يحاور القاص الفلسطيني سعيد الشيخ في قصصه القصيرة جدا إشكالات جوهرية تتعلق بالحياة والموت والإنسان وطباعة، وتكرار مشكلة الأوطان التي تتحول إلى جحيم فيغادرها أبنائها إلى أوطان أكثر أماناً في معادلة عاشها السارد قيل أربعين عاماً ويراها تتكرر في أفق مسدود.

خمس قصص قصيرة جدا

سعيد الشيخ

 

1* طباع
قال لي جاري الميت حين رأى عظامي عارية من اللحم: إن الديدان تشتهي القوْت من جثتي أكثر من جثته. فأيقنت أنني ميت منذ زمان، وجاري هذا حديث الموت دفنوه منذ أيام وما زالت رائحة الحياة عالقة في جسده. وطباع الكيد والحسد في نفسه ما زالت تؤدي وظيفتها حتى تحت التراب.

 

2* أبي
عاد ابي باكرا ولم تكن أمي في البيت ولم أكن يافعا، ابتسم لي وهو يضع أمامي صينية من البقلاوة. عبق البيت بالحلاوة، حلاوة بسمة أبي وحلاوة البقلاوة. ثم قال: هذه زوجتي الجديدة، خالتك فاتن التي ستعيش معنا في البيت. تمعّنت ملياً لأرى أين تقف هذه المسمّاة فاتن، فلم أرَ شيئا. التفتُّ يميناً وشمالاً وإلى أعماق الغرف المشرعة، فلم أرَ سواي وأبي ببسمته والبقلاوة على الطاولة.

 

3* الكلب
نعيش في بلد لا نملك فيه شيئأ، كل الأشياء مملوكة للرئيس وعائلته. وكنا نجلس في السوق نلهو مع الفراغ والذباب حين تمهّلت قبالتنا عربة يجرها حصانان وقُذف منها شيئاً ملفوفا بشرشف قاتم. ثم سمعنا صوتاً آتياً من العربة:

- خذوا كلبكم، لقد أزعجنا نباحه.

ولما كشفنا الغطاء لم نجد كلباً، بل وجدنا إنسانا ملطخا بدماءه ولا حياة تصطخب في عروقه. كان إنسانا بكامل مواصفاتنا؛ انه منّا.

 

4* ميتان على السرير

استيقظت صباحا ووجدتني أفكر ملياً بموت زوجتي المسجّاة بجانبي على السرير. لم يكن شيئاً بيننا يوحي بالموت. كنت كذكر الورد في نيسان وهي انثاه المتحفّزة. ما أذكره عند منتصف الليل حين خلدنا للنوم أنها وضعت رأسها على ذراعي قائلة:

- لا يمكنني العيش من دونك. من دونكَ أنا أموت!

هل متّ أنا فعلا بعدما غفونا ثم أحست بموتي، فماتت ورائي على الفور؟

هل نحن الآن سوياُ ميتان على السرير؟

 

5* المنفى 
أخذ وقتا طويلا ليستحم ويحلق ذقنه البيضاء، أثناءها كان يدندن ويصفّر وأحيانا يطلق صوته بالغناء. كان مزاجه رائقا وهو يعد نفسه للخروج مع صديقته للاحتفال باستقبال السنة الجديدة. لم يعد امامه سوى ان يرش وجهه من قنينة العطر الفاخرة التي اهدته اياها صديقته الالمانية في عيد ميلاده الستين، ولن ينسى ان يمنح ثيابه التي اختارها بعناية فائقة لتتناسب مع هذه الليلة بعض الرشات من العطر. سيرقص الليلة كما لم يرقص من قبل، سيشرب حتى تصبح روحه كإسفنجة، حدّث نفسه وهو أمام المرآة، وحين يمتلأ بالرضى على الكائن الذي هو فيه يشعر بالغبطة ويهم بالخروج لملاقاة صديقته عند باب البناية حيث ستأتي بسيارتها ليكمّلان إلى وسط المدينة. عند الباب وبالتفاتة منه إلى الخلف اكتشف أنه نسي إطفاء التلفاز. وحين عاد لأطفائه داهمته صور اللاجئين على ملء الشاشة، تسمّر أمامها وهو يرى جموعا هائجة تحت المطر تجرجر أقدامها عبر الأسلاك والسكك والحقول، وعلى قناة أخرى رأى جموعاً متراصّة في قوارب متهالكة ليبتلعهم البحر. لم يلاحظ أن الجموع تقتصر فقط على أعمار الشباب الذين يبحثون عن التغيير كما كان الحال يوم دسّ نفسه بين طوابير المعتربين قبل أربعين عاما. مشاهد التلفاز تنقل صور عائلات بكاملها مقتلعة كالأشجار من جذورها، وها هي تُساق إلى مصائرها.

    أحس بألم في معدته ودوار في رأسه. أحس انه سقط في حفرة عميقة، المسافة إلى قاعها تستغرق أربعين عاما هي أعوام المنفى التي عاشها.

 

* كاتب فلسطيني