساعة..

- لم أغير ملابسى بعد..

- ولا أنا..

فى تلك الليلة الأولى، نقلت إليها صوته بعد منتصف الليل، كانا قد عادا لتوهما من المطعم الواقع على مسافة غير بعيدة من منزله، قال:

- أهلا، كنت أفكر فيك..

- وأنا أيضا.. من أين أتيت لىّ..؟

- أنت التى بزغت فى ظلامى..

- لا يقول هذا الكلام سوى مؤلف..

- شكرا.. على الصحبة..

لو كتبت ما دار بينهما فى أول حديث طويل، لاستغرق الأمر عديدا من الصفحات، أخبرها أنها المرة الأولى فى حياته، منذ أيام الثانوية العامة التى يسهر فيها إلى ما بعد منتصف الليل، وأنه شخص نهارى، مثل عباد الشمس، يستيقظ قبل أن تصل الشمس إلى مشرقها بقليل، ويشعر بالنعاس يغالبه عقب الغروب مباشرة، وأنه ينام فى العاشرة، فغالبا ما يكون مشدودا بالنوم، ولذا، فمهما رنت الهواتف من حوله، فإنه لا يرد ولا يستيقظ ولا يدخل فى حوار مع آخرين..

بدت سعيدة بما سوف تدخله على حياته، أن يسهر حتى ساعة قريبة من الفجر، وأن ينتظر ظهور رقمها على هاتفه المحمول، فيدخلان فى بحر من الكلمات البالغة الخصوصية شهدت مراحل تطورها، وسمعتها، وأحسست بالغبطة أننى مملوكا لمثل هذه المرأة البالغة الشهوة، والتناقض، والأنوثة، لا تكاد تشبع حتى تسعى مرة أخرى أن ترتوى، وتتفنن فى امتاع نفسها، وإخراج المشهد كما تشاء، أنها امرأة تذهل من تعرفه، تبدو عالية الجهد، وهو تعبير علمى فى الفيزياء، خاصة الكهرباء، الفولت العالى، قد يحرق الأسلاك، وربما يجعل الطاقة غير محتملة، لكنها مرغوبة، لم يلحظ هذا الأمر إلا بعد أسبوعين من تعرافهما، بعد أن مدّ أصابعه إلى عنقها، وما إن اهتزت حتى بدا كأنه عرف نقطة ضعفها، وأيضا مساحة قوتها اللامتناهية..

فى تلك الليلة بدأت الاباحية تأخذ مساحتها عبرى، وتخلى كل منهما عن حياته، وقررا معا أن يخلعا كل شىء، من فوق غشاء ألسنة متحفظة، ومشاعر تتأجج حتى يصلا إلى الذروة، إنها تحب مناطق جسدها، وتمسسها أثناء المكالمة، ولا تخجل، تبدو بجانبها الآخر الذى لا يعرفه أحد خارج غرفتها، تحب تسمية أعضائها بأسمائها الشعبية التى ينطقها الناس فى معاملاتهم اليومية وتميل أن يستعمل شريكها المفردات بكل ما بها من عدم إباحة، فيتحول الهاتفان فى الوقت نفسه إلى جسدين شديدى الالتهاب، ينتفضان من الشهوة، والرغبة، يصلان إلى الذروة أكثر من مرة، لا تعرف هى الراحة، وتريده أن يظل معها على الخط، حتى تنتهى، وتبدأ من جديد، كان يستجيب لها، ولا يراجعها فيما تطلب، وهو يعبر لها عن سعادته:

- كم أحب هذا..!

وقد تعلق:

- ظهرت فى حياتى كى تشعلنى..

وذات مرة سألها:

- ألا يوجد أحد إلى جوارك..؟

- أنا فى غرفتى وحدى، الكل نيام، أو على سفر..

كم كررت هذه الجملة عبر المحادثات التى تدور بينهما بعد منتصف الليل، "كى تشعلنى"، ويكون الرد دوما على الطرف الآخر:

- تجاوزت حد الاشتعال..

إلا أنه مبالغ، وكاذب فى هذا الشأن، فهو بالتقريب لا تصل إلى حدود شهوته سوى مرة واحدة فقط لا غير، فى كل المحادثات، أما هى فتطلب منه أن يستمرا، أنها تحب ذلك، وهى ضعيفة تجاه ما يحدث، تتمنى ألا تتحرك الساعات، وأن تظل هكذا لا ترتوى، وأن يظل هو على الخط، فى بعض الأحيان يطلب منها أن تعطيه فرصة للنوم، لأنه يخرج فى السادسة والنصف إلى عمله، إلا أنه مع التكرار اعتاد على كل شىء، وصارت حياته الجديدة، يتصرف الاثنان كشابين فى مقتبل العمر، دون أن يراجعا نفسيهما فيما يفعلان، تزوجت مرتين، وانفصلت بسبب عدم قدرة رجليها على مجاراتها، وهو يعيش وحده أغلب الوقت، إلا قليلا..

كانت تعرف مواعيد حضور امرأته من المدينة البعيدة، وتبدو سعيدة حين تعجل بالسفر عائدة إلى أهلها هناك، وتعاد الاحتفاليات الساخنة..

حسب شهادتى، فإنها لم تنقطع عنه، ابدا، حتى وإن كان هناك شخص ما، أقصد قرينته، هناك، تتصل به، وتطلب منه سرعة النزول:

- أنا موجودة.. أسفل منزلك..

- حاضر..

يبدو أن المرأة أحست بالشك فى إحدى الأمسيات، فعلى غير العادة، ترك الرجل مائدة العشاء، وراح يرد على المكالمة، وارتدى ملابسه مهرولا، ووضع فى قدميه حذاء خفيفا، وانطلق، ونسى هاتفه، وبعد قليل استقبلت مكالمة عبر رقمه لم يكن يدرك لمدة نصف ساعة أنه نسى الهاتف، نظرت نور إلى شاشتى، ورأت اسم رفيقها الذى يجلس معها فى السيارة، بدت متماسكة:

- أنها زوجتك..

بقية الحكاية محكاة فى مكان آخر من الرواية، لكن الأمر مر بدون أى متاعب، وعاد إلى منزله بعد ساعتين، وسمعته يقول لها، فى اللقاء التالى:

- أخبرتك أنهم يجرون معى لقاء..

ابتلعت المرأة الطعم، وحاولت أن تكشفه، فقال:

- كان لقاء فى الاذاعة، لذا لم أتأنق..

وقبل أن تعترض، قال مجزم: لا تنسى أن هذا من ضروريات عملى، بهذا الشكل يمكننا أن نخسر الناس..

ومر كل شىء على ما يرام، وسارت الأمور فى نصابها، والواضح أنها بداية من تلك الأمسية، بدأت تحس أنها لا تمتلكه وحده، وأنه يكذب عليها، بأن هناك الكثير من الانشقاق بينه وبين امرأته، فلو أن المرأة لا تهتم به، مثلما يدعى، وأنه يعيش أغلب الوقت وحده، فلماذا شعرت بالغيرة، واتصلت به، من الواضح، كما أخبرها فى اليوم التالى، أن خروجه بهذه الطريقة غير المألوفة، قد أثار التساؤلات لديها، وعندما وجدت الهاتف أمامها، وقد نساه على المائدة، فإنها بحثت عن آخر شخص اتصل به قبل أن يتلهف على الخروج، وراحت تكلب، كان أمام الرقم أسماء أقرب إلى المذكر مثلما هو مؤنث، "نور"..

تلك المكالمة التى لم تحدث فى الأساس نبهتها أنها لا تمتلكه وحده، وأن فى حياته امرأة وابنة فأحست بالغيظ الشديد، وكتمت أحاسيسها بداخلها حتى إشعار آخر، حين أكد لها أنه سوف ينفصل حتما عنها، المقصود زوجته، وأحست أنه كاذب، ومراوغ، فقررت أن تفاتحه فى المسألة "نحن إلى أين"..

هل مطلوب منى، أنا محمول "نور" أن أفسر ما أسمعه عبر الخطوط الهوائية، وأفسر أنه يعمل ألف حساب لابنته، ولا يريدها أن تعيش بعيدا عن والديها، أم أنه جاد حين يدعى دوما أن المرأة خبأت قسيمة الزواج فى بلاد الجان الخفى، حتى لا ينفذ وعيده بأنه لو أمسك بالقسيمة فسوف يذهب إلى أقرب مأذون، ويفعلها دون أى أسف..

سمعتها تقول له:

- كل مرة، لديك حجة..

كان يثأثأ، حين يسمع مثل تلك العبارة، ويحاول البحث عن عذر جديد أكثر إقناعا، فلا تشعر بأى ارتياح، وكل ما عليه أن تصدقه، وأن تقنع نفسها أنه صادق، حتى تنبهت فجأة إلى أنه "مجرد" مؤلف، يجيد رسم الحكايات والقصص، وأنه مخادع من الطراز الأول، صار يبحث معها فقط عن الشهوة، وركوب سيارتها لتأخذه إلى المطاعم، والنوادى، وتريه المدينة فى النصف الأول من كل ليلة، ويبدو أنها توصلت إلى هذه القناعة بعد الكثير من التردد، فقررت أن تتخذ موقفا، وبدأت توارى قلبها عنه، يبدو أن الحب عند البشر يجعل المحبين فى حالة، بحث عن الأعزار، لمن منحوهم قلوبهم، وذكرياتهم، فصارت تجد له العذر، وأن وجود الاثنتين فى حياته، يسبق وجودها معه، لكن هناك أمل كبير بداخلها أن تمتلكه لنفسها..

كانت فى حاجة إلى من يمنحها النصيحة، قالت لها أختها فى الهاتف:

- ما أسوأ أن تقع المرأة فى حب رجل متزوج!

سألتها:

- ماذا أفعل؟

- أقذفى به فى أقذر ترعة.. سيظل يلاوعك..

وقررت أن تعمل بنصيحة أختها، واكتشفت أن الأمر ليس سهلا بالمرة، وأنه استحوذ عليها، خاصة عندما قال:

- لو تخليت عنها بسهولة، فربما أفعل الشىء نفسه معك، لو مررت بظروف مشابهة وجدت له العذر، وحاولت أن تقتنع، ثم تراجعت، وقالت له:

- ايدا، لن أصدق، اذهب إلى المأذون حالا..

رد: ليست معى أوراق رسمية، شهادة الزواج..

سكت قليلا، قبل أن يقترح عليها: سوف أزوركم فى الوقت الذى تحددونه.. الآن لو أردت..

قالت بكل أسى:

- لا ينفع، انهم يرفضون أن يدخل عليهم رجل متزوج.. مهما كان السبب..

أحس بأنها تسد على ألاعيبه وكذباته كل سبيل، وإن الحل يتمثل فى شىء واحد لا أكثر الذهاب إلى المأذون، ليس كى يعقد قرانه عليها، وإنما الانفصال عن شريكته، هنا أدرك أن الاقتران أمر حتمى، وأن هذه المرأة التى يتعامل معها فى بعض الأحيان على أنها نصف عاهرة، أخذت الأمر باهتمام شديد، وإلحاح، تريد أن تكون مثل كل النساء، أن تتزوج، ولعله لم يفهمها، حين قال:

- بالأمس حلمت أننى حاولت فض بكارتك، فلم أستطع..

أنطلقت الجملة تشعرها بارتياح، فشل فى أن يفهمها، وهى التى تصورت دوما أنه نصفها المنتظر، قالت:

- هل اقتنعت..؟

رد: فهمت..

رددت: لا، لم تفهم، المهم أن تقتنع..

حاول أن يحول الموضوع إلى مزاح، لكنها كانت جادة..

- لم تتوغل فى داخلى..

قال بسذاجة: حتى الآن لم أر جسمك من الداخل.. كله ملابس..

أغلقت عينيها، وقالت عبر الخط:

- أنا لست عريا، ولا ملابس.. أنا امرأة..

سكتت، وأكملت بعد تنهيدة: تريدك..

يبدو أن مرحلة الشهوة سرعان ما يتم إشباعها، وتأتى التساؤلات: وماذا بعد؟.. إنها تريده، رجلا جديدا فى حياتها، وتلح عليه فى كل مكان يجمعهما، ابتداء بى، وانتهاء بالأماكن، أنهما ثنائى يحرص على اخفاء كل علاقة بهما عن الآخرين لا أعرف لماذا لم يكن إيجابيا إزائها، ترى هل عقدة الشرق تحرك كل منهما، هى تود أن تكون لهذه العلاقة شرعية، وأن يصبح رجلها القادم، وهو غير قادر على التخلص من أسرته، يتعلل لها دوما أنه وحيها، وكم من أزواج فى الشرق يعيشون مثل حالته، يبدو جبانا غير قادر على اتخاذ القرار، لكن يبدو أن مسألة فشلها فى زيجتين سريعتين، تقف حائلا أمامه، لعله يفكر فى أن يكون مصيره كرجل ثالث فى حياتها، لن يحتلف كثيرا عن التجارب السابقة، بدت له امرأة من السهل أن تتعلق برجلها، وتحوطه بكل الاهتمام والحب المغلف بها فى كل أماكنه وأزمنته، وبأى علة سوف تفكه عنها، مثلما ربطته، لعله فكر أنها سوف تنهكه برغباتها التى لا تتوقف، فإذا كان هذا هو الحال الشفاهى لمحادثاتهما عبرنا نحن الهواتف بكافة أشكالها، فترى كيف ستكون أحواله عندما تصبح حلالا له.. مسكين، أنه يلهث بشدة عبر الخطوط، ولا يقدر على مجاراتها، أما هى فتبدونى قوة تنانين الاساطير، لا تنهد، ولا تشبع واسألونى أنا، فكم سمعتها تقول:

- أنت الآن فى حياتى، ولا استغنى عنك.. فى..

نطقت بكلمة بذيئة، يبدو أنه استمتع بها كعاشق، ليس لديه أى التزام ناحيتها، لكنها عندما بدأت نسأله أن يقترن بها، يبدو أنه فكر فى الأمر بشكل مختلف، تخيل نفسه يحب منها طوال عدة أيام، ثم يخر مريضا، عنينا، غير قادر على فعل أى شىء، حتى الحركة العادية، ولن يكون مفيدا لها فيما تريد، ولعلها سوف ترميه، مثلما قذفت بآخرين خارج دائرة حياتها، كنت أتمنى أن تنتابه الشجاعة:

- لن أستطيع..

لكنه لم يتمكن أن يبوح لها، وصار عليه أن يكسب المزيد من الأيام للبقاء معها، فراح يكذب أحيانا، ويعد فى أوقات أخرى أنه سيفك رباط أسرته، وصار عليها أن تنتظر، وأن تكثر من إلحاحها، وبدأت حرب لطيفة خفية.. فيما بينهما، وبدا إلى أى حدهما مختلفان تماما، رغم أنهما، حسب قناعاته، يجمعهما برج واحد، فهى مولودة فى اليوم نفسه الذى جاء فيه إلى الحياة، تصور أن هذا وحده كفيل أن يطيل فترة تفاهمهما معا، لكنها قالت تصدمه:

- من قال أن هذا شرط لنكون متقاربين..

كان يحاول فهم سمات برجه المائى، لكنها قالت:

- هذه خرافات، لا أصدق فى مثل هذه الغيبيات..

لم يعلق على ما قالته، فى تلك المرحلة، كانا أشبه بمن يتسلق جبالا من الكعك "التورتة"، فتنال فوقه كل أنواع الحلوى، والسكريات، والمرطبات، ويزداد حلاوة، على طريقة "الوحل"، وبدأ يتعامل معها على أنها المخلوق الأكثر هشاشة، عليه ألا يقع أمامها، فلا يثير رثائها..

لذا لم يعلق..

أنها امرأة تختلف تماما عن تلك المشرقة، الباحثة فى الغموض الجميل، الذى زارته فى مكتبه واصطحبته إلى المركز الثقافى الفرنسى، أما هو، الذى تجاوز الخمسين لتوه، فقد صار بالغ الحذر، يعرف جيدا أنها قد تكون آخر تجاربه العاطفية، وعليه أن يتعامل معها كحفل وداع، وأن يطيل الأيام الأخيرة، قبل أن تذهب، أو ربما قبل أن يلفظه، قال:

- ألن نذهب إلى مطعم المهندسين؟

ردت باقتضاب:

- لا أعتقد..

لم يفهم من كلماتها، ولم يسيشف، أنها بدأت تتخلى عنه، وأنها عادت إلى هذه الأماكن وحدها، تتناول ما تريد، ولا تعير الجموع المتزاحمة بالحوارات من حولها أى اهتمام، ومع هذا استجابت له.. استجابت إلى ضعفها محوه، واتصلت به:

- هه.. هل تفتقدنى..؟

رد: بالطبع..

- سوف أمر عليك، سأكون فى مكانى بالسيارة..

ظلا يبحثان عن مكان مناسب، ليس المهم ماذا يأكلان، لكنها كانت مشحونة ضده تماما، تمنت لو تطلق كل غضبها ضدع، فى قذيفة واحدة، ومن الواضح أنها أحست أن هناك ميزة حقيقية لها فى حياته، لا يمكن أن يتخلى عنها، حتى وأن نفذ مطالبها، ووقف أمام باب عمارته ينتظرها كى تنشله من ماضيه، ابنته، هى العقبة الأساسية، فهو لا يريدها أن تعيش فى أسرة منفصلة، ولا يريد أن يجرحها، لذا أحست بالحنق الشديد تجاه الصغيرة..

فى المطعم طلب منها إغلاق الهاتف، حتى لا تضايقه الرنات الكثيرة، لذا لم أسمع ما دار فى تلك الأمسية، فتحتنى عندما عادت إلى البيت، يبدو أنها نست وسط عاصفة هبت فيما بينهما أننى مغلق، وعندما تذكرتنى، فتحتنى، وتركت له الرسالة.. إياها..

لكنه لم يرد.. وظل هكذا لبعض الوقت، ربما أربع وعشرين ساعة، هى تلح فى طلبه من خلالى، أما هو فإما أنه أغلق هاتفه، أو رمى شريحته، حتى أحسست به موجودا على الطرف الآخر:

- آلو..

لم يرد.. بدا كأنه يخبرها أنه هناك، كنوع من الاستجابة غير المفهومة، حاولت أن أفهم ماذا حدث، قالت بضعف ملحوظ:

- أنت.. بخير..

يبدو أنه عز رأسه بالإيجاب، أو ربما بالنفى، دون أن يجيب:

كررت جملتها بالعامية، وبنفس الصوت الخفيض.. أنت كويس..

انتظرت لفترة غير قصيرة أن يرد عليها، وبدا مترددا عبر الخط، لا يريد أن يرد عليها، لكنه لا يود، كما يبدو، من الحديث إليها سألت:

- هل سمعت مكالمتى لك؟

أيضا لم تكن هناك استجابة، كان عليها أن تفخر أمامه أنها أضعف نساء الأرض، وأنه الآن فقط يمتلك كل مفاتيح الحياة، وأنه بكلمة واحدة يمكنه أن يرمى عنها كل سوائل الندم التى تغمرها:

- اعتذرت بما فيه الكفاية.. ومستعدة للمزيد..

أنفاسه تخترق الأثير، وتكاد تسمعها، لكن ما يهمها هو أن يسمعها، سألت:

- هل غادرت بيتك اليوم؟ انتظرتك فى الصباح..

ثم بدأت تتكلم، دون أن يرد، لكنه يبدو كأنه استمتع بشدة بكل هذا الاعتذار، والحب، والضعف وأشياء أخرى يمكنها إزاحة كل ما أعتصر أب تمنت امرأة من السماء أن تموت ابنته، حتى ولو على سبيل التهديد..

ترى ماذا كان رد فعله، وكيف تصرف..

تعليق:

الهواتف، آه من الهواتف، وما تفعله فينا، فى كل حياته..

لا أعرف كيف قضيت أكثر من نصف حياتى الأولى بدون أن يكون لدينا هاتف فى البيت، ولم يكن فى شارعنا كله بيت واحد ترن فيه الأجراس لفترة طويلة، وتغير إيقاع حياتنا إلى حد ما عندما دخل أول هاتف إلى محل عم أمين البقال، وصار الكثير من الأهالى يتوافدون على عدته السوداء، للاتصال بالعالم من خلالها، وصارت للرجل وابنه وظيفة جديدة، حيث عليه أن يرسل ابنه جابر إلى أحد كبارنا، ليخبره أن هناك من يطلبه فى الهاتف..

لم أقف يوما فى هذا الحشد، فلم أكن فى حاجة إلى الهاتف، ولذا تأخرت فى التعرف عليه، وأذكر الأصوات القريبة التى سمعتها تنطلق من داخلها، عندما رفعت السماعة للمرة الأولى، ولأننى غشيم بشدة، فقد قلبت الآية، ووضعت السماعة على فمى، فقام شخص إلى جانبى بإعادة وضعها فى المكان الصحيح، لا أذكر جيدا المكان، والزمان، لكن هئ لى أن شخصا يتكلم من أعماق بئر، رغم أننى لم أتكلم قط مثل هذه المكالمة البئرية، ولم انتبه أننى أرفع صوتى بدون سبب، لكن أحد من كانوا حولى، نبهنى بعد المكالمة أننى كنت "أزعق" بلا مبرر، لم أميز صوت من يتكلم، رغم أننى أعرفه، ضغطت السماعة على أذنى بقوة، وأنا أكرر "أرفع صوتك"، وبكل أدب وسهولة، سحب منى شخص الهاتف، ليجيب نيابة عنى..

أحسست أننى فعلت شيئا مهما، وأننى حملت عبئا، ثم رميته، وصرت مصل الكبار، أتكلم فى الهاتف، ولم تتكرر المحاولة ثانية إلا بعد مدة طويلة، والغريب أن الهاتف لم يدخل منزلنا الصغير إلا بعد أن اخترعوا الهواتف المحمولة.. رغم أننى جندت لثلاث سنوات فى سلاح الإشارة أيام حرب أكتوبر أول مرة، رأيت الهواتف المحمولة بين أيدى الناس، كان فى مدينة خليجية، ذهبت إليها قبل عشرين عاما، واصطحبنى الأصدقاء إلى أحد المطاعم، هناك حيث بدا الناس يتصرفون بشكل لم أعهده من قبل، أغلبهم يضع كفه على جبينه، ويبدو كأنه يتكلم إلى نفسه، فتصورت عند الوهلة الأولى أنهم يتحدثون إلى أنفسهم، أو أن جنونا أصابهم جميعا، حتى رأيت قطعة من الحديد يتكلمون إليها، قال لى أحد الجالسين حول مائدتى:

- انه الخلوى..

وطوال الأمسية لم يكن لى من شاغل سوى مراقبة مستخدموا هذا الخلوى، الهاتف اليدوى الذى يمكن أن يقوم بدور الهاتف خارج المنزل، وذلك بعد ظهور أجيال عديدة من الأجهزة البدائية فى هذا المجال، ومن الوهلة الأولى أيضا، اكتشفت أن هذا الخلوى، الذى يعمل فى الخلاء، بدون أسلاك، قد صار إحدى الألعاب الجديدة فى حياة البشر، وإدمانا مختلفا عم آلف الناس فى حياوتهم السابقة، فالشباب لا يبعدونه عن أذانهم، يتحركون بحرية ملحوظة، ولا يكادوا يتركونه طوال فترة البقاء فى المطعم المفتوح، ولم تمر سوى دقائق، حتى رن هاتف إلى جوارى، قام رفيقنا على المائدة بالرد على زوجته، وأنا أنظر إليه بفضول ملحوظ.. سألته بعد أن أنهم المكالمة:

- هل أسعار هذا الجهاز عالية؟

رد، وهو يحرك يديه بما يعنى المغالاة: أووه.. كثيرا، ثمن الجهاز، وسعر المكالمات..

التفت حولى، ورأيت شبه غابة من البشر المنشغلين بالحديث إلى آلاتهم الخلوية، وتأكدت أن الأسعار العالية جدا، تكاد أن تكون شعبية فى هذا البلد البترولى، ولم أعرف كم هى تكلفة المكالمة التى طالت فى هاتف الشاب الذى لم أتوقف عن مراقبته، تمتمت:

- يا إلهى.. هل الناس هنا أثرياء لهذه الدرجة؟

تكرر المشهد بالطريقة نفسها فى بلادى بعد سنوات، إلا أن الخلوى.. صار اسمه "محمولا" فى مدننا، وفى البداية ظهر على استحياء، وكنا مندهشين أن موظفى أحد رجال الأعمال اشترى رئيسهم محمولا لكل منهم، لاستقدام الناخبين إلى انتخابات كجلس إدارة الأهلى، وسمعت اسماء بعينها يتم الاتصال بها من أبرز صفوة المجتمع، للتفضل بالحضور لانتخاب المهندس رئيس مجلس الإدارة، كى يمثلهم فى إدارة النادى الأهلى، وتبعا لهذه الاسماء تأكدت من نجاح الرجل الذى فكر بشكل عملى واشترى، كهدية، جهازا ومعه خط محمول، لكل موظف من أبرز العاملين معه، كى يضمن أنهم يردون عليه أين كانوا، وأنه بعد الآخر لا توجد أعذار، وعلى كل منهم أن يلبى نداء الهاتف، حتى وان كان يضاجع امرأته، أو يجلس فوق مقعدة دورة المياه.. لقد تغيرت الدنيا..

وصار المحمول رمزا على رفعة المكانة، وثراء صاحبه، وكم نظرنا إلى أى شخص يستخدمه أثناء ركوب الأوتوبيس أو الميكروباص على أنه موجود فى غير مكانه، وأن من يملك محموله، قادر على أن يقل سيارة أجرة، بدليل أنه صاحب المحمول، ويستطيع دفع قرابة الجنيهين مقابل أول دقيقة مكالمة فى الهاتف..

وسرعان ما اتغير المجتمع عدة مرات، من لديهم المحمول، ومن هم بغير قادرين، ثم حدث انقسام جديد، هؤلاء الذين يمتلكون الخط، والذين يستخدمون الشحن، شحت الكارت، ولعبت نقابة الصحفيين دورا عظيما فى حياة والمهام العملية لأعضائها، حين أتفقت مع احدى شركات المحمول على تدبير ألف خط على الأقل للأعضاء، وأحس الصحفيون بالامتنان، فهذا الهاتف يسهل عليهم الاتصال بمصادرهم، ويضمن لهم أن يحدث الاتصال مباشرة معهم، بدلا من الاعتذارات بأن "البك غير موجود"، أو أن الهانم نائمة..

تطلعت بإعجاب شديد، وريبة ملحوظة، إلى أول محمول امتلكته عن طريق النقابة، فعن طريق شحن البطاقة الذكية بالداخل يمكننى أن أصير مثل العرب فى تلك الأمسية، أتكلم كما يشاء، وفى أى وقت، إلى أى شخص سجلت رقمه فى أى مكان بالعالم، وحسب الثوانى، وبعد المسافة يمكن لشحن البطاقة أن ينفذ، لكن من الصعب على صاحب الاشتراك أن يخصصه فقط لتلقى المكالمات، لكنك مضطر على أن يخصموا شهريا منك ثمن اشتراك، وفى بعض المرات، فإنك يجب أن تقوم بتجديد الشحن مرة شهريا..

رغم كل المتعة التى أحدثها فى عالمنا وجود الهواتف النقالة، فإن الأمر تطلب وجود ميزانية إضافية نحن أصحاب الدخول الثابتة، والذين ليست لديهم مصادر إضافية، لذا، فقد ظللت أتعامل معه دوما بحذر شديد، فيما يشبه البرقيات، كل كلمة مكتوبة لها سعر، وكل جملة منطوقة فى الاتصالات بمقابل مادى، حتى أن تنافست الشركات فى هذا الصدد لتقليل سعر الثانية، ما جعلنى دوما حريصا على عدد الثوانى التى أتكلم فيها إلى شخص أطلبه، أو بالنسبة لمن يطلبنى، وأشعر أن المكالمة إذا طالت فسوف تتحول إلى عبء عليه، كانت "نور" شيئا مختلفا، فحسب طبيعة عملها، فإنها من أوائل المشتركين فى خدمة الخطوط، لم تكن تعبأ بمسألة المحادثات الطويلة، خاصة معى، عبر الهاتف، فصارت أشبه بالشاب الخليجى الذى لم ينزل هاتفه الخلوى عن صدغه قرابة ثلاث ساعات..

إذن، فأنا عاشق محظوظ، ولعلها أحست بذلك، فرفعت عنى حياء الحرص، أو البخل:

- لا تقلق، عندى اشتراك..

هى المرة الأولى التى استمع فيها إلى ذلك المصطلح، وعرفت معناه لاحقا، فتركتها تبدأ دوما بالاتصال، وجنبت نفسى أن أكون بالنسبة لها ذلك الرجل البخيل، فكم سمعت ان المرأة تكره البخلاء، وعليه أزاحت عنى "نور" الاتهام، وجاءنى صوتها بعد أن عدنا من معهد جوته..

- آلة..

أجمل نداء هاتفى سمعته فى حياتى، تبدو نبراتها مليئة بالرقى، والتميز، تركت مهنتها على لسانها أثرا ملحوظا، وغبطت نفسى أن واحدة من المذيعات تتحدث بشكل مباشر، على هاتفى المحمول، وأنا الذى لا أسمع سوى الراديو، طوال حياتى:

- أهلا.. نور... هل وصلت إلى بيتك؟

- ما زلت فى السيارة، أحاول أن أجد لها مكانا..

- هل عدت إلى الإذاعة؟

- لا، أمام بيتى، صارت الشوارع مزدحمة، من ذهبوا إلى الخليج، عادوا ومعهم السيارات، فازدحمت الشوارع..

- هذا موسم العودة.. لو كنت معى هنا، فى شقتى، لرأيت العجب..

وصفت لها العمارات المقابلة أو البعيدة، أغلب أنوارها مطفئة، ونوافذها مغلقة، أصحابها دفعوا أثمانها، وأغلقوها، وظلوا هناك لسنوات طويلة، قليلا ما نراها مفتوحة، وأحيانا يطل منها أصحابها، قبل أن يعودوا إلى أعمالهم خارج الوطن، كل هذه العمارات العالية، المنطفئة، تشبه بيوت الأشباح وأكثر، قد تنفع نوافذ مساكنهم العفاريت، لكن الكثير من أصحاب الشقق المقابلة لا نكاد نعرفهم، حتى إذا جاءوا، فإنهم يكتفون بشراء أجهزة تكييف، ترطب أجسامهم فى الصيف، وتدفئها فى الشتاء، إذا جاءوا فى أى من مواسم السنة..

قالت: ونحن أيضا، حين سكنا هذا المنزل، كانت المنطقة خاوية تماما، الآن هناك مدارس، وأسواق، لكن الشقق مغلقة..

سمعت صوتها عبر الهاتف كأنها تدفع باب السيارة، وقالت:

- سأكلمك بعد قليل..

وضحكت، ضحكتها النادرة، وهى تقول:

- معذرة، معى ما أحمله إلى البيت..

نظرت إلى شاشة الهاتف، وتخيلتها تحمل ما يعادل وزنها، دون أن أتساءل إن كان لديهم فى عمارتهم بواب يحمل عنها، وانتظرت أن تكلمنى، تمنيت أن أسمع.. "آلو"، التى جاءت بعد عدة ساعات..

سرعان ما تولد امتنان خاص من ناحيتى إلى هاتفها، قلت:

- لم أشأ أن أطلبك.. حتى لا أسبب لك حرجا أمام أهلك..

قالت: أنا امرأة عاملة، والمكالمات مباحة، لا أحد يتلصص على الآخر هنا.. ثم تداركت:

- لكن، للبيت حرمة خاصة..

- هل تسهرين إلى مثل هذه الساعة؟

- أنت.. ألا تسهر؟

- أنا الآن فى نطاق اليوم التالى.. غدا..

- لا أحتسب الزمن بنفس الطريقة..

- الزمن، ليل، ونهار..

- عش مع الحياة ببساطة، لا تجعلها متشابكة..

- أنا كتاب مفتوح..

- ذلك شىء آخر، نحن لا ننفتح بسهولة على الآخر..

- أنا أفعل، فالكاتب مرآته الناس، ويجب أن يرانى الناس كما أنا..

- هل أنت برج الدلو..؟

أخبرتها ببرجى، فقالت كأنها لم تفاجأ أنها مولودة فى البرج نفسه، وقالت:

- الثقافة تغير الأبراج..

يا إلهى.. هناك امرأة تدخل حياتى، تكلمنى عن "الثقافة" خاصة هنا، فى العاصمة الكبرى، أخبرتها أن الثقافة مصطلح مرن، فأكدت لى أن المرء القارئ، يختلف تماما فى سلوكه عن الذى لا يعير للكتب أى اهتمام..

شدتنى بكلماتها، تصورت أن لسانها الذى يجيد أكثر من لغة، يسهل عليها التعرف على آداب العالم، بدأت تثير دهشتى، فهى تتكلم بلسان مختلف عن نساء كثيرات، خاصة عبر الهاتف، قلت بكل فخر:

- أغبط الهاتف، الذى تتكلمين إليه..

ردت أنا لا أتكلم إلى هاتف، بل أتكلم إليك.. هل أنت هاتف..؟

- لا.. أنا مؤلف، مجرد مؤلف..

- وأنا أمامى هذا المؤلف، وأحب الحديث إليه..

- لم يخبرنى أحد بهذا، لكن هناك شيئا ما فى حياتى، كدت أن أنساه..

رويت لها حينما ذهبت إلى بيت أسرة، اتسم أكثر أفرادها، خاصة النساء، بالبدانة، والأعداد الكثيرة، للاتفاق على شراء شقة ننتقل إليها، حيث صاحت واحدة بفرحة، وهى تضع أمامى صينية المشروبات:

- ما أسعدنا، فى بيتنا مؤلف..

وسرعان ما ترددت الجملة وسط أفراد العائلة، خاصة البنات والسيدات، فانطلقت فرحة فى صورة همهمة، إن فى البيت مؤلف، ليلتها عرفت أن هناك من يحببن أمثالى فى البيوت المصرية، علقت نور:

- ما أسعدنى، فى هاتفى مؤلف..

قلت: ما أغرب هذا اليوم فى حياتى، فى منتصف النهار جاءتنى واحدة حلوة وزارتنى، وفى منتصف الليل نفس الواحدة تكلمنى فى الهاتف..

رددت: أنت غريب..!!

- لا أفهم..

- أنت شديد التواضع.. رغم أنك مؤلف..

- يجب أن أكون على طبيعتى، هل مطلوب من المرء أن ينتفخ، ويـ "تجعبص"، وهو يتعامل مع الناس..

- طبعا.. من حقك..

ضحكت، وعلقت:

- من حقى أن أكون أنا، إذا كانت كلمة "مؤلف" تعنى شيئا فهى أننى فهمت معانى كثيرة للحياة، وأدركت منتهاها..

- ما المقصود بمنتهاها..؟

- العبث... حسب البير كامى..

طلبت منى أن أفسر الجملة، فحدثتها عن البطل الاسطورى الذى تمرد على من خلقه، فحكمت عليه الآلهة أن يحمل الصخرة الثقيلة، فوق ظهره ليصعد نحو قمة الجبل، فتسقط الصخرة، وتتدحرج إلى السفح، وبكل رضاء، ينزل إلى حيث الصخرة ليحملها من جديد، وتتكرر الحكاية، وفى كل مرة يأخذ الأمور بجدية شديدة، ويصعد حاملا الصخرة، كأنها المرة الأخيرة، وينسى تماما أنه عندما سيصل إلى القمة، فالصخرة ستتدحرج حتما، وينزل وراءها، وبكل جدية يأخذها إلى أعلى..

- هكذا نحن الإنسان..

- تفسير غريب للحياة، وهل هناك سيزيفه؟

- كلنا سيزيف، رجال ونساء، لكن الغرائز تنسينا ذلك،  الطموح، الأمومة، مثلا هل أنت أم..؟

بتردد ملحوظ: لا.. ابدا..

- هل...؟

- نعم.. سبق لى الزواج، تجربة قصيرة، لا تكاد تحتسب..

فى المكاملة الأولى عبر هاتفينا الأرضيين، أخفت عنى أشياء كثيرة، لم تخبرنى أن زيجتين قصيرتين عبرا حياتها، احداهما استغرقت عاما، والثانية عدة أشهر، كما تصنعت الفلسفة دون أن تقرأ لأى فيلسوف، وتصورت أن اللعب بكلمات الجمل كفيل أن يجعلنى انبهر بتلك الفقاعات، سألتها:

- أخبرينى من أنت؟

أجابت بسؤال: بل قل لى ما هى مفاتيح..

قلت: أنا بلا مفاتيح.. اتخلصت منها عبر ما كتبته..

- هل الكتابة مدهشة لهذه الدرجة..؟

- لمن يستعذبها، هى أدمانى الوحيد منذ كنت فى العاشرة.. وأيضا التأليف..

- من أين يأتيك الإلهام..؟

- من تجاربى، من كل النساء اللاتى يعبرن حياتى..

أخبرتها أن جوته حول كل تجاربه الحياتية إلى كتب، وان النساء اللاتى عبرن حياته، تحولن إلى بطلات رواياته ومسرحياته، وابتداء بـ "الأم فرتر"، وان الكتابة ظلت تغذى شبابه الذى انصرم.. تنهدت:

- كم رواية كتبت.. أقصد.. كم امرأة أحببت؟

ضحكت عبر الأثير وقلت:

- لا تصدقينى، لا تستحق كل امرأة أن نكتب عنها، بل يجب محو كافة ذكرياتنا معها..

سألتنى: هل أنت سعيد فى حياتك الزوجية؟

- لماذا هذا السؤال..؟

- فضول..

- لم أسل نفسى مثل هذا السؤال، ابدا..

- هل نؤجله..؟

- لا أجد ضرورة فى أن أجيب عليه.. وأنت، هل كنت سعيدة مع زوجك؟

بدت مرتبكة، واستغرقت وقتا للتفكير والإجابة:

- ربما.. لا، بالطبع، عندما أغلق بابا لا أرى بالضرورة إعادة فتحه..

كأنها تبلغنى أنها فتحت بابا جديدا فى حياتها يمكننى الولوج منه مطمئنا، تؤكد أنها اختارتنى ابتداء من اليوم، لتكون لى مكانة فى حياتها القادمة..

فى تلك الليلة، استخدم كل منا هاتفه بشكل مبالغ فيه، على الأقل أنا، فلست من مثرثرى الهواتف، وقد علمنى المحمول أن أكون تلغرافيا مقتصرا فيم أقول واسع، شعرت بالارتياح، حين حولنا المكالمة إلى الهاتف الأرضى، ودار بيننا ما لا أستطيع أن أتذكره، وترك أثره علىّ، وأنا أحاول النوم فى الميكروباص متجها إلى مكتبى، وهناك تمددت نصف ساعة فوق الأريكة على يمين الغرفة، لكننى لم أهنأ بالنوم:

- ألو.. هل أنت فى البيت؟

- فى المكتب.. ألم تنامى..؟

- لا أعرف النوم هذه الأيام..

- كدت أنام..

- ألم تقل أنك فى المكتب..؟

- بلى.. أنا هناك، لا أحب أن أتأخر عن موعدى، حتى وإن نمت على الأريكة..

- آه.. تلك التى إذا جلست عليها أخذتك ونزلت..؟

- هى..

- متى ستغادر المكتب..؟

- سوف أذهب إلى المبنى عندى تصوير..

- ستجدنى هناك.. أتركك لتنام..

وهكذا اتغيرت وظيفة الهاتف، انه يتتبعنى، ويستحضرنى من أى مكان، أنه عين ترى بها أين أنا وماذا أفعل، لم تكن سوى طيف بالغ اللطف، تعتنى بصاحبها، وتضعه محل الاهتمام، فى كل ليلة نبدأ حفل التحاور، اعتدت أن أعيش من خلالها يومين متواصلين، كانت لحظة منتصف الليل دوما بمثابة فاصل بين يومين، وقليلا ما عشتها، بل كم غرقت فى النوم أيا المكان الذى يضمنى، ما ألذ أن تنام بدون أحلام، أو أرق..!

الى أن بدأت الحفلات الماجنة، حسبما أراها، حدث ذلك فور عودتى إلى منزلى، بعد أن مسست عنقها المكتنز، الدافئ، فارتجفت، وسرعان ما نجحت فى تشخيصها، أن جسدها هو أضعف ما تمتلكه، ولا تستطيع السيطرة عليه..

- ألو..

- لم أكن أعرف أنك دافئة إلى هذا الحد..

- أنا مندهشة، كيف حكمت علىّ بهذه السهولة؟

- لكل شىء أوانه.. أين أنت الآن..

- فى غرفتى..

- تناولت عشاءك..؟

- معك، هل نسيت..

- كان هذا منذ ثلاث ساعات، الآن، وقد استيقظت أحتاج إلى الأكل مجددا.. أريد أن التهمك..

وبدأت حفلاتنا الماجنة، كان أول شىء أفعله، أن أضع وضع تسجيل على الهاتف كى يكون هاتفى الأرضى شاهدا على كل ما نقوله، وبعد المرة الأولى، حاولت أن أسمع ماذا قلنا، فاكتشفت أن الشريط الذى يسجل متهالك، وضاعت علىّ فرصة الاحتفاظ بذكرى ليلتنا الأولى معا..

بعد أن مرت بنا الليالى، بشهورها التى تجاوزتنا، وأكلت منا الدهشة، اكتشفت أن كل ما تصورته مسجلا، كان رديئا للغاية، وأن توسلاتها ليلة أن قامت بالدعاء على ابنتى، قد مسحت تماما، بعد أن ضغطت خطأ، ومحوت واحدة من أرق واضعف توسلات امرأة إلى رجل.. صار علىّ أن أغبط هاتفها الذى تكلمنى منه، فهو يراها بعينيه الصماء، ويسمعها عن قرب، صوت وصورة، أنا الذى لم تتح لى فرصة ملامسة ورؤية جسدها الحقيقى، أنها تجعلنى أراها فى الكثير من المواضع الغريبة، كأنها تنتفض داخل غرفتها، تتصرف كشخص آخر لا يكاد يعرف أحد، تبدو مختلفة تماما عن المرأة الوقور التى تمشى بين الناس، أقرب إلى كيان منكسر، لا تحدق فى أى شىء، وعندما تتكلم تبدو خفيضة الصوت..

شعرت بالغبطة أحيانا تجاه هاتفها المحمول، وأحيانا بالحسد، فهو يحصل منها على ما لم آخذه، أو أشاهده قط، انتابتنى أحاسيس جديدة، عندما صار لديها رقمان كانت تتناوب عليهما، حسب رغبتها فى الاتصال بى..

وعرفت فوائد أخرى للهاتف، يتحول إلى ماخور شفاهى، لو أردنا ذلك، وهو يتناسب مع السيدات الفاضلات فى تفريغ ما لديهم من شحنات متقدة، دون أن يطرق على زجاج سيارتك أو بيتك رجل شرطة، لعله يريد إكرامية كى يتركك فى حالك..

حالى.. يا إلهى.. نحن نترك فرصة للمتصنتين، أيا كانت هويتهم، أن  يمسكوا علينا ما ننطق به صوتا، وتأججا، ويمكن فى أى لحظة، وعند الضرورة، إخراج تسجيلات تفضح ما يفعله متصفوا الشرف والفضيلة، لم يمنعنى الشعور بالحذر، والخوف أن أغوص فى بحارها الساخنة، عند الشهوة تتوه العقول، فليحدث ما يحدث، رغم أن وزيرا للداخلية هدد واحدة من زميلاتى يوما أنه سيجعلها تسمع ما كانت تنطق به فى الليل، لم آخذ حذرى، ولعلهم يحتفظون بأصواتنا إلى الأبد..

أوجدت تبريرا أن أحتفظ لنفسى بتسجيلات لما نصرفه ونفرغه، طالما أن هناك من يعاقبنا ويسجل لنا.. لم أود أن أفاتحها فى وسوساتى، لكننى سمعت أحدهم يقول:

- هناك أجهزة حديثة، تجعل جيراننا يسمعون من خلال أجهزتهم ما نتكلم به.. فيعرفون أسرارنا..

نحن لا نتكلم، بل نصرخ، نتأوه، وترتفع الذروة بنا، لكن أجهزتى التقليدية، المتهالكة دوما، تلفزيون، كومبيوتر، هواتف، لم تتمكن أبدا من معرفة أسرار الجيران، خاصة ما يدور فى الهواتف المحمولة..

الآن، صار عبئنا بالنسبة لىّ، بعد أن قالت جملتها، يطلبنى، كأنه يلح أن أجيب، يعنى هذا أن أسمى الجملة، وأن أتسامح وأبدأ من جديد، أن نعطى لنفسينا فرصة جديدة، للتواصل، واللقاء، ثم الخروج إلى المطاعم، والنوادى التى نحمل عضوياتها، وأن نتخذ أماكننا القديمة أسفل الأشجار كى نتحدث تحت أضواء المصابيح لساعات فى الهواء الطلق، نطلب وجبات خفيفة دون أن نكف عن الثرثرة، تعلمت معنى مختلفا لمصطلح المضاجعة، أنه التلاحم بين شخصين فى أشياء عديدة، أهمها تلامس الكلمات، وتوحدها بين شخصين، كان يلذ لىّ أن أستمع إليها دون انقطاع، سواء فى الهاتف، أو فى الأماكن التى تجمعنا، خاصة النوادى واسعة المساحات، يبدو أن كل هذا ضاع منا عقب تلك العبارة التى لا يمكن احتمالها، أو غفرانها والتجاوز عنها..

أى رد فعل يصدر عنى، يكشف كيف صرت فى أيام "نور"، فأنا مهدد بأن تكرر الجملة، وما هو أشد قسوة منها، لو تنازلت عن صدمتى، كما أننى مهدد بأن أخسرها إلى الآن، لو ظللت على موقفى، ولا شك أن فى كلا الأمرين خسارة فادحة، وكانت الحصيلة أن:

- آلو..

نطقت باسمى عبر الهاتف، سمعته بصوتها المميز الذى أفضله، وقبل أن تعتذر:

- لا داع.. لا أريد المزيد..

ران الصمت بيننا، كلانا حذر أن يكمل كلامه، أو لعلها تتنهد مثلى أن اتصالا حدث وأن علينا أن ننتظر طويلا قبل أن يجد أى منا الكلمات الأنسب لنقولها بعد الصمت والتوقع.. قالت لى:

- أنت..؟

- نعم.. أنا "كويس"، على ما يرام..

- هل تناولت عشاؤك..؟

ارتبكت، فهمت معناها، هززت رأسى بالنفى، دون أن تسمع صوتى عبر هاتفها.. قالت:

- مودزريللا..

وجدت نفسى أبتسم، قالت بكل ثقة:

- أراك.. تبتسم.. افتقد هذا الوجه.. هل تعرف أكثر شىء شعرت بافتقاده هذين اليومين.. استطردت دون أن تسمعنى، أنها تحتاج أن أكون أمامها، أناديها بدون تكليف بكلمات المزاح والشتيمة: "ياعبيطة"، يا "هبلة"، "أنت يابت"، قلت بدون تصنع:

- فاك يو..

صرخة بفرحة: لا، قلها بالعربى.. أريد أن أسمعها باللغة العربية..

كررت الجملة كما نطقتها، وأنا أشعر برغبة شديدة أن أضاجعها أيا كانت اللغة التى تفعل بها ذلك، فهى فى كل الحالات ممتعة، وشهية، لكنها تفضل دوما أن تفعل ذلك، عبر الهواتف، بلغتنا الشوارعية.. إنها تتلذذ أكثر، وهى تلح أن أفعل، تسربت منى كل قواى واختلطت اللغات التى بيننا، والهواتف ترتفع درجات حرارتها فيما بيننا، فى هذه المرة، أحسست بفائدة المحمول، فهو يجعلنى أتحرك بحرية فى المكان، وأن أشدها معى إلى حيث أذهب، غلبتنى رغبتى دون التفكير فى أى من المعانى التى تعلمناها: الكبرياء، الصفح، البدء من جديد، أطفأت كل أضواء الشقة وصرت معها، تربطنا الهواتف، وتتأجج حواسنا، نسيت ابنتى، وكل ما يخصنى فى الحياة، وصار لدىّ هو واحد، أن استمع إليها تتأجج، واقذفها بشائمى، واستمع منها إلى كل ما هو غير مستباح خارج غرف النوم، وباللغة العربية، فقط من ناحيتها، أما أنا.. لغة عربية..

ابدا.. هذه ليست اللغة العربية، ولو فعلنا ذلك بهذه اللغة، فالأمر سيكون مضحكا تماما، مثلما كان يقول عبد المنعم مدبولى عن هذه اللغة، لو استعملناها فى المسرح الكوميدى..

ترى هل جرب واحد منا، نحن العرب جميعا، أن نستخدم مفردات اللغة فى أوقات المضاجعة، سوف يولد هذا مشهدا رائعا يثير الضحك..

لا، هى ليست لغة عربية..

إنها لهجة العامة..

لهجة خاصة تختلف بين كل ثنائى، لها مفرداتها شديدة الخصوصية، يجب أن تتجدد عبر الزمن والخبرة، والممارسة، أما اللغة التى فضلت أن أمارس بها، فهى غريبة عنى تماما، لكننى استعذبتها تماما، ولم أخرج عنها طوال تلك الأمسية..

بعد أن غسلت جسدى تحت الدش، صففت شعرى جيدا ونزلت بملابس الشتوية لا نتظرها فى مكاننا المعهود، فوجدت سيارتها، فتحت الباب، وكان أول شىء، فعلناها هو أن ضغطت على أصابعها المكتنزة بمودة، فور جلوسى إلى جوارها.. قالت:

- افتقدك..

- وأنت.. واحشانى.. ياحمارتى..

- أتحب أن تركبنى يا ولد..؟

- بل أحب المودزريللا..

* * *

فى قصص الحب، إياك أن ترد لحبيبتك جملة "سأهجرك يا بطة" او مفرداتها، مثلما ردد فريد الأطرش لحبيبته فى فيلم "بلبل افندى"، فالمرأة لا تحتمل هذه الجملة بكل معانيها، وتبعيتها، وسوف تبذل كل ما لديها من حيل كى تصالحك، وتعود إليك منتصرة فى صورة المنهزمة، وعندما ستحس أن شيئا ما انشرح فيما بينكما، فسوف تنسحب بكل كبرياء، وفى الوقت المناسب، بعد أن تكون أمسكت بكافة خيوطك، وستتولى هى قطعها، الخيط تلو الآخر، وعليك أن تطاردها، وتهرول خلفها، وتطلب رقمها مرارا، فقد اتخذت قرارها بأن تنفصم عنك، وتنسلخ إلى عالم جديد، ولن تعود إليك أبدا، ابدا، حتى ولو بعد أربعة عشر عاما، وأنت راقد فوق سرير مستشفى، وقد قصت أجنحتك كلها، فلم تعد صالحا، لا للعشق، ولا لاستعادة ذكرياتك، أو حتى للكتابة عنها..

ترى هل كانت "نور" هنا منذ قليل، تقف وقد تملكتها الشماتة، وهى ترانى على هذه الصورة، تمد لى بالفلاشا، قبل أن تختفى..

لا أعرف الإجابة، سوى أن هناك فلاشا بالفعل، موجودة الآن تحت الوسادة البيضاء، لم أفتحها بعد، غير واثق أننى لو وضعتها على جهازى فسوف اقرأ الرواية التى زعمت أنها كتبتها عنى..

يعنى هذا أنها ظلت تتبعنى طوال السنوات، حتى قرأت خبرا عن مرضى، ولا أعرف كيف عرفت عنوان المستشفى، لكن أذكر بالدفء، أننا تلاقينا هنا، أسفل المبنى، منذ سبعة سنوات، حين ذهبت للعزاء فى زميل لنا، رأيتها خارجة من دار العزاء، وتقابلت عينانا، فى تلك الفترة كنت فتأكدت أنه لا عودة لنا قط، شاركتهما فى تقديم واجب العزاء لأهل زميلها، الذى كان صديقا لى.. لم يستغرق الأمر سوى زمن لمحة العيون التى تقابلت ثم نظرت إلى مكان آخر، هذا المكان جمعنا من قبل، بشكل مختلف، ومن السهل عليها أن تأتى.. اليوم..

هذا إذا كانت قد أتت بالفعل..

طوال سنوات، طاردنى الهاجس أننى قد أقابلها مصادفة فى أى مكان أحسست بها أسفل تنورتى، كأنها تتبعنى دون أن أدركها، وأحسست كثيرا بالرضاء أنها موجودة، تبحث عنى، رغم عندها الشديد، إنه لا عودة، قط..

يالها من امرأة بلهاء..

ذات يوم، فى أسابيعنا القليلة، كنا قد اختلفنا معا، وتوقفنا عن اللقاء، والحديث فى الهواتف، وبدأت اعتاد على وجودها خارج حياتى.. وفى البهو الرئيسى للمبنى، هىء لى أنها موجودة، كانت هى بالفعل، تتحرك فى اتجاهى، بطريقتها المميزة فى المشى، كأنها البطة، التقت عينانا مصادفة، وسرعان ما حولت عينى إلى اتجاه آخر، بعد أن خيل لى أنها القت علىّ التحية، فلم أعبء بها..

جاءنى صوتها بعد خطوات أبعدتنى عنها، يمكننى أن أميز صوتها بين كل البشر، التفت إليها، تلتفت نحوى، قالت دون أن أتحرك من مكانى:

- أقول لك مساء الخير..

حاولت أن أتوازن، كان هذا هو الاتفاق المهم فيما بيننا، ذات يوم، لو فرقت بيننا أى ظروف، وتلاقينا لأى سبب، فلابد أن نتبادل التحية، هكذا يفترق العشاق، أصدقاء، إنها تفعل ذلك الآن، تقوم بتحيتى، رغم أننا فى المرة الأخيرة تصرفنا كأننا سنصير غريبين من الغد..

هززت رأسى بما يعنى: مساء النور..

سألتنى: أنت "كويس"..

قلت بلامبالاة: كما ترين.. هل عندك شغل الآن؟

ردت: فى الساعة الثانية.. هواء.. وأنت..؟

أجبت: سأعود إلى بيتى..

أمسكت يدى ثم أكلقتها، وسرت إلى جوارها..

- لا داع.. انتظرنى فى الدور العاشر..

- لكن..!!

- انتظرنى فى العاشر.. يجب أن ألحق الاستوديو..

- هل سأنتظر طويلا..؟

- انتظرنى فى العاشر..

لم أفهم ماذا تقصد، ولا ماذا تريد، ودون تفكير، وكأنها تمارس علىّ السحر، توجهت نحو المصعد، ثم التفت لأراها تقف فى صف المنتظرين أمام المصعد الآخر، ولم أصعد إلى الدور العاشر مباشرة، وجدت نفسى أقوم بجولة بين الأدوار التى تقع فيها محطات الإذاعة إلى أن سمعت نداء الهاتف:

- أين أنت.. هل عدت إلى بيتك..؟

- لا، أنها هنا.. هنا..

-  أعرفك، أول من يجرى..

- أين أنت..؟

- فى نفس المائدة، هل أطلب لك غذاءك؟

- هل طلبت..؟

- أعرف أنك ستتخلى عنى، وتعود إلى دارك..

- أطلبى لى ما تريدين، وسأكون عندك..

هذه المرة، انصعت إليها، صعدت إلى الدور العاشر، افتقدت المكان، وموائده، وأطباقه، والعاملين به، ومشهد النهر من أعلى البناية، ظللنا حتى غربت الشمس..

هكذا صرنا، بعد أن كنا، إذا أرادت أن تطلبنى للمصالحة، سرعان ما تجدنى، واستجيب لها واتصرف كأننا لم نختلف على كلمة واحدة..

بدأت فى إثارة المتاعب بطلب بدا لى بالغ الغرابة:

- ألم تفكر فى إنك لم تقدم لى هدية، ولا مرة واحدة..

نبهتنى إلى شىء لم أفعله، وأصابتنى الحيرة، فلا أعرف بماذا أهديها، وأنا الذى لا أجيد التعامل مع أسواق الهدايا، لا أعرف مقاساتها، ولا الألوان التى تحبها، وأخشى أن أشترى لها ما يكون ضيقا عليها..

لكنها سرعان ما حددت:

- وردة.. وردة واحدة.. لا أكثر..!

- حاضر، ما أكثر الورود فى المدينة..

- وردة بيضاء.. لا تنسى..

ونسيت، خلتها تمزح، أنا الذى لىّ قناعة أن الناس يمكنهم البقاء على قيد الحياة، بالورد أو بدونه، ترى هل لعب الضمور الطبيعى فى حاسة الشم بأنفى دورا فى ألا أشعر بأهمية الورود، والزهور بشكل عام فى علاقات العشاق، بعضهم ببعض، وخاصة أن فى عيد الفالانتين تمتلئ المدن بباقات الزهور المتبادلة بين العشاق، ويبدو أننى ارتكبت خطأ فادحا، فاستغلت خلافا آخر، وقالت:

- ألم أقل لك أنك لا تكترث بى، ولا بما أطلب..؟

كنت قد نسيت تماما مسألة الورد، توقعت حالة من تعكير الصفو:

- وعدتنى بالورد، وانتظرت طويلا..!!

عندما ينتابنى الإحساس إننى أخطأت، أحاول مداراة الأمر، وتزداد وعودى، وتكثر، وفى ذهنى أننى استجيب، وربما لن أحضر لها ورودا قط.. قلت:

- خذينى بالسيارة إلى أقرب بائع زهور..

قالت بحزم ملحوظ: بل خذ سيارة أجرة، وأطلب من السائق أن يذهب بك إلى المحل، وتعالى فأنا انتظرك..

علقت: اعتقد أن بكائى إلى جوارك أهم من أن أضيع وقتى فى البحث عن أكشاك الزهور..

مطت شفتيها، كأنها تقدر حالتى:

- كما تشاء.. حسب رغبتك، لكننى أريد وردة..

ترى هل كان عدم شرائى أى وردة وتقديمها إليها، سببا فى أنها أحست أن بيننا مسافة عاطفية شاسعة، وأننى لا أقدر عواطفها كما ينبغى.. ربما..

لكن، بلا شك فإنها اتخذت موقفها الحاد بالتدريج الشديد، وبدأت كأنها اكتشفت مدى ما فعلته من أجلى دون أن تحصل علىّ بشكل رسمى، حسبما تريد، أن أنتظرها عند باب منزلى وقد تخليت من أجلها عن كل حياتى.. وأذهب معها إلى حيث تريد..

لا أعرف أن كان صحفى عنها، أو انسياقى إليها، أو تناسى جملتها ضد ابنتى، قد ساعدوا فى أن تقرر أن تبتعد تماما وتخرجنى من دائرتها تماما، انتقاما منى، أم ربما كى تتخلص تماما من أمر يؤرقها، أم لعلها فعلت شيئا مؤكدا ومنتظرا، لن تلفظنى تماما مثلما فعلت مع رجالها السابقين، على الأقل منهم رجلين تزوجتهما بشكل رسمى..

وانقلب السحر على صاحبه، وتكرر لقاء بهو المبنى بعد أسابيع، بالمقلوب.. كان المكان مزدحما برواد معرض للكتاب، ومن السهل أن تجد أمامك وجها تعرف ملامحه جيدا، يأتى من الناحية المقابلة، فلا يمكن أن تتجاهله.. ما أغربنا حين نصير غريبين، كأنما تسأل نفسك عن هذا الوجه، أين رأيت صاحبه آخر مرة:

- "نور" كيف حالك؟

بدا وجهها غير مألوف تماما، كأننى لم ألمسه من قبل، فى السيارة، والنادى، وكأننى لم ألمس الشفتين اللتين بدنا مكممتين، لم ترد، ولم تهتز أجفانها، ومرت من أمامى.. تذكرت مقولتى الأخيرة لها أنه ليس فى الحب احساس بالمهانة، وأننا لو تقابلنا، وتصافحنا، فهذا ضمن أحد مطالبها "أن تستمر صداقتنا، لو افترقنا"، التفت إليها، وسط الزحام، حاولت أن أجدها، مرقت بسرعة دون أن تلتفت قط، واختفت..

كان من الممكن أن أبحث عنها، أن ألحق بها عند أبواب المصاعد، لكنها بدت مصرة، وهذا أول دليل أنها قررت أن تعاملنى مثل رجالها السابقين..

نعم، رجالها، هناك اثنان منهم بأوراق رسمية، وشخص ثالث ألمحت بوجوده، تعرفت عليه قبل أشهر من لقاء الدور الرابع، رفضه أهلها بشدة، دون أن تذكر السبب.. لم أسألها عن التفاصيل لكنه امتثل فى ذاكرتى، وأنا أتردد فى أى أغلق باب شقتى، وأرمى المفتاح من أعلى السلم، وأنزل إليها حيث تنتظرنى فى سيارتها، كى تأخذنى إلى أسرتها، فيرفضوننى بكل فخر: لا تتزوجى رجلا متزوجا، فأقسم لهم أننى تركت العالم كله من أجل ابنتهم، فيظلون على مواقفهم، ويصبح علىّ أن أعود إلى بيتى ابحث عن المفتاح الذى رميت به من أعلى، فلا أجده، وأظل أبحث عنه بلا جدوى..

تتراكم الأشياء فوقنا، وأطلبها فى الهاتف بعد تردد.. يطول الرنين بعد أن كانت ترد عقب رنتين على الأكثر، ثم يتحول الهاتف إلى كتلة شديدة البرودة، مثلما كان فى يوم سابق شديد اللهيب، ما دفعنى أن أحس أن هذا الرقم صار عبئا علىّ، وأنه زائد فى القائمة، لا فائدة منه، فنقلته إلى وريقة صغيرة دسستها وسط أوراقى الكثيرة، وكتبت إلى جواره اسما مستعارا "جابر أبو العلا"..

ترى هل انتهت الرواية، وهل تمت كتابتها، وشاركتنى فى صياغتها الأشياء التى كانت حولنا، شاهدة على ما قلناه، وفعلناه، لم يكن فى القصة غالبا سوانا، أنا وهى، وهل يمكن اعتماد الصفحات المكتوبة كنص روائى، لا يتضمن أشخاصا إضافية، ولا أحداثا زائدة، ويمكن الاكتفاء بما حكيناه، ويمكن أن أفتح هذه الفلاشا التى دسستها أسفل الوسادة، واستكمل الكتابة، من المهم أن أعرف ماذا كتبت عنى، ولا ماذا قالت كى تضيفه إلى اعترافات الأشياء..

مددت يدى أسفل الوسادة، بحثا عن الفلاشا، لكننى تراجعت، فليس معى الآن كومبيوتر، وقد يستغرق احضار اللاب توب بعض الوقت، ربما يوم أو أكثر، لذا فلم لا أترك الفلاشا مكانها، خاصة أننى لست راضيا كمؤلف عن ما كتب، ولا عن الشهادات الناقصة التى ذكروها هنا، فليست هذه هى الأماكن الوحيدة التى ذهبنا إليها، وقد راعى الهاتف المحمول اللياقة، فكتب بموارة شدسدة، ولم يذكر أى تفاصيل حول ما كان يجرى بيننا بعد منتصف الليل، فذكرياتنا موجودة فى أماكن عديدة، يمكن أن تحكيها النوادى التى ذهبنا إليها، والشوارع التى جمعتنا، وعدد كبير من المطاعم المزدحمة بالزبائن، أو التى خلت لنا وحدينا، كما أن بعض الاستوديوهات شهرتها وهى تأتى لترانى ضيفا فى بعض البرامج، يجب أن تروى "نور" الكثير من الأحداث بلسانها، لقد دخلت فى غرفتى فجأة، ثم اختفت وتركت لى الفلاشا، بعد أن أظهرت شماتتها القديمة التى تجددت:

- كل يوم أنظر إلى لوحات الإعلانات عن الوفيات أمام المصاعد، وأنتظر أن اقرأ اسمك..

فى ذلك اليوم ضحكت، دون أن ينتابنى الذهول مثلما حدث عندما تمنت الموت لابنتى، وبكل قسوة، فهى تريدنى أن أظل لها حتى الموت، وأنها لن تشعر بارتياح إلا إذا تمت إزالة اسمى من الوجود، وصار مثل مئات الأسماء التى ينشر عزائها فى وريقات، لن تلبث أن تتساقط من مكانها فى آخر النهار، إنها تتقصى أخبارى، وتبحث عنى، وزيارتها الآن دليل انها تطارد ذاكرتها بحثا عن أخبارى، فى الصحف، فهى ليست موجودة أبدا على "الفيس بوك" وكم بحثت عنها لفترات طويلة فلم أنجح، هكذا هى "نور" تميل إلى العزلة، ولا تكاد تذكر اسماء من تعرفهم بكلمات المديح، تؤمن أن الجميع ملوث بالخطايا وهذا شىء مهم..

يجب أن استحضر كل من يعرفونها كى يستكملوا كتابة الرواية الناقصة، التى من الصعب استكمال تفاصيلها، ألم أذكر فى المقدمة، أن عمود الكتابة مثل هذه الرواية هو التفاصيل، لكن من الصعب أن نكتب كل التفاصيل، وعلىّ إما أن أكتبها كلها واحتفظ بها فى مكان آمن، أو أدفنها معى فى مقبرتى، كى أتمكن من قراءتها كلما حاولت استرجاع أيامنا وليالينا، لكن ترى هل ستتمكن عظامى من قراءتها، وهل أطلب ممن سيقومون بمواراتى التراب أن يضعوا تلك الأوراق داخل كفنى الذى اشتريته منذ أسابيع، واضعا فى حسابى كل ما يجب أتخاذه عند رحيلى، حاملا معى الذكريات التى كان يجب تسجيلها حتى لا تموت..

لكن الرواية لم تكتمل بعد، يجب استحضار أشياء أخرى، نسألها عن المزيد من التفاصيل فأنا الآن، لست سوى مؤلف سابق، يرقد فوق فراش المرض، ربما هو الرقاد الأخير، يضعون لى المحاليل، ويأتوننى بالعلاج والغذاء فى ساعة محددة، استمع إلى صوت الشارع البعيد وغير قادر على القراءة، أو الاستماع، تبدو قنوات الأفلام باعلاناتها فى التلفزيون كأنها تذكرنى بأشياء كثيرة، مرت فى حياتى من بينها "نور" التى تلاشت من ذاكرتى منذ أكثر من عشرة أعوام، وما كان لى أن أذكرها لولا أنها دخلت من باب الغرفة، واستعرضت نفسها، ونطقت بضع جمل، ورمت لى بالفلاشا قبل أن تعود من حيث جاءت..

لم أتحقق بعد من الحضور والغياب، ولا أستطيع التأكد أنها جاءت ثم ذهبت، لكن يبدو أن هناك رواية تحاول أن تستنهض من الزمن القديم، وأن تكتب نفسها، تحاول أن تدخل فى منافسة مع الرواية المزعومة الموجودة فى الفلاشا التى كتبتها "نور"، لن أقرأها ولن أحضر اللاب توب قبل يوم أو أكثر..

فشلت فى أن يستغرقنى النعاس، رغم كل المحاولات التى أبذلها كى أنام، أقوم بعدّ كل الأفلام التى شاهدتها لمحمود يس، وعادل إمام، واسماعيل يس، وشون كوزى، أو أحاول احاصء الأفلام التى فى عناوينها كلمة "حب" : "حكاية حب"، "شارع الحب"، "نهاية حب"، "حب إلى الأبد"، "الحب الكبير"، "الحب قبل الخبز أحيانا"، "حب فى الظلام"، "ليالى الحب"، "نهر الحب"، "أيام الحب"، "وعاد الحب"، "أيام بلا حب"، ة"الحب ألاخ........خ....خ.....

لكننى سرعان ما أنتبه، فشلت المحاولة، يجب أن أختار كلمة أخرى، وانشغل بها تماما، وأعد كل عناوين الأفلام التى بها كلمة غرام، إنها كثيرة للغاية، وقد جربت اللعبة من قبل، عندما يصير من الصعب على قصة أى فيلم، وأحيانا مسرحية، أن تأخذنى إلى ساحات النوم، أيا كان موقعها: "غرام الاسياد"، "غرام الأفاعى"، "موعد غرام"، "غرام فى أغسطس"... غرام... غرام... لا، لن أنام....

يجب أن أعد أشياء أخرى، أكثر قدرة فى أن تجعلنى أنام، وأن أشركها معى فى تأليف الرواية، ربما أنسلى وأنام، كم أحب التفاصيل، وحكايتى مع "نور" بها الكثير من المنمنمات الصغيرة..

أخذتنى هذه المرأة الصغيرة فى بداية أيامنا معا، إلى أماكن كثيرة، ذهبت إليها لمرة واحدة أو مرتين، خاصة النادى الواسع فى أطراف المدينة، دفعت لى ثمن تذكرة دخول "زائر"، ودخلنا..

فى هذه الأوقات من العام، ورغم الجو المنعش، فإن هذه النوادى تكاد تكون خاوية من الأعضاء، فالأهالى منشغلون بالامتحانات، والعواجيز مع بداية المساء يفضلون العودة إلى الديار، للجلوس أمام التلفزيون، وربما الكومبيوتر، جمعتنا مائدة خشبية إلى جوار سور الكازورينا، يكاد يحجبنا عن العالم من حولنا، قلت:

- عندى تصور دائم أن أعضاء هذا النادى من علية القوم..

علقت: الأمور أختلطت، لم يعد هناك حواجز بين الناس..

قلت: لا، بل يصنعون لأنفسهم الآن أماكنهم البديلة، فى الساحل الشمالى، وفى المولات، وانشأوا لأنفسهم مدنا جديدة، ذات أسوار، وبوابات..

هزت رأسها، ووافقتنى على رأىّ، عرفت أن أسرتها عاشت سنوات طويلة فى إحدى الدول القريبة، وأن الأب مات هناك، ودفن، قبل أن ترجع الأم إلى مسكنها القديم، وبحث الأبناء عن وظائف، وحياة مختلفة..

بدا أن النادل يود تقديم كافى ما لدى الكافتريا من طعام وشراب، حتى لا يبقى لديهم شىء لليوم التالى، وحرص أن تكون الشطائر ساخنة، واكتشفت أن لذة الأكل تتضاعف عندما تتناوله فى مكان جديد، ومع شخص تحاول اكتشافه، ورغم امتلاء جسدها،الى حد ما، فإنها لن يكن تميل إلى الإفراط فى الأكل:

- هل أنت سيدة مطبخ..؟

ابتسمت قالت: تقصد هل أنا طباخة ماهرة.. ماذا تفضل..؟

بدت كأنها تضعنى فى مكان تختاره لنا معا، أن يكون لنا مطبخ مشترك، أى منزل واحد، أنها تجهزنى كى أقترن بها، رغم أنه لم يمر سوى ثلاثة أيام على خروجنا للمرة الأولى:

- البعض يفضل الطباخ، والبعض يحب المطبخ..

ضحكت، وقالت:

- أمى حاولت أن تعلمنى.. ولا زالت..

نظرت إلى المرأة التى أخرجت كيسا من القماش من حقيبتها على مقعد مجاور، وبدأت فى إخراج الشطائر والمشروبات، وهى تقدمها إلى زوجها الذى مد يده نحوها كأنه يطلب منها أن تنتظر، وفهمت بعد قليل أنه كان ينتظر حضور الشاى الساخن، وجدت نفسى أحاول إعطاء جلستنا معا بعض المذاق:

- ستغيرين حياتى.. يبدو..

علقت: ولماذا يبدو.. هل أنت متردد؟

- ابدا، أبدا.. أنا متأكد..

امتلأت كلماتنا بالإطراء، والترقب، والأمل، وكنا قد وضعنا حروفا فوق بعض الكلمات، لكن ليست كل ما ننطلق به يمكن أن يصبح تعهدا..

عندما عندنا بعد عدة أشهر طويلة إلى نفس المكان، كانت هناك صواعق عديدة عصفت بنا، وكهربت علاقتنا، ةقبل أن نغادر المائدة نفسها، قالت:

- تذكر دوما أننى كنت أجمل شىء فى حياتك..

وبكل ثبات:

- وأنت.. أيضا تعرفين أننى أهم شخص فى حياتك..

ردت: وأفخر..

وعلقت: وأنا أيضا.. أفخر..

وغادرنا النادى، دون أن نعود إليه، رغم أن هذه لم تكن الجمل الأخيرة بيننا.. وهل هناك كلام كان ينتهى بنا، دائما فى فترة ما، كنا نعود إلى نقطة البداية تقريبا، ورغم أننى أتصرف على سجيتى، وأندفع غالبا بما لا يليق، فإننا كنا نعود، ونبدأ كأنه لم يحدث شىء..

وهل أنسى المرات الثلاث التى ذهبنا فيها إلى النادى، وجلسنا قريبا من النادى الاجتماعى، فى ممشى طويل، بعيد عن البشر، فى أيام ربيعية، يبدو النادى كأنه مخصص للأشباح فى ذلك الوقت من العام، وصلنا إلى مكاننا المختار فى الثالثة ظهرا، وغادرنا فى المرتين حوالى التاسعة ليلا، بدا النادى كأنه مجهز لنا كى نقول فيه، ما نشاء وكى نشعر بلذة الاستماع، لم يحرص أى منا على إظهار الوجه الماجن بداخلنا أمام الآخر، فلكل مقام مقال، وهنا لا نعرف فيماذا نتكلم، لكن العبارات تقول نفسها، ولا تخلص الكلمات، وأن كانت تتناثر، نبدو كأننا نعيش فى عالم واسع للغاية، رغم أنه محدود، تحاشيت أن أكلمها فى تلك الفترة عن حياتى الخاصة، ولا عن عملى، أو نفسى، لا أميل كثيرا إلى استخدام الـ "أنا" أو تضخيمها، ولم أعبأ بأن هناك رجالا آخرين سبقونى فى حياتها، لكننى أدركت كم أن أسرتها تتسم بالمحافظة، وأنهم يريدون لابنتهم "السترة" فى المرة الثانية ونحن نشعر ببرودة دخول المساء قلت:

- لو كنت وحدى هنا، وسط هذا الجو لشعرت بالبرود يسرى فى جسمى.. أنت دفء لىّ..

لم ترد، نظرت الىّ، لمحت عينيها تشعران بالامتنان، والغروب يزحف على وجهها، فلا أتمكن من التدقيق..

- اعترف أنك غيرت حياتى..

وبكل ثقة:

- وأنت.. شىء مهم فى حياتى..

- وأنت أيضا..

- لا أميل إلى الإطراء.. اتفهمين؟

كنا نردد الكلمات بلا حواجز، ودون مراجعة، علمتنى بكل قدراتها أنه لا حياء فى العلاقة بين امرأة ورجل، ما جعلنى أشعر بندم شديد أننى لم "أفرم" جسدها، لكنها كانت تحصن نفسها ضد ضعفها، الذى رأيته فيما بعد مرضا من الصعب الشفاء منه، لذا أصرنا نقول فى كل مكان، ما لا يتصوره أحد، كلمات ماجنة، وجرأة بلا حدود، وسباب يؤكد مجون كل منا فى لحظات بعينها، يتم تخفيفه وأنا أضيف كلمات بعينها وأنا أناديها، أو حين أمازحها، فعلنا ذلك لأول مرة فى النادى الثالث، الذى استضفنا، أغرانا المكان الذى جلسنا فيه، والفراغ الهائل الذى حوله الأمن خفيف الأشجار ان أسألها عن ألوان ملابسها الداخلية، وهنا بدأ جانب آخر منها، رفضت، بإصرار شديد، فليس هذا مكان لمثل هذه الأسئلة، ورغم إلحاحى، فإنها لم تشبع فضولى وقالت:

- كفاك مراهقة..

أصابتنى بشبق وهى تتمنع للمرة الأولى فى حوارتنا، وعندما كررت ملحا، كانت اجابتها:

- من فضلك، لا داع، لا أحتمل..

واحترمت ارادتها، وسرعان ما تراجعت، رغم رغبتى الشديدة فى أن أراها وجها لوجه وقد انتابتها الإثارة، ففى السيارة قد لا أتمكن من رؤيتها سط الظلام، أما هنا فالأمر يختلف، تحت ساقطات الضوء، بدأت تحكى لى عن المتاعب التى يسببها لها صوتها فى برامج الهواء الليلية، حين تكون فى نوبة عمل..

"هل تعرف متاعب شخص مثلى، دائما ما تكون نوبات عمله فى الليل، حين يتصيدنى، صائد النساء، كأننى عاهرة، عليهم الانفراد بها، رغم وجود طاقم، الهندسة الإذاعية أمامى، يحجزنى عنهم زجاج سميك، يروننى، إلا أن ذلك لا يمنع الفضوليون من التدخل لدرجة أن واحدا منهم أخذنى فى هاتف الاستوديو أنه يتابعنى منذ أشهرا وأنه صار مدمنا لسماع صوتى، وقال:

- آه لو تعرفين سحر هذا الصوت..

شكرته بكل لطف، قد أحسست أن فى اطرائه غرض ما، وسرعان ما أشرت إلى مهندس الصوت أن يفصل الاتصال، ففعل، وبعد فترة عاود الاتصال، وقال:

- أنا من أشد المعجبين بإذاعتكم، وأيضا برنامجكم..

سألته عن اسمه، ووظيفته، فأبلغنى باسم مغاير لما ادعاه فى المرة السابقة، تظاهرت أننى لم أتعرف عليه، ودخلنا فى مناقشة حول موضوع الحلقة، وقال كلاما ما بليغا، يخلو من المعنى تماما وحيانى، ثم أنهى الاتصال..

تصورته واحدا من الذين يستعين بهم المخرج للاتصال بالبرنامج، ما يوحى أن برنامجنا مسموع، لكنه عاد مجددا قبل نهاية الحلقة، بصوته الطبيعى الذى تكلم به فى المرة الأولى، وراح يعاتب البرنامج، موجها المسؤولية علىّ، لأننا انهينا الاتصال به، وهو المواطن صاحب الشكوى الذى يريد توصيل كلمته إلى صاحبها، تركت له الفرصة أن يتكلم كما يشاء دون أن أعلق على كلماته، ما يوحى له أننى غادرت الاستوديو حتى تحين نهاية الحلقة، وما إن انتهى حتى ختمت الحلقة وذهبت"..

فى ذلك المكان روت لى حكايات الذين يدخلون مباشرة معها على الهواء، إلا أنها تضررت كثيرا من هذا الفضولى الذى راح يطاردها، رأى أن فى صوتها جاذبية بلا حدود، وبدا مع الليالى كأنه مجنون صوت "نور"، أو مهووس بصوت "نور"، فكان يعاود الاتصال بها، وصار عليها أن تبلغ الأمن، كى يتصرفوا.. لم تعرف ماذا حدث، لكن يبدو أنه استحق درسا، وناله إزاء ما فعله..

فهمت ضعفها، وأنها لا تمتلك فى نفسها شيئا، أنها رغبة تنتابها، عليها إشباعها مع جسدها، وما إن تتلاشى، حتى تتكوم من جديد، هى مرتبطة بوجودها وحدها فى غرفتها، وقد أغلقت كل النوافذ، والأبواب، وأسدلت الستائر، حتى لا ترى إلا نفسها، وأنه يجب التعاطف معها، لذا لم تتكرر المحاولة، كان لدينا الهاتف نفعل من خلاله ما نشاء، تعمدت أن نكون على سجيتنا حين نكون فى الأماكن المفتوحة، ورثيت لحالها، ولمصيرى السىء، لو صرت قرينا لها، فلا شك أننى لن أحتملها أكثر من يومين، وسوف ترمى بى عند باب منزلها، كى أعود خائبا إلى بيتى الذى رميت مفتاحه من أجلها..

ترى هل هذا هو حالها حتى الآن، وكيف عاشت لياليها طوال الأعوام التى قضاها كل منا بعيدا عن الآخر، هذا النوع من البشر، لا يستطيع معالجة أمراضه، بقدر ما يحاول إشباعها، ومن المؤكد أنها تصرفت، أو لعلى أظلمها بشكوكى فيها، لكن حضورها اليوم إلى غرفتى بالمستشفى يبرهن أننى الرجل الذى ظلت تتعقبه طوال هذه السنوات، مثلما أتوقع أن أراها أمام عينى وأنا فى طرقات المبنى..

ابنة الماكرين هذه، تركت وراءها فراغا لم تستطع امرأة أخرى أن تسده، فى أى مكان طوال سنوات، صدتنى مذيعة أخرى لها نفس ملامحها الجسدية، وشكلها، حينما رميت عليها بعض العبارات المغلفة، إنها تعمل فى برنامج تلفزيونى شهير، استضافتنى أكثر من مرة، وبكل لياقة، ابتسمت بطريقة اصطناعية، عبرت فيها أننى لست المنشود، وفهمت أن "نور" كانت مصابة بداء العشاء الليلى حين تصرفت على أننى الرجل الوحيد فى هذا الكون، وقدمت لى بكل شخاء، ما ودت أن تقدمه، لكن بلا شك فإننى من الصعب أن تتكرر الأمور، وأن أجد من تماثلها بين النساء..

وحتى لا أصاب باحباط، قررت أن أرمى التفاصيل وغيرها فى سلة النسيان، وظللت على هذا الحال سنوات، إلى أن فاجأنى الماضى، بأن أعاد لى المرأة التى رغبتها بشدة، ولم تتكرر، كى تشعر بالشماتة فى مرضى، ورقدتى التى توحى، وتؤكد لها أننى لم أعد صالحا للاستخدام العاطفى، لن أتمكن من اللهاث وراءها، أو الجرى شارعا بطوله، بأمنها، بعد أن تمنت الموت لابنتى الوحيدة..

إنها هنا، بظلها، لم أعد أذكرها بشكل منتظم فى السنوات الخمس الأخيرة على الأقل تبدو شبحا اندثر مع الماضى، قد أجد نفسى أتردد وحدى على النوادى، وتسوقنى قدماى أن أسير قريبا من المائدة التى جلسنا حولها ذات مساء، فأجدها مشغولة بثنائى آخر، لعله يردد نفس الكلمات، فالمكان يوحى لجالسيه بالإبداع العاطفى، زفى كثير من الأحيان أرى المائدة نخلو من روادها، خاصة فى ليالى الشتاء، أو المدارس، أما فى الصيف، فإن الموائد تتناثر، ويملأ الأطفال تحت الأشجار بالصخب والحيوية، وتصيبنى الدهشة أنه شبحينا كانا هنا ذات يوم..

هذه طريقة مضمونة كى أغطس فى النوم، بدلا من احصاء أسماء الأفلام العقيمة، التى  لم تعد بذات جدوى، تنتابنى الرغبة أن أستكمل محاولاتى كى أنام، وربما استجمع ذكرياتى التى تبددت كى أكتب عنها رواية، أنا الذى جفت ينابيعه تماما، ربما لأننى لم أعد صالحا للاستهلاك الآدمى..

أنا مؤرق..

أقصد مصاب بالأرق، غير قادر على النوم، ولا أريد أن أطلب من الطبيب، أو الممرضة أن تحضر لى ما يجعلنى أنام، أنه نوم كاذب، أريد أن تغطس عينى فى الظلام بشكل طبيعى، وليس بطريقة طبية، لقد استهلكت الاشياء التى يمكنها أن تروى ذكرياتنا معا، لكن لا تزال هناك وسائل أخرى تلتزم الصمت..

يا إلهى.. ترى لماذا أريد أن أغوص فى النوم، وهذه تفاصيل أخرى تمتد أمام ذاكرتى، لماذا لا استحضر قاعات السينما التى شهدتنا، والأفلام التى شاهدناها، عليها أن تتكلم، إنها مائلة أمامى تمنع عنى النوم، تريد أن يكون لها دور فى تأليف الرواية، فقد مررنا هناك فى أيام قليلة، كنا أثناءها وسط الناس، لكننا أيضا بمفردنا، لا نكاد نتكلم إلى أحد، سوى تحيات عابرة..

قاعة:

هذا مؤلف مريض، معتوه بلا شك، يلح علىّ أن أشارك فى كتابة روايته الناقصة التى أخفى وقائعها لأكثر من ثلاثة عشر عاما، يطلب منى ما بعد المستحيل، أن أتذكر بالتفاصيل كيف عاش قصته العاطفية، مع رفيقته التى لم تأت هنا كثيرا، أنا قاعة سينما فى أطراف حى المنيل، تمتلكنى أكثر من شركة وتم تشييدى لتكون بى أربع قاعات عرض، تتسع كل منها لعدد محدود من المشاهدين، ويمكن عرض أربعة أفلام فى كل حفل، نحن دور العرض الجديدة التى تم إحلالها فى المدينة بدلا من السينمات الشعبية المتهالكة، المنتشرة فى وسط البلد، أما فى الأحياء الجانبية، فقد انصرف الناس عن الذهاب إلى القاعات القديمة، التى يذهب إليها الطلاب، أو أصحاب الحرف مع نهاية الأسبوع، وما إن تم بناء المولات بعيدا عن منتصف المدينة، حتى كان أول شىء تم عمله، هو تصميم قاعات عديدة لعروض الأفلام، وصلت إلى ثلاث عشر قاعة فى أحدث البنايات ما يعنى أن أمام رواد المول الاختيار بين الأفلام للمشاهدة طوال الأسبوع على الأقل..

الى هذه القاعات بدأ الفنانون، وصناع الأفلام يحضرون حفلات الافتتاح، كما يأتى الصحفيون والنقاد، وأقارب النجوم، وأتباعهم، ليكون كل منهم عزوة للتصفيق أثناء العرض، ظاهرة جديدة بكافة الأشكال تعرفها القاعات الأنيقة، مثلى، صار على أولاد الطبقة الراقية وبناتها مثل "نور" أن يأتو الىّ، وصرت مكانا للقواعد، وهلت معدات الإضاءة والتصوير لتملأ ساحتى، خاصة فى أيام بعينها، لحضور العرض الأول، أو للتصوير التلفزيونى..

 لست بقاعة فخمة، فقد تم بناء قاعات كثيرة تناسب الاحتفالات، والأعداد الكبيرة من الناس لحضور العرض الأول، لكن شركات السينما الأمريكية التى يمتلكنى مندوبوها هنا استفادوا منى كثيرا فى العروض الأولى لأفلامهم المستوردة مباشرة من لبنان ودبى، عليها ترجمة جاهزة ولا تكلفهم سوى القليل، وكل المطلوب الاتصال بالصحفيين العاملين بالصفحات الفنية، النقاد، وبعض الكتاب، لحضور العرض الأول، هكذا عرفت زائرين مختلفين، أقل عددا، وصخبا، فالناس تميل إلى حضور حفلات الأفلام المصرية، وهذا لم يحدث عندى بالمرة، وفى كل شهر تأتى الأنباء أن مولا جديدا تم افتتاحه فى الأحياء والمدن الجديدة، ويذهب أصحاب السيارات فى التاسعة والنصف لقضاء سهراتهم مع الأفلام الجديدة..

وسرعان ما وجدت "نور" أماكنها المفضلة، وشوهدت تحضر العروض، وتعرف مواعيدها وتأتيها الدعوات، وبعد التعارف مع المؤلف بثلاثة أيام، كانا هنا، عندى، هى التى تلقت الدعوة من الشركة الموزعة، وعندما التقيانى القاعة، فوجئت بأن المؤلف معروف من أغلب الحاضرين، استقبلونه بمودة ملحوظة، واقتربت منه مذيعة تلفزيون:

- ممكن حضرتك؟

نظرت إليه وهو يتكلم أمام الكاميرا المحمولة على كتف المصور بانبهار ملحوظ، وأحست أنها أجادت الاختيار، وتأكدت أنه الرجل الذى تنتظره، يبتسم وهو يتكلم، ويحرك ذراعيه فى كل الاتجاهات للتأكيد على ما يقوله، التفتت حولها، كأنها تريد أخبار الموجودين أنها تعرفه، وهى التى جاءت به إلى هنا، رغم أن الكثيرين يعرفونه، وعندما انتهى من كلامه، سارت نحوه، ومدت له حقيبة من الجلد الاصطناعى، التى اعتاد أن يضعها فوق كتفه، كأنها تؤكد أنه "تبعها"، قالت وهى تبتسم:

- هائل، رائع..!

- هل أعجبتك؟

- هذه أول مرة أراك تتحدث، لكن..

- هه؟

- أنت تحرك يديك كثيرا، كدت أن تصفع وجه المذيعة..

- لم أشعر بنفسى..

- انتبه..

بعد قليل، جاءت مذيعة أخرى، وطلبت منه التسجيل، كان البعض قد دخل القاعة مع اقتراب العرض: من فضلك..

وبينما الحاضرون يتحركون فى الممر القصير للدخول إلى قاعة، أغلب أنوارها منطفئة، أخذت عنه حقيبته، ووقفت إلى جوار الحائط تتابعه بإعجاب، رغم أنه لم يستطع التخلص من حركات يديه الكثيرة، فإن حاول أن يفعل، اقتربت منه وقالت:

- متى ستذاع هذه الحلقة..؟

يبدو أن أحدا من فريق البرنامج سمعها، فأجاب: غذا.. السادسة والنصف..

قال: الفيلم بدأ..

دفع بها فى الممر المظلم، القصير، وسحب أناملها المكتنزة بين أصابعه، وقال:

- كأننى أتكلم من أجلك..

همست: عيناك قالت ذلك، لم تكن تنظر إلى الكاميرا.. بل نحوى..

دخلا وسط ظلمة القاعة حيث بدأ عرض الفيلم الأمريكى الجديد، الذى سيطرح فى اليوم التالى إلى الجمهور، فى نفس المكان، تحسس كتفها وهى تحاول الاعتماد عليه للوصول إلى المقاعد، شدها إلى النصف الأول من المقاعد، وقال:

- هنا.. أفضل..

اندهشت! متأكد؟

رد: طبعا.. هنا، لا تضطرين إلى رؤية أنصاف رؤوس من أمامك يدخلون مع كادر الفيلم، يبدو أنها لم تألف الجلوس فى المقاعد الأمامية، التى تجعلها تشعر كأنها داخل المشهد، وقد تتألم عيناها، والتزما الصمت طوال العرض، بدا كأنه منهمكا فيما يشاهد، حاولت أن تندمج مع الفيلم المرشح لجائزة الأوسكار، وسعت أن تفهم، إلا أنه ادخر كلامه حتى يخرجان من العرض..

لا أعرف ماذا قال لها بعد الخروج من المكان لكن الفيلم حقق نجاحا متوقعا، وفاز بعد أيام بعدد من الجوائز، وازدحمت قاعاتى، وقاعات أخرى كثيرة بالجمهور الذى أعجبه أداء ريتشارد جبر، وسحر الذكورة عنده، ولعل هذا كان سببا فى أن تعود وحدها بعد ثلاثة أيام، وتشترى تذكرة، لرؤية "شيكاجو" بشكل مختلف..

كانت وحدها، فى حفلة الثالثة والنصف ظهرا، ورغم أننا نعتبر أن مثل هذه الحفلات "ميتة" فإن لها جمهورا خاصا، جلست فى الصف الأول أمام الشاشة مباشرة، وهى تركز مع أحداث الفيلم، كل ما تكهنته أنهما تحدثا عن الفيلم بعد مشاهدته الأولى، وأنه قال رأيه، وحدثها عما أعجبه، وما لم يعجبه، وأنها أحست برغبة أكيدة فى إعادة مشاهدته، جلست تركز فى الأحداث الممزوجة بالغناء والاستعراض، فى أجواء تعود إلى أوائل القرن العشرين، وقبل نزول العناوين النهائية للفيلم، لملمت أشياءها المتناثرة على المقعد المجاور، وغادرت فى الظلام دون أن أعرف ماذا ستفعل.. لكن..

قبل أن أستكمل شهادتى على ذلك الثنائى الذى لم يأتى هنا كثيرا، أرى أن "شيكاجو" نفسه يود أن يتكلم عن نفسه..

المؤلف:

لا، غير مباح للفيلم أن يتكلم عن نفسه، الناقد هو الأحق بالحديث عن الأفلام، فلكل كيان وظيفته، هو فيلم، صيغه مخرج، وكتبه مؤلف، ومثله نجوم من المشاهير، وهنا تنتهى وظيفته فى أن يعرض نفسه على الناس، أما الناقد، والكاتب فهو الذى يجب أن يتكلم، ومن الضرورى أن أعبر عن غضبى حول اسم الفيلم..

شيكاغو.. أو شيكاجو..

جاءت نسخة الفيلم إلينا مترجمة بشكل جاهز عن طريق الشوام الذين فى لبنان أو الخليج، صحيح أن أغلبنا ينطق الكلمة بحرف الغين، ذلك لأن الشوام، أسبق فى الترجمة فى بلادنا، فصرنا نكتب وننطق الجيم غين.. يوغسلافيا، شيكاغو، الكونغو، وعندما انتشر الشوام فى الخليج وبرعوا فى الترجمة، وانكمش التواجد المصرى، تم "تشويمنا" وفى بعض الأحيان نكتب الجيم "كافا".. وهذا أول عائق لى فى مشاهدة هذه النسخة من الفيلم..

ثانيا، ياسيدتى الجميلة، المعرفة بالفيلم، وطاقمه وأشياء عديد تزيد الإحساس بالمتعة أكثر ممن لا يعرف، فهذا فيلم غنائى استعراضى، رغم موضوعه الكئيب، إلا أن الغناء، والموسيقى أكسف الأحداث بهجة ومتعة، وهذا هو السينما فى الفترة الأخيرة، تجعل نجوم السينما، غير المتخصصين فى الغناء يقومون بالاستعراض فى الأفلام، مثل أبطال فيلم "شيكاجو" وفيلم "الطاحونة الحمراء"، ويجب على من يريد الاستمتاع بفيلم "شيجاجو" أن يكون عارفا ومشاهدا، أو ملما بأفلام المخرج الأمريكى بوب غوس، الذى روى سيرته الذاتية فى عدة أفلام موسيقية استعراضية، وهو الذى سبق يوسف شاهين فى هذا المضمار، ولا شك أن شاهين قدم سيرته الذاتية فى أربعة أفلام على غرار ما فعل غوس، مخرج فيلم "شيكاجو" روب مارشال هو تلميذ نجيب للغاية فى مدرسة غوس الذى عمل معه مساعد مخرج، والمرء عندما يشاهد "شيكاجو" الفيلم سيرى شبح غوس موجودا بقوة وراء مارشال.. كأنه يوجهه من مقبرته.. كأننا نشاهد تكملته لـ "كل هذا الجاز" و"لينى"، ولا يمكن الاستمتاع كاملا بأجواء "شيكاجو" إلا إذا فعلنا الشىء نفسه مع أفلام غوس السابقة، وأن نفهم ماذا يعنى الاستعراض الغنائى..

فى الفيلم تحول ثلاثة نجوم لا علاقة لهم بالغناء والاستعراض، هى أصوات لمطربين ومطربات لم يظهروا فى الفيلم، لكن الناس تحب رؤية نجومها تفعل كل شىء، وهكذا فعل غوس مع نجوم أفلامه، ومنهم داستن هوفمان وروى شايدر..

قصة الفيلم ليست جديدة، هى أعادة اخراج لفيلم قديم يحمل الاسم نفسه تم انتاجه فى بدايات السينما الناطقة عام 1927، حول المحامى الذى يسعى إلى الشهرة، ويحول الجرائم إلى قضايا رأى عام، وفى الفيلم صارت سجينتان فى قضايا قتل أزواج حديث الصحافة ومثار اهتمام الناس قبل أن يأتى لهم بالبراءة، كى يثبت أن للصحافة تأثير على نطق القضاة بالأحكام واستمر حوارنا الطويل فى سيارتها، وقالت قبل أن أخرج منها:

- أنا فى حاجة لأرى الفيلم مرة أخرى..

عودة إلى قاعة العرض:

انقطع الاثنان عن الحضور لمشاهدة العروض الأولى، ثم بدأ كل منهما يأتى بمفرده، كأنهما اتفقا أن يتناوبا مشاهدة الأفلام، ومن الطبيعى فى مثل هذه القصص أن تحدث مقاطعة، واختلاف، ثم فراق قد ينتهى بالعودة، أو يذهب كل طرف إلى حياة أخرى، فتتاح لى فى هذه الأحوال أن أشهد على قصص جديدة، تبدو فى النهاية متشابهة متكررة، لكن أتذكر أن القاعة جمعتهما معا ذات يوم، وللمرة الأخيرة لكل منهما.. وكانت معه فتاة جميلة..

المؤلف:

طالما أنها سجلت هذا الحدث فى روايتها الموجودة فى الفلاشا، أسفل وسادتى فإنه من المهم أن أكتب ما حدث من وجهة نظرى..

نعم، كانت فى صحبتى فتاة جميلة، لم تكمل العشرين من عمرها، تحب الأفلام الأمريكية، لكنها تتسم باستقلالية، ودهشة، فهى قليلا ما تتحمس للعروض الأولى التى، ذهبت إليها، وكم عاتبتها لأنها لم تحضر العرض الخاص لفيلم "تايتانيك"، وفضلت الاستغراق فى النوم، لكنها شاهدت العرض فيما بعد مع زميلاتها وزملائها فى المدينة التى تدرس فيها الهندسة الوراثية، عندما جاءت لزيارتى، دعتها أن نذهب إلى حفل لعرض فيلم جديد مرشح لجوائز أوسكار وسينال بعضها حتما فى الشهور القادمة..

وافقت على الفور، وفى ليلة العرض، كانت معى، أنيقة، بسيطة، تبدو معجبة أحيانا بهذه العوالم التى انتمى إليها، ذهبت لاحضار فيشار، ومشروب يتم توزيعه على الضيوف، بينما انشغلت عنها بالحديث إلى احدى المحطات الإذاعية، وقبل أن انتهى وجدتها أمامى، سألتنى:

- انتهيت..؟

أشير إليها أننى لازلت أتكلم أمام الميكرفون، وفى تلك اللحظة رأيتها، "نور" بدت أنيقة، تعتنى بنفسها أكثر، تصرفت كأنها لم ترنى ودخلت القاعة، ما إن شكرت المذيعة حتى سحبت ابنتى ودخلنا القاعة، تصرفت كأننى لا أعرف أنها موجودة، وبدت المبالغة واضحة فى حديثى إلى ابنتى، ونحن نجلس فى الصف الأول من الصالة، كعادتى..

صرت أتخيل طوال الوقت أتصرف كأن "نور" تشاهد فيما آخر غير الذى تحضر عرضه الأول، بطلاه رجل وابنته، إنها الفتاة البريئة التى تمنت لها "نور" يارب بنتك تـ....، وددت أن أرسل إليها رسالة خاصة، وهى أن هذه ابنتى التى قصدتها، بكل أناقتها، وبساطتها وأن عليها أن تعض أطرافها من قسوة الجملة، بدوت كأننى أقوم باحياء تلك الجملة القاسية وأن أرسل رسالة أن حالنا هذا شبب تراكم تصرفاتها وشكوكها، حتى قررت أن تستريح منى، مهما كان الثمن..

عندما أضيئت أنوار القاعة، كان أول شىء استرعى انتباهى أنها غير موجودة فى مكانها الذى تصورتها فيه، من الواضح أنها غادرت القاعة دون أن أدرى متى، ولا كيف، إذ أن باب الخروج الأوحد على مقربة منى.. لكن يبدو أن الحالة المرضية التى عشتها هى حالة قصوى من الوهم..

لعلى الآن فى حالة مشابهة، محاولا تجميع روايتى، وأنا غير قادر على أن أفعل ذلك، متمددا فوق السرير، منتظرا أن يتقاطر المحلول إلى  جسدى، وقد أغمضت عينى رغم أن النهار أشرق منذ فترة، وقد  جاءت "نور" ثم غادرت، وتركتنى أحاول أن أنام..

لا تستطيع عيناى أن تغرقان فى النوم تماما، وقد فشلت كافة محاولات احصاء أشياء محببة أعرفها جيدا، أفلام بأسماء "الحب"، أو أفلام تدور أحداثها فى الاسكندرية، تنبهت فجأة أننى لو قمت بإحصاء الأماكن التى شهدت على وجودنا هناك، فربما يمكننى النوم بكل اطمئنان، فكم تساقطت أماكن من الذاكرة، لم تحك لنا، ويبدو أن تفاصيلها تلاشت خلال السنوات التى انصرمت.. إنها كثيرة العدد.. ومن الصعب أن تسقط من تفاصيل الرواية، ربما يساعد تذكرها فى ترميم الوقائع التى تعرضت للمحو، والاختفاء طوال السنوات، كانت أحداثا مهمة إبان حدوثها، ولو أننى سجلتها فور حدوثها، لكتبت عملا مختلفا تماما، وما استعنيت بكل هذه الأشياء الجامدة كى تساعدنى فى الكتابة..

نسيت تفاصيل الحوار، والكلمات، ونسيت ملامح وجه "نور" التى تعمدت طوال علاقتنا معا على عدم اعطائى صورة شخصية لها أستطيع أن أدقق فى ملامح وجهها عندما تبعدها الأزمنة، لا أعرف لماذا تعمدت ذلك دوما، حتى فى أكثر لحظات التقارب..

- هه.. عائد إلى منزلك..؟

وقفت بسيارتها إلى جوارى وأنا أتجه نحو الميدان الكبير:

- أهلا.. أين أنت..؟

- فى الدنيا.. عائد إلى منزلك..؟

-  ربما..

فتحت باب السيارة إلى جوارها، لففت حول السيارة، بينما بدأت السيارات فى إطلاق النفير، وأسرعت بفتح الباب:

- كل سنة وأنت طيبة.. غدا عيد الفطر..

- حسب الرؤية..

- كل الموظفين يتجهون إلى الأسواق للشراء..

- هل تود أن تشترى شيئا..؟

- لست فى حاجة إلى الشراء..

يبدو أن حماقتى جعلتنى أرتكب ما يجعلنا نتباعد أكثر، لو أبلغتها أن نتجه إلى أقرب بائع ورد، لتمكنت من استعادتها، وأنا اختار لها باقة من الورود البيضاء، لكننى فى أغلب الأحيان عاشق فاشل، لا أعرف كيف أتصرف..

كانت الشمس ساخنة، وهى لا تكره شيئا قدر الجو الحار، أو المدينة على أعتاب عيد، وهى تعرف أننى سأكون وحيدا فى العيد، وقفت السيارة فى شارع جانبى تقل فيه حركة السيارات والبشر وكأننا فى إحدى ليالى الوصال بنفس المنطقة، لكننا مازلنا فى شهر رمضان الذى سيرحل بعد ساعات، سألت:

- كيف تحملت كل هذه الأيام بدونى..؟

كأنها تعرف أننى أشعر بافتقادها، وعدت إلى مضاجعة فراشى وحدى، أقرفص قدمىّ واحتاج إلى من يشاركنى ليلى، بالفعل، لم أعد أنام على صوتها عبر الهاتف ولا غنجها الساحر، جاءتها إجابتى فى ابتسامة بلا معنى، قلت:

- هل ستخرجين فى العيد..؟

كنت أعرف الإجابة سلفا، فهى لا تتناسب مع الأعياد، ولا تحب احتفالاتها، إلا أنها فاجأتنى: سوف نذهب إلى الساحل الشمالى..

تقطع علىّ أن أطلب منها مقابلة، وأن نذهب إلى المكان الوحيد تحت الشجرة الوارقة فى النادى، خاصة أن الهواء يصبح منعشا، بعد غروب الشمس، قلت:

- كدت أن أنسى ملامحك..

سألت: هل تريد صورة، تضعها أمام عينيك..؟

- ربما، فكرة لا بأس بها..

- وإذا تم تفتيش حقيبتك..؟

- لا أحد يجرؤ أن يفعل ذلك..

- ألم تخبرنى أنه يتم تنفيض الحقيبة من النقود.. أولا ، بأول..؟

بارتباك: نعم.. النقود.. نعم، لكن صور النساء لا.. فهذا عملى..

- هل لديك صور الكثير من النساء؟

بارتباك أيضا: لا، طبعا حياتى كلها ملفات بها صور كثيرة.. ممثلات، مخرجات، كاتبات..

بدت لى بصورة فوتوغرافية حديثة:

- ما رأيك فى هذه..؟

- من هى..؟

- دقق.. جيدا..

صورة صغيرة المقام يملأها وجه بدين لا أكاد أعرفه، تكاد تكون هى وقد انتفخ لسبب لا أعرفه.. نظرت إلى وجهها، وعقدت مقارنة، لولا أنها صورة فوتوغرافية ما صدقت أنها "نور" أعرفها، هى أكثر امتلاء ما أعرفها، قلت:

- أمتأكدة.. أنها أنت..؟

شدت منى الصورة، وأعادتها إلى حقيبتها، قلت مبغوتا:

- لماذا أخذتيها..؟

- خسارة فيك.. أنت لا تستحقنى، ولا تستحق صورتى..

أخبرتنى أننى سوف أتخلص منها عم قريب، حاولت استعادة الصورة كى احتفظ بها، فقد حاولت أن استجمع ملامحها حين غابت عنى، فلم أقدر، لم اعتد على ذلك، فهى حاضرة أمامى، كلها على بعضها، لم أكن فى حاجة إلى استرجاعها، ولكن فى الأيام القادمة، ربما احتاج إلى ذلك، حيث سأقضى العيد وحدى، فوجئت باصرارها الشديد ألا آخذ الصورة، ودست حافظتها فى حقيبتها، لم أفهم إنها انتوت الا أحتفظ بشىء معى يذكرنى بها، وبدت كأنها تدبر ألا ترانى مجددا، إلا فى ضرورة، خططت لكل شىء.. أن يكون هناك لقاء أخير، نجلس فيه، ونتكلم ونتناول ما نأكله ونشربه قبل أن يذهب كل منا لحاله..

رأيت ذلك بالفعل فى بعض الأفلام، منها "حلاق السيدات" على سبيل المثال، لكنهما كانا زوجين، جمع بينهما الفراش دون أن يلتقيا، أما نحن فقد تواصلنا كثيرا بدون فراش، وجمعتنا أماكن عديدة فيها أنشطة ثقافية كثيرة، منها أيام معرض الكتاب، حين طلبت منى أن أنتظرها فى الجناح الالمانى.. فى السابعة مساء..

وقفنا فى بهو الجناح وسط الكثير من المهتمين بالثقافة الألمانية، نتناول بعض العصائر والشطائر الصغيرة، ويتم التعارف، بالبطاقات البيضاء، ويوزعون علينا المنشورات الخاصة بأحدث الإصدارات الألمانية، هناك موسوعات عليها تخفيض خمسين بالمائة، صدرت فى العام الماضى، بدا كل هؤلاء كأنهم يحتفلون بنا، كم كانت سعيدة فى تلك الأمسية أنها معى، ولا أنكر أننى غبطت نفسى لما حصلت عليه من مكانة، أنها تلتف حولى، ونتدخل كلما وقفت مع أشخاص جدد، تطرح السؤال التى اعتدت عليه فى الأشهر التالية:

- أنت.. كويس..؟

التقط بعضا من العصير، وشطيرة جبن، وأهز رأسى، فتقول لى:

- انتظرنى كما اتفقنا، السابعة وعشر دقائق..

اتفقنا أن أكون هناك أمام البوابات الخلفية للمعرض، قريبا من المكان الذى توجد به سيارتها..

يا إلهى، أنا عاجز عن التذكر، الأشياء لا تتداعى على ذهنى مثلما يجب أن تكون، لكن حسب حالاتى المرضية، لست مريضا فى رأسى، ولا فى ذاكرتى، بودى أن أرتب اللقاءات حسب تاريخ حدوثها، كى أرصها وراء بعضها وأكتب روايتى، لكن بلا شك لو أننى كتبتها بهذه الطريقة، فلن تلقى إعجاب أحد، وسيراها المتابعون فاشلة، غير تقليدية، أحاول أن أكتب الرواية فى ذاكرتى أولا، أن أحفر بالتركيز داخل عقلى لاستدعاء ما حدث..

هأنذا أنتقل من نهاية الرواية، إلى بدايتها، أو من الأيام ما قبل الأخيرة لنهايتها، إلى الأيام التالية لبدايتها، يجب أن أعود إلى لقاء كافتريا "اللبن المسكر"، الذى كان خاتمة لقاءتنا حسبما خططت، من الواجب أن استدعى هذا المكان الذى يلتقى فيه مئات البشر، وهم يخرجون من الباب الخلفى للمعرض، بعد الساعة السابعة مساء، موعد انصراف الجمهور، كل منهم يحمل ذكرياته التى تركها بالداخل، وعليه أن يستثمرها، دون أن يضع الكثيرون فى أذهانهم أن اليوم الذى انصرم رحل بلا عودة، لكن لأن هناك أياما باقية كثيرة، فأمام كل منهم فرصة للعودة..عندما جاءت، وجدتنى جالسا فوق سور قصير أمام الباب الحديدى، مع بعض من راروا الجناح الألمانى، البعض يعرفنى، والبعض الآخر التقوا بها، سألها واحد منهم:

- هل تعملين مع الألمان..؟

ردت: فقط أثناء المعرض.. أساعدهم فى العلاقات العامة..

سألت واحدة:

- وماذا عن ندوة الغد..؟

ردت: فى السابعة والنصف، فى المعهد..

تدخلت قائلا: اللقاء حول الملتقى الثقافى المصرى الألمانى..

أخرجت "نور" منشورا به بيانات وصور عن ستة أدباء من المصريين والألمان سوف يلقون كلماتهم بالغد فى المعهد، قدمته إلى الفتاة التى طرحت سؤالها، ثم أخرجت منشورات أخرى وزعتها على كل منهم، ونلت نصيبى، كأنها لا تميز بين أحد منا قط، تطلعت إلى الوريقة الملونة، وقلت:

- هذه أسماء مهمة من أدباء فى النمسا وسويسرا وألمانيا..

سألتنى فتاة: هل تعرفهم؟

رد الشاب: لا أعرف المصريين منهم..

ابتسمت وقالت: وأنا، لا أكاد أعرفهم..

أشارت نحوى: هذا الأستاذ يعرفهم جميعا..

عندما دخلوا قاعة الندوة، عرفتهم جميعا، سواء الذين قرأت عنهم فى مجلات بلادهم الثقافية، وخاصة المحاضرين المصريين الثلاثة الذين أتابعهم جيدا، كانت "نور" هناك تمارس نشاطها كمسؤول العلاقات للأنشطة الثقافية، قامت بدعوة أغلب الحاضرين بنفسها سواء عن طريق المكاتبات ، بطاقات الدعوة، أو الاتصال الهاتفى، رفضت أن أساعدها فى عملها، رغم إلمامى بالأسماء:

- دعنى، أنجح لوحدى..

رددت العبارة نفسها بعد عدة أشهر، عقب أن شاهدت فيلم "شيكاجو" للمرة الثالثة، وكتبت أولى مقالاتها حوله، بعد أن قرأت، ورجعت إلى المصادر، وتابعت ما كتبه الآخرون:

- سوف أنجح وحدى..

قلت لها فى المرتين: وراء كل امرأة عظيمة رجل..

قالتها بثقة: وحدى..

فى المرة الأخيرة، الثانية، كانت تتكلم بجدية، وثقة، أنها لا تحب المشاركة، شعرت بلذة المشاهدة، ثم الكتابة، وراحت تبحث عن مكان تنشر فيها مقالها حول الفيلم.. فى المرة الأولى، لم تكن أكثر من مذيعة تعمل أيضا فى العلاقات العامة للمعهد أثناء أنشطة المعرض..

فى تلك الأمسية لم أهتم بشىء سوى أنها هناك، وأن المكان الذى كم ترددت عليه للتعرف على ثقافات الآخرين، صارت فيه امرأة تعرفنى جيدا، تتمنى أن تنجح مفردها، دون عون من شخص آخر، حتى وإن كان الرجل الذى تدعى أنها وقعت فى هواه..

بدت الندوة نشازا، سواء فى عدد الحاضرين، الذين كان أغلبهم ابناء الثقافة، أو من الأوربيين، ورغم وجود ثلاثة من الكتاب المصريين الذين يعشقون الثقافة الألمانية وعاشوا فى بلادها عدة سنوات، فإن أحدا من المصريين لم يحضر..

هكذا حلت "نور" بضيائها مع بداية النهار، منذ قليل، وتركتنى فى حيرة، أحاول أن استجمع كل أشلاء ذكرياتنا، وآخرها كافتريا.. "اللبن المسكر" الذى لا يبتعد كثيرا عن المستشفى الذى أرقد فيه، أنها تعرفه جيدا، ولعلها ذهبت إليه لتناول قهوة الصباح، قبل أن تستكمل يومها، أو قد تعود مرة أخرى إلى المستشفى، كى تتشفى أكثر أن ذلك العنفوان قد أرقده المرض، وافترش السرير، ووضعوا له المحاليل..

لو رآنى أحد الآن، فسوف يتأكد أن الهوس تملكنى، ابتسم بلا سبب، أضحك مستدعيا الذكريات، اخترنا مائدة قريبة من "فاترينة" المعروضات، أنواع كثيرة من المصنوعات السكرية، تسيل شهية الحاضرين، ومحرمة جميعها على مريض من طرازى، قالت:

- هنا، يمكنك أن تتناول أشياء كثيرة تخلو من السكر..

كأنها تعد للقائنا الأخير معا، تخيلت أنها تمزح، أو تبالغ، أو تناور، لكننى فهمت فيما بعد أنها بالغة الجدية، وأن هذه المرة الأخيرة لنا معا، نشرب معا، نلتهم ما فى الأطباق أيضا معا، اختارت مكانا له طعم حلو، حلاوة علاقتنا معا، رغم كل شىء، ورغم كل ما شاب الأمر، تعتنى باختيار ما فى القائمة، وتبدو كأنها تستمتع بوجودها فى المكان، ونحن نجلس فى منتصف القاعة بين وقت وآخر يأتى البعض ليستلم ما طلبه من علب حلويات، ثم يغادروا، تتصرف كأننا فى أحد أيامنا المألوفة معا، نثرثر، ونرد على الهواتف، ونبدو على أحسن ما كنا عليه قرابة عام وأكثر..

وعندما حان وقت الذهاب، دفع كل منا نصف ثمن الفاتورة، وحيتنى عن باب المحل دون أن تدعونى لركوب سيارتها التى لم تشهد مغامرة ثانية طوال كل هذه الأعوام..

هكذا يمكن أن تكون هناك رواية مكتملة، لو قمت بطباعة ما كتبته، وموجود على الفلاشا وتمت إضافته إلى شهادات الأشياء، قصة حب بالغة البساطة، لا تضم سوى سخصين، وصار بقية البشر فيها أقرب إلى الأشباح، لا أجسام لهم، ولا وجود، صار للأشياء وجوها آدمية تسجل لنا ذكرياتنا التائهة، وتعيدها علينا حين نحتاج إليها ونحن نرقد فوق السرير، نتلمس أى زائر يقوم باستعادة أيامنا المنصرمة..

مرة أخرى، فتح باب الغرفة من الخارج، أحسست به من وراء الحاجز وسمعت صوتها ينادى اسمى، لعلها راجعت نفسها وعادت، أحسست بالانتعاش، وقلت من أعماق غفوتى:

- هه.. عدت ياحمارة..

سمعتها تضحك وهى تقول: طول عمرك قليل الأدب..

نبرات صوتها تختلف تماما، وأنا أفتح عينى تأكدت أنها ليست "نور"، بل "خوخة" ناديت مكملات: "أنت؟"..

قالت: قررت أن أجىء إليك قبل أن يتوافد زوارك الآخرون.. أعرف أنهم كثيرون..

رحت أتحقق من هويتها، هذا الوجه لم أره منذ سنوات طويلة، وها هى تدخل علىّ بعد أن ذهبت "نور" بفترة قصيرة، ترى هل تقابلتا فى أى مكان بالمبنى، تعرفها نور جيدا، وكم اتهمتنى أننى رجل متعدد العلاقات..

قالت "خوخة": ألف سلامة عليك.. لم أحتمل قراءة الخبر، وما إن طلعت الشمس حتى خرجت من دارى..

إنها غير شامتة فى ما حدث لى، مثلما فعلت "نور" وهى ترمى لى بالفلاشا، قالت:

- ماذا جرى لك..؟

أجبت وأنا أحاول أن أعتدل، المرض.. كل الناس يصيبها المرض..

دعوتها للجلوس على المقعد، إلا أنها تصرفت مثل سابقتها، ووقفت فى المكان نفسه:

- لا أريد أن أزعجك..

- جئت لزيارتى..

- اطمئننت عليك.. الخبر صحيح..

- إياهم أن يكونوا أشاعوا أننى مت..

- بعد الشر عنك.. إن شاء لله خصومك..

- شكرا..

- هل قرأت ما كتبته عنك فى الصحيفة..

- ماذا.. رواية..

- بل مقال مرفق به صورتك.. هل تحب أن تقرأ..

- طبعا هذه نوجة، الأصيلة..

- سوف تجد المقال على صفحتك..

- اقرأيه على.. ليس الكومبيوتر معى..

- معذرة، هذه فلاشا، اقرأ عليها وقتما تريد.. عن اذنك..

- ماذا.. بك..

- أريد أن أعرف وجهة نظرك.. إلى اللقاء..

- نوجة.. إلى أين..

- عندى عمل..

وقبل أن ألح عليها، رمت لى بفلاشا غريبة الشكل، وذهبت، وقبل أن أناديها كانت أغلقت الباب، ولم تعد تسمعنى..

قبل أن أضع الفلاشا أسفل الوسادة، إلى جوار سابقتها، طرق الباب وسط حيرتى، إن كانت إحداهما عادت، بعد أن أحست أن ما فعلته يفتقد إلى أصول اللياقة، ناديت:

- هل عدت يا حبيبتى..

سمعت من يطلق التحية باللغة الألمانية..

لم أنتبه إلى صاحبة الوجه الذى استودعته منذ عشر سنوات، فى مطار القاهرة، بعد أن قضت صاحبته أسبوعا مع ضيوف المهرجان..

وقفت بجسدها البدين أمام عينى، أغلقت عينى، ثم أعدت فتحهما عدة مرات، قبل التأكد أن أوشرا موجودة هنا أمام سريرى، انحنت علىّ وقبلتنى فى فمى، تعيد أياما جميلة قضيتها معها فى مدينتها وسط أوروبا، سألت بالألمانية:

- صحتك بالدنيا يا عزيزى..

- هل أنت فى القاهرة، هنا؟

قالت وهى تجلس بكل ثقتها على طرف السرير:

- سألت عنك بالأمس، الوفد الثقافى الذى جئنا للاتفاق معه، فقال لنا واحد منهم انك مريض..

حاولت أن استجمع أجمل أيامنا هناك، فى مدينتها الباردة، لكن يبدو أنها على عجالة من أمرها..

- بودى لو بقيت معك..

- أنت أيضا..

- سيارة وزارة الثقافة تقف أسفل البناية..

- ماذا تقصدين؟

- طائرتى بعد ساعة، وقد عطلت أصحابى..

- أنت أيضا؟

- ربما سوف أراك قريبا، بصحة أفضل..

- ما أخبارك؟

مدت لى من بين أصابعها بفلاشا وردية اللون، وقالت:

- كتبت شيئا من أجلك باللغة الروسية، سهرت طيلة الليل أكتبها..

ورمت لى بالفلاشا.. سألتها:

- تعرفين أننى لا أتكلم الروسية..

- أبحث لك عن مترجم، عن إذنك..

تحسست الفلاشا كى أتأكد أنها حقيقية، وحاولت التأكد أن قبلتها الثانية مغموسة بالدفء، ثم اسرعت نحو الباب، وسمعت صوت إغلاقه..

يا إلهى.. لدىّ الآن ثلاث فلاشات موضوعة الآن أسفل الوسادة، لكل منها لون مميز، وخاص.. لم أعد أعرف متى سوف اقرأ ما بداخلها، ولم أهتم هل هناك فلاشات بالفعل، تلاقت لأول مرة أسفل الوسادة..

شعرت بالرغبة القوية فى النوم..

هذا النوم الذى صار لا يأتى بسهولة فى الأيام الأخيرة، وكى استميله الىّ، فيجب أن أقوم بعدّ أشياء كثيرة من نفس النوع، الاسم وراء الآخر، وعندما أصل إلى رقم عشرين أو أكثر أكون قد غرقت تماما فى النوم..

وبدأت فى العد.. فى احصاء اسماء من سوف يأتين تباعا، كى يطرقن علىّ باب الغرفة يسألن عن صحتى، ويتمنين لى عودة العافية، ثم يتركن لى شيئا صغيرة ملونا أضعه أسفل الوسادة، ويذهبن..

ترى هل أنام، والأسماء تتداعى على ذاكرتى قادمة من الماضى..؟

 

القاهرة فى 8 ديسمبر 2015