تقوم هذه الرواية بالحفر الأركيولوجي في طبقات الشخصية الليبية المتراكبة، وتراكمات اللغة المحكية والمقروءة، وفضاءات بنغازي، وتواريخ ليبيا منذ الاحتلال الإيطالي وحتى الغارات الأمريكية الغادرة.

شكشوكة

رواية

محمد الأصفر

 


إهداء: إلى إبني جُـبـير: ولد يوم 14-12-2006 م

استهلال

لم يسألني أبي يوما أين ذاهب لذلك أحبه

في الرابعة من عمره كان يسكن منطقة الظهرة بطرابلس و جاءت أسرته زيارة إلى بيت جدّه بسوق الخميس. الخميس فجرا أردفـه جدِّه وراءه على الحمار وتوجّها إلى السوق الأسبوعي الذي يرتاده كل سكان القرى القريبة. باع جدّه إنتاجه. فلفل أخضر. حنّاء خضراء. برميل زيت زيتون. وعادا منتصف النهار محمّلين ببعض الشاي والسكر والكاكاوية والبسكويت ولحم القعود و حبوب الرأس (الأسبيرين). مدّ جدَّه كيس لحم القعود للنسوان في المطبخ قائلا: أهو لحَّـمْـتلكم أي (اشتريت لكم لحماً). وطـُـبخ اللحم فورا وقـُـدم ساخناً مع وجبة البازين ومن عادة قبيلته أنْ يقوم الجد أو كبير العائلة بتقسيم قطع اللحم على كل أفراد الأسرة. حيث يوضع اللحم كله في صحفة كبيرة. وبعد التهام البازين ولحس جوف القصعة (الصحفة) وحواشيها بالسبابة اليمنى. قـُدمت صحفة اللحم للجد ليوزعه على أفراد الأسرة حسب السن والمكانة والمزاج. وبدأ جدّه يُوزعّ الشنتوفات (قطع اللحم). أعطى أباه. وأمه. وجدته. وزوجات أعمامه. وأعمامه. وعمته الأرملة. وبنت عمته الهجّالة (المطلقة) وعندما وصل دوره أعطاه عظماً به لحم قليل فأغضبه ذلك جداً وندم على مرافقته إلى السوق منذ الفجر. وكان الولد البكر ومدلل كل الشيء من قبل الوالد والوالدة فأحمر وجهه وتوترت أعصابه ورمى بالعظم فوق البيت الطيني ثم ركض بطريقة (إيديه في غمره) صوب بيوت أخواله. وهو يركض رجموه ببعض الحصى و سمعهم يتصايحون خلفه بكلام كثير يوبخونه به من ضمن ما سمع جملة (هذا شيطان شيشة).

نسى كل الكلام الذي وبّخوه به من قليل تربية ودبسيس ومنجوه و زوفري ونمس وكافر نعمة و هرواك و عسكر سوسة وما يتحشمش على وجهه ويخرج الطالح من الصالح وظلت فقط جملة شيطان الشيشة تلازمه حتى الآن. لم يستعلم عن معناها صغيراً أمّا كبيراً فها هو الذي في داخله يفككها دون معاجم أو قواميس أو موسوعات. شيطان كلمة معروفة للجميع. وشيشة معناها حسب علمه قنينة زجاج. ولا يدري هل الجان الذي سجنه سليمان الحكيم سجنه داخل قمقم بللور أم فولاذ أم هواء. أم داخل قمقم معنوي أي غير محسوس. عموماً الذي في داخله فيلسوف نفسه وفسّار ذاته و سيعتمد تـفسيره وفلسفته للجملة حسب رغبته ومزاجه فـشويطن الشيشة حسب مفهومه الخاص هو الجان المنبثـق من القمقم. هو الجان السجين الفار من القمقم. هو الجان الذي لا يؤمن بأي سجّان ولو كان ساحراً أو نبياً. وسيجزم أنْ كل نص أصيل هو شيطان شيشة. والشياطين الشيشوية توجد غالبا في الظلام وفي مكبّات القمامة. وفي الظلام ـ خاصة الدامس منه ـ لذة عظيمة وسكينة عامرة بالخـَـلق. والقمامة حرية هاربة من السجون. الحبر الكهربائي الالكتروني الطاقوي الذي يـنـقـر أزراره الآن قمامة. الواقع والخيال الذي يعيشه الآن قمامة. الحياة برمتها قمامة. الحياة بدون رمّة قمامة. الحروف التي تبزغ الآن قمامة. يراها بمرآة ظلامه. يتهجّاها بلسان حبّه. أربع فصول. أربع جهات. أربع أخلاط. أربع أطراف. أربع تـفاهات. أربع حروف. ح. ي. ا. ة. حياة. حياة اغنيوة. اغنيوة. اسم علم في قدمه قار. قار يغني الحياة. الحياة. اسم مشتق من البقاء. والبقاء يحتاجه في سديم أو نور الفناء. العظم الذي رماه فوق البيت أكل روحه الـقط. والعظم الأصلع من اللحم سحقه السلوقي بضروسه الحادة وابتلعه ليصيّره قمامة هيّاجة. سيخربش بمواء القطط ونباح الكلاب ووخز البراغيث قمامة عميقة. ربما ستكون شوكة تخربش الزكام. تـتـزوبع في العطس. شوكة مليئة باللحم والشحم وفائحة بالبهارات و هابزة من حيوية النضج. من يعشق القمامة لن يجوع. لن يعطش. لن يختـنق. لن يفلس. لن ينصلع. لن يشيب. لن يهرم. لن ينتهي. لن يفنى. لن يمرض أبدا. لن تجففه سن اليأس. وطبعا لن يموت. وسيعيش عيشة قماموية مملوءة بالدود الذي يأكل الغير ولا يأكل بعضه حتى مضطراً. والذي يشعر بالغثيان فقمامة الانطلاق ستـنعشه عبر كل الأيام. وآه من الأيام وأسرارها ودولها وغرائبها وعهرها و ميلها واعتدالها وضحكها ونواحها ورقصها و غنائها وعفافها وليلها ونهارها ونجواها و وجدانها وخلودها وعبيرها وشكرها ومجدها ووردها ونوارها وسلواها و سكينتها وحنانها وأحلامها وابتساماتها وتكشيراتها وسعادتها وشقائها ورصانتها وترهاتها وترّها وبولها ووترها ومنطقها وروح قدسها و سخريتها المرهفة والثقيلة.

يوم لك.

يوم عليك.

يوم عليهم.

يوم علينا.

يوم لهم.

الأيام عجيبة.

غامضة.

شبه عادلة.

لا ندري بما ستفاجئنا.

وهو صغير دائماً يمنحه أبوه الأشياء الجميلة.

وعندما كبر. لم يمنحنه أبوه شيئاً.

أوصاه فقط:

إنْ وجدت التمر في القمامة كله.

وجد القمامة ولم يجدْ التمر.

بعد حين لم يجد حتى القمامة.

و وجد تمراً (بلاستيكياً).

سك منه قلماً.

كلما لمسه وخـز إصبعه.

بتر إصبعه.

التـقـفـه كلب. نبح. نبح. نبح.

ثم ابتعد إلى مكان نظيف.

يتهجّى. ح. ي. ا. ة. تنأى بإبداعها عن موت مستقيم و تلتصق الكلمة في قدم اغنيوة. اغنيوة من هو اغنيوة. وما أدرانا من اغنيوة. اسم علمٍ في رجله عوج. اسم علم لقمامة رائعة. شجاعة. سجنت طويلا. ثم فاضت من شيشة السجن. فاضت من سجن الدولة. ومن سجن لمعانها. ومن سجن لعابها. ومن سجن ذاتها. ومن سجن روحها. ومن سجن ملابسها. خرجت لتمنح نفسها حيوات طازجة. ولتروي لنا عبيرها وعريّها النافذ إلى مشام الروح. أول عمل شغله اغنيوة كان رئيس كناسين. حدث ذلك في بداية السبعينيات من القرن المنصرم. لم يمض آنذاك على ثورة الملازم الشاب معمر القذافي على نظام الملك إدريس السنوسي إلا أشهر. الفتى اغنيوة نحيل الجسم. متوسط الطول. قمحي البشرة. في قدمه اليسرى عرج بسيط نتيجة شلل أطفال. مستواه الدراسي ثانية إعدادي ولعاهته لم يُقبل في كثير من الوظائف. لا سيّمَا المحتاجة إلى لياقة بدنية عالية كالجيش والشرطة وغيرهما.

قدّم ملـفا للبلدية لتستخدمه فقبلته وكان حي المحيشي آنذاك في طور التـكوين. فـوجِّه إليه ليترأس كناسيه.

حى المحيشي مربع سكني كبير مقسم إلى أربعة أقسام. كل قسم دُلل عليه بحرف:

أ.

ب.

ج.

ش.

كل مربع به مدرسة شُـيدت من الصفيح الرصاصي المتين. وهُندست على شكل حرف (U) أي مربع ناقص ضلع علوي. وسط الحي يوجد مركز الشرطة والساحة الرياضية والبلدية والعيادة ودار خيالة الفردوس التي بناها الناشر والصحفي المعروف الشعالي الخراز على حسابه الخاص بعد أن تحصل على ترخيص من المحافظ لذلك. أما مؤسسة البريد والسوق التجاري المسمّى بسوق العبيد فمبناهما جُعلا في منطقة حرف ش. والتي يقطن معظمها ليبيون سمر البشرة قادمين من زرائب العبيد بمنطقة شط الصابري.

في بداية قيام الحي لم يوجد به مسجد. بعد شهور تمّ بناء مسجد جميل في منطقة ش سُمِّّيَ على اسم أحد الصحابة رضوان الله عليهم. لكن الاسم الشائع حتى الآن هو مسجد سوق العبيد. مسجد ظريف صغير بمئذنة واحدة وقبّة بيضوية واحدة زاخر أسفلها بالثريات وحيطانه مزدانة بالآيات القرآنية الكريمة المبرقشة بالجبس الملون. في سقفه مراوح وفي أعلى جوانب السقف الأربعة كوّات طبيعية مغلقة بزجاج أخضر سميك. محرابه منقور في الجدار القبلي ومنبر الخطبة الملاصق للمحراب صنع من خشب فاخر. المسجد بناه مهندسون وعمال مهرة من باكستان. أنجزوه في زمن قياسي. وبمواصفات إبداعية رفيعة الجودة.

بيوت الحي ليست مكتملة. قطع أرض تجانب بعضها. مسوّرة بجدران إسمنتية. كل قطعة لها باب خشب وباب حصيرة معدنية للمرآب و صنبور ماء عند المدخل. على كل ساكن أن يبنى داخلها بالطوب الإسمنتي أو الجيري أو الصفيح. غرفة ومطبخ وكنـيف لقضاء الحاجة. أما الكهرباء فمازالت آنذاك مقتصرة على مركز الشرطة والبريد والعيادة والسينما والمدارس.

قبل الثورة كان اسم الحي مشروع إدريس بعد الثورة سُمي الحي بحي الإسكان الذاتي أو بحي المحيشي. بعد سنوات وعلى إثر محاولة انقلابية فاشلة تزعمها عضو مجلس قيادة الثورة عمر المحيشي تغيّر اسم الحي إلى حي المختار. ثم حي العروبة. ثم حي السلاوي. ثم حي المختار من جديد. لكن الاسم الذي ثبت في ذاكرة الناس هو حي المحيشي نسبة للقب المهندس الذي أشرف على إنجاز المشروع ونسبة لسواني المحيشي وأرضه الملاصقة والمتداخلة مع أرض الحي. هناك اسم آخر شهير معروفة به المنطقة هو المدينة الدائخة. لا ندري بالضبط من أطلقه عليها. وأطلق عليها لزعمهم بوجود كل مقاطر الخمور المحلية (الـقرابا) في هذه المنطقة غير المضاءة والمنعزلة والبعيدة نسبياً عن وسط المدينة.

من الأسباب التى جعلت البلدية تخصص منطقة حي المحيشي لسكان زرائب العبيد وحلاليق راس اعبيدة والكيش هو قرب هذه الأحياء العشوائية من المدينة وتأثير فوضى وصخب هذه العشوائيات على العمران المنظم المتمتع بكل خدمات البنية التحتية وغيرها. وفكرت أين تنقلهم. الصحيح تبعدهم. في البداية أرادت أنْ تشتري لهم أرض بن يونس المتاخمة لسبخة السلماني من مالكها. لكن اختلف معها في السعر فلم يبع وباع مالك أرض المحيشي للبلدية مساحة أقيم عليها الحي بسعر معقول. لتقسُمها لاحقاً قطعاً صغيرة وكبيرة وتسورها بترويسة واحدة. أربعة مربعات بارزة على الواجهة. أربعة مستطيلات من المشربيات ذات الفتحات الأربع. طلاء الواجهات كله بُني طوبي. القطع الصغيرة بها ثلاثة مربعات وثلاثة مستطيلات من المشربيات وخُصصت لأصحاب الأسر الصغيرة رأس و رويّس (رجل و امرأة). ولكي تمنح هؤلاء المعدمين ثقة في أنفسهم وسند تملك لهذه القطع طلبت من كل مالك أن يسدد ثمن الأرض وهو مبلغ رمزي صغير دفعه في متناول الجميع. بعد الثورة منحهم المصرف العقاري قروض بناء حوالى ثلاثة ألاف أو أربعة ألاف دينار فبنوا هذه القطع بالطوب والزلط وحديد التسليح والإسمنت لتتحوّل إلى مساكن صحية نوعاً ما.

قطن حي المحيشي خليط من كافة القبائل الليبية. معظمهم من ساكني أكواخ الصفيح والزرائب والعشش التي كانت منتشرة في أحياء الصابري ورأس عبيدة و السلماني والرويسات والكيش وغيرها. أناس فقراء. مستواهم الثقافي بالنسبة لأولياء الأمور والكبار ضحل وأكثرهم أرحم من قرّى و ورّا (أميّون). لكن بالنسبة للشباب فمعقول وجيد. معظم الشباب اجتهد وتعلم. فأغلبهم يمارس الرياضة. يقرأ الكتب والجرائد و المجلات المنتشرة آنذاك. يلعب الشطرنج. يرتاد دور العرض. هايتي. النصر. الاستقلال. النهضة. يحضر الحفلات الغنائية. يشاهد المسرحيات في المسارح. ومنهم من لديه جواز سفر ويسافر كلما سمحت له الحالة المادية إلى مصر و مالطا وايطاليا واليونان يسكر ويضاجع ويتسكع حتى نفاد آخر مليم.

اشتهرت منطقة ش بالفن خاصة غناء المرسكاوي والرياضة والطبخ والخمر طبعاً. فمنها المطرب الشهير حميده درنة صاحب الصوت الرقيق العذب الجهوري والمطرب الموهوب سعد الوسْ ومنها مجموعة عازفين مهرة ومجموعة راقصين رشقاء. بل أغلب أعضاء فرقة بنغازي للفنون الشعبية من حي المحيشي وبالضبط من حرف ش. ومنها أيضاً لاعبو كرة القدم: الموهوب ونيس جاب الله الملقب بالمزنة لسمرته الغامقة وهجومه الكاسح والمفاجئ على الخصم. ومنهم الهداف الخطير مصطفى المجدوب الذي لعب في أعرق أندية بنغازي وتألق كثيراً ومنهم لاعب الوسط الدولي محمد المجدوب صاحب المجهود السخي جدا ومنهم نجم فريق البحرية فرج البقرماوي الذي يجيد اللعب في جميع المراكز عدا حراسة المرمى لأنه بحار ويرفض القفز في غير الماء. ولا ننسى أيضاً مدافع شركة الإسمنت محمد النمرود الذي يهابه المهاجمون للعبه الرجولي وقوة كتفيه وشراسته في منطقة الدفاع. وفيما بعد ظهر في المنطقة ش لاعبون شباب مهرة.ابراهيم وونيس اسويري. فرج ارطيبة. حسين كريميسة. علي المجدوب. ميلود الفلاتي. مفتاح البقرماوي الملقب بالتوبو والحنش وكل هؤلاء اللاعبين لعبوا في نادي المنطقة المسمى السواعد وانتقلوا منه فيما بعد لنوادٍ أكثر شهرة مثل الأهلى والهلال والنجمة والتحدي والنصر. يوجد أيضا لاعبون دوليون في ألعاب أخرى. لاعب رفع الأثقال جمعة الديجاوي ولاعب كرة اليد مصطفى القميستا ولاعب الجري محمد علي الورفلي وغيرهم من الرياضيين في مختلف الألعاب الرياضية. كانوا شباباً جميلين طيبين يمتازون بالشهامة والكرم وخفة الدم حتى أنََّ مطربة شعبية بيضاء كالرخام عشقت أحد هؤلاء الشباب السمر فغنـّت له:

حتى كان سمارا هوَّا. كل العالم يأخذ سوّا

أي حتى وإن كان حبيبي أسمراني وليس أبيضاني فهو غالٍ وعزيز على القلب والروح وأغلى من كل العالم.

في منطقة ش تشم عبق الأكلات الليبية الأصيلة. أي شيء يطهونه له نكهة. حتى الشاي تشم رائحته من بعيد. هم لا يهدرون الرائحة أبداً ويستلذون بنكهة ما يتناولون. لهم طقوس خاصة في طهي الطعام وبهاراتهم مميزة يرششونها بواسطة إبهامهم وسبابتهم على الطعام بقدر وفي درجة حرارة معينة. أكثر الطبّـاخات اللاتي يؤجرونهن لإعداد ولائم الأعراس والمآتم من حي المحيشي حرف ش.

على شاطئ بحر المنقار يصطافون (شاطئ قريب يقع في منطقة اللثامة 3 كيلو متر شمال الحي). ما إن ينتهى الربيع حتى يبدأون في تشييد أكواخ من القش والسعف يزخرفونها بألوان الأندية المحلية والعالمية التي يشجعونها. يصطادون السمك خاصة الفرّوج والأخطبوط الذي يرطمونه على الصخر بعنف حتى الموت. يبيتون على الشاطئ معظم ليالي الصيف. في الليل سمر وغناء. في النهار سباحة وكرة قدم وأكل شرمولة ومشمش وخوخ وعوينة (برقوق) و دلاع وقلعاوي (نوع من الشمّام) وأسماك مشوية ومقلية ومحشوة. دائماً يضحكون. لا حزن تراه على الوجوه. من تظنه صامتاً تركز قليلا فترى ومضا شفافا لأسنانه البيضاء وتلاحظ حركة شفتيه البطيئة المنتظمة وطرقات مشط قدمه على الأرض. أي أنه يدندن لحناً باطنياً مازال يتوالد داخله. الفنان حميده درنة شاب أسمر. صاحب دكان صغير للمواد المنزلية. فنان في غناء المرسكاوي. يطوّر الألحان ويضيف إليها من روحه نغمات جليلة. وآهٍ من نغمات الروح عندما تأتينا دون موعد.

جذور المرسكاوي من واحة مرزق التاريخية في الصحراء الليبية. وصل إلى الساحل بواسطة القوافل القادمة منها لمقايضة التمر بالملح. هذا الغناء ولدته المعاناة ونبع من نواحات رحلات الجمال الطويلة وسط دروب الرمال والنار. حيث كان يساق هؤلاء العبيد للبيع في أسواق الشمال لشحنهم إلى أوروبا وأمريكا. النخاسون يفرقون بين المرء وزوجه. بين الطفل ووالديه. بين الحبيب وحبيبته. بين الصحراء وسكانها. يساقون تحت السياط ولدغ العقارب والحيّات في ظروف لا إنسانية. هي قمة في البؤس. من هذه السوق تتوالد الألحان وتتوالد الكلمات. يراها الجمل بعينيه ويسمعها بقلب أذنيه فيتألم ويصدر صوته الثائر المحتج فيُلجم بالكي بالنار أو بالوخز في النحر. إنه الألم سيد العالم. مشتت العقول وقاهر الصبر ومغطس الإيمان في مكبات القمامة. كل القافلة تنسجم في ألحان وليدة يغنيها الإنسان والحيوان والرمل والشمس والهوام وعندما تغيب الشمس يحطون رحالهم على كثيب ناعم. يوقدون النار ويرقصون حولها ويغنون. يتناولون طعامهم من حلاوة التمر ومن دفء لبن النوق ويستأنفون قدرهم مع طلوع الفجر صوب الشمال. الشمال مغتال الفجور. ممتص طزاجة الوجود. الشمال ذاك الفضاء الرصاصي و الثلج الباهت اللاهب. جالب التبلد والموت. أصل المرسكاوي من واحة مرزق في الصحراء الليبية. وصل إلى الساحل بواسطة القوافل القادمة منها لمقايضة التمر بالملح.

واحة مرزق تمر.

سبخة بنغازي ملح.

مرزق تطفئ سكرها بملح بنغازي.

بنغازي تؤجج ملحها بحلاوة مرزق.

فوق مرزق سماء

فوق بنغازي سماء

تحت مرزق ماء

تحت بنغازي ماء

لا تغادر نوق مرزق حتى تضرس نوى التمر. والفالت من أشداقها ينبت نخيلاً ثميراً ظليلاً في سباخ بنغازي الأسطورية. المرسكاوي لم يترسّخ إلا في بنغازي. هذه المدينة الكوزومبولية القابلة والمرحبة والمتـفاعلة مع كل شيء. بقية المدن الليبية ملتصقة أكثر بالبادية. لها زماميرها وشعرها الشعبي وأهازيجها البدوية الخالصة وطبعاً ووشاياتها المجيدة جداً. المرسكاوي ترانيم وافدة عاشت في بنغازي وتطورت في أعراس أحيائها الفقيرة ألحانا عذبة وكلمات شفيفة. تقبّلت كل الكلمات الشعرية المنجبة من معاناة الإنسان اليومية وجراحات الملح المزمنة.

أحبُّ الملح لأنه يذوب.

أحبُّ الفن لأنني لا أدري.

الفن حلاوة وملوحة.

الحلاوة طهارة.

الملوحة طهارة.

أمّا المرارة.

فآهٍ كم هي فائضة.

عندما تـفيض المرارات ستدرك نحلة الروح كم هي طانة في اللا جدوى. ستترك نحلة الروح الحلاوة وترتاد الملوحة. الأزهار المالحة تحط عليها النحلة فترتـشف منها فتصح وتتجدد أجنحتها المهترئة من حواجز المناخ. نحلة الملح جميلة تمنح نفسها للأزهار مثلما تمنح الوحوش الكاسرة نفسها للعصافير لتـطبـبها من القروح والطفيليات الزاعجة. الوحوش ناعسة مسترخية آمنة. ومناقير العصافير ليست بخناجر أو رماح. أو مسامير. لكنها ملاقط عندما تـقـبض على شيء ترفعه إلى العلا.

مع هذي القوافل وصل الكثير من العبيد. منهم من بيع وشحن إلى أسواق أوروبا وأمريكا و منهم من أعتق ومنهم من تمَّ بيعه لتجار مصراتة في شوارع قصر حمد و العقيب و كويري أو لقبائل البدو في نجوع قمينس وسلوق وبنينة والرجمة وجردس وغيرها. ومنهم من التحق بقريب له حر وسكن زرائب العبيد قرب البحر. وصلوا من الجنوب. من واحات الصحراء الآمنة. من أدغال إفريقيا السخيّة ومنارات تمبكتو المباركة وغابات السودان وأحراش تشاد والنيجر. كانوا يرفلون في الرغد الإفريقي. غـُدر بهم. كبلوهم بسلاح ناري لا يملكونه واقتيدوا عنوة إلى أفلاك البحر. دخل إليهم النخاسون البيض في أثواب مبشرين دينيين ورحّالة ورجال طب وجغرافيا وحضارة وفي أثواب تجار أيضاً. الحقيقة الدامغة التي اكتشفها العالم بعد زمن قصير: أن اغلب هؤلاء الوافدين جواسيس يبحثون عن الذهب والمجد والغرور بأية طريقة ولو بالمتاجرة بالإنسان وبعضهم الآخر مبشرون دينيون يستغلون جهل وفقر الإنسان الإفريقي لينتزعونه من دينه الذي يعتقده إلى أديان جديدة.

لحن المرسكاوي خليط من الحياة والموت. آهات طبول افريقية وزفرات نسيم بحر وأخاديد سراب راقصة وزئير أسود وفحيح حيّات ووجل غزلان جميلة وزقزقة طيور مهاجرة. وأنوار من ليالي السماء المقمرة. وسراب مائي غير خدّاع وندى غزير على خد متكئة في هودج مفتوح على الفضاء. أما كلماته فهي العذوبة و الصدق والرجاء و الأسى. كل الغناء عبارة عن رجاء وإنْ تعددت صوره. في أغاني المرسكاوي لا يوجد مدح سوى للحبيب ولا يوجد ذم سوى للفراق ومن يسببه. أغاني المرسكاوي ليست بها شياطين أو ملائكة. بها راحة و ألم. بكاء و ضحك. ظمأ و ارتواء. هي كفاح فني طربوي ينتصر للحياة. الصورة الشعرية في الكلمات بسيطة لا تـقعر لا افـتعال لا استمناء.

مشعّة كشروق. نقية كصلاة.

حميده درنة يلحن ويغني ويؤلف الكلمات أيضاً وأحياناً يغيّر كلمة فقط في بيت شعري قديم ليجعله نابضاً بالآن. حميده درنة إنسان طيب مرح كريم أخلاقه عالية مع أسرته ومع الجيران ومع الغرباء ومع نفسه أيضاً كل سكان حي المحيشي يحترم هذا الإنسان الفنان ويضع له مكانة رفيعة فوق قمم السماء. عندما يمر في الشارع يقف له ويحييه وإنْ مرّ من أمامه توقف وسلم عليه واطمأن على حاله وأحواله. في كل المناسبات الفرحة والحزينة تجده متواجداً يشارك الناس أفراحها وأحزانها. يشاركهم بأحاسيسه المرهفة وعندما يجمعون بعض المال لمساعدة أسرة فقيرة أو صديق يكون من أوائل الدافعين. باحة البيت مزدحمة. السماء تشارك فرحة العرس بنجومها وقمرها وأسرارها. حميده درنة جالس يبتسم. شنته الحمراء على رأسه. نظارته السميكة على عينيه. بجانبه عازف الكمان الفنان لامين. على يساره عازف الاوكرديون خليفة العرج. بجانبهم ضاربي الدف وناقرو الطبل والدرابيك. لا توجد في العرس مجموعة صوتية خاصة. جُلَّ الحضور من شباب حرف ش وغيرهم من سكان حي المحيشي. كلهم يحفظون الألحان عن ظهر قلب. ولهم قدرة عجيبة في حفظ أي لحن مرسكاوي جديد بمجرد سماعه لمرة واحدة. يحفظون الفن بأحاسيسهم وليس بحواسهم التي على جانبي الرأس. كل الحضور مجموعة صوتية. حميده يغني والمجموعة الصوتية التي هي كل الحضور تردد اللازمة بحماس ومرح. الجو مبهج والوافدون إلى العرس يتكاثرون فيفسح لهم الجالسون والواقفون فسيحات جديدة. "وين تصفى النيّة البيت ياسع ميّة". في ركن قصي بالباحة يوجد الشوهاي يرغوي الشاي المنعنع بنوعيه الأخضر والأحمر. وفي ركن آخر منزو يوجد ساقي الخمر. من يرغب في احتساء كؤوسه يتجه إلى ذاك الركن المظلم. قرابا أو بوزة. الجو بهيج جداً وحميده درنة انتهى من أغنية:

سيدي الفقي لو ريت بوتكليلة. يحرم عليك الدرس ما تمشيله (التكليلة لباس ليبي شعبي)

وبدأ يبرول بتبرويلة:

أنت يلي شالك لاويه. جرحت الخاطر روف عليه (الشال هو الوشاح)

ويرمي حميده درنة حزامية الرقص على شاب اسمر رشيق يُـنـَطـِّـق بها خصره ويرقص في منتصف الجلسة بمهارة وسط صرخات المعجبين وتغزلاتهم النابضة ويواصل حميده درنة تبرويلته بإيقاع أسرع حماسي:

شالك ملفوف.

خمس طاشر لـفّه عالجوف

قليبي من حبك ملهوف

طلب مرّة في العمر عطيه

وانت ياللي شــالك لاويه

وتتعالى حدة الصراخ عندما يصدح حميده درنة بتبرويلته الشهيرة:

يا قلـّتْ عيّل جرايْ. اندزَّا لي فيّة واداي.

وفيّة واداي اسم قبيلة شهيرة من الجنوب ينحدر منها قسم كبير من سكان حرف ش. والمعنى في التبرويلة أن العاشق يحب إحدى فتيات هذه القبيلة العريقة ويبحث عن فتى يجري بسرعة ليرسل معه السلامات والهدايا والأشواق. ويهيج الراقص مع التصفيق والصفير والصراخ مرعشاً وركيه بتواصل ولتصعد الرعشة بإضطراد من الوركين لتبلغ أعلى الكتـفين والعنفقة وليفك شملة الرقص عن خصره ويرميها على فتى مشدق مكـتـنز أبيض يجلس جنب اغنيوة الذي تظهر على وجهه إمارات الغضب والغيرة ويتلكأ الفتى في الوقوف ناظراً في عيني اغنيوة. صراخ الحضور يرتفع أكثر يحثونه على تنفيذ العُرف والوقوف للرقص فالشملة الساقطة على أي كان قدر غير مردود. الشاب الأسمر يوقف الفتى الأبيض الوسيم والخجول من كتفيه. يطاوعه فيقف. يربط الشملة حول خصره. ينزلها مائلة قليلا من الخلف إلى أسفل أحد وركيه. أحد السمر يمرر لاغنيوة كأساً من خمر القرابَّا وقطعة شواء في حاشيتها شحمة محترقة سائلة الدهن. يتجرع الكأس دفعة واحدة ويلحقه بقطعة الشواء. والفتى الأبيضاني يبدأ الرقص بطيئاً خجولاً متعثراً وجهه محمر ناز بالعرق. لكن الموسيقى الساحرة عليها اللعنة تستدرجه فينشط ويستغرق في الرقص البديع. كل الحضور يتصايحون لرجرجة مؤخرته المغرية و يرفعون وتيرة الصراخ مع تبرويلة حميده درنة الجديدة:

هالغزال لمن يا ربي. يمشي في الشارع ويصبِّي

وعندما يهمسون له أن الفتى صبراوي (من منطقة الصابري) يغني حميده درنة:

الصابري عرجون الفـل. الصابري عمرا ما ذل

الصابري زين على زين. الصابري ورد وياسمين

ويا عين يا عين. أنت هنا والغالي وين

يا عين يا عين. بين البركة وسيدي حسين

يا عين يا عين. طول السلك ايودْر إبرة

ويبتسم اغنيوة لمغزى السلك الذي يودّر (يضيّع) الإبرة و الفتى الأبيضاني يرقص واغنيوة يوسع ابتسامته ويحك بسبابته زغب شنبه ثم يشير للفتى أن يرمي الشملة على صديقه الحميم حميده درنة. لكن حميده درنة يتفطن له فلا يمكنه من ايقافه للرقص وينهي نوبة الغناء بكلمة بوريك التي تعنى في العرف الموسيقي الشعبي (قف) ويصفق الحضور طويلا ثم يشعلون سجائرهم ويوزع الشاي والخمر على من يرغب وتسخن الدرابيك والطبول وتضبط أوتار الكمان والعود والقانون استعدادا للنوبة التالية التي يبدأها اغنيوة بموّال:

لي قلب يا من يقضَّه.

ويلقاه كامي بغيضه.

مثل الجنين المقـمّط.

عطشان وأمه مريضة.

ويصدح حميده درنة فور انتهاء الموال بأغنية اغنيوة المفضلة:

درت المحيشي ما لقيتا ريدي. روَّحت نمسح في دموعي بيدي

وهذه الأغنية مؤثرة كثيرا في قلب اغنيوة. ففي بداية عمله في حي المحيشي رئيسا للكناسين. لمح فتاة جميلة تخرج من البيت بجردل القمامة تركنه أمام المرآب وتدخل سريعاً. منذ أن لمحها استقرت في قلبه. كان مشغولاً مع أحد الكناسين فلم يتملَّ منها جيداً. لكن نظرته الوحيدة لها جعلته لا ينساها. هو يتذكر ملامحها. لكنها لم تخرج من البيت ثانية. هل انتقلت إلى بيت آخر؟ أم كانت ضيفا لأهل هذا البيت؟ منذ أن لمحها صار يضع كتب مكسيم جوركي وتشيكوف وسارتر وهيجل وكارل ماركس ومجلات الكواكب وسوبرمان وميكي وسمير جانباً و يخرج من كشك العمل الخشبي يتجول في شوارع المحيشي متفقداً البراميل في المكب الرئيس والمكبات الفرعية ومراقباً الكناسين الكسالى الذين يتركون التنظيف ويستظلون بأول سور يثرثرون ويعدّون الشاي والشرمولة الحارة. كل يوم يمر من ذاك الشارع أكثر من مرّة. لكن لا يراها. قرفص أمام العيادة حتى أقفلت فلم يرها. زار مدارس حي المحيشي كلها فلم يرها. هذه الأغنية جاءته على الفاهق. على الجرح. مذ أن سمعها في مقهى العرّودي بميدان البلدية حتى وغرت جروحه وغذته بوجدانها الخبئ. بحث عن حميده درنة وتعرف عليه واشترى من دكانه طنجرة كبيرة و عدالة شاي وقصعة وكسكاس وغربال وإبريق يستعمل لوضوء الحاجة أمه. أمر الكناسين بالتنظيف بالمقاش أمام بيت حميده درنة ورفع قمامته في اليوم مرتين. بل أمرهم أيضاً برش الماء الممزوج بالفانيك في شارعه بالكامل خاصة في أيام القيظ. وعندما خصّه حميده درنة بسهرة صاخبة في (حقفة الجخ) غنى له فيها أغنيته المفضلة:

درت المحيشي ما لقيتا ريدي. روحت نمسح في دموعي بيدي.

بأكثر من لحن. أعطاه اغنيوة أدجيرو (سمح له أن يقودها في جولة) على سيارته b m w الحمراء و مساء اليوم الثاني أمر سيارة رش المبيدات الحشرية برش شارع حميده درنة ثلاث مرات يومياً. كان اغنيوة يقول لحميده درنة. أنت فناني المفضل. مداوي جرحي السرّي. لا أريد للبعوض أن يقرصك أو يلوث أوتار حنجرتك. فليقرص فناني البلاد اعليويكه والحاج ابريك وسيد بومدين وهليّل ولد البيجو. أنت ثروة لهذه ال (ليبيا). منذ اليوم لابد أن يكون شارعك نظيف. ودكانك نظيف. أنت فنك مثل قلبك نظيف. لا مكان للبعوض والذباب والعناكب والقمل والصراصير و الرتّيل والقراد والبق وأم أربع واربعين وحليمة الضراطة و بنات أوىَ فيه.

وتنتهي حفلة العرس عند الفجر. ويغادر شباب المنطقة والضيوف إلى بيوتهم. اغنيوة يترنح والفتى الأبيضاني الوسيم الذي لم يسكر يسنده و يساعده على المسير. يركبان السيارة. ويدير اغنيوة المحرك فلا يدور. السيارة باردة. ما العمل؟ ينزل الفتى الأبيضاني يفتح غطاء المحرك. يتفقد خيوط الشماعي والسبانتاروجي ويتأكد من وجود ماء كافٍ في المبرد ويتأكد من ثبات المكبسين الموجب والسالب على حلمتي النضيدة. يدير اغنيوة المحرك فيدور قليلاً ويقف مجدداً. تحتاج دفعة بسيطة. يطلب الفتى الأبيضاني المساعدة من شابين أسمرين ضخمين كانا واقفين عند الناصية. يرحبان بالمساعدة وكلاهما يتمتم للآخر ما أحلى الدف (الدفع). هيا ندف. هيلاهب. هيلاهب. هيلا هب ويدفعون جميعا السيارة باغنيوة. يدور المحرك فتندفع السيارة إلى الأمام بقوة. وفجأة ينقض الشابان على الفتى الأبيضاني ويجرجرانه بعيداً عن الطريق محاولين نزع سرواله والفعل فيه. أحد الشابين يصرخ في الفتى حتى أنت تحتاج إلى دف. الفتى يقاومهما بشراسة ويـنتش رقبة أحدهما فيصرخ متأوهاً صارخا بمازوشية عضعضني يا سمن الفراشات. اغنيوة يسمع الصرخة فيجذب المارشة (قضيب التعشيق) إلى الخلف ويتوجه بسرعة نحوهم. يقفز من السيارة شاهراً سكين بوخوصة وصارخاً:

يا عبيد يا مباعر. خلو العيّل.

يخز أحدهما في ساقه ويخلص فتاه.

ثم يركضان نحو السيارة ويبتعدان.

بينما الشابان السكرانان يكيلان لهما الشتائم ويقذفان السيارة بالطوب.

خرجت السيارة من شوارع حرف ش ودخلت الشارع الرئيس المعبد. انعطفت يسارا فقال الفتى لاغنيوة أين ذاهب؟ طريقنا إلى اليمين يا أستاذ. اغنيوة يغني درت المحيشي مالقيتا ريدي. يقول للفتى معاك ذكير (رجل شجاع) جنتل مان ما تخافش يا السمح. سنمر من أمام بيتها. نحلة ملحي التي رشفت ذاكرتي. ربما تخرج في هذه الفجرية المنعشة. ربما تشم عسلي السفلي فترتشف من أنبوب روحي المحروم. يدخل شارع خلف النادي الرياضي. ينعطف عدة انعطافات وأمام بيت في رأس الشوكة (الناصية) يضئ نور السيارة المبهر ويضغط على المنبه ثلاث مرات. رجل نصفه العلوي عار يخرج من البيت ويصيح شنو فيه؟. خير إن شاء الله. اغنيوة يخرج رأسه من النافذة ويغني درت المحيشي مالقيتا ريدي. يصافحه الرجل بيده الموشومة. تفضل أستاذ اغنيوة. نشعل الفنار وانديرولك قهيوة مرّة وللشاب رفيقك كأس برّد (عصير). اغنيوة يصافحه ويشكره. أنا نبيها. وينها حبيبتي. نحلتي. شفتها أطلت من هذا الباب. أو من باب مثل هذا الباب. الأبواب متشابهة في حي المحيشي وحبيبتي لا شبيهة لها. يجاريه الرجل مواسياً مصبراً إياه. ربي يجمعكم مع بعض. بيت الحلال مرزوق. وأكيد ستلتقيان قريباً في عش الزوجية.

والرجل تعرّف على اغنيوة من خلال علاقته بالكتب فاغنيوة قارئ نهم والرجل بائع كتب قديمة على رصيف المستشفى الكبير. يكرر استضافته. دقيقة أجهز لك قهوة وللوليد اللى معاك طاسة برّد. اغنيوة يهذي بنحلته المالحة الطائرة بعيداً ويضغط على دوّاسة الوقود كنذير انطلاق ثم يوقف هذيانه و يرد على ضيافة الرجل. منوّر. منوّر. نحن ماشيين مروحين مستعجلين. حبينا انمسِّي على الحلوين بس. يغني. ريتا مالروشن طل. اللي خزرة عينا تقتل. و يغادر بالسيارة. يخرج من حي المحيشي. يصل الصابري. حيث يسكن الفتى. أذان الفجر ينطلق من عدة مساجد في آن واحد. ينزل الفتى مودعاً اغنيوة. اغنيوة يناديه بعد أنْ يبتعد خطوات. تعال. أقرب مني إشوي. أريد وجيهك السمح. يقترب الفتى من وجه اغنيوة بخدّه. يقبّله اغنيوة ويصرخ. انحبك يا شدوق التفاح. ما انتحملكش بكل بككككككككل آه لو كان مش واكلين مع بعضنا عيش وملح. العيش مش مشكلة ممكن ييبس وننساه. لكن الملح اللعنة عليه ذائب في عروقي.

يدخل الفتى بيتهم. أمه تسلم سلام انتهاء الصلاة. وتقف معاتبة. وينك يا وليدي. هذه الليلة تأخرت كثيراً. أين كانت الحضرة. وأين الشيخ لم يصحبك كالعادة. يتلعثم الفتى. الحضرة في حى المحيشي. الحي الذي اسمه المدينة الدائخة. قال لنا الشيخ: الحضاري في المناطق التي بها موبقات وخمر وسيئات ننال عنها حسنات كثيرة مضاعفة. تقدّم له الأم كوب لبن رائب وكسرة خبز تنور. يشكرها ويضع الكوب والكسرة على نضد صغير. أريد دخول الحمّام أولاً. الأم تتأمل وجهه وعينيه المحمرتين وتقول: لكن هذه الليلة رائحتك ليست جاوى وفاسوخ ووشق وحلتيت ولوبان. هناك رائحة غريبة عالقة بك. وينز العرق من جمجمة الفتى وتحمر خداه. رائحة ماذا يا أمي؟ ربما رائحة العبيد!. كنا في حضرة في حى المحيشي. في حرف ش. حيث يقطن العبيد. لا يا وليدي. صنان العبيد ماني غابية فيه (أعرفه جيدا) كانوا جيراننا في الزرائب. هناك رائحة ليست آدمية. رائحة خمر والعياذ بالله. خفْ ربك حرام عليك. تعال أقرب مني أريد أن أشم فمك. الله لا تسامحك ياوليدي دنيا وآخرة لو كنت شربت الخمر أو دخنت السجائر. أبوك قبل ما يموت أوصاني بك. وكان رجلاً صالحاً. وأنا أخدم فرّاشة (منظفة) في مدرسة دكاكين حميد من أجل إطعامك بالحلال. لقمة الحرام حدّ الله بينا وبينها. بيننا وبينها رسول الله صلى الله عليه وسلم. حتى الزواج رفضته أكثر من مرّة من أجل تربيتك تربية عفيفة كريمة. وأجهشت في البكاء و ذو شدوق التفاح أيضاً.

الفتى جميل جسمه متناسق نضر. ابتدأ حفظ القرآن في إحدى الكتاتيب التابعة لإحدى الزوايا الصوفية ومنه إلى المدرسة النظامية. في الصباح يدرس في المدرسة النظامية وبعد الظهر يرتاد الزاوية يتلقى مبادئ التصوف. يحفظ الأوراد. ويشارك جوقة المنشدين إنشادهم. عندما شب بدأ يشارك في الحضاري. يضرب الدف. يسخن البنادير. يساعد في أي أعمال يكلفه بها الشيخ. أصطفاه الشيخ من عدة صبيان ليكون خادمه ومعاونه. في غيابه يترك له مفتاح حجرته ومفتاح الزاوية. صار محل حسد من بقية الفتيان ومن بقية المريدين القدماء. حتى المكافآت كان الشيخ يساويه بالشيوخ الآخرين متعللاً بيتمه ونشاطه وأمه الأرملة الوحيدة راقدة الريح (الفقيرة). وطاعة الشيخ في الزوايا الصوفية واجبة ومُلبّـاة. رفض أوامره حرام. بل من الكبائر المخلدة في النار. لا أحد يتصرف في شيء في الزاوية إلا بعد إذن الشيخ. الطعام لا يقدم إلا بإذنه. الأناشيد لا تنشد إلا بإذنه. ماء الزهر لا يرش إلا بإذنه. البخور لا يوضع في كانون النار إلا بمباركته. أي تصرف يقام بدون أمر الشيخ باطل وضلال وجب التبرؤ منه. وطرد فاعله من رحاب الزاوية. عاش الفتى في هذه الأجواء. يطيع الشيخ طاعة عمياء. يرافقهم في الحضاري ويرى كيف يلحسون الرفوش والمعاول المتجمرة وكيف يلتهمون المسامير ويبتلعون الزجاج ويغرزون الأسهم في الأشداق والسكاكين في البطون. كان الفتى منبهراً بهذه الخوارق. يحكيها لأمه بإنفعال فتقول أمه تستور يا اسيادي. أي شيء يطلبه منك الشيخ نفذه. أريدك شيخاً يا وليدي وعندما تموت بعد عمر طويل تصير مرابطاً تعلق على روضتك كثير من الأعلام و يزورك الناس أفواجاً أفواجاً. طاعة الشيخ واجبة. لا ترافق أولاد السوء. فجليس السوء كنافخ الكير يوسخك وينتن رائحتك. دائماً يصطحبه الشيخ حتى البيت يسلم على أمه ويمنحها بعض اللحم أو الفواكه أو المال. فتوصيه على الولد. فيقول لها في الحفظ و الصون. المرحوم أبوه صديقي وهو أمانة في عنقي.

*    *    *

وذات مساء سُمع صراخ وعويل من بيت الشيخ القريب. الشيخ مات. مات فجأة. سكتة قلبية. مات ووجه مبتسم. ومصحف القرآن مفتوح أمامه. حفيدته جاءته بطاسة الشاي فوجدته دون حراك. لم يعانقها كما كان يفعل ويمنحها حفنة لوز. مات الشيخ عبد السلام. وحزن عليه الفتى مثل حزنه على أبيه الذي لم يره. بكى كما بكت أسرة الشيخ. وبعد أسابيع خف الحزن. وعيّن لمشيخة الزاوية شيخ آخر من كبار المريدين. الشيخ الجديد كهل سمين دائماً يبصق في أي مكان ويحشو فمه بتبغ المضغة. الفتى لم يتقبله. لكن طاعة الشيخ واجبة ومُلبّاة. صار يخدمه كما يخدم الشيخ عبد السلام رحمة الله عليه. والشيخ يصحبه حتى البيت إن تأخر الوقت وأظلمت الدنيا. يتجاذب مع أمه أطراف الحديث. يسألها إن ينقصها شيء أو تشعر بأي خوف. فتقول له الدنيا أمان والبركة في الجيران. يغادر بعد أن يقول أنا دائماً في الخدمة. طيلة الأربع وعشرين ساعة. أرمي حجراً صغيراً على سقف البيت وسأكون عندك. أنا في الخدمة في أي وقت. حتى بعد منتصف الليل. أحبّ الخير في الليل. أحبّ خدمة الغير. رغم أنك لست من الغير. فأنت منا وعلينا.

كل يوم في غرفته بالزاوية يستلقي على بطنه ويطلب من الفتى أن يدلكه فيقف الفتى على ظهره ويمشي أماماً وخلفاً بمهل مهرساً كتفيه وجنبيه ووركيه. الفتى حافي القدمين يمشي على ظهر الشيخ والشيخ يتأوه ويقول هنا. هنا. أسفل قليلاً. يساراً. فوق يا نا عليْ. هنا بالضبط يا عيني عليك. تمام. يجلس الشيخ من رقدته. يحضر الفتى الإبريق والطست. يصب عليه الماء. الشيخ يتوضأ. ويطلب من المؤذن أن يرفع الأذان للصلاة. وتوالت هذه التماسات. وذات ليلة بعد صلاة العشاء. أحضر الفتى كانون الجمر ووضع فيه حفنة بخور. وطلب الشيخ من الفتى أن يضرب له البندير. والشيخ بدأ يجدب. ويقول الليلة سأعلمك كيف تضرب الموسى في بطنك. والفتى سعيد بهذه الخارقة التي سيتفاخر بها أمام الفتيان والناس. الفتى يضرب البندير. الشيخ يجدب. حفنة أخرى من البخور يضعها الشيخ في الكانون فيصير جو الغرفة خانقاً مضبباً. الفتى يكح. الشيخ يجذب الفتى إليه هامساً. بعيد السوْ. ينفخ قرب فمه يكاد يقبله. وينشش عليه بنشاشة السعف. الفتى يدور يريد الابتعاد عن الشيخ قليلاً. الشيخ يصرخ تستور يا اسيادي ويجذبه برفق ناحيته. الفتى يطاوعه. يطرحه على بطنه. يغطي رأسه بالبندير. خليني انعفسك اشوية. يدلك له كتفيه وسلسول ظهره وجنبيه. ويهبط بأصابعه التي توترت إلى وركيه. يمرسهما قليلاً. أصابعه تغوص في اللحم الناعم الطري المكتنز. يلعن الشيطان. الشيطان يلعنه. البخور يصّاعد أكثف. الفتى يضع على رأسه البندير صامتا و مطيعا كما أرضعته الزاوية. الشيخ يبصق المضغة بعيداً. يهيم في عالم النشوة. في عالم النسيان. ما عاد هناك شيء. لا شياطين. لا ملائكة. جسد يشتهي جسداً. يفك التكة. يؤخر سروال الفتى إلى الوراء. حتى ركبتيه. يوشوشه لا تخف. كل ضاربي الأمواس في البطون مضروب لهم. كي يحتمل جسدك السكاكين. لابد له من امتصاص هذا الحقـن. وبصق بين إليتيه ودفعه فيه. الفتى صرخ. والشيخ وضع راحته على فم الفتي وهمس في أذنه. اصبر وإياك أن تخبر أحداً عن هذا الأمر. إن أفشيت السر ستؤثر فيك السكاكين و تقتلك إن غرزتها وسيدقدقك الشيخ الأكبر صاحب السر والخاتم في المنام.

وواصل هذا المتشيّخ معاشرة الفتى والاستمتاع به بكل الأوضاع. وكل مرة يسأل الفتى متى أضرب السكين فيجيبه مازال بدري عليك. جسدك لم يمتلئ بعد. مازال الأوان لم يئن. وفي يوم من الأيام قرر الشيخ العودة إلى مدينته الساحلية حيث النخيل. لقد نشب صراع هناك حول بعض الأراضي الموروثة له. أبناء عمومته سيلتهمونها. الأرض صارت منطقة تجارية في قلب المدينة وأسعارها ارتفعت بجنون. لو بقى هنا في رباية الذائح بنغازي ستضيع أرضه. سيشمت فيه الذي يسوى والذي لا يسوى وسيوصف بالهرواك والهيدوق. عرض على أم الفتى الزواج ليأخذها معه مع ابنها فرفضت. وعرض عليها أخذ الفتى معه ليواصل تعليمه (مضاجعته) هناك في المنارات والتكايا الصوفية. لكنها تمسكت بإبنها. فغادر حزيناً ملتاعاً متألماً جداً. واستلم الزاوية شيخ آخر. طلب من الفتى عدم الحضور إلى غرفته. أي أنه لا يريد خادماً. وإن أراد الحضور كمريد فمرحبا به. سأله الفتى ألن أضرب السكين فقال له الشيخ أنا لست مؤمناً بهذه الشعوذات. منذ هذا اليوم الزاوية ليس بها شيء سوى ذكر الله وحفظ القرآن والصلاة. ارتاد الفتى الزاوية أياماً. ثم بدأ يتغيب. ويتسكع صباحا وعشية في منطقة وسط المدينة التجاري. الفندق البلدي. سوق الجريد. يدخل سينما هايتي أو النصر أو الاستقلال. وأحياناً يتمادى فيبتعد متجوّلا في سوق الحشيش وشارع عمرو بن العاص وشوارع السكابلي وسيدي حسين. ذات عشية دخل مقهى دمشق بشارع عمرو بن العاص وطلب طربوش آيس كريم. صار يمتصه بشفتيه الحمراوين ويتمشى على مهل. وعندما وصل امام القنصلية الإيطالية في الشارع نفسه وقف ورمى مغلف طربوش الآيس كريم في سلة المهملات. لمحه اغنيوة وهو مار بسيارته فظنه ايطالياً. حيّاه بالإيطالي فرد الفتى بالعربي وابتسم. ركن اغنيوة السيارة إلي اليمين ونزل يعرج يقدم للفتى محرمة ورقية يجفف بها يديه وفمه من الآيس كريم، وعرض عليه أن يوصله إلى البيت في السيارة فاعتذر الفتى لكن اغنيوة ألح وقال للفتى وراس العزوز (أمك) أنت تشبه أخي الصغير ولابد أن أوصلك فالدنيا مغرب ولا يمكن أن أتركك هنا. استأنس فوافق. صارت صداقة بريئة بها بعض الجنون المحبوب. الفتى لا إخوة ولا أخوات له استأنس باغنيوة المثقف الذي عامله برقة وبرؤية نفسية متحررة. فتح له الفتى قلبه وباح له بمشاعره و آماله. حكى له عن أمه ووصاياها وفي لحظة شديدة من البوح الصادق و الاطمئنان باح له بقصة الشيخ اللوطي الذي شبع فيه.

تمتم اغنيوة بخفوت اللعنة على هذا الشيخ الفاسد. يعطيها في صغره ويدوّرها (يبحث عنها) في كبره. لم يستغل اغنيوة سذاجة ومراهقة الفتى ليضاجعه هو أيضاً. فاغنيوة من عشاق الفلايك وليس الثقوب. دائما يقول الفلايك تسير في البحر وليس في الآبار. وأنا أحب البحر وعروسه التي ستجدني دون اصطياد. والثـقوب لا ألجأ إليها إلا مضطراً و لكسر الخشوم فقط. اكتفى بتقبيل خديه كلما اشتد به الوجد وجذبته نشوة السكر. أبعده عن الزاوية وشجعه على مواصلة دراسته الصباحية. في العشية يمر عليه بالسيارة يأخذه معه إلى شارع عمرو بن العاص. يجلسان في مقهى دمشق قرب قنصلية الطليان يذهبان إلى المدينة الرياضية لمشاهدة المباريات. الفتى صار يشجع النادي الأهلي بنغازي الملقب بالجزارة لأن أغلب الجزارين المشهورين في المدينة يشجعونه وعندما يفوز في مباراة أو ببطولة ينحرون له الإبل ويذبحون له الثيران والأكباش وتيوس الماعز. لم يشجع فريق منطقته المتحد الملقب بالشخاخة لأن مبنى النادي القديم ليس به دورة مياه فيتبول من ينزنق من رواده خلف المبنى.

تأثر باغنيوة وفلسفته وألوانه وحتى بقراءته. بدأ الفتى يقرأ الجرائد والمجلات وبعض الكتب. ابتعد قليلاً عن الجو الديني والصوفي الذي ترعرع فيه. يحل الكلمات المتقاطعة ويقرأ المغامرات. اغنيوة سعيد بعمله رئيس كناسين. كل الكناسين يفرزون القمامة قبل رميها في المكب ينتشلون كل ما هو ورقي. رسائل. أوراق رسمية. كتب مجلات. جرائد. اغنيوة يصففها في المكتب ويفرزها ويقرأها جميعها والذي ينفع يوزعه على الأصدقاء أو يبيعه لصديقه بالعيد تاجر الكتب القديمة تحت سور المستشفى الكبير والذي لا ينفع يأمر الكناسين بحرقه. الكتب الجميلة يحتفظ بها ويعير بعضها للفتى. الفتى يناقش اغنيوة فيما قرأه واغنيوة يشرح له ما يعرفه. تعلق الفتى بالأدب الروسي. صار كتاب الأم لمكسيم جوركي لا يفارقه. قرأه أكثر من مرّة. وقرأ لأمه منه صفحات أعجبتها. لكن الكتاب الممتع الآخر الذي شد الفتي هو كتاب ألف ليلة وليلة. يقرأ منه ويغمض عينيه ويحلم بشهرزاد ويستمنى عليها أحياناً. ويستغرق في شخصية سندباد. ويكونه. وعندما يأتي إلى اغنيوة في العمل. يتنقل بين أكوام القمامة. اغنيوة يناديه من نافذة مكتبه الخشبي والفتي يقول له دعني أبحر بين جزرك النافعة. ويبحر الفتى مزاحماً القطط والكلاب والفئران والتي يرفض اغنيوة التخلص منها أو وضع السم لها كما طلبت البلدية. أكوام القمامة خمسة أكوام. كل حرف من أقسام الحي له كوم. الكوم الخامس هو كوم الحكومة. كوم قمامة مركز الشرطة والعيادة والبريد والبلدية ودار الخيالة والنادي. في هذا الكوم يجد الكناسين كثيراً من اللقي ذات القيمة. الأكوام الأربعة الأخرى يجدون فيها بعض الكتب والمجلات.

قمامة البلدية والشرطة مليئة بالطعام والمعلبات. قمامة دار الخيالة يجدون بها دائماً بعض النقود الساقطة من المشاهدين في الظلام أثناء استمناء بعضهم على البطلة. قمامة العيادة نتنة لكن بها بعض المواد الطبية وبعض علب الحليب المجفف المطعّجة وغيرها. يتنقل الفتى بين الأكوام. ينكشها بعصا رفيعة ويلتقط منها كل ما يراه مفيداً. الكتب والمجلات يحضرها الى مكتب اغنيوة بعد ان ينفضها من التراب ويمسحها من العوالق اللزجة. يقرأ فيها ويسأل اغنيوة عن كل ما غمض منها. كل الكتب وجدها في القمامة. كل المجلات والجرائد باللغات كافة. الكتاب الوحيد الذي لم يجده في القمامة هو المصحف الشريف القرآن الكريم. هكذا قال له اغنيوة عندما سأله عن معنى المدينة الدائخة. قال له لو كان سكان حي المحيشي دائخين فعلاً كما يشيعون عنهم لرموا القرآن الكريم في القمامة. إنهم مدينة مستيقظة رزينة رصينة فيلسوفة. مدينة قمامتها كتب. وكلما أقول أن الكتب نفدت أجد كتباً جديدة. إنهم يطالعون بنهم ويشترون الكتب شراءهم للخبز. والكتاب المقروء كتاب ميت. يرمونه ويحضرون غيره. والحقيقة أيها الفتى أنا استفدت من العمل في هذه المدينة الدائخة. القمامة جعلتني مثقفاً ومفكراً وكاتباً وسياسياً. جعلتني أفكر أن أصير زعيماً بطلاً أقود العالم نحو الخلاص والشياطين العنيدة صوب الجنة. والشياطين الطيبة صوب النار. جعلتني صديقاً لأحلى فتى رأيته في حياتي. الجميل أيضاً أنه عندما تشرب الخمر في هذه المنطقة لا يشنـتلون(يبصّون) فيك للبوليس.

أنا أحب القمامة. أحب الأغنياء السكارى الكرماء المتواضعين. أحبُّ الفقراء. البسطاء. سكان زرائب العبيد. أحبُّ أنْ أخدم دين أبو أمهم من عيوني. أنظف مساكنهم. تنظيف المساكن يسعدني. لا يتعبني كما يتعبني تنظيف القلوب. في هذه المدينة استمع للضحكات وكأنها أغانٍ وأستمع للعطسات وكأنها أناشيد. منذ السادسة تجدني في مكتبي. أحد الكناسين يعد لي الشاي على الخشب. يناولني طاسة شاي وكسرة خبز. ارتشف وأقرأ الكتب التي وجدوها بالأمس. هم يسعدونني كلما يحضرون لي كتاباً. يتسابقون على فعل هذا. بقية اللقي ذات القيمة المادية يحضرونها لي. أضعها في درج المكتب. أخر الأسبوع أذهب صحبة مندوبين عنهم ونبيعها. الذهب في سوق الذهب. بقية الأشياء من ألومنيوم ونحاس وخشب وبلاستيك وملابس في سوق الترك وسوق الظلام. نتقاسم المبلغ بالتساوي وإن كانت الحصيلة ضئيلة أتنازل لهم عن حصتي. هم يحبونني كثيراً ويستمعون لحديثي قبل توزيع الحصيلة. أحدهم قال لي أنت كلامك أفضل من كلام شيخ المسجد. وآخر يقول له قل استغفر الله. فالأستاذ اغنيوة حديثه حديث دنيا وشيخ المسجد حديثه حديث دين. ويحسم اغنيوة النقاش قائلاً كل إنسان حر في رأيه. رأيه في كلامي أحترمه ورؤيتك حول حديث الدنيا وحديث الدين أحترمها. نحن في النهاية إخوة نحب بعضنا البعض وليزداد هذا الحب خذا حصتي هذا الأسبوع و اقتسماها فكلاكما أسرته كبيرة والمدرسة على الأبواب ويصيح أحدهما لا يا أستاذ اغنيوة حبك يزداد دون مال. نحن مستوران والحمد لله. لكن اغنيوة يصر على الأمر. يقول لهم أنا لست متزوجاً ومصاريفي قليلة وراتبي من البلدية جيد. خذا حصتي وعلى قلبي مثل العسل. سأحكي لأمي عن ذلك فتـفرح. يقول الذي وعظ بالدنيا والدين إنشاء الله تكمل نصف دينك وتتزوج ونغني لك جميعاً ومعنا صديقك حميده درنة. يقول اغنيوة يا ريت (يا ليت). يا ريت. لكن أينها الحبيبة التي أخرجت جردل القمامة ذات يوم. وجهها أحفظه. لكن لم أجدها.

أحد الكناسين قال أعرف تقازة (شبّاحة أو رائية أو عرافة) تجدها لك يا أستاذ اغنيوة. ويضحك اغنيوة ربما مثل تقازة صاحبك ذاك ـ ويشير إلى أحد الكناسين المتقرفصين أمام كانون الشاي ـ التي عرضت عليَّ ابنتها الهجالة (المطلقة) للزواج وأكدت لي أنها هي من رأيتها. سأجدها بنفسي. صورتها محفورة في روح ذاكرتي. سيأتي من يتعامل مع روح ذاكرتي. شيء مني أفتقده ويعيش بداخلي. سيخبرني عنها. عن اسمها. عن عنوانها في طيّات أحلامي. حتما سأجدها لأني أحبها. أنا لا أكتب لأني فقير أو مضطهد أو عانيت من السجن. أو لدي عقدة. أو كبت. أو فشل. أو نقص. أو لأنني يساري أو يميني أو مستقل أو في المنتصف. أكتب هكذا لعيون الحب. في معظم الكتابات الأخرى. اليسار يهاجم اليمين. اليمين يهاجم اليسار. الفشل يهاجم النجاح. الفائض يهاجم النقص. الكبت يهاجم الارتواء. الواحد يهاجم الإثنين وهكذا إلى ما لا نهاية. لكن الحب لا يهاجم أحداً. حتى الكره لا يهاجمه. لا يهاجم شيئا البتة. فقط ينزرع في القلوب برفق ويسكن داخلها ويغني. أنا اغنيوة. أنا أغنية. أنا أكتب لأنني أحب. الحب جعلني سعيداً وجعلني أبدع. وسيجعلني أجد مستحيلها. سأجدها هذه الفتاة التي رأيتها ترمي القمامة أمام البيت. حتما سأجدها و أخطبها وستـزفونى أنتم أيها الأصدقاء الشرفاء. يا منظفو الشوارع والقلوب. ستغنون لي وتطرقون على قعور وجوانب براميلكم أعذب الإيقاعات. ذاك اليوم الذباب سيتحول إلى فراشات والبعوض لن يلسع أحداً. والفئران ستتمرغ على ظهور القطط بكسل. سنكون فرحين جميعاً. بشر وحشرات وحيوانات ومياه وكتب وأقلام وبرّايات (مبرأة أقلام رصاص) ومحّايات (ممحاة) وحقائب مدرسية. وطبيعة صامتة أو صاخبة. سأدخل عليها في هذا الكشك. سأضاجعها فوق هذه الطاولة ومنديل بكارتها الفلكلوري أرسله للأمم المتحدة ولدول عدم الإنحياز والفاتيكان ولمكتبة بابل والأسكندرية ولساحة جامع الفنا. سأضاجعها جنب الكتب. أنا ورقة وهي ورقة. أنا حبر وهي حبر. أنا معنى وهي معنى. أنا أسير على الشظايا. وهي تسير على الشظايا. سأضاجعها جنب شهرزاد الف ليلة وليلة ورامبو وبودلير وهمنجواي وتولستوي وجوركي وموبسان وهوميروس ودانتي وبلزاك وتشيكوف والبرتو مورافيا وشكسبير وشتاينبك وفوكنر وديوستوفسكي ومحمد الأصفر وسيمون دىبوفوار ونيكوس كازنتزاكي وطه حسين والعقاد ومحمد خير الدين وكاتب ياسين ويوسف الخال و محمود المسعدي ونيقولا زيادة والشاعرالجواهري ومليكة مستظرف وماجدة الرومي وصادق النيهوم وأحمد شوقي وحافظ إبراهيم وأبو القاسم الشابي وفرجينا وولف وفاطمة ناعوت وجمانة حداد وفيروز وام كلثوم وفاتن حمامة وسعاد حسني وفريد شوقي وكل المبدعين والمبدعات الأحباء. ستوافق حبيبتي حتماً على أن أضاجعها في غرفة النوم هذه. إن تحبني حقيقة تحب قمامتي أيضا. القمامة هي التي عرفتني بها. رأيتها وهي تخرج جردل القمامة. أنا لا أنتج القمامة. الحياة تنتج قمامة. المجتمع ينتج القمامة. أنا أفرز القمامة. المجتمع لا يفرزها. القمامة مفيدة. سماد للحياة. كل طعامنا قادم من العفن. نحن عفن. رائحتنا نتـنة. يقول أحد الكناسين عفوا لم أفهم يا أستاذ اغنيوة. يجيب اغنيوة إن فهمت تـفطس. دعك في جهالة البحث وإطراقات السكوت. دعك في حياة الأمل. غداً ستعرف. بعد غد ستعرف أكثر وهكذا و دواليك. ويقفل اغنيوة كتاب الشاعر الفرنسي رامبو الذي كان يطالعه متمتماً. ناكته التجارة (أي التجارة خرّبت عليه وسرقته من الإبداع). ثم يضعه فوق ديوان الشاعر هنري ميشو. ويفتح كتاباً للناقد الجرجاني. يطلب طاسة شاي أخرى. ويصرف العمال كلا إلى عمله بينما يمنح اثنين منهم إجازة مرضية وثالث إجازة اجتماعية لحضور حفلة كشك وسباق ميز في منطقة برسس (الكشك حفلة رقص وتصفيق وغناء بدوية بها راقصات مختمرات والميز سباق خيل و أيضاً يطلق على مطعم الجنود العسكري).

*    *    *

عندما خرجت بلقيس بجردل القمامة ووضعته أمام مرآب البيت كانت قد لمحته أيضاً. وما دار في قلب اغنيوة دار مثله في قلبها. اللمحة فعلت فعلتها. دقة قلب ولدت في آن واحد. دقة قلب مشابهة لأختها. دقات القلوب كما البصمات تختلف من مخلوق لآخر. تختلف عن بعضها البعض. في زمنها ومكانها. وحلمها. هناك دقة أنثى ودقة ذكر. الدقة التي خرجت آن اللمحة من كلا القلبين جنسها الحب. أي لا ذكر ولا أنثى. دقة تلاشت في عالم الصخب. دقة ركلت صمتها. غادرت رحمها المسكون بالسكون. لاندري هل غادرته طوعاً أم كرهاً. كانت في طابور يتقدم. طابور مدفوع من الخلف. صوب هوّة الحياة التي نتهجّاها مجهولاً دفيناً. طابور يهدر تباعاً. القلب مكانه. المجهول قائده.. يهدر في معاشات كثيرة مختلفة. عبثية وموضوعية. حسب المعيّار الطاغي ذاك الآن. مرفأ الوصول لمحة عين اغنيوة. لمحة عين بلقيس. الدقة ذابت في درب البصر. سكنت في ذاكرة صاخبة. اغنيوة يتذكر بلقيس. بلقيس تتذكر اغنيوة. اغنيوة يبحث عنها. بلقيس تبحث عنه. تائهان في اتساع الوجود. ذهبت إلى المدارس. إلى العيادة. قرب النادي الرياضي. حول مركز الشرطة. أمام المسجد. في أروقة سوق العبيد. إلى البريد. لم تجده. هي لم تذهب إلى مكب القمامة قرب سواني عصمان. فهناك المنطقة فضاء. و لا أنس. ولا سكان. كلاهما يبحث عن الآخر. كلاهما له في قلب الآخر بهجة يريدها. قدر يريد أن يعيشه فيه. ضجعة مجنونة يريد أن يحقـقها. الأقدار تعاش في بعضها. البُعوض التائهة قدرها يضحك.

كانت بلقيس زمن اللمحة في زيارة خالتها كريمة والخالة كريمة امرأة من أصل يهودي دخلت الإسلام هي وأختها حليمة (أم بلقيس) واشتكت أسرتهما للسلطات البريطانية التي كانت تدير ليبيا عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية فحاولت هذه السلطات أن تعيد الفتاتين إلى دينهما اليهودي أو التنصّـر على الأقل بيد أن الفتاتين رفضتا العهد القديم والجديد رفضاً قاطعاً وتمسكتا بالدين الجديد (الإسلام) وعندما أرادت هذه السلطات بمساعدة الأسرة القبض عليهما التجأتا إلى بيت القاضي الذي أجارهما واعترف بإسلامهما وبارك هذا الإيمان الطوعي الذي جلبه الحب وليس حد السيف. ومنحهما اسمين جديدين كريمة وحليمة عوضاً عن اسميهما اليهوديين. بل نسَّبهما القاضي إلى نفسه فمنحهما اسمه ولقبه وصارتا بنتين ليبيتين للشيخ يتقاضى عنهما حصص التموين التي توزعها السلطات البريطانية على الشعب آنذاك والمسمّاة (قرامات). هو لا يتقاضى الجرامات نتيجة عوز. فمعاشه من السلطات البريطانية ومن الهبات القادمة من شيوخ القبائل وشيوخ الزوايا الصوفية والمسارات يكفي ويفي. لكنه يتقاضاها وفقاً لمقولة الشعرة التي تنتفها من مؤخرة التيس مكسب.

بقى أن نعرف أن الجرامات والمال الذي توزعه بريطانيا على الليبيين هو تعويضات تدفعها دول المحور المهزومة في الحرب العالمية الثانية للدول المنتصرة التي تقودها بريطانيا و المسمّاة بالحلفاء. البنتان جميلتان. متعلمتان. ذاتا بشرة بيضاء وعيون سود وشعر به حمرة هافتة بلون الحِنـَّـاء موزع إلى ضفائر عدّة تجيد ضفرها جميلات اليهود. سرعان ما تزوجتا الحبيبين. فأي تغير مفاجىء في عقيدة الإنسان سببه الحب أو العشق ليس إلا. وأنجبت حليمة طفل وطفلة. اغنيوة وبلقيس بينما كريمة لم يمنحها الله ذرية. الخالة كريمة تعيش بمفردها في بيت بحي المحيشي وأختها حليمة تعيش في دارة فاخرة في منطقة الفويهات فزوجها التاجر من عائلة بنغازية غنيّة. ألحَّ زوج حليمة كثيراً أن تشاركهم الخالة كريمة الدارة. لكن الخالة كريمة رفضت وفضلت أن تعيش في حلاق صفيح يقطر الماء في منطقة رأس عبيدة مع زوجها العتّـال في الميناء ومن ثمّ انتقلت مع المنتقلين إلى بيوت حي المحيشي الشعبية.

كريمة دائمة الصلاة. تحفظ الكثير من سور القرآن الكريم ومن الأحاديث النبوية الشريفة والأوراد الصوفية. وزوجها أيضاً رجل صالح. يعاملها برفق ومحبة ويساعدها في أعمال البيت وإذا مرضت يحزن كثيراً ويجلب لها الأدوية من صيدليات زقوقو وبوقعيقيص. وينقلها إلى المستشفي الكبير في سيارة أجرة أو على كارو بحصانين. هي ضعيفة تعاني من ربو مزمن نتيجة البرد الذي لفحها صغيرة. فطفولتها كما نعلم عاشتها في مدينة المرج الجبلية الباردة صحبة أختها ولم تأت إلى رباية الذائح بنغازي وتقيم فيها إلا بعد أن ضرب الزلزال المرج في أوائل الستينات من القرن الماضي.

نجت كريمة و زوجها بإعجوبة. صنورة الغرفة انقسمت نصفين ونصف أرضية الغرفة غاصت في صدع أرضي عميق والجدار المشرف على الشارع انهار. هما آنذاك لم يكونا في غرفة النوم. كانا في المطبخ قرب الموقد. مع أذان المغرب بالضبط تناولا تعويذة متكونة من تمر وعسل وأعشاب يُزعم أنها تساعد على الإنجاب و استغرقا مباشرة في فعل الحب. هو يعتليها ويلهث للوصول إلى نشوته وهي منتشية إلى أبعد حد وتهمس في أذنه حتى إن لم تثمر هذه الضجعة عن ولد أو بنت فأنا سعيدة بها وربي اينجيك ليّا. وادهك ما تهواش عليّا. تغرز أظفارها في ظهره وتصرر أسنانها ببطء وآن الرعشة له ولها صرخا معا واستشعرا الزلزال فالتصقا ببعضهما أكثر وغابا في أخدود لذيذ وصراخ الناس يأتي إليهما متسارباً مذاباً في اللذة لا هو بالحقيقة ولا هو بالخيال. العقل يدور. الأرض تدور. اللذة تدور. الدم يدور. وسقوط المباني يحدث دوياً فاجعاً. والمطر يهطل والريح ثائرة والظلام تحالك جداً. لم يغادرا مكانهما. و لكن عندما همدا سترا عورتيهما بمنشفتين وخرجا من باب المطبخ ليستطلعا الصخب وليصرخا معاً. البيت مدمر. بل الشارع. بل المدينة بأسرها. بل العالم جلّه.

"والمرج انكان عليه تسال. فضيحة خلاه الزلزال ".

هكذا قال أحد الشعراء الشعبيين آنذاك.

*    *    *

أما حليمة فعندما حدث الزلزال كان زوجها في بنغازي. يتناول إفطاره الرمضاني في سوق الظلام مع الليبيين الغرابة القادمين من مصراتة صحبة الصينيين مندوبي شركات شانغهاي وهونج كونغ للاستيراد والتصدير. وكانت هي جالسة. تنتظره قلقة. لم تفطر سوى على تمرتين ورشفة ماء. تتسلى بطرز مفرش سرير برسومات. تغرز إبر القلق في القماش الناعم وتجر خيوط الحنين الملونة عبر أحلام طيور وأسماك وورود وفراشات. كانت ابنتها بلقيس تهجع قربها متوسدة فخذها بينما ابنها اغنيوة ينام في مهده المفروش بنطع صوف في الغرفة المجاورة. حليمة تطرز على نور فتيلة زيت. بلقيس تعبث بكبّة الخيوط الملونة المتشابكة محاولة فرز كل لون على حدة. أحياناً تساعدها بتمريق الخيط في ثقب الإبرة وتشاركها في عملية النقش فتختار لونا قرنفلياً لذيل السمكة وفيروزياً لجناح الفراشة ونيلياً لمنقار الزرزور. وعندما تقول لها أمها الأزرق مثل ماء البحر أزرق. ستتداخل الألوان ولا تتضح. تجيبها بلقيس. انثري حفنة من الخيوط البيضاء على صفحة البحر لتكون مثل الأمواج. وتختار بلقيس لوناً بنفسجياً لأجنحة الطيور فتقول لها ما هذا يا بنيتي بلقيس؟. لن يتضح شيء. أجنحة العصافير زرقاء والسماء زرقاء. فتقول لها بلقيس انثري حفنة من الخيوط البيضاء في السماء تكون مثل السحب.

لكل سؤال إجابة عند بلقيس. سريعاً ما تـفلسف الاختلاف وتبدع المبررات. أمها تطلب خيطا لونه أسود. أسود مثل هذه الليلة. بلقيس تعطيها الخيط الأسود في بدايته إبرة وفي نهايته عقدة ليثبت في بداية ثقب النسيج البكر. الخيط الأسود واضح جلي في الزرقة وفي البياض وفي بقية الألوان المستخدمة في النقش. حليمة تغني بلقيس يا نور عينيّا. بلقيس غاليا عليّا. تجيبها بلقيس نعم يا ماما. حليمة تقول. أغني عن بلقيس أخرى. بلقيس جدّتك الله يرحمها. المرأة الطويلة دافئة القلب. آه لو عاشت حتى رأتك ورأيتيها. أحياناً ألعن الزمن والموت لكن أقول استغفر الله. حليمة تنادي اغنيوة تعال أفطر. لا يرد. ربما مشغول في تأمل لوح قراءته. لا عليك يا بلقيس سيلتحق بنا اغنيوة فورما ينتهي من إهتماماته. سمي باسم الله وبدأتا تناول الإفطارالرمضاني. خبز تنور. لبن. مثرودة. حرايمي يهودي (صلصة حارة بالسمك). عصير برتقال. الليلة باردة. مملوءة بالقلق والوحدة. اقتربي مني أشعر ببعض الوحشة. أحن لأمي. لجدّتك التي فارقتها من أجل حبي و عقيدتي الجديدة. أحنُّ لجدتك التي غادرت هذا الوطن غاضبة مني. جدتك طيبة. لكن الحب أطيب و القرآن أطيب. بلقيس تعانق أمها وتعبُر معها وتمسح دموعها بطرف المفرش الذي نقشته منذ قليل. الريح سريعة. المطر يسّاقط. الأرض تتصدع تحتهما. حولهما. أصوات صراخ قريبة وبعيدة. مبانٍ تتهاوى. تلتصق بلقيس بأمها وأمها تستغيث يا ساتر. يا مغيث. أشهد أن لا إله إلا الله. وأن محمدا رسول الله. تركض إلى الغرفة المجاورة وبلقيس تتبعها واجفة. لا تجد الغرفة. الأرض ابتلعتها. تصرخ اغنيوة. اغنيوة. وليدي. تصرخ بلقيس. خويا اغنيوة. خويا اغنيوة. صراخ اغنيوة. ماما. بابا. بلقيس. ماما. بابا. أيْ.أيْ يْ يْ. ثم جأرة مؤلمة و صمت.

*    *    *

حزنت البلاد على ضحايا الزلزال. وأتت النجدة والتبرعات من كل ربوع ليبيا. وانهالت التعازي ورسائل التعاطف والمواساة من أنحاء العالم كافة. خاصة بلدان العالم الإسلامي. أكثر الناس بقيت في مدينة المرج. انتقلت غربا إلى منطقة المرج الجديد. البعض الآخر غادر إلى مدن وقرى قريبة. جردس العبيد. تاكنس. بنغازي. البيضاء. بطة. طلميثة. الأختان كريمة وحليمة غادرتا صحبة زوجيهما إلى بنغازي. استقرت حليمة وزوجها و وابنتهما بلقيس في منطقة الفويهات في فيلا جميلة اشتراها زوجها من أحد الطليان العائدين إلى بلادهم بينما بنى زوج كريمة كوخ صفيح قرب سبخة رأس عبيدة جنب المرابط الشهير سيدي شاهر روحه. وعاشا مثلما تعيش الناس. كريمة في الكوخ وزوجها يكدح في الميناء. حليمة في الفيلا مع ابنتها بلقيس وزوجها يعمل في التجارة ويسافر ويدعو تجاراً ضيوفاً إلى البيت يأكلون ويشربون ويسكرون ويصخبون. كانت بلقيس ترقب الحياة وتسأل أمها عن كل شيء. فتوضح لها الأم الصواب من الخطأ وفق رؤيتها. بلقيس تناقش وتسأل دائماً لماذا؟. لماذا؟. وأمها تجيب بقدر استطاعتها وإن لم تعرف الإجابة تقول لها اسكتي يا بنت دوختي راسي بأسئلتك التي لا تنتهي.

كل خميس يذهبان إلى السينما. يشاهدان شريطاً أجنبياً أو عربياً تستمتعان به وتتناقشان في فحواه. بلقيس تدرس في مدرسة خاصة. تعلمت الكثير من العلوم. تعلمت أيضاً اللغة الإنجليزية التي برعت فيها رغم صغر سنها. صار أبوها يصحبها معه كلما التقى تجاراً نصارى. يحضر لها المجلات والروايات والمسرحيات الإنكليزية والمترجمة للإنجليزية. قرأت كتباً لوليم شيكسبير. تشارلز ديكنز. الكسندر دوماس. فيكتور هيجو. بلزاك. اجاتا كريستي. فرجينيا وولف. جان جينيه. البرتو ماورافيا. كازانتزاكي. سارتر ,, كامو. ستاندال. برنارد شو. فلوبير. وغيرهم. الكلمة التي لا تفهمها تفتح القاموس أو تسأل أباها. كل أسبوع تزور خالتها كريمة. تحمل لها قفة مملوءة بكل شيء. تدس في يدها جنيها أو جنيهين. و تستمع إلى حكاياتها عن الحياة والألم والحب ومعاناة الناس وعن الأنبياء وعن الطرائف. الخالة كريمة حكّاءة ماهرة وذات ثقافة لا بأس بها. تجيد القراءة والكتابة بالعبرية التي تعلمتها صغيرة وأيضاً بالعربية التي تعلمتها وهي تحفظ سوراً من القرآن الكريم. أحاديث الخالة كريمة مشوّقة و بلقيس لا تمل سماعها. تسمعها وتعيد إنتاجها وفق مخيالها الطري لتحكيها لاحقاً لصديقاتها من فتيات المدينة.

*    *    *

ذاك اليوم الذي وضعت فيه جردل القمامة أمام المرآب كانت في زيارة خاطفة لخالتها. كانت ستسافر إلى أوروبا في اليوم التالي. غسلت ملابس خالتها ونظفت لها براكتها ومطبخها وشطفت لها الحمام وسقت لها أصص الزهور و كنست باحة البيت الترابية بالعرجون ثم جمعت خليط النفايات في الجردل وركنته أمام البيت. خرجت سريعاً ودخلت سريعاً وبين الخرجة والدخلة لمحته ولمحها وتأجج ذاك الشيء الذي لم تجربه من قبل. ذاك الشيء الذي ساح من بين فخذيها وهي ذاهلة واقفة خلف الباب الذي أقفلته. صار قلبها يدق بشدة وعرقها ينز وخداها تحمران جداً. لاحظتها خالتها فسألتها ماذا حدث؟. ماذا رأيتي؟. هل أخطأ أحد الجيران في حقك. أم رأيتي ما يزعج؟. تواصل السيلان السفلي وسيلان دموعها وشعرت بمغص شديد في بطنها وجنبيها ودوار في رأسها وكادت تسقط أو تصرخ ودنت منها خالتها تتلمس بطنها وتضع راحتها على جبهتها. لابأس بنيتي. كنك اتوجعي؟. أدخلى الحمام اغسلي وجهك. دخلت بلقيس الحمام وقفلت الباب وأنزلت سروالها وفغرت فاهها إذ وجدت لباسها الداخلي غارق في دم وردي. خلعته وغسلته. وغسلت فرجها بمجاميعه وثناياه ونشفته جيدا. ثم خرجت تعلم خالتها. لتبشرها بأنها صارت امرأة.

تلك اللمحة هي التي أتت بالدم. لمحة استقرت بين الفخذين. جرحت قربة الخصوبة بسكين الشهوة. لمحة حياتوية. فورية. لا مجال فيها للتفكر أو التأمل. طيف سريع. سنونو بمسمار مرق و خدش وغاب. دقة قلب خرجت وذابت. رصاصة صمت. لمحة من اغنيوة ولمحة من بلقيس. خلقتا كل شيء. إعجاب متبادل. رغبة متأججة. بحث مستميت. ذاك اليوم غادرت بعد ساعة تقريباً. سافرت صحبة والدها. وعادت بعد خمسة أشهر. عادت أنضج من ذي قبل. عادت بنهدين سخيين ومؤخرة ممتلئة وشفتين أشد تورداً وتجمّراً. تناولت في أوروبا الكثير من الأجبان والتشيبس وشطائر الهمبورجر والبيتسا والمرجاز الدافئ والنبيذ المخفف. ومرحت مع فتيان النصارى الحلوين هناك. وتماست معهم متذوقة بكائر المتع والطبطبات. لكن اغنيوة لم يفارقها هناك. كل فتى تراه اغنيوة فتتركه يلمس ويجس ويقلب ويلحس ويمص و يتذوق من توت شجرتها على راحته. في الليل تحلم به. يأتيها وينام معها فلا تفرق بين الحقيقة والخيال. فور ما عادت إلى بنغازي زارت خالتها كريمة في حي المحيشي وخرجت إلى شوارع الحي تبحث عنه وتطلبه بإلحاح. هى تحفظ ملامحه. قمحي اللون. متوسط الطول. ذهبت إلى العيادة. إلى المدارس. البريد. النادي الرياضي. البلدية. حول مركز الشرطة. تسكعت عشوائياً في الشوارع لربما تصادفه. لكن من دون جدوى فكلاهما إبرة ضيعت خيطها ونست دين أم لونه أصلاً.

*    *    *

ذات عشية وهي تتجوّل في شوارع حرف ش شمّت رائحة غريبة. رائحة خمر تقريباً. ياك اللا تقريباً !!!. إنها قرابا مركزة مقطّرة مرتين. أحد البيوت يجري من تحت عتبته غدير كحولي صغير. يمتص معظمه تراب الشارع لينبت عشبه السكران. رائحة متخمرة تصّاعد وتصل مشامها. تضغط بإصبعيها على أنفها و تفركه بشدة وتـتـفل مرغمة قرب العتبة. و إذ بباب البيت يفتح ويخرج منه رجل اسمر طويل في يده جالون بلاستيك عبوّة 20 لتر. يراها. يغازلها هامساً في خفر: ما شاء الله على هالغزالة. أنت مش من المحيشي. هالطلق الحلو ماعندنش منـّا. آه رانا منكم بس الشمس حارقتنا. تبتسم له وتهزهز رأسها شاكرة وتبتعد صوب الطريق الرئيس تتجه شمالاً. محل حميده درنة للمواد المنزلية. حميده درنة جالس يدخن وشريط مرسكاوى له يلعلع:

يا نار ياسر من عذابك ليّا. سوال النبي راهو عزا ما فيّـا.

وينتهي الشريط فيقلبه.

اغنيوة يغني موال:

لي قلب يا من يقضـّـه.

ويلقاه كامي بغيضه.

كيف الجنين المقمّط.

عطشان وأمه مريضة.

بلقيس يسحرها الصوت. تقف أمام المحل. أذنها للمسجل. عيناها للأواني اللامعة والحلم. تتخيّل أنّ الأطباق والفناجين والطناجر والغرابيل تتراقص. حميده درنة يدخن ويتأمل بلقيس الجميلة. الموسيقى والغناء المرسكاوي صاخب. تخاله يصّاعد مع الدخان ويضئ مع النظرات. وقليب بلقيس الطشيشون (الصغير جدا) يستغرق في حلم تائه بين الصوت والأواني. ها هو واقعها. واقفة أمام المحل. بعض السيارات المارة تطلق منبهات غزلية لها وبعضها يركبها أصدقاء لحميده درنة فيمرون دون صوت. لا هي تقدّمت ولا حميده درنة دعاها ولا الشريط اكتملت أغانيه أو هدأت على الأقل. صندلها يصاحب إيقاع الموسيقى بطرقات مشطوية خفيفة تواليها بدقة على عتبة المحل. طرقات تترجرج معها مؤخرتها ونهداها ذات الحلمتين الواقفتين. شفتاها بحشوتهما اللسانية تصاحب الأغاني. وفي لحظة تجلٍ طربوية تسلطنت وغابت عن نفسها فرقصت مهزهزة وركيها بوحشية جعلت حميده درنة يقف متأوها. آه. آه. آه ه ه ه ه وسحق عقب السيجارة وقال لها: تفضلي يا آنسة الدكان دكانك.

قدم لها كرسياً وكوب ماء بارد صبّه من جرّة في الركن. جلست منبهرة. وحكت معه عن الأغاني وسألته عن أسعار المواعين. اشترت منه مزهرية مبرقشة بزهيرات بنفسجية وعندما أرادت المغادرة سألته من الذي يغني في الشريط؟ قال لها أنا محسوبك الفنان حميده درنة. ويشاركني الغناء مجموعة أصدقاء رائعين. سألته أن يبيعها الشريط فقال لها: عيب والله ما يمشي في خاطرك هو ليس للبيع فأرجو أن تتكرمي بقبوله هدية. في غرفتها وضعت الشريط في المسجلة ولبست لباساً خفيفاً على اللحم وصارت ترقص على أغانيه وتتمرغ على السجادة العجمية صارخة داخل لذتها هذا هو الفن وهذه هي المواويل اللي اتهبّل. ياناعليْ من حي المحيشي. ومن عيال المحيشي. ومن عبيد المحيشي الوسيمين الشكلاطيين والقطرانيين. ووارت كل كاسيتات هاني شاكر وام كلثوم وفيروز وعبد الحليم وفريد الاطرش وكاسيتات البوب الامريكية في خزانة إلى حين.

عندما زارت خالتها في الأسبوع التالي غنـّت لها من أغاني الشريط فقالت لها خالتها هذه أغاني المطرب حميده درنة صاحب دكان العوايز والمواعين في طريق سيدي يونس. قالت لها بلقيس الذي يلبس شنة حمراء. أجابت الخالة ما اتكمليش خلاص هو بالضبط. وسألتها كيف ومتى عرفته. قولي يا دعيّة. وحكت بلقيس لخالتها قصة الشريط وأخرجت لها من كيس كبير المزهرية التي اشترتها منه. قدمتها لخالتها هدية. لم يكن في المزهرية ورد بلاستيك. لقد حشتها بلقيس بورود دفلى طازجة قطفتها من أشجار الطريق. شكرتها خالتها وعلقت المزهرية في مسمار بنافذة البراكة بعد أن ملأتها حتى المنتصف بماء المطر.

بقعة الدم السائلة بين الفخذين بقعة فاسدة طردها الجسد من حماه وسفحها على قشرة اللحم الخارجية. مخاض مؤلم سبق الانبلاج. في تلكم المناطق من الجسد مكمن اللذة والألم. الدم رب اللذة والألم. هو عنفوان الحياة وجحيم الفناء. البراءة اللصيقة بالأجنـّة جاءت من هناك. سبقت فساد الدم وانبلاجه للهواء. امتطت اللذة وصانت هذا الفساد بحياة وليدة. بها هذه القذارات نفسها المتعايشة في الداخل والفاسدة إنْ خرجت للهواء. الحرية بذرة فساد. الهواء قرب أكوام القمامة نتن بيد أنْ الأنوف تعودته وقبلته. خاصة عندما تحرق القمامة وتصّاعد أعمدة الدخان حاملة للسماء كل روائح النفايات والموت.

بحثت بلقيس عن اغنيوة في كل مكان من حي المحيشي. بقى مكب القمامة الرئيس لم تبحث فيه. هل يعقل أنْ تعثر على لميحها هناك. وكيف ستمشي في هذا الخلاء وحيدة. وجاءت الفرصة. وجاء الربيع. وخرجت الناس للخلاء. وأنِس المكان وكساه الآمان. الربيع مزدهر قرب سدرة النبق والكسارة (المحجر) وسواني عصمان وحقـفة الجخ. خرجت الناس مرتادة هذه المناطق. تتمتع بالورود والفراشات والنحل وزقزقة العصافير وتستنشق عبق الهواء وتجمع القعمول (الخرشوف) والتمّير والجلبان والقمحي وبقايا الكمأ وتصطاد الجرابيع بسكب الماء في حفرة وانتظار خروج الجربوع من الحفرة القريبة الأخرى. وخرجت بلقيس مع خالتها كريمة وإحدى جاراتها لإعداد الشاي والكاكوية وطهي طنجرة مقطّع بالقدّيد والحلبة والثوم وصعتر البر البازغ من صدوع الصوّان. المقطّع أكلة بنغازية عبارة عن خيوط رقيقة من عجينة الدقيق تطبخ في إيدام مع القدّيد. الخيوط شبيهة بمكرونة السباغيتي وفي طرابلس الغرب وضواحيها يسمونها رشتة ويطهونها مثل الكسكسي بالبخار في كسكاس محزم بقماط قماش. أكلة المقطع تؤكل كإفطار ضحى وتتعشى بها العائلات الفقيرة في الشتاء. ركبوا عربة كارو يجرّها حمار نقلتهم إلى هناك قرب سدرة النبق المباركة. شجرة السدر محاطة بصخور ملساء متناثرة تبدو كجزر في وسط التراب المغطى بعضه بعشب النجيل والقميلة (المريمية) والقعمول (نوع من الخرشوف) والصعتر وغيرها من الحشائش البريّة. الورود تـفرش المكان على مختلف الألوان وبعض السلاحف الصغيرة تمرح هنا وهناك ونمل كبير يسير بحذر وخنافس سوداء تمشي سريعاً وتختـفي تحت الصخور.

رائحة الربيع تفعم الأنوف. تجعلها تـنـشرح. بلقيس ترفع يديها للسماء وتستـنـشق أكبر قدر ممكن من الهواء العطر. تزفره ببطء ولذة وتعيد الكرّة مرات. تستنشق وتدور حول نفسها في خيلاء متأملة المكان الجنـَّـوي. معظم الزرادة من حي المحيشي ومن المنطقة الملاصقة له من ناحية الشمال المسماة سيدي يونس. أكثرهم أوقد ناراً ووضع عليها قدور وطناجر طعامه وبراريد شايه. فراشات ملونة تـنـتـقل من وردة حمراء إلى صفراء. تقف فوق بتلات الزنابق. تقترب بلقيس منها. تغني لها بالصفير والبسبسة بس بس بس. تنتقل من زهرة إلى زهرة متابعة الفراشات وبعض شغالات النحل. تأخذها الخطوات بعيداً وخالتها كريمة تناديها لا تبتعدي. اعرفي مكاننا جيداً. هنا جنب سدرة النبق. الهواء بارد قليلاً. والشمس تشرق وتغيب بين كثبان السحاب.

بلقيس تتجول. يقابلها طفل تلاعبه. خرجت مجدداُ إلى منتهى اليقين. التفتت ورأت سدرة خالتها بعيدة نسبياُ لكنها معروفة. لفت من وراء السدرة وحاذت سانية قديمة مستورة بأحجار ضخمة غير منتظمة. اسمها سانية سي الوحيشي مملوءة بأشجار النخيل والزيتون ويظهر فى وسطها حصان وقطيع غنم وعدة كلاب بدأت تقترب من السور وتنبح. تجاوزتها وهى تلتفت نحو مكان السدرة حيث خالتها لئلا تتوه.حذاؤها يؤلمها فتحت خيوطه ليتسع قليلاً.واصلت التجول تغني أغاني لفيروز وتترنم أحياناً بألحان شعبية سمعتها في أشرطة حميده درنة وعبد الجليل عبدالقادر و شادي الجبل ومع المسير بدأت الرائحة العطرية تنتابها بعض النتانة. تأملت قرب السور الذي تركته. جيفة شاه غـُـطيت بعدة أحجار. ابتعدت عن المكان قافلة أنفها حتى عادت رائحة الربيع. عربات الكارو تمر عبر مسارب غير مسفلتة. وزرّادة شباب وعائلات يبتسمون لها كلما لاقوها. ترد سلامهم وتبتسم لهم.

هي معروفة أنها ليست من المنطقة. ملابسها أنيقة مستوردة وحذاؤها بكعب عال وليس يوجد مثله في السوق وغزتها اللمحة آن هطلت قطيرات مطر متناثرة وغزتها اللمحة إذا فاجأها شعاع شمس مبهر فلت عبر كوّة في سحابة ضخمة.اللمحة المخزونة في ذاكرتها أطلت من جديد.أين ذاك الفتى الذي رأيته ذات يوم؟. كل من مروا بي ليسوا هو. كل الأماكن زرتها وما وجدته. ما الذي يجعلنى ابحث عنه في مكبات القمامة. هل لأني لمحته عندما أخرجت جردل القمامة. ليس هناك صدف تولد عبثاًً. ما إن وضعت الجردل أمام البيت ودخلت حتى ساحت قمامتي من بين فخذي. سأتجه إلى هناك حيث ثلة الكناسين. حيث الكاروات الكبيرة التي يملأونها بالقمامة. حيث الكشك الخشبي. وبدأ قلبها يدق كلما اقتربت من المكان خطوة. يدق نفس تلك الدقة الفريدة التي صاحبت اللمحة. الكناسون رأوها تقترب فصار كل واحد يعدّل من هندامه ويتأنق ويتأمل في بنطلونها القماشى الأزرق الغامق الفضفاض وجبتها الصوفية ذات اللون الفيروزي وحذاؤها الأسود المتلامع مع كل شعاع يفاجئه.

اقتربت من المكان ولم تضغط بإصبعيها على أنفها. ألفت رائحة العفن ورأت أكوام الكتب و الجرائد. أكوام الخشب و البلاستيك. أكوام الطعام. أكوام الخبز اليابس. أسراب النمل الذي يحتحت ضئيل الفتات. حيّت الكناسين فحيّوها. تأملت وجوههم واحداً واحداً. ابتسمت لهم وابتسموا لها ودعوها إلى طاسة شاي. قبلت الدعوة ورشفت من الشاى ومضغت كسرة خبزة. لم تتحدث معهم أول مرة. لكن أحدهم أعلمها إن أرادت الاستراحة فى المكتب فـلـتـتـفـضّـل. المكتب نظيف وبه كراسي وجرّة ماء. دفعها فضولها وبحثها لقبول الدعوة. دخلت الكشك الخشبي. جلست إلى المكتب. تصفحت بعض المجلات والكتب والجرائد. بعدها جالت في أركانه. تقويم معلق على الجدار. لا توجد صور معلقة لأي بشر. فقط إطار به بعض الفراشات والحشرات المجففة. تفرست في وجوه الكناسين مجددا ًوشعرت ببعض الضيق والألم. فتاها ليس هنا. لم تعرفه في وجوههم. بعدها استأذنت في المغادرة وتمنّت لهم التوفيق. أحدهم سألها من أنت؟ فأجابته أنا أختكم بلقيس. طالبة أزرد مع خالتى كريمة التي هناك عند السدرة. أنا لست من حي المحيشى. لكن أحبُّ هذا الحي وأحبُّ موسيقاه وكل شيء فيه ونفسي ترتاح هنا حيث الحياة والحب الأصيل. ابتسم لها الكناسون جميعاً وودعوها ملوحين بمعارقهم البيضاء وشناتهم الحمراء والسوداء (المعارق والشنّات نوع من القبعات).

في هذا اليوم غادر اغنيوة المكتب باكراً بعد أن وزع العمل. أمه الحاجة مريضة وعليه نقلها إلى مستشفى البردوشمى البلدية فيما بعد. أمه تحبه. ولا تسمح لأي من إخوته أن يحملها إلى المستشفى. حتى عندما ذهبت إلى الحج فى الباخرة أخذت معها اغنيوة فقط. كان آنذاك صغيراً. ثلاث سنوات أو أربع. كان أصغر حاج في الباخرة. عندما كبر توقفوا عن إطلاق اسم حاج عليه. اغنيوة منعهم من ترديد هذا اللقب. قال لهم لم أحج بمحض إرادتي. كنت مرافقاً. لا أتذكر من هناك شيئاً سوى رائحة البركة ونسيم السكينة. سأحجّ ذات يوم بنفسي. تلك ليست حجّة. كلما نادوه فى البيت وهو صغير ياحاج بكى وصرخ وقال لهم أنا صغير مانيش شايب. وحتى رجلي سوف تصح وادخل فريق الأهلي البنغازي ألعب مع اللاعبين الكبار و أسجّل أهداف مالاحد بالشادينتي (كثيرة جداً). عادت بلقيس إلى خالتها عند السدرة ووجدت المقطّع بالقدّيد جاهزا فتناولته بنهم وعيناها على مكب القمامة البعيد وشربت من شاي خالتها الذي لم تره مختلفاً عن شاي الكناسين وابتسمت للسماء المُغيّـبة هذه الأثناء بسحابة سمراء كجبين حميده درنة الوضئ. صنعت السحابة ظلاً قاتماً على كل الفضاء الأخضر المتحول إلى اللون الزيتوني الغامق. تبادلت الصبايا النظرات فيما رفع الأطفال وجوههم إلى السماء متسائلين ومستغربين فـُـجاءة العتم. خالة بلقيس قالت: يا بنات يا بنات يا جارات يا جارات علينا أن نعود الى البيت. السماء ستمطر الآن والشوارع ستوحل وسيصعب علينا الوصول واستقلوا عربة كارو صادف مرورها أوصلتهم إلى البيوت.

*    *    *

انشقت الأرض تحت اغنيوة تهاوى السقف تصدّعت الجدران طولياً و أفقياً ووترياً. برق أرضي بزغ بالدمار. صرخ اغنيوة بتلك الكلمات. بابا. ماما. خيتي بلقيس. طرف الصنّورة رطم رأسه. طين السقف المخضب بالتـفل ملأ عينيه وفمه. أقفل فمه أيضاً. جرح عميق في الرأس وشبه اختناق. فزع الفجاءة رمى به إلى عوالم جديدة. عوالم من ألم ودهشة. خوف وسكينة. عوالم ما حسّها من قبل وإنْ عاش بعضها في سالف أحلامه. ذاك الحين عمره خمس سنوات. يقرأ القرآن. يقرأ كل كلمة صادفته في ورقة أو على لوح أو جدار. يتهجّى الكلمات في صمته ويستـشفها في صخب لسانه نقية من اللبس. فرقعة الزلزال فصاحة الدمار. قحّة موت أنجبها قدر يتغمّض. منذ الثالثة من عمره ارتاد المسجد. منحه الفقيه لوح فخار صغير كتب له فيه كلمة واحدة هي " الله ". اغنيوة ينطقها جيداً. يحتفي بها ولا يرميها فوق العالم أو يزدريها ويهرب أبداً والفقيه يطلب منه أن يمسحها بالطفلة ليعلمه غيرها فتظهر على محيّاه علامات الضيق وتترقرق عيناه. هذه كلمة دسمة طازجة طرية ناضجة لا يباس فيها. هذه كلمة حيّة لا ترمي منها شيئا. كلمة أشبعت روحي وقلبي وجسدي وبصيرتي الغضّة. مساعد الفقيه يريد أن ينتزع منه اللوح ليمسحها بلطخ الطفلة ويجففها في الشمس. الفقيه يأمره بالتوقف. نظرة في عيني المساعد تفي بالغرض. سرعان ما تنتقل نظرة التواطؤ هذه إلى عيني اغنيوة فترحل الدموع إلى الداخل ليحل مكانها بريق فرح ومرح وقبول.

ويشرع اغنيوة في التلاوة من جديد. الله. الله. الله. ويخط الكلمة بإصبعه في الفضاء صادحاً الله. الله. الفقيه يبتسم. الطلبة يبتسمون. منهم من يتساءل كيف يرفض اغنيوة الانتقال إلى درس جديد بعد حفظه للدرس الأول. أحد المتجرئين سأل الفقيه فأجابه: هذا موضوع طويل. طويل. كلمة الله ليست من ألف ولام مشددة وهاء. الطفل يراها برؤية صوفية. صوفية الطفولة أعمق من صوفية المشيب. نقاء الطفولة أشف من نقاء المشيب. يراها ممكن غائص في الاستحالة. قد يقضي الإنسان عمره أو عدة أعمار في تعلم كلمة واحدة. ويضيف الفقيه أتعجّب من القائلين بمعرفة كل شيء وأي شيء. وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً. هكذا الله قال. وينتهي النقاش عند هذا الحد. في البيت تسأل الأم هل غيّر لك الفقيه الدرس؟. يجيبها اغنيوة: لا أريد تغيير الدرس. لا أريد دروساً تتغيّر مثلما لا أريد أماً تتغيّر. درسي ها هو ذا. ويكتب كلمة الله في الفضاء على التراب المبلل على التراب الدافيء من قـُـبل الشمس على الجدار المتـقشر طلاءه. يكتبها بإصبعه القليم دون حبر. يقول الفقيه لمقربيه عن اغنيوة. قولوا ما قالها جدّكم الفقيه. سيكون لهذا الطفل المبارك شأن عظيم. سيتغلغل غيابه في نفوس المحتاجين للسكينة والطمأنينة. إن امتدت بنا الأعمار سنرى صحة قولي من عدمها. سنرى وأيم الله. إنه يكتب كلمة الله على كل طهارة يلاقيها. ويكتفي بها فقط. وهذه ثـقة ورساخة يقين.

آخر كلمات قالها اغنيوة قبل أن يخرسه دمار الزلزال. ماما. بابا. بلقيس. الله. وظل يردد في النهاية كلمة واحدة هي. الله. الله. لم يقل هذه الكلمة ذات الصدى المتناهي بصوته. قالها كما يكتبها بإصبعه دون حبر. أي بلسان دون صوت. فمه امتلأ ترابا وتفل بحر. التراب أنبت في فمه. أنبت عظاماً ولحماً ودماً وأحلاماً و حيوات ماضية. صارت كتلته حياة ماضية. حياة حاضرة. تمضي ولا تلتفت. في الصباح أزاحوا الأنقاض فوجدوه منسحقاً. ممزقاً إرباً. رأسه مهروسة. عظامه تدشدشت ونتق بعضها من اللحم. جمّعت جثته في رداء أمه المورد الذي كان منشوراً على الحبل ودفن مع ضحايا هذا الزلزال. كان اغنيوة ميتاً. بيد أنه حي. في موضع موته كان لوحه. كانت كلمة الله مازالت منقوشة مذ أن نقشها عليه الفقيه ليحفظها. تغبرت قليلاً بالتراب. وتلوثت بزخيخ دم وامض. أحد جنبي اللوح ثـقبته شقفة حجارة والجنب الآخر صدعه المزلاج الذي تهاوى مع الباب إلى الداخل. مقبض اللوحة في الأعلى لم يصبه شيء. أمر الفقيه أن تكون هذه اللوحة شاهد القبر. واختلف معه بعض الفقهاء حول مسح كلمة الله من زخيخ الدم. منهم من قال هذا قبر العبد الفقير الميت اغنيوة وليس قبر الله الغني الجليل الحي. لابد من مسح كلمة الله من على الشاهد.

جدّه القاضي الذي تبنى أمه اليهودية قال لهم أنا مع رأي الفقيه. كلمة الله تبقى على ظهر الشاهد. وسوف يمحاها الله بمطره و شمسه وريحه وزمنه إن أراد. في خيمة العزاء تناقش الفقهاء مع القاضي حول الزمن وهل لله زمن يمر. وزمن ماضٍ وحاضر ومستقبل. وتشعب النقاش في اختلافات شتى. وأعادهم القاضي إلى صلب الموضوع. مهمتنا تقديم المساعدات لإخواننا المنكوبين. انتشال الجثث وتكريمها بالدفن. إسعاف الجرحى والمكسورين. ترميم البيوت المنهارة. الجدل وعلم الكلام ليس وقته الآن. عليكم بفرض العين الآن. العنوا الشيطان وصلوا على النبي. اللهم صلي وسلم عليه. وانهضوا للعمل. ها هم أشبال الكشافة والهلال الأحمر وأفراد الجيش و طلاب المدارس والجامعة وأعضاء النوادي الرياضية وبعض الميسورين الخيرين قد أحضروا دفعة أخرى من مواد الإغاثة والمساعدات. كان الشهر آنذاك رمضان. وكان المطر يهطل بغزارة. والبرق يخطف الأبصار. والرعد يفرقع عالياً. وتوالت ليالي الألم سريعاً. وفي ليلة القدر أكثر من عدول قال: رأيت قبر اغنيوة مضيء. ولوحة شاهده تبهر الأبصار. وكلمة الله المنقوشة على ظهر اللوحة صفراء كالذهب. هذه الأحوال ليست إبان البرق فقط. لكنها تستمر حتى بعد البرق بهنيهات طويلة. بل هذه الأحوال النورانية المحيطة بالقبر أنقى وأشف من أي نور رأيناه من قبل. هي أنوار فريدة كالتي نراها في الأحلام. في يوم العيد زار الناس المقبرة لمؤانسة موتاهم. ذهبت أمه كريمة وأخته بلقيس وخالته حليمة أيضا إلى المقبرة. لم يجدوا قبر اغنيوة. وجدوا المكان أرضاً براحاً مستوية من على ظهرها نتقت بعض الترفاسات (الكمآت). تنفث رائحتها الطازجة صوب لعاب الشهيّة. بياض الترفاس ملطخ ببعض الطين وأوراق الشجر الطريّة واليابسة.

مكان القبر أرض مستوية. اللوحة الشاهد غير موجودة. اختفت. لا أثر لنبش جديد أو قديم. وتساءلت الناس. وتشاورت فيما بينها. أين القبر؟. وماذا يفعلون؟. الفقيه أمرهم بالصمت. فـَـارسَ المكان مع مجموعة شيوخ. وأجمعوا على أن يخبروا القاضي فورما يعود من بنغازي. صار السؤال المُـلح هو أين اغنيوة؟. هل رُفِع كما المسيح؟ أم نبش. أين اللوحة. وأين آثار الحفر. اقترح أحدهم نبش القبر والكشف عن الرفاة. موجودة أم لا. فالقبر حديث. الفقيه رفض. والقاضي الذي وصل إلى المكان حثيثاً عاين الموقع ورفض أيضا. وأراد أحدهم أن يضع مكان اللوحة حجراً جديداً كشاهد. فمنعاه الفقيه والقاضي.

قال الفقيه. الأرض الآن قبر للروح.

واتفق الجميع على ترك المكان على حالته. في الربيع اكتظ المكان بالأزهار وكانت الفراشات بشتى ألوانها البهيجة تمرح فوقه. والنحل أيضاً يحوم فوق هذه الأزهار ويلثمها بشراهة. لا ذبول. لا جفاف. كل صباح يناعة طريّة وليدة. كل فجر الندى يغرق المكان. أين اغنيوة؟. أين لوحته.؟ هل محيت كلمة الله. أم مازالت باقية؟. قالوا اغنيوة وليُ صالح. وكيف يكون ولي صالح صاحب كرامات ويعجز عن إيقاف سقف سقط عليه وحطمه؟. وتوالت الأيام. والسنون. ومات الجليلان. الفقيه والقاضي. ومات الكثير من الخلق والذكريات والكلمات. ونزحت أسرته إلى بنغازي. ونسيت الناس قبر اغنيوة. و لوح اغنيوة. ونسيت حتى الله أيضاً.

*    *    *

عندما رأي اغنيوة بلقيس تضع جردل القمامة أمام البيت تشظى إلى لمحتين. لمحة في قلب اغنيوة ولمحة في قلب بلقيس. تشظى إلى نبضتين. نبضة في قلب اغنيوة ونبضة في قلب بلقيس. تشظى إلى زمنين يعيشان في زمن الله. تشظى في لحظة الرؤية وجمع نفسه مع انقفال الجفنين والاستغراق في الحلم. جمع نفسه وطار. طار من دون جناحين أو محرك. أو شراع. اغنيوة أحسّ بشيء لم يحسّه من قبل. بلقيس أحسْت بالمثل. اغنيوة أحس بأخته تبتسم في داخلها وتنتشي كما في أحلامها المسمّاة بالوردية. ورأى اغنيوة حبيبها رئيس الكناسين يمشي مستقيماً ولا يعرج ولا يتكيء على شيء. طار بعيداً حيث مكبّات القمامة. يلتقط الآيات من الورق ويرسل النسيم إلى جباه الكناسين العرقة ويذهب إلى مغارة الجخ حيث التاريخ البكر والأساطير مفضوضة الأسرار. مغارة الجخ ممر مجرّف طبيعي تحت الأرض. تجري فيه المياه العذبة متعرجة حسب منسوب الانحدار وأهواء الصخر.

يقرأ اغنيوة لوحه السابح على صفحة الماء. سفينة نوح تمضي بهدوء. تحفها وريقات الصعتر وما تهاوى من بتلات الزهور. تمخر في درب من ظلال مضيئة. تنعطف ولا تصطدم بشيء. الأشواك تنزاح من طريقها إلى الأجناب. يقرأ اغنيوة في لوحه ويسبح وسط طراوة الطحالب الطازجة غير عابئ بظلامنا. نور الكلمة يقوده إلى مخارج شفافة عدة في شتى الأرجاء. أحياناً يخرج من شمال. حيث بحيرة عين زيانة المسمّاة القدر. وتارة يطل من جنوب عبر وادي النسيان الليثي القطارة. وأحياناً من وسط بحيرة تريتونيس سبخة السلماني ومرات عديدة ينبجس من بحر جليانة جهة الغرب. يلتقي صديقه وفارسه بابا سليم أبا سيدون البنغازي. ذاك الكهل الطيب الملتحي صاحب الرجل الخشبية. محب الحيوانات والطرب وصديق الأدباء والفنانين والرياضيين. عاشق بنغازي حتى النخاع. تراه يدب بتؤدة مطرقاً متفكراً فتشعر نحوه بالجلال والاحترام. وإذ ينتبه لك يبتسم ويحييك بدفء. البعض يلقبه بإرنست همنجواي. والصغار أكثرهم ينادونه بابا سليم. بابا سليم. فيلاقيهم بالألعاب والحلوى ويجمعهم في حلقة قربه يحكي لهم الحكايات المشوقة والأخبار العجيبة والخرافات الخالبة للألباب. يحكي لهم حتى يشبعون وينبسطون. ثم يأمرهم باللعب على الشاطئ. يتمتع بعبثهم بالرمال. لا يمل من لحظهم ومراقبتهم والرحيل في أحلامهم. يقول عنهم هم أمواج طينية. ويقول عن النوارس هي أمواج هوائية. ويشعر بالحزن إن هدأ البحر وتخلى عن موجه وهمد. هو أبوسيدون العصر الراهن. ينفخ في بوق من محار فيعيش بحر يوهسبيريدس. ينفخ بشدة فيهيج. ينفخ ببطء فيهدأ. أبوسيدون إله البحر الليبي الاسطوري. نصفه الأعلى إنسان. نصفه الأسفل دلفين. أبوسيدون ينفخ مزمارا قصبه من سباخ بنغازي. نفيخ ينتج الالحان. لا أحد يعرف كيف التأمت كل هذه الالحان والكلمات البنغازية. لا أحد يعرف كيف تسير الأمور في رباية الذائح. لا أحد يعرف لماذا يعشق أهالي بنغازي ساندوتشات الفاصوليا بالكرشة مع فلفل المصيّر. لا أحد يعرف كيف تتهاوى المدينة وتنهض من جديد. أبوسيدون ينفخ. وبوق المحار سيجارة ملح لا تـنطفىء.

أبو سيدون إله البحر الليبي. حفظ كل سفن حظنا من الغرق. حفظنا من الطوفان العظيم. حفظ هذا الساحل الطويل طويلاً. شوكته رابضة في مقدمة سفينة في قوريني. ذهب البحر. وذهب باتوس. وذهب التاريخ. وذهب نبات السلفيوم الثمين. وبقت الأغاني تتغنى في ذوات جديدة طازجة. ما إن قرأت عن ذاك التاريخ الليبي الأصيل في مدونات علماء الأثار الأجلاء حتى تـفـتـقـت حياتي وارتعشت كورقة شجرة في أعالي الجبال. وشعرت أنّ بلادي لها روح قديمة ووسيطة وحديثة وأنها لن تموت أبدا. بلادي ورقة تغني هذا البوح المالح البحري المرذذ بالبياض المضئ المليح البليغ:

قبر باتوس

نافورة الآجورا.

مـنـهـلٌ دائري.

يحوطه اكليل وياسمين.

جارته سفينة رابضة

على شوكة بوسيدون.

باتوس ودود رحيم.

قبره دائري.

تطوفُ حوله الناس.

تـُغـمرهُ بغـرسات السلفيوم.

مغموسةٌ في نـدى المرسين.

رحل باتوس.

وتعالى السلفيوم كمسيحٍ نـباتي.

مـبـتـعـداً عن حدقات عـمـياء.

بصرها صولجان.

وبصيرتها مصران وحـشي.

أينك يا دود الفَـنـَـاء؟!.

لا تكن سلحفاة.

مومياء.

ظلا أغـرَقـتهُ أصماغُ الظلمات.

آهٍ يا باتوسنا.

يا أبانا الباكي العطوف.

لا أراك ليبياً أو إغريقياً.

أراك روحاً ظامئة.

قـصـدَتْ فرعـوناًً فطردها طرد الأنبياء.

تـشرّدَتْ في جفاف الأُجاج و جـزر الصلادات.

وإذ بُعِـثَتْ فجـّرتَْ ماءها الوجداني.

ذرفـتهُ من نورعـينيها.

بـهَّـَرتهُ بطهارة أبي اللون.

وحرارة قـورا.

وبـهاء ليبيا.

ثمَّ واست به المرضى و الحزانى.

كلُّ ليبيا تُـحْضِرُ السلفيوم لباتوس.

يَـزنه في كفـّـات أيديها وينثره شفاء.

وحينما هـلَّ الرحيل.

لم يحملْ معه شيئا.

قـنـعَ في قبرهِ الدائري.

وسط ساحة الآجورا.

تطوف حوله الناس.

يُحيّونه ويُعِـزُّونَهُ.

وهومضطجعٌ.

يردُّ بأحيَا وأعـزٍّ.

طائفاً مع الطائفين.

السماء فوقه.

الأرض تحته.

البحر أمامه.

وجارته السفينة منتصبة على ثلاثية بوسيدون.

رافضة أنْ تعود إلى البحر.

إلا

وعيون باتوس سيلٌ من شموع.

والأمطار شآبـيـب من ثـقـوب العُلى.

وبـيارق اتلانـتـيك ترفرف على عمود السماء.

و كائنات القمر و زحل و المريخ تستأذِنـُـنَا باتوسنا.

لِيتسامى صوب صرحَ مرقـص عند إخضرار المنتهى.

رافضة أنْ تعود إلى البحر

إلا

ونواح الحياة.

يجـفـف عبراته على دفء البنتبوليس.

ليَـنْـبُتَ السلفيوم من جديد.

وتلد الشِـيَاه كل حول مِـراراً.

والحبوب السمينة تـُحْـنِي السنــابلَ.

والنحلُ الـبرّي يُعـسـِّـلُ مَرارة الأفواه.

وفـتيـانـنا وخيولنا وعرباتـنا تجلبُ الأمجاد.

فـيـتـغـنّى بها بنداروس وكاليماخـوس.

والإسكندر الكبير بجبروته وعظمته يتواضع

فـيُـقرِّب لآمونـنـا في سيوة طزاجة الدماء.

هنا ليبيا.

سُرَّة الكون.

سـلة الغلال والتمور.

سيدة البحار والصحـاري.

مُـقدسة الغروب.

عاشقة الفجر.

واحة الصحابة.

وشـز القديسين.

بلاد العمسونات.

فضاء الأسود والصقور

مهد المنجبات لأسرار الحليب.

براح الجرامنت والتـحـنـو والمشواش.

هنا ليبيا.

نـبع الحنان

سيول العسل و أنهار الزيوت

هنا ليبيا.

الأديم المكتسي برداءٍ يهدهده النسيم.

السماء الزرقاء

الشعاع الشفـيف.

الزيتون والنخيل

التين والرمان

العنب والليمون

البرتقال

اللوز

التفاح الذهبي.

هنا ليبيا

البراءة الناضحة ببرقٍ يُضيء.

ورعـدٍ شجي.

لا يُفـزعُ الكتاكيت.

ولا يـُذكِّــرُ الفراشات بغارات الغربان العـنجـهـية.

ومن البحر القديم إلى البحر الحديث. إلى أبي سيدون البنغازي. إلى عاشق الماء والأصدقاء والأطفال. بابا سليم. بابا سليم ليس إلهاً أسطورياً. هو أبو سيدون حي. سباح ماهر. ونوّاح تأملي كبير. رجله الخشبية دلفين من شجر. إذ يرمى نفسه في البحر. لا يحتاج إلى طوف. رجله صاري. بيْرقه حذاء. حذاء بلا خيوط ترفرف. حذاء دوّاس. عفاس. ضرّاس. عنيد كما تاريخ مدمن لإعادة نفسه.

يطل اغنيوة أمام بابا سليم و في يده لوحه. يشير له أن ينتظره. يقفز بابا سليم مجدداً في العباب. يغطس زمناً ويعود مجففاً نفسه بمـنشفة الشمس. جانبه قطته انجولينا وكلبه كابلوني. يتكىء على الكثيب. ينظر إلى اغنيوة الذي يقرأ في لوحه كلمته الوحيدة. الله. الله. الله. القطة تلمح فأراً غادياً فلا تركض خلفه والكلب يهزهز ذيله ناظراً إلى السماء بينما الموج يداعب صخور الشاطئ بتوقيت منغم وموسيقى آسرة وكأنه يعزف لحن الماء أو يسبح في التسابيح. الجميل في المشهد هو القمر الذي يتوهج جداً ويصير كشمس. بابا سليم يزيد من سكب اتكاءته على الكثيب. يفرد قامته بالكامل. يمسح على رجله الخشبية. يغيب في غير نعاس. يغيب في ذاكرة قريبة. ذاكرة ليلة البارحة حيث كان في حضرته أدباء بنغازي وليبيا الرائعين. صادق النيهوم خليفة الفاخري محمد أحمد وريّث طالب الرويعي رشاد الهوني أنيس السنفاز رجب الشلطامي. يتسامرون ويتحاورون في قضايا الأدب والفكر وفي نهاية المسامرة يتناولون المكرونة المبكبكة الحارة بسمك الفروج المصطاد من الجروف ببندقية (الفيزقا) وإن عزّ وجود السمك فبالقدِّيدْ الذي يحتفظ به بابا سليم في زير فخار معلق قرب النافذة.

بابا سليم زاهد كبير وفيلسوف شعبي صوفي. يعيش على البساطة والكفاف. كل من يجالسه يتأثر به وبنمط حياته المتـقـشف وغير الإيدولوجي. متطلباته قليلة. لا ينتج نفايات عضوية أو غيرها. هو إنسان من هواء. دمه خفيف. عشرته ودود. الكاتبان صادق النيهوم وخليفة الفاخري أحباه وارتاحا لمجالسته وتأثرا بطريقته في الحياة. أيضاً معظم كتاب بنغازي فعلوا ذلك. هو لا يعيش بطريقة أضرب الدنيا تيرو (ركلة). لكنه يعيش بطريقة كيف ما ايجيك الزمان تعالا. واللى توحل فيه دبر له. بابا سليم إنسان حكيم. عطوف. كريم. ما في يده ملك للغير. قنوع. لا تسمع له شكوى. لا يتذمر من الظروف أو الزمان عندما يميل. مادامت الشمس تشرق كل صباح. والسماء مملوءة بالنجوم. والأمواج تأتيه وتصافح قدميه. والأصدقاء يجلسون قربه. وانجولينا وكابلينو قطته وكلبه يتمسّحان به والأطفال الصغار يعابثونه فهو بخير وسعادة وهناء وراحة بال.

اغنيوة يرحل. يرحل إلى أخته بلقيس وأمه كريمة وخالته حليمة أما أبوه ابن القحبة فقد نساه. لم يحن عليه كفاية. دائماً مسافر للتجارة والسياحة والسكر والمضاجعة أو غيرها من أمزوحات الحياة ومشاغلها السخيفة. أمه تقول الجو حار. خالته تقول قلبي قلق. أشعر بضيق. اغنيوة ابن ليبيا الذي يموت كل يوم. يموت فجأة لكنه يتواجد. نحسّه في رياح القبلي. وفي لذة الشرمولة. وفي سخونة البازين. وفي رائحة الزيتون في لزوجة عسل النحل في رغوة الشاي في صبغة الحنـّاء و القعمول (خرشوف). وفي حنان الجدّات ورائحتهن العطرة. وفي. وفي. وفي.الخ.

اغنيوة نسيم. ما إن يسمع مثل هذه الكلمات التي تقرأها أيها الغالي حتى يحلم وتأخذه دهشة حيّة فيترنم. الله. الله. الله. وتتبدل حالة الوجود التعسة إلى لطف ورقة وبركة ونور. أمه تتذكره. بلقيس تتذكره. مدينة المرج بحالها تتذكره. نحن نتذكره. العالم كله يتذكره. الأيام الخوالي تتذكره. بابا سليم يتذكره. الوجود يتذكره. لوحه طوف بركة. كلمة الله صاري ينـثـني ولا ينـشق. دفة لا تضللها سروب الأعاصير. العمر بحر أجاج. الزلزال الذي امتطاه إلى العالم الآخر يرى الوجود فينقض على كل كلمة مباركة أراد البشر تلويثها. كلمة الله. كلمة السر. كلمة الحياة. الكينونة. اغنيوة لم يمسح الكلمة. التاريخ لا يمر دون أثر لأن قدمه مفلطحة كبيرة من سياط الحظ. التاريخ يتحمل أكثر من الإنسان يعيش الألم ولا نسمع بكاءه. لكن أنينه واضح لا زيف فيه. هو يناضل المزيفين بكل زمنه ومكانه. بكل نوره وناره. هم يلبسونه و الريح تعرّيه. الريح لا أحد يستطيع تزييفها أو اللعب بها. الريح تهب في كل مكان. تهمها قضايا كثيرة وليس التاريخ وحده. الريح لا تخشى أحداً. و التاريخ مثلها أيضاً. والتاريخ زمن وقح. لا يخشى البصاصين خاصة النوع الفاسد منهم والصلاي أيضاً أما السكار فنعذره. هو يريد أن يسكر. لكن لا توجد نقود فهيّا انبص على خفيف. دون أن نضر. والبصاصة أقل ضررٍ من القوادة. البصاصة تؤدي بك إلى السجن. أما القوادة فتؤدي بك إلى الموت. والقوادة ليست بصاصة مركزة إنما نذالة مركزة. هناك فرق كبير شاسع بين المومس والقوّادة. المومس تمتص المني والقوّادة تمتص الدم. المني يعود والدم لن يعود. كفانا الله شر القوادين خاصة اللذين لهم علاقة بالكلمة والورقة واللون والوتر الدسّاس الخنـّاس الفقاص وووووووووه و اتفوووووووه. وكمان اخسْ إخسْ إلى ما بعد يوم الدين.

التاريخ متوالية تتقدم وتتأخر كما بندول الساعة. بندول التاريخ لا ساعة له. لا تروس تطحن حظه. هذا الفتى لم يمسح الكلمة التي نقشها له الفقيه التـقي ذات فجر بليج. لحظة اندلاق النور. لحظة اللمحة. القدحة. التفتق. الانبثاق. الانبجاس العظيم. لحظة تلملم الحلم وتهتك بكارة الوجود. كتبها له بحبر صنع من صوف مضمَّخ بزبل كبش العيد. روّنه بماء زمزم وحركه بعود رمّان. حبر مبارك مضيء. اغنيوة يراه. لم يرض أن يمحوه بالطفلة. كل الصخور الصلدة لا تمّحي. الطفلة هي أهش الصخور. هي مظلة الماء. هي التراب الطري الوحيد في هذا الكون. الهشاشة ماحية للكلمات وفارشة للكلمات أدفأ وثيراً. لم يرضَ اغنيوة أن يمحو لوحه بالطفلة. حافظ على بقاء كلمة الحق. صانها بإيمان طازج. من هذه الكلمة عرف العلوم. رحل ليعيش كطيف. كنسيم. كخفة لا تعيّرها الموازين. الناس تقول خرافات. واغنيوة نور متفاوت الانتشاءات. طاهر. عصي عن المحو والانطفاء. اغنيوة هو هبّة النسيم. هو اللجوء. هو الأمل الذي نقتات. هو الغد. الموت. الرحيل البطىء إلى طزاجة الجذور التي نختارها ولا تختارنا. أو تختار لنا. الطزاجة التي نتذوّق نكهتها فيسيل لعابنا بماء الكلمات. الرائي للعاب اغنيوة سيراه دفق أمواه من كلمة واحدة. الله. الله. لو نمسحها نمسح الحياة. نمسح الكلمة التي لم نحفظها ولم نفهمها بعد. نمسح سيل الإيمان الجارف غير المقيّد بتفاهات تتقشر وتتآكل كما الإهتراء. هذه الكلمة لم يمسحها اغنيوة. لقد قبض الطفل على لعبته الإلهية. صار نضيدتها الضاحكة ووقودها الرشيق. ونورها المكتظ بالرؤية والنبضات الداقة بالرقص. جالبة السعادة والشقاء في آن. جالبة كـُـنه الحظ الذي حيّرنا.

روح اغنيوة حيّة. غير قابلة للتهشم. كما لوحه بالضبط. غير قابل للإحتراق. حتى إن احترق خشبه فالقرآن المكتوب عليه تظل روحه حيّة في الصدور. حواس بلا روح حواس صناعية. تؤدي وظيفة بفعل طاقة صناعية. حواس بالروح حواس طبيعية تؤدي وظيفة بفعل طاقة إلهية. العالم نظرته للحياة نظرة غبية. هو لا يؤمن أن الغناء روح حيّة ترمم الأرواح المشلولة والميتة فتعيدها حيّة طازجة. نسيم الفنان عبدالجليل عبدالقادر يضخ الأكسجين إلى رئات المختنقين. يغني الآن واغنيوة يسمعه ويرسل أغنياته عبر الأثير إلى كل مخـتـنـقي النشاز:

يا طير سلملي على غاليا. سلاما إيرد الروح فيه وفيا

عليه بروحا. علي قد ما خط الفقي في لوحا

قلنا الخاطر ناقضات جروحا

عامين والطباء تداوا فيّـــا

واغنيوة هو ابن للكل. لكل القيم المقبولة من فطرة الوجود وجنان الشرود. هو الطين الذي لا يموت والماء الذي لا ينزح. هو الضمير. المعنى. هو يجلب لنا الأحاسيس الجيّاشة. والجياشة التي تعانق الأحاسيس الزعفرانية. ويذكرنا بفن خالد في النفوس. أغنية عبدالجليل عبد القادر مازالت ترن. ترن و لا تطن. أكيد كل قارىء غناها بلحن روحه الخاص. وشكر اغنيوة. وشكر عبدالجليل فنان ليبيا العظيم على هذا الإحساس الراقي. نافخ الحياة في البلادة والتيبس والبوار. الآن عبدالجليل جالس على كرسيه المتحرك. في قلب رباية الذائح بنغازي. في منتصف شارع جمال عبدالناصر. السيارات تمر أمامه وتحييه. المارة يصافحونه ومن كان عزمه رقيقا لا يحتمل ألم فنان فيعانقه ويبكي. هو مقعد الآن لكن نسيمه أو اغنيواه حي. يحكي لنا عنه. يخبرنا عن شيء منه. المكان المدينة الدائخة بنغازي. بيت شعبي يقام فيه عرس أحد الأصدقاء. الزمان ليل.

كان المطرب عبد الجليل يغني في قمة تسلطنه وطربه:

ألفين مبروك يا عريسنا. ألفين مبروك

ألفين مبــــروك      . وفي فرحك جينا انهنوك

ألفين مبروك يا عريسنا. ألفين مبروووووك

وفي نهاية الوصلة قاد أحد شباب حرف ش الغيطة الصاخبة المرحة:

أمتا إيجي ولد هالشقراء

واندزّا للروضة يقرا

وسلّم خوتا اللي صبّولا

تصبايتْ عسكر في الدولة

وانتهت الوصلة ووضع العازفون آلاتهم جانبهم. أشعلوا السجائر وقدّمت لهم كؤوس الشاي وفناجين القهوة المرّة. وخرج اللاعبان الكرويّان صالح بالعيد ومرعي الشعلالي ليجدا عبد الجليل منزوٍ في المنور وحيداً يدمع. سألاه:

شنو فيه؟!. من زعلك يا أستاذ؟!

ومد له صالح منديلاً.

ازداد نشيج عبد الجليل وعبرته انفجرت في عويل حاد. تركوه يأخذ غايته في البكاء حتى انتهى. لم يتركهما يسألاه وأجابهم:

عريس الليلة غنيت في عرس أبيه !

من المعلوم أن عبد الجليل تزوج مرتين ولم يرزق أطفالاً. هذه الأمور وكما نعلم من عند الله. يرزق من يشاء الذكور. ويرزق من يشاء الإناث. ويجعل من يشاء عقيماً. وعبد الجليل بالمعنى العميق ليس عقيماً. فكل الصغار أبناؤه. فهو أب لكل الإنسانية. وأب لقيم الخير والمحبة. وأب للحياة برمتها. أب حنون. صادق. رحيم. باتوس مؤسس قوريني يبكي لمرض أي من رعيته وعبد الجليل يصرخ إذا مسّت ذرة غبار عين صديق. الآن عبد الجليل مقعد على كرسي لكنه يمشي. يجري. يلوح بيديه. بروحه. بقلبه. نفسه تسبح في أجواء بنغازي ووجدانه ينساب مع أنسام ليبيا. وأحلامه تتنامى وتتداخل تصافح التاريخ. بالأمس القريب كانت مباراة الأهلي بنغازي صاحب الشعبية الهائلة والذي يشجعه عبد الجليل مذ كان صبياً ضد فريق حي المحيشي (السواعد) الذي يحبه عبد الجليل أيضاً والذي درّب أشباله وعاش بين ربوعه ونواحيه زمناً طويلاً أنتج له أصدقاء وأصهاراً وحياة.

دخل الفريقان الميدان. وهتف جمهور الأهلي الغفير. التقط الفريقان الصور التذكارية وأجريت القرعة وتوزع اللاعبون على أرض الملعب والحكم رفع الصافرة إلى فمه لينفخ بداية المباراة وفجأة انفجرت ضجة وصفير وصراخ ومفرقعات احتفالية غطت السماء. ظن الحكم أن أحد الشخصيات الاعتبارية وصل إلى أرض الملعب فأرجأ إطلاق الصفير ليرى هل من تعليمات. لكن لا شخصية رسمية ولا اعتبارية وصلت. المطرب الشعبي عبد الجليل عبد القادر شرّف المكان. وصل. دخل الملعب على كرسيه المتحرك. يدفعه صديقه الوفي مرعي العنزة وتحفه الغزالة من اليمين واغنيوة من اليسار. الكل رحب بعبد الجليل وصفق لحضوره. الحكم ومساعداه. اللاعبون والبدلاء. مدربا الفريقين المتباريين. المصورون والمعلقون والصحفيون والبصاصون. أطفال جلب الكرات الطائشة. عناصر الشرطة الواقفة حول الملعب. حتى سيارات النجدة والمطافئ والإسعاف أطلقت صافراتها وأضاءت أنوارها الوامضة مرحبة به.

بكى عبد الجليل. تأثر في الصميم. لم يحتمل هذا الوفاء الشفاف. وهذا الحب النبيل الجليل. ربّت براحته على عنق الغزالة ومسّح على نسيم اغنيوة ثم نظر إلى أعلى حيث أعمدة النور العملاقة التي بدأت تضئ الواحدة تلو الأخرى.

*    *    *

يحس العالم أن اغنيوة ميت. يحس اغنيوة أن العالم ميت. الإحساس بينهما يحس أنه حي. التاريخ الهلامي الوحيد الذي لم يقبر. الهلامي الوحيد العرضة للنبش. النابشون أحياء في مستقبل يرفلون. لكل مستقبل جذور ولكل حاضر جذور ولكل جذور ماء ودماء وغناء ولكل ماضٍ جنون يفرز مستقبلاً عاقلاً. القلق يسقي الجذور. المعرفة تسقي الجذور. الجذور الظامئة غور عميق. أيتها الجذور الظامئة سنندلق عليك. بعض الماء ببعض الحياة. أنفرينا كمطر صاعد. ارعفينا نزيف دفء. شلال منعش يرتـقي هاوياً على تراب الرفاة. يستـنبت زهور المشاعر ويستأصل من حولها أشواك الشقاء. الشوكة في الحلق واخزة مرّة. الشوكة في الروح مؤلمة قرّة. الشوكة شوكة في أي مكان كانت. الشوكة زهرة متمردة على رتابة الطراوة والعطر والميكروكروم. الشوكة زهرة تقاوم نحل الروح. كانت الأسلاك الشائكة تحيط بأعلى سور المعسكر. تتشابك بعرض متر تقريباً. وفي أوقات الأزمات يتم كهربتها. من يقترب منها يصعق ويموت. من يلامسها يترمّـد. وحده اغنيوة يقف فوقها ويتمرّغ عليها. وأيضاً العصافير. وأيضاً الهواء. الضوء. الظلام.

الأسلاك الشائكة المولود حديدها في عتم المناجم. العرق والموت الذي رفع هذا الحديد. القوة الغاشمة التي شكلته وخزات مجنونة تـقـفل روح المدى. الحديد يحيط بمعسكر الاعتقال. موت ميت يحيط بموت حي. اغنيوة يحوم حول المكان. يقف على الحديد الواخز. الدم يكهربه والدموع تفكه من ألم الاحتراق. يقف على الحديد الواخز يتأرجح بفعل رياح التاريخ. يرى كل شيء. يرى النور والظلام. يرى الأسخريوطيين الليبيين الذين أدّوا القسم الفاشستي وسوّروا بلادهم بهذه الأسلاك وحاربوا من أجل بقائها حتى الأسر أو الموت. اغنيوة يولد مع الشمس ويموت مع القمر. يغني قمرياً وشمسياً ومع نصف قوس الهلال. هو حلم نجمة الصباح الظالة أبدا مشعة. الظالة وحيدة بعد أفول بواقي النجوم. نجمة نار جميلة لا تحرقه ولا تضيئه أكثر مما ينبغي. حلمه يعرف قدره. لا يقترب منها حد الالتصاق. لا يبتعد عنها قيد أنملة. من نورها يرى وبنورها يتدفأ. يطير إلى عوالم شتى. بعضها يرى بها أشياء جميلة يحكيها. بعضها لا يرى فيها إلا ما يغطي منها الشيطان طاقته. عورة الشيطان مضيئة. عورة الإنسان مظلمة وبها شعر ونتانة. الشيطان خلق من بواسير النار. شيطان الشيشة شيطان مميز. شيطان أديب. فنان. شيطان مبدع مجنون لا دواء له في مارستانات الشياطين. أطباء الشياطين لا يعالجون بالكي. أو الكسر. أو شفط الدماء والجيوب. الشيطان خلق من بواسير النار لأنه يأكل فلفله من البساتين الحارة. الإنسان خلق من طين. و النار والطين لا يلـتـقيان إلا في التنانير. حيث الأرغفة و اللحوم والمحمصات والجماجم والوهج الذي لا ينتج نوراً أو بخوراً.

الحديد يحيط بمعسكر الاعتقال. يحيط بالملجأ. اغنيوة يحوم حول المكان. معسكر الاعتقال أفرز ملجأ الأيتام. يحوم هناك وهنا. يقف على كل سور. وفوق كل نتوء طبيعي أو اصطناعي. على الشفتين والحلمات. على وريقات السدر وحبيبات نبقها. على أكوام القمامة التي تستهويه حكاياتها. كل نفاية لها قصة. كل نفاية لها زيط ومعيط. لها أسطورة. وكينونة. علبة الحليب من شربها. حفنة المكرونة من أكلها. قشرة الموز من أزلقت على صوّان الحلم. الواقي الذكري في أي شق او ثـقب كان. وكيف تمّ الأمر وتحت أي ظروف. الأوراق الممزقة ما حكاياتها. الكتب المنـتـقاة جانباً ماذا يوجد بها؟ وكيف تمّ بوحها وطبعها وجلبها وقراءتها ورميها ولملمتها؟. فوق كوم القمامة يجد راحته. يجد ديكه الذي يصيح في الأوقات كلها ثم يركب على دجاج ريشه من نجوى الليل وخلود الشمس. يجد براحه النقي. يجد قصته منذ ولادته وحتى غيابه ليلة الزلزال تحت الأنقاض. يجد ورقة لامعة بها بقايا شوكلاتة عليها آثار شهوانية اغنيوائية لشفتي أخته بلقيس. يجد قطن عادتها الشهرية التي فاجأتها في بيت خالتها حليمة بحي المحيشي. يجد منديلاً ورقياً به أثر كحلها ودموعها الفرحة والحزينة. النار قرب المكب تلتهم ما يرمى فيها من نفايات. النفايات تعيش أياماً في المكب قبل فرزها ومن ثم حرق الميت منها. الدخان لا يتوقف تصاعداً والنفايات لا يتوقف أملها حياة وتشبثاً بالبقاء. قيامة المكبّات قريبة وقيامة النظائف والسيراميك بعيدة. هكذا علمتنا الحياة وغرس التاريخ علمها هذا في رسوخ وجودنا.

اغنيوة يقف على الأسلاك الشائكة المكهربة. يرى المذبحة تلو المذبحة. يرى فيهتز. يهتز فيرى. يرى فيطير قريبا حيث الدم. يسري في العروق مبللاً النبض. النبض المبلل يضحك فيجففه المرح والنبض الجاف يبكي فتبلله الدموع. يسري اغنيوة في بروق العروق. ضاحكاً عبر القسمات. باكياً في الدمع. راكضا مع القدمين. ملوحاً باليد. معانقا. فاضاً الوفاضات. فاعلاً كل شيء. مفعولا به للجمادات. فائضاً عن المألوف. خارجاً مع جرح المشاعر متلاشياً بعيداً. بعيداً جداً. يتوغل في دنيا الأحلام. يطفو على تراب الواقع. يجلس على مصطبة المسجد العتيق. الشاعر أحمد رفيق المهدوي يجلس الآن في مقهى العرودي يرتشف قهوته. طفل صغير يركض صوب اغنيوة. اغنيوة يعانقه. يعرفه. أسرته معظم عشيرته قتلها الاستعمار الايطالي الفاشستي ذات غارة ليلية. هو عاش في الملجأ. لكنه لم ينس أباه. لم ينس كل المجاهدين الذين استشهدوا فداء لهذا الوطن الليبي العظيم. كان في الملجأ يعيش في حالة جديّة. عرف بالصمت والنشاط والرزانة والرصانة. وعندما زار الوالي الملجأ لفت نظره وأعجب بشجاعته وقدم له مكافأة مالية ثم سأله ماذا ستفعل بالفلوس يا ولدي غيث فأجاب غيث الصغير سأشتري به سلاحاً وأقاتل من قتلوا أهلي واحتلوا أرضي واغتصبوا أخواتي. ولم تمض أيام من هذا التصريح حتى تمّ تسميمه من قبل الحكومة العميلة والاستعمار الايطالي. رفيق يلوّح إلى اغنيوة بالتحية وغيث يلوّح إلى شاعر الوطن رفيق يشكره على قصيدته التي سجلت لنا هذه الملحمة البطولية:

هو في الملجأ من دون اليتامى. دائم الصمت وقارا واحتشاما

واضح الجد قليلا ما يــرى. ضاحكا إلا إذا استحيا ابتساما

إلى آخر القصيدة عندما يسأله الوالي:

قال: ما تصنع يا غيث؟بها.. قل لي الحق و لا تخش ملاما

قال غيث وبدا الجد على.. وجهه يشبه ليثا أو قطاما

أنَّ لي ثأرا إذا أدركته.. لا أبالي بعد إن ذقت حماما

لو تحصلت على مال به.. اشتري عدّة حرب وحساما

أدرك الثأرات ممن قتلوا.. والـدِيَّ إني أريد الانتقاما

هو منشودي من الدنيا التي.. ليَ ساءت مستقرا ومقاما

الشاعر أحمد رفيق المهدوي فعلا هو شاعر الوطن، شاعر مبدع مهم خاصة في شعره غير المكتوب بالعربية الفصحى، خاصة أخرى في حياته الطويلة والعريضة والمتنوعة بكل مباهج الحياة ومنغصاتها. خاصة أخرى أخرى في حبه لهذا التراب المروي بدماء الشهداء وحبه للأصدقاء. اغنيوة نائم الآن. يحلم بأشياء متنوعة. بحياة مختبئة في النوم. اختباؤنا في النوم قليل ما عشناه. يحلم برؤية منعشة. شروقها انسدال الجفنين وموتها يقظة مشرعة. يحلم بناطة من لحم يتهوّى. لحم شفاف لا تحبسه أنسجة الكتان. يصيغه على نوله الخاص. ينقر المسدة (آلة النسج الخشبية الليبية) بقدمه العرجاء. يخيط سروالاً لعُري ليبيا الكاذب. يحيك اللباس برجله العرجاء التي تستشعر أن مستقبل العالم أعرج مشّوه من النفاق. هو ينسج رداء ليبيا على مسدة زيتون وقصب في إحدى دكاكين سوق الرباع بطرابلس الغرب، أو إحدى دكاكين شارع بوغولة ببنغازي، أوفي دكاكين اليهود بضاحية يدّر المصراتية. يحلم بشيء يحبه. نحلة ملح تذوقها حلمه. فتاة لمحها وعراف قلبه قال له ستليّل بها. فتاة ثدياها كالكور الصغيرة. يخلبهما فجأة كفهد منقض على فريسة. الآن في حالة انتشاء. الآن فقط انتهى من مشاهدة مباراة بين منتخب البرازيل ومنتخب الطليان. رأسه يضج بالفتاة والكرة. يحس الآن ويتخيّل بأن العالم كرة حبر. حبر في الرأس يهبط على قدم عرجاء فتركله كبصقة على صفحات جريدة مستقبلية يقرأها بنهم إبان كل بطولة عالم كروية.

*    *    *

كورة القدم أو كرة القدم لعبة عالمية معروفة. يلعبها الإنسان والحيوان. تلعبها الحشرات. تلعبها ظواهر الطقس جميعها عبر أعاصيرها ومطرها المدور والمتدحرج من فوق إلى تحت. لعبة كرة القدم لعبة فيزيائية. استلهم منها علماء الفيزياء قوانين الدحرجة والشقلبة و الإنزياح. تراها تفاحة خطيئة معلقة. تراها تفاحة صواب متسلقة. تراها على الوجوه الحزينة دمعة كروية حَرّة وعلى الوجوه الفرحة دمعة لذيذة منعشة. نتركها تسيح لتمسحها القبلات والابتسامات. النمل يلعبها والنحل يلعبها ويسدّس انتصاراتها وهزائمها في خلاياه الحارة. كرة القدم نلعبها في الخيال. نحسها فرحة فندحرجها حيث نستلذ أكثر ونحسها ألم فنزيحها بعيداً إلى مكبات البداية. كرة القدم موجودة فينا. في عدسات عيوننا. في حلمات نهودنا. في مبايضنا وخصيّنا. ربما مبائضنا هكذا لكن خصينا متأكد من صحتها الإملائية. هي حبة قلبنا. هي كليتنا. هي رأسنا. مزاج كيفنا. هي أرنبة أنفنا. هي وضعنا الجنيني عندما كنا في رحمنا الدافئ. نطفنا كور لزجة. وأحلامنا كور نرسمها ولا ترانا. وقدرنا كرة مركولة إلى مرمى دون شباك نتمنى أن لا نصله.

كرة القدم فلسفة عظيمة. هي لعبة. لكنها لعبة من الخارج ومن الداخل هواء يعيش. يركل كثيراً ولا ينفجر. يصبر كشعب مغلوب على أمره. من الخارج لامعة مضيئة أنيقة ومن الداخل مظلمة وقاتمة. المنفاخ يصطاد الهواء. يصطاده من أرحام العالم. ويدخله عبر ثـقب. عبر فرج صناعي. ثم يقفل عليه بسدادة. ويتركه يختـنق. ويتناسل. ويتعارك. يتركه في الظلام. يظل نائماً حتى ينفخ الحكم صافرته. فتركل الكرة. ويستيقظ الهواء الحبيس. يريد أن يغسل وجهه فلا يجد مطراً. في الخارج الأمطار تسقط. في الداخل جفاف في جفاف. لا ذرة هواء تموت وإن ماتت لا تدفن. تظل مركولة في ظلام الموت. لا يسمح لها بالخروج. و إن خرجت دُنس قانون الحياة أو ناموس الوجود أو يساق العذاب. الكرة تصغر قليلاً. والهواء الذي في الداخل يتمطى ويمد رجليه وربما يرقص ويتطاول صوب السدادة فيدفعها خارجاً ويهرب أو يعود إلى حريته الواسعة. الهواء يتماوج في الداخل. يبتعد عن السطح المستدير. عن السقف البيضاوي. ذرة تدفع أختها. لا تفكر في شيء سوى الابتعاد عن بوز القدم. هناك من يرفس الكرة ويعفس عليها بقدمه ذات الأصابع المعدنية. لكن هناك من يدفعها برفق براحة قدمه أو بوجهها الصقيل. الكرة ترتفع. تنخفض. تزحف. تقف. ومن ركلة قوية أغمى على كل الذرات. وتجاوزت الكرة خط المرمى وارتطمت برأس مصور فأغمى عليه أيضاً. وأعلن الحكم نهاية المباراة فهرع ممرض الملعب لإسعاف المصور والتقط حارس المرمى الكرة وركلها عالياً صوب الجمهور الذي يشجعه.

التقـفتها بلقيس الجميلة. كانت واقفة تهتف. فرحة جداً بالفوز. فضمتها إلى صدرها بحنو. واستيقظت الذرّات الحبيسة داخل الكرة من نشوى الضم. لم تتدافع الذرّات. بل عانقت بعضها وتشابكت أنثى وذكر. لقاء الكرة بين النهدين لم يطل. فالجمهور بدأ الخروج من الملعب. والأنوار بدأت بالانطفاء. غادرت بلقيس الملعب. والكرة مضمومة إلى خاصرتها. والهواء الحبيس مازال سعيداً. حتى الخاصرة الرشيقة لا بأس بها. عندما ركبت الباص للعودة إلى غرفتها كان الكرسي الذي بجانبها خالياً فوضعتها برفق عليه وانحنت عليها قبلتها وكتبت على ظهرها بقلمها الشفاف تاريخ اليوم ونتيجة المباراة واسم حارس المرمى الذي ركلها نحوها. اعتبرتها ركلة حظ بهي. في الغرفة وضعتها على الطاولة. وبعد أن استحمت أخذت تنططها برفق بيديها وقدميها وركبتيها وتركلها بهدوء صوب الجدار وترميها عالياً صوب السقف ثم تستقبلها بصدرها الباذخ الرقراق داخلياً والرجراج خارجياً وربما العاهر دكنونيّاً (سرياً). ذرات الهواء سعيدة. والذرات الأنثوية صارت تتباهى بهذه اللاعبة وتعاتب ذرات الذكورة وتعيّرها بركلات اللاعبين العنجهية. تقول الذرات مادامت بلقيس ستحتفظ بالكرة فلن نحتج على سجننا في الظلام. وأخذت بلقيس الماهرة تنطط الكرة برأسها. وبضربة رأس قوية بعض الشيء أصابت مصباح الغرفة فانكسر وأظلمت الغرفة والكرة سقطت وتدحرجت تحت الطاولة أو السرير. أضاءت الوناسة الصغيرة التي على الكومودينو. فرأت الكرة محشورة في أصيص الزهور. مبللة بعض الشيء. ومعفرة بالطين قليلا. نشفتها بطرف ثوبها. ومسحت الطين بمنديل ورقي. وتفقدت زهور الأصيص هل من زهرة انكسرت أو بتلة أزاحتها الكرة من مكانها أو مزقتها. لا ضرر حدث. والذرات التي في الداخل شمّت عطر الزهور. ولامست طينا تنبت فيه الحياة. وشعرت بالنعاس. وشعرت بلقيس بالنعاس.

هذه الكرة غالية. وحبيبها الذي هناك ثمين جداً. والمصباح مطفئ. والوناسة نورها ضعيف لا يصلح للقراءة. وفي الخارج برد. اندست تحت اللحاف ,, وضمّت الكرة إلى صدرها. بين نهديها بالضبط. بعد ساعة بدأت الأحلام الوردية. وخرجت الذرات من الكرة. وأخذت تتأمل هذه البلقيس. أزاحت عنها اللحاف. كان جسدها كآلهة الجمال. متناسق في كمال. وكانت ابتسامتها كموناليزا. وكانت خفقات قلبها كطفلة تسلمت وثيقة النجاح. وكانت الذرات كل واحدة تلمسها وتصير مثلها بالضبط وتعانق ذكرها وتطير في الهواء وتدور في الغرفة ولا تلمس أي شيء صلب. زوج متهور طار مغمض العينين من النشوى فلمس سلك المصباح المكسور فلسعته الكهرباء فأطلق زوبعة قفزت بسببها بلقيس وقلبت بصرها في الظلام ثم أزاحت ستار النافذة ورأت بقايا برق يتبدد. استدارت إلى جنبها الأخر وتركت الكرة تلامس ظهرها العاري وتنزلق مع العرق القادم من مؤخرة رأسها والمنساب ببطء على سلسول العمود الفقري إلى عوالم العصعص. بين الكتـفين نمش جميل. كل نمشة كرة شقراء صغيرة. الكرة تتقلب. ومع كل زفرة وشهقة من بلقيس تتحرك الكرة أكثر. وتستدير قليلاً. كل سطح الكرة الخارجي لامس حتى شبع. وكل السطح الداخلي أحس بكل اللمسات. وكل الذرات التي عادت إلى رحمها بعد أن لسعت الكهرباء ذاك الزوج انتشى من ملامسة الظهر المنحدر صوب الحضيض. صوب الأسفل.

بدأت بلقيس تحلم. وما زالت تنام على سيف جنبها. ضمت المخدة إليها. ولتضغطها جيدا على بطنها ونهديها قربت ركبتيها من وسطها. فانحدرت الكرة وتجاوزت عصعصها لتلامس مؤخرتها الرخوة. وكأن قنبلة ذرية انفجرت داخل الكرة. شجار حاد ومعارك شرسة بالسلاح الأسود والأبيض. ذرات الذكور تركت إناثها وتدافعت صوب السطح الداخلي تنهل من النعومة والرخاوة. وذرات الإناث شعرت بالغيرة فحاولت منع هؤلاء الذكور المجانين. لكن بعد إيش (بعد إيش دارجة ليبية تعني بعد فوات الأوان). لقد نهلوا كفايتهم وأزيد. والكرة الآن بين النهدين الخلفيتين التواني (الإليتين). ولأن الذكور شبعى فالذرات الإناث تركتهم ينامون واقتربن من السطح الداخلي ونهلت هن أيضا من النعومة والرخاوة. وشعرن أن الجنس واحد. مع ذكر كان أم مع أنثى. فالملامسة هي السر. والبصر هو المؤثر في الاختيار. والذرات كائنات ظلام فلم تشعر بأي اختلاف. عادت هذه الذرات إلى ذرات الذكورة وطلبت السماح واعتذرت أيضاً. وأطلقت بلقيس من بطنها ريحاً لطيفة فلم تضع الذرات أصابعها على أنوفها. وتمطت بلقيس معيدة رجليها إلى وضعهما الأول ساق فوق ساق. لكن المخدة نائمة بجانبها. ذراعها فوق أعلاها فتراءى لها أن تضع رجلها العلوية فوق أسفل المخدة ووضعتها وتدحرجت الكرة قليلا إلى أسفل أكثر تحت وركيها بالضبط حيث منبع الحياة ومفتاح الرحم. وهنا كانت سدادة الكرة تلاصق فرجها بالضبط وحدث حوار بين الفتحتين حول العذرية والمسدات والسجون والحرمان والوأد والعادة السرية والدورة الشهرية والقذف من وعن بعد.

وكانت كل الذرات تسمع وتنصت وتشارك في النقاش عبر السدادة التي أقسمت لهم أنها مثلهم أحضِرت وحُشرت في هذا الثقب ولا تملك أمرها وأنها جامدة لا يمكنها العوم والحركة مثلهم. وأن الفرج أفضل منها لأنه في كائن به سرّة وفم وأنف وغيرها من الحواس. ومن داخل الفرج كانت هناك كثير من الحياوات القادمة لهذا الزمن تسمع وتنصت وتناقش وتبوح بكل شيء. وقالت سدادة الكرة لا اسمع جيدا فاقترب الفرج منها قليلا حتى لاصقها جيدا وعادت يد بلقيس التي فعلت ذلك إلى مكانها على المخدة والمركونة فوق حلمة الثدي. ومهما يكن القفل محكما فالزمن كفيل بجعله يصدأ أو يتعرى أو يتهرّى و يتفتت. وكان الزمن وقت الالتصاق يمر سريعا وعبر السدادة التي هرمت تمكن زوج ذراتوي كان يتضاجع في القاع من التسلل. ومن فتحة الكرة إلى فتحة الفرج. من ظلام صناعي إلى ظلام طبيعي. قالا لسكان الرحم نحن وفد من هناك. من كرة الركل. خرجنا في غفلة من مباراة الحياة. في الزمن بدل الضائع. نطلب منكم مساعدتنا في فش الكرة وتفريغها. امنحونا إبرة أو ميبر أو خنجر. أو صوكاية عقرب. نريد أن نخرج. أن نعود حيث كنا.

رياح تمرح بين الجبال وفي السهول وفي الوديان. رياح تسوق الأمطار إلى الجدب. رياح تدخل رئات المختنقين فتحييهم. وتدخل أنوف الغرقى فتجعلهم يعودون للحياة. رياح نسيم تلطف الحرارة وتذهب الحرقانات عن الحروق. رياح جميلة محبوبة. تقرأنا مذيعات النشرات الجوية الحسناوات. خاصة مذيعة عُمان ذات النهدين المتشاجرين داخل البلوزة والمؤخرة التي ستـفجر أقمشة الصين. ولا تزعلوا يا اتحاد الكرة العالمي. يا فيفا. سنعطيكم هواء ميت. احشوا الكرة بدخان البراكين. بدخان قنابل اليانكيين. بدخان احتراق القمامة. لماذا تملأون الكور بحياتنا. بنحن. نحن الهواء النقي. ثم تركلوننا بقوة وبجنون. سندخل بطنك أيها الحمار الذي ستركلنا وننفخها حتى تصير جيفة وتنفجر. سنمتنع عن دخول جسدك عندما تصير تحتضر. نحن الباقون وأنتم الفانون. نحن نصنع الحياة. وانتم تصنعون الموت. وكثرت الوفود الداخلة إلى رحم الحياة. ومن رحم الحياة دخلت وفود إلى رحم الكرة وشاهدت بأم عينها المعاناة. وصارت كرة القدم زفير. ورحم الحياة شهيق. توازن مجنون. وحوار متعادل. وبلقيس في حلمها. والكرة في مستقرها. وبلقيس صارت تضغط عليها بيدها وتلصقها أكثر وأعادت ساقها العلوية إلى مكانها فوق الساق السفلية والكرة الآن ملتصقة بإحكام. هذه الحركة الرجلوية جعلتها تلتصق أكثر خاصة بعد أن صارت محشورة بين ساقين ناعمين دافئين لا يركلان أي حظ حسن وهنا بالضبط كل الذرات التي بداخل الكرة عانقت بعضها وغرقت في نعيمها المنطط. لقد كان هناك ضغط من الساقين على أسفلها وأعلاها وكانت ارتعاشات و ارتجافات وابتسامات لذيذة من مخلوقات الداخل تطالبهم بالحياة أكثر. واستيقظت بلقيس صباحاً مبتسمة وقالت للكرة ماذا تفعلين هنا تتدحنسين بين ساقي. أنت وحدة صايعة شيطانة. واستحمّت و حممت الكرة معها. وكانت الكرة سعيدة وهي تسبح وتطفح في خوض الإستحمام وتغتسل من نعاس الليل وجنابته. ومسحتها بمنشفة نظيفة ورشت عليها من عطرها. وكتبت عليها لقد باتت هذه الكرة معي ليلة لا تنسى. متى أبيت مع اغنيواي إلى الأبد.

بلقيس نائمة الآن. تعيش حياة الأحلام. هدأة و كوابيس. في الأحلام كما في الحياة لا نقود أنفسنا. وإن قدناها تـفطّنا وقتلنا دكتاتور اليقظة. العيون تفرك. الحلق يتثاءب. الجسد يتمطى. الإست تضرط. الإير أو البظر ينتصب ثم يرتخي. الوجه يتبلل. يجف. الصابون يذوب. المنشفة تـتـشرّب. العيون ترى. الروح تنتعش. الهواء يدخل. الدم يجري. النبض يتوالد. اغنيوة يتفرج. يدخل أو يخرج. هو الحر الوحيد. هو النسمة المتمكنة. هو الراحل والعائد. المسافر الأبدي فينا وبنا. هو بلقيس و اغنيوة و النكور الفاصل بينهما. هو أنت أيها القارئ الرائع غير القذر أو القواد. اغنيوة حبرنا المتخيّل. نطيعه لا شعوريا. الحبر يطبعه. نقرأه على ورق ليس مقوى أو على فراش الرمل الصحراوي أو الشاطئي أو الخيالي. ينكتب كما يريد. الآن يأمر طابور الخيال بالتوقف. فيتوقف السرد إلى حين إشعار آخر.

*    *    *

طابور الخيال يستمع لإيعاز اغنيوة فيتحرك ويحدث زوبعة إبداعية. أوراق تبعثرها الرياح. تبعدها عن النار. ورقة مستقبلية. إبداع مدسوس فيها. اغنيوة يقرأها على ملأ من القراء. القراء يبتسمون. الكناسون يركنون مقشاتهم جانبا ويصيخون. اغنيوة يبتسم ويرشف من طاسة الشاي. وصديقه الفتى يلحّن النص في داخله فيبتسم له اغنيوة. فتدنو لمحة عطشى. فتغنيه. فتـفـتـفـته أغاريد راقصة. رغم الجوع إلى كل شيء. والظمأ الذي يجفف أزماننا وأزمانهم أكثر:

أتضـور جوعاً في بلد تغرقه المياه.

العـرق ينز من جسدي وكأن مساماتي مثانات متفجرة.

المطر يهطل وسط لهيب الشمس. أشرب وأنز.

هبوط وصعود. لا يبقى شيء على حاله إطلاقاً.

مداولة أبدية بين آلهة البلل وآلهة الجفاف.

أتضور جوعاً وزوّادتي نـفـدت.

والتسول نحره أسلافي على محراب الكبرياء.

ألج فندقي.

في المدخل يجلس بوذا تطوّقه عقود الفل.

مائدته عامرة بالثمار شموعه مضاءة.

بخوره يعبق في أرجاء المكان.

وماؤه يملأ الأقداح أمامه.

- لعابـي حاضر حاضر. أحس سيلانك. الصبر الصبر.

أمسح المكان بصرياً. لا أحد حاضر من المريدين. ومكتب الاستقبال محجوب بإنعطافة الممر. أملأ الكيس سريعاً بالثمار. أتملّى من عيني التمثال العميقتين الهادئتين وأبتعد مسرعاً بالنهيبة. لـم أصعد إلى غرفتي رغم جوعي الشديد للاغتسال !. خرجت إلى الشارع. المطر ينهمر والشمس تمتص (آيس كريم) الأرض. الكلاب تهرش جربها على خشونة الجدران. الجرذان تجري وتختفي في البالوعات. والتايلنديون يوزعون الابتسامات المقترنة بتحيات انحناء الرؤوس والتصاقات بواطن الأكف. أحتمي من الصراع بمظلات المحلات. أركض تحتها باحثاً عن مأوى ملائم للإلتهام. بعد لأي صادفني مبنى في طور الإنجاز. العمال يفرغون شحنة رافعة في الدور الأخير. دخلت بحذر. وكعادتي مسحت المكان بصريا. في إحدى الزوايا لاح لي. جلياً واضحاً.

- آه يا ربي. ما هذا؟. ما هـذا.؟؟!!

ابتسمت للابتزاز. تمثال بوذا ذاته. الجلسة نفسها. النظرة نفسها. لكن شموعه متقزمة ولهبها يكاد يكوي الأرض. ومائدته خاوية كبطني الآن. لا مناص. لا مناص. كومت الثمار أمامه وانتظرته أن يبدأ.!!.

لم يبدأ ولم أبدأ. كان خيالا سياميا لذيذا. كنت وحيدا أعيش السكينة. أتوق إلى أي دنو. أبحث في القمامة وألطخ. ألطخ سعادتي عبر حرارة الدم. كنتِ قريبة جدا مني في خيالي التعيس. وكنتُ قريبا جدا منك. وما قرب دائمٌ ولا بعد يطول. الآن أعيش في عصر البعد. وها قد انفجرت صهاريج الدنو فأدخلـتـني قبور الفراق والابتعاد. أتوق الآن بالذات لالتصاق بهيج.

أنا الآن في بنغازي. أنا الآن أغني.:

وكانت المدينة نائمة

وكانت السماء صافية

وكانت يا وليفتي المؤامرة

وكانت المدينة في الصباح

بركة دماء

وكانت السماء في الصباح

مثلك باكية

وكانت الحروف ترتعش

و ترعف وتـخـنـقـهـا عبرات أ ي أي أي أي أي أي وووووووووووه ثم بكاء قصير كشنب هتلر. بنغازي هذا المساء حزينة. بانكوك هذا المساء حزينة. كل الدنيا هذا المساء حزينة. أنا أفتقدك وأبكي. مريم لم تنفع معي. آمال لم تنفع معي. سميرة لم تنفع معي. ماجدة لم تنفع معي. ديانا لم تنفع معي. نادية لم تنفع معي. بدرية لم تنفع معي. كل ليبية قحّة قابلتها لم تنفع معي. كل ليبية مولدة لم تنفع معي. كل ليبية عائدة من المهجر لم تنفع معي. كل عربية لم تنفع معي. كل أوروبية قابلتها لم تنفع معي. لن ينفعني غيرك. أنا عارف أناي اكويس (جيدا). أنت دوائي الذي يجعلني أصلّي. أنت جـنـتي. أقبل المواعظ منك فقط. أهضم التقريرية والمباشرة منك فقط. يا ثـقـتي. يا صدقي المترنح. يا رساخـتي. يا نقائي. يا جنون يحبني. يا عقل يدغدغ رزانتي. يا عيون تراني. يا عصب يحسّني. يا سمارة نضجي. يا صحة وجهي. يا أنثاي المفضلة الوحيدة. يا جمبري مشوي مخلوط بأرز باتايا. يا أناناس طازج. يا تدليك رهيف يجعلك تنتصب من جميع النواحي. يا ماء لوز قرد مثلج. يا جوافـتي التي عطرتـني. يا قبلتي النارية المربوطة في ما لا نهاية. يا جحشتي. يا فلوتي. يا نحلة ملحي. يا عذرائي التي لا تنجب الأنبياء. أنا أبكي الآن. والمطر غزير. والسماء وجهي. بروقها عيناي. رعودها انفجار عبراتي. أنا أبكي وبنيْغازي روحي حزينة. حزينة بلا بكاء. فقط تذرف الملح. الملح حزين. الفلفل حزين. الطماطم حزين. البن. الشاي. السكر. القات. البانقو. الخمر. المضاجعة. المداعبات. حزين. حزين. حزين. كل شيء حزين. ضجر في ضجر. ملل يهد الروح.

دنوت من النافذة. فتحتها. لفحني الصهد الأستوائي. المعربد في وجه الماء. أغـلقـتها واستلقيت على السرير مستلذا بهواء التكييف البارد. قلمي بين أصابعي أدوّره. راصدا بقايا مـداد منحصر أسفـل الأنبوب. وقّاتتي الإلكترونية تقتطع بعض اهتمامي. فيما عيناي مسلطتان على أرقام الثواني المستحيلة إلى دقائق تطمر جـب المنتصف. دفعني القلق واحتساء الشراب بمفردي إلى مغادرة الغرفة. هبطت المصعد إلى آخـر درك. أمام الفندق عربات التوك توك. إستقللت واحدة إلى ضاحية الباد بونغ. ولجت المرقص. احتضنني الصخب. طفقت أرقص بجنون صحبة الهرج والمرج وموسيقى البوب. البلقيسات البوذيات القصيرات يعج بهن المكان. الأنوار خافتة إلى أبعد حـد. خفت أن أتورط في ليدى بوي. ضغطت زر الإضاءة. ما زالت الثواني تحث المسير تردم خانة المنتصف وتبدأ من جديد. أو لعلها تعود من حيث أتت!. أتجرع جرعة لابأس بها. جرعة ملأ الفم. ماذا أفعل قـربة فمي واسعة من كثر الصياح!.

لم أضيع الوقت. اتخذت وليفة مكتنزة في رشق. لا شيء ينم فيها عن الذكورة. ناتئة من الخلف. ناهدة من الأمام. شعرها مسبسب طويل. شفتاها ممتلئتان. خصرها نحيل. فخذاها سيمزقان البنطلون. بشرتها ناعمة. صوتها رقيق. رائحتها ياسمين. لم أعوّل على بصري وحدسي. جررتها إلى خارج المرقص. اشترينا علبة سجائر من بائع رصيف. وأدخلتها كشك هاتف عمومي لبرهة قصيرة. ثم قفلنا عائدين بعد أن تأكدت من نسبة الاستروجين بطريقة لمسية! أتجرع باقي الكأس. تسكب لي آخر. أرشف منه ومن شفتيها ذات مـذاق الثوم. أصعد ركح الرقص. أرقص بقوة. أقفز. أنط. أصرخ. أجدب على طريقة الدراويش. أثناء الرقص يتلبسني جن الانطلاق. أنفث شحنات من مكبوتات أعماقي. أعيى من الحركة. ينز عرقي مدرارا. تنشفه وليفتي بمنديل ورقي وتخرجني من ركح الرقص. ننزوي في ركن قصي. أتجرع الكأس مجددا وفي دفعة واحدة. كأنني روسي مـحـبـط بردان. أطلب آخر وآخر. بينما فـلـوتي تحتسي شوربة التوم يام الحارة وتعمل عوديها في حبيبات الأرز. يبتسم لنا بائع المكسرات الصغير. يملأ لنا صحنا من الفستق واللوز ويبيعنا عقدا من زهور الفل. النادل ترفع الأطباق. ووليفـتي تمسح شفتيها بمنديل وتعيد بعناية وضع أحمر الشفاه. أشعلت سيجارتين. وامتصصنا. وزفرنا. وحشر كلانا سيجارته في مجرى المنفضة القريب منه.

قطنتا السيجارتين خارج المنفضة. رأسا السيجارتين متلامستان داخلها. قبلة نارية تحترق. وتحترق. التقت نظراتنا. ابتسمنا. ورفع كل منا سيجارته إلى فيه. امتص. وزفر. امتص وزفر. وأعاد حشرها داخل الأخدود. اسمها بلقيس ليست بوذية كما ظننت. هي مسلمة من الجنوب التايلندى. اقترنت وفارقت بعد أن أنجبت طفلة وطفل بعملية قيصرية. رأسها متوسد صدري. ذراعها الأيسر يطوق عنقي. والأيمن أنامله تجوس في مناطقي السفلية. يميني حول خصرها. يساري أرفع بها بين حين وحين كأس الرشف. النشوة ستفجر دواخلي. انتفضت فتزحزحت بلقيس من الكرسي وأبعدت يمينها عن المكان بسرعة. ابتسمنا. وصدري يعلو ويهبط. وجمرتا السيجارتين تراجعتا. كلتاهما تقبعت بالرماد. رفعنا السيجارتين. وامتصصنا برهة قصيرة. فتوهجت الجمرتان مجددا والقطنتان فقدتا بعضا من بياضهما الناصع. أعدنا السيجارتين إلى المجريين. الجمرتان متماستان. تفترسان بعضهما بنهم. مخلفتان هبوا فضيا مبقعا بذريرات سوداء. عاد رأسها إلى مرفئه وأذرعنا إلى مراعي حواسها.

أمسكت خصلة من شعرها. لففتها حول أذني كحبل ميناء. عببت كأسا. وغيرت الوضع. بوضع رأسي على وسادة صدرها الوثيرة. ابتسمت لي وأمسكت بشعرة مني هامسة: حبالك قصيرة. أين سأربطك يا وليفي؟. قد تجرفك مني الأمواج العاتية وقد تذروك الرياح العاصفة. لم أجبها. كنت منشغلا بسحب الدخان المنساقة إلى السقف حيث مروحة الطرد. كنت منشغلا بدقات قلبها الصاخبة. ـ آه. أجب. ومسحت براحتها على صدري ووجهي وشعري. وسادة حيّة ناعمة وعبق عطر بددا انشغالي وأجبراني على الكلام! حكيت وحكت. صارت كرة الخيبة بيننا لا تستقر. صدى موشوم يرفض التبدد أو الرحيل. كتلة هم وغم وضيق هائمة في الفضاء. تقاسمتنا أوجاع الأمس وأحزان اليوم. تعانقنا هنيهة وانـفـلت عويلنا الأسير. فلفتنا النظر. كانت موسيقى البوب الصاخبة قد توقفت واستبدلت بمعزوفة كلاسيكية هادئة. أوقفتنا نرقص متعانقين. ظلت بلقيس تهرش خدها المبلل على خشونة لحيتى الكثة فيما استسلمت أنا للذة الهرش الحميم!. إنتهت وصلة الموسيقى وأكرمتنا بتجديد وانتهى التجديد. وعدنا إلى طاولتنا بعد أن فض الإيقاع الصاخب لذّة الإلتصاق. تهالكنا فارغين خفيفين. كل منا يحملق في سيجارته المحشورة في الأخدود. الجمرتان تحتضران على عتبتي القطنتين. الهواء برئ. القطنتان مائلتان إلى تحت. الجاذبية بريئة. بين الجمرتين جسر على هيئة أنبوب رماد. وقفنا مشدوهين حذرين متجنبين لمس الطاولة. جسر الرماد مشيد من قبلة قد تقوضه أي هبّـة ولو كانت يسيرة. خرجنا من المرقص متأبطين. نسيم الفجر عليل. ورذاذ مطر خفيف ينعش وجهينا المبللين. والتوك توك ينهب لسان الأسفلت. ينعطف بشدة فنرتمي عكس الإتجاه ضاحكين. السائق مرح يلتفت نحونا قائلا: مساج. مساج. تشيب. تشيب. تجيبه سبابتانا الرافضتان. وراحتا كل منا المتلاقيتين فوق الكتف وتحت الخد علامة للنوم!. يصعد التوك توك جسرا ويهبط إلى منفذ فرعي يفضي إلى طريق غير ممهدة بمحاذاة مجرى تصريف. أعتقد أنه يختصر الطريق لتوفير رشفات من الوقود. ينعطف بشدة. نرتمي عكس الإتجاه. أيضا ضاحكين! ويعيد المراودة كــّرة أخرى.

ـ مساج. مساج. قود مساج قود ليدى. فيرى تشيب. شو. شو !!
ـ نو. نو. هوتيل. إن ذا روم مساج توقـذر.!!

ويقهقه البوذي معيدا مطوية المساج الدعائية إلى جيب الباب. يفاجئه قطيع كلاب يقطع الطريق. يتحاشاه صادما مصطبة الرصيف. صرخت بلقيس وضحكت أنا بينما لعن السائق الكلاب وأدار المقود إلى المسار القويم.!

في الغرفة خلعت القميص. عـلـقـته على المشجب. وأعددت الشاى الليبي الثقيل. وعاء الشاي يفور. اصطكاك غطائه على محيط فتحته أسمعه بوضوح. بعض البخار يشق طريقه إلى فضاء الغرفة عن طريق خرطوم الصب. أتتبعه وهو يخالط هواء التكييف البارد. بلقيس منهمكة في إصلاح زينتها التي أفسدها البكاء وطول الهرش. صببت كأسين شاي. قدمت لها واحدا. شكرتني بهزة رأس واستمرت في رسم وتظليل عينيها المشرقتين !! أنفخ كأسي راشفا مختلسا النظر إلى جسدها المكتنز وهي تجلس أمام المرآة. شعرت بحملقاتي فأنهت زينتها والتفتت ناحيتي في فرح. اقتربت وهي تنزع عنها بلوزتها. ولاح مشد صدرها شفافا كأنه لم يكن. يظهر بوضوح نفور حلمتيها البنيتين. آه. آه. نهيد داخل نهد. سيجارتان مطمورتا الجمرتين لفم واحد. ماما لماذا فطمتيني قبل الآوان حرام عليك؟! دار رأسي بلذة. نكسته قليلا. أثر لجرح طولي هابط من تحت سرتها ليغيب تحت حزام البنطلون. حملقت في جسدى بفضول:  سألتني بهدوء.

ما هذا الكيْ المنتشر في بطنك وصدرك و جنبيك؟!

ـ لا شيء. لا شيء. طب عـرب. طب عـرب فقط.!

ـ كيف طب عرب؟. لم أفهم.!

ـ حدث ذلك وأنا صغير. أخبرتني أمي عن خالتي عن جدتي أنه لولاه لـمـت.!

ـ بلقيس حبيبتي لولا هذا الكي ما كنت معك الآن.!

وتهارش الكي بالجرح. والخدان باللحية الكثة. وأطلقنا العنان لكل النتوءات لتختبئ من أوجاع الأمس وأحزان الآن. وتعبر جسر الرماد الذى تـكلـس.

*    *    *

ومن رماد اللذة إلى رماد الألم. قمامة المستقبل تـفـور في مخيلة اغنيوة. تمنحني هذه المشهدية أو السيناريو. أحيانا نحلم بأشياء وننساها وعندما نعيشها نقول لقد مر علينا أو عشنا مثل هذه التجربة من قبل. إنها أسرار الخلق. أسرار الله. اغنيوة يقودنا إلى هناك. إلى هنا. المكان ليبيا. الزمان ليل داخلي. في ليلة 15 -4-1986م كنت أنت أو أنا نائما هانئ البال وفجأة سمعت أصوات مفرقعات وزجاج يتحطم و شقف من السقف تتهاوى استيقظت منزعجا ومن خلال النافذة رأيت السماء بيضاء كالفضة الناصعة. اووف أمريكا. أمريكا. أمريكا. يا نعنديك أمريكا. لقد قضّت مضجعي. واغتالت حلمي. قطعته إربا. كنت احلم بكتابة رواية جميلة ارتـّـب حروفها في ظلماتي. صوت الحديد شتتها ورائحة البارود والنار أحرقت عطرها. لقد اعتدت عليْ أمريكا في عقر داري وأنا لم اعتد عليها. كنت نائما. أحلم. وابتسم. وأكشر. وأقهقه حسب مزاجي الروائي في جوانيتي. من يعوضني ضياع هذا الإلهام؟. وكيف؟. لقد تمزّقت كتاباتي. وانهمرت في سرد روائي ترابطه يكاد يكون معدوما. أين تماسكي. كنت قد أكملت مضاجعتي. و استحممت و استرخيت وارتويت وحمدت الله العلي القدير. كنت نائما في بلدي. في بيتي هانئ البال. لماذا أيقظتموني بتربيتتكم الماكرة الحارقة التي أبادت الكثير من مفردات مخيالاتي الكبيرة والغضة ومن كل الأعمار الزمانية الممكنة. أمريكا تقصفنا بالقنابل الخرائية الآن. هنا في بنغازي. قنابل عنقودية توسع بقعة الدم العتيقة. صواريخ تنفجر في عدة أماكن. ماذا فعلنا. قنبلة انفجرت في إحدى مراقص برلين اتهمونا بها. اغنيوة ليبيا الآن. لا اعتقد أنني قمت أو سأقوم بمثل هذا العمل.

المانيا صديقة ولاعبوها أحبهم كثيرا. بيكنباور. رومونيجا. هانز وجيرالد مولر. برايتنر. ماير. شتيفي جراف. شوماخر السائق وليس حارس المرمى الذي دق رقبة لاعب وحتى عارضة الأزياء كلوديا شيفر تأملها يفتح النفس. أيضا كتابها رائعون جدا. ريلكه جوته جونتر جراس نيتشه بريخت وغيرهم. لقد زرت المانيا ذات زمن. كانت بلاد رائعة نظيفة. لا يوجد بها غبار. حذائي لم أبوّيه (ألمّعه) هناك أبدا. أتجول في ميادين بون وكولونيا ودوزلدورف وتعلمت القليل من الألمانية في مدرسة خاصة وفي الحانات أيضا. أعجبتني جملة إش ليبا دش (أنا أحبك). كلمة لـيـبـا وهي الحب قريبة من كلمة ليبيا. إذن ليبيا رمز الحب. إش ليبا دش أحلى من أي لاف يو. الطيارون الدمويون يقصفوننا الآن. كلهم هلاتر و ستاليون وهولاكيون وأباطرة عالم ثالث وثاني وأول وصفر. ليس بينهم المجند الأمريكي البطل النبيل سلوفك. الذي رفض قتل الإنسان وبقر بطنه وتقبل رصاص الإعدام فوق ثلج باريس بشجاعة. سلوفك هو أول جندي يتم إعدامه بتهمة التهرب من قتل الناس بغض النظر عن أنهم أعداء أو أصدقاء. جندي يريد أن يدافع عن وطنه لكنه أخِذ إلى ما وراء البحار وأمروه بالقتل والتدمير ورفض وفرَّ من جبهة النار تاركا لهم خردتهم وبارودهم. لقد أعدمته الإمبريالية الأمريكية بزعامة رأس الدولار ايزنهاور الذي صادق على حكم الإعدام. كانت جريمة بشعة ارتكبتها أمريكا في حق ابن من أبناء الإنسانية البررة. لقد بقروا أحلامه وأمانيه كما فعلوا مع اغنيوة الراقد على فراشه البنغازي في سابع حلمة. يقول المبدع وليم برادفورد هيوي كاتب رواية إعدام المجند سلوفك بترجمة من المبدع الليبي فرج الترهوني:

" لقد حدد المجند سلوفك القضية بينه وبين الولايات المتحدة الأمريكية بكل وضوح حينما شعر بأن الولايات المتحدة قد ارتكبت خطأ بحقه. وادعى كذلك بأنها أثقلت كاهله بمطالب غير عادلة، وأن لا قدرة لديه على تمزيق أجساد البشر بواسطة الحراب ، وبناء على كل ما سبق يكون لديه الحق في تغليب سلامته الشخصية على المصالح المتعلقة بالولايات المتحدة الأمريكية.

أكثر من ذلك فقد أكّد المجند سلوفك أنه يحب زوجته أكثر من أي شيء آخر على وجه الأرض ، أكثر حتى من الولايات المتحدة نفسها ، وأنه أحب بيته الذي أثثه حديثا لأنه المكان الدافئ الآمن ، الودود ، الوحيد الذي يعرفه ، وأنه يحب العودة إلى بيته قبل المساء ليمارس الحب مع زوجته ، وأنه كان مولعا بالجلوس في دار سينما (كارمن) في مدينة _ ديربورن _ بولاية متشغان لمشاهدة عرض جيد بينما يهمس في أذن زوجته الجالسة بجانبه ، وأنه أحب سيارته البونتياك كثيرا ، وكل هذه المتع تعتبر ثمينة بالنسبة له".

طيارو الكاوبوي رونالد ريغان يقصفوننا. يقتلوننا. يصرّحون أن ذلك من أجل الحرية. والحرية في مفهومي تعني الحياة. كل من يقتل نفسا هو عدو للحرية. قالوا أننا فجرنا مرقص في برلين. وأين الدليل. عند من تقزوا (ضربوا الودع). لا يمكن أن أفعل ذلك. ألمانيا أحبها. أعشق نظامها غير السياسي ونظافتها ومحركاتها وسياراتها الفولكس الفكرونة التي تخطط للثورات و تركض في سبيل الشعب بدون ماء أو إعياء. وصلت هناك في أواخر شهر رمضان. كنا نتناول الإفطار في مطعم بوسني. أكله حار مثل أكلنا. وكان يجلس معنا إلى المائدة شايب ليبي (رجل عجوز). بعد الإفطار يبدأ في تناول خمر الجن ثم يصرخ فينا يا محمد أمتك ضاعت. إنجليزيتي ركيكة جدا وبعدما تعلمت قليلا من الألمانية سلك الجو. مشت الأمور. وجدت متسولة تعزف على الجيتار. وصندوق الجيتار يضع فيه المستمعون الفلوس.

أعجبتني هذه الشحاتة (المتسولة). شعرها أسود وعيناها خضراوان ونهداها ليسا كبيرين وتلبس جونيلة طويلة موردة و كنزة صوف. لها مكان خاص للشحاتة قريب من محطة القطارات المسماة بان هوف. كان الجو باردا وكنت استمع إلى عزفها بليبا أي بحب واحفظ اللحن الوحيد الذي تعزفه عن ظهر قلب وعندما أرى أسنانها تصطك أقول في نفسي تصطك روحي ولا أسنانك العاجية المصفرة من التبغ وأركض نحو مقهى كازا كافيه القريب وأحضر لها شطيرة بيتزا ساخنة على حسابي. وصرت أساعدها في تسولها الموسيقي فبعد انتهاء الوصلة أحمل صندوق الجيتار وأمر به على حلقة المستمعين فيضعون النقود وهناك عرب تحاول أن تتملص فأعترض زبور أمهم (اعتراض وقح) وأفنص (أحملق أو أبحلق) فيهم صارخا خافوا ربكم في هذا الشهر الكريم. حرام عليكم تحتسون البيرة وتضاجعون الصبيان الألمان وتمتنعون عن الصدقات الفنيّة. ادفعوا حتى القليل. شجعوا الفن والغناء والطرب. خلوكم جدعان جناتل فضحتم بينا أمام الألمان أنتم مش عارفين قصة الشحاتة هذه، لو كان تعرفوا تتبرعوا حتى بجواربكم لها. وبصحة الوجه أرغم أكثرهم على وضع مارك أو مركين في حقيبة الجيتار. بعدها أضع الصندوق أمامها فتجمع النقود تضعها في جيبها وقبل أن تغادر تشير إلى النقود بما معنى هل تريد؟ فأقول لها عيب. ما تنكتبش علينا. لا أريد نقودا. لكن. لكن. إش ليبا دش. فتبتسم وتضمني بحنان وتقبلني أمام الناس.

أول مرة شعرت بالخجل. بعدها أخذت الأمور عادي. جبهتي لم تعد تعرق. وذكري ينتصب ببطء وليس بسرعة. وجنتاي فقط بقت على حالتهما تحمران بسرعة أما طقسي الداخلي فقد صرت ادفأ كثيرا. ما عاد يؤثر فيّ أي ثلج أو زمهرير. لأن هذه الشحاتة تقبلني بعمق ولا تستعجل أو تدوخ كالليبيات، وقبل أن تتركني تراقصني وفمها يحاذي أذني ويهمس باستمرار ليبا دش. ليبا دش. ليبا دش ليبا دش. فاهمس لها بالعربي. يا ريت اتخليه ايخش. (ليتك تتركين ذكري يدخل فيك) بعد الانفكاك نغادر معا إلى المطعم نتناول الحساء والأرز واللحم المشوي وسلطة بها بصل وثوم وكرنب وشرائح بيض مسلوق مبهّرة. الطعام نتناوله على حساب الشايب الليبي الكريم الذي يصرخ بعد الثمالة يا محمد أمتك ضاعت. كان كريما وميسور الحال و يتعالج من مرض لا أذكره. لم اسأله مم يعاني. دائما أقول له أنت صحتك زي البمب وأغني له أغنيتي مع الشحاتة.

ليبا دش ليبا دش. يا ريت اتخليه ايخش.

فينبسط و يحلف لي بطلاق أنْ أتناول هذه الكأس ويقدم لي كأس نبيذ أبيض بعد الكأس الثالثة رأسي تثقل فاستأذنه. وأركض في عجل إلى الشحاتة الحبيبة. قلت للشحاتة هذا جدّي جراند فاذر فأحبّته كثيرا، وفي إحدى الأمسيات غنى لنا الأغنية الليبية الشهيرة:

سافر مازال.

عيني اتريده.

حياتي زهيده.

ناس شالوه لوطاناً بعيدة!

وصاحبته الشحاتة بالعزف على الجيتار. غنى بانفعال شديد حتى بكى. لم أقابله منذ عام 1979 م و متأكد أنه لم يمت. فمازالت صيحته الشهيرة: يا محمد أمتك ضاعت ترن في أذني. وها هي الأمة الآن ضائعة. لكنها لم ولن تموت.

بعد العشاء نركب في الحافلة. نتهالك على آخر كرسي نتضامم و نتماطر ـ على رأي الرومانسيين ـ بالقبلات وأنزل في محطة سكني (باد قود زبيرج) وتواصل شحاتتي الفاتنة طريقها. مرة نزلت معي إلى فندقي وباتت لكن أنا لم أصحبها إلى بيتها أبدا. لم أشعر أن لها بيتا سوى قلبي. مازلت أتذكرها وفي الليل عندما أنام أحلم بها غصبن عني (مجبرا) كما أكتب هذه الروايات والنصوص غصبن عني.

آه اشعر أنني خرجت عن موضوع النص. لكن فعلا كنت في هذه الأجواء مع شحاتتي وبالضبط في تلك الليلة التي صحبتني إلى غرفتي في الفندق ووهبتني نفسها أو بالأحرى أنا من وهبتها نفسي بعد أن وجدت بقية نفس مختبئة في داخلي. كنا في عالم آخر. كنا قد جمعنا ملايين من صناديق الجيتارات مملوءة بالذهب والماس. وأطنان من أوتار الموسيقى المشدودة كطراوات طازجة. كنا قد بنينا كوخا منعشا في غابة افريقية خضراء كنا ملتحمين جيدا لا شيء في بالنا غير السعادة والسلام والأخوة والحب وفجأة أغارت علينا طائرات اف 16 و الشبح والآواكس وغيرها من حديد الدمار وأمطرت ليبياء قلبي بقنابلها العنقودية الماكرة. ليش يا أمريكا هكي؟!. لماذا يا أمريكا تقطعين لذتي قطعك الله من جنة الجغرافيا. ما السبب. يقولون إن قنبلة انفجرت في مرقص ببرلين يرتاده الأمريكيون اتهموا بها ليبيا. اوف وآشيت وشنو هذا الزنديمور؟. أي شيء يحدث في العالم لأمريكا تتوجه بأصابع الإتهام إلى ليبيا. وكأن ليبيا قد خلقها الله متهمة. أين الأدلة يا فروخ القحبة. لا أدلة. دائما أمريكا تبحث عن كبش فداء لمصائبها وفشلها. وكبش الفداء لابد أن يكون دولة عربية أو إسلامية أو من العالم الثالث كوريا شمالية كوبا فنزويلا إيران عراق. بشرط أن يكون كبش الفداء صاحب ثروة بترولية أو ملتصق بهم كسوريا واسرائيل أو كوريا الشمالية والجنوبية. لقد استشهد في هذه الغارة بمدينتي بنغازي وطرابلس الكثير من المدنيين رجال ونساء وأطفال وشيوخ وعصافير وأغنام وتشوه الكثير من الليبيين وتصدّعت وهدمت أجزاء من المدارس والمؤسسات المدنية. هؤلاء الضحايا ما ذنبهم. ومن يعوّضهم. من يعيد إليهم حياتهم وطبيعة أجسادهم وممتلكاتهم المحترقة وذكرياتهم وأحلامهم. هل تعلمون أن حلمي المقطوع مع الشحاتة لا يقدر بثمن ولا يمكن تعويضه أبدا أبدا. هل تعلمون أن كل الخسائر أستطيع تعويضها إلا خسائر الأحلام.

ولا يدري اغنيوة أيهما أفضل حلم الصيف أم الشتاء. الشتاء يصرع الصيف ويبصق عليه أمطاره ويذهب والصيف يثأر من الشتاء فيجفف أشجاره وأعشابه ووروده. ويحكي لنا عن حكاياته الصيفية الماتعة.

صيف ما

كانت بلقيس ما

تحضر دورة تدريب ما

 في إحدى الجامعات الأمريكية لعدة شهور ما

من ضمنها شهر رمضان الكريم ليس ما

بعدها عادت بشهادة ما

علقتها في مكتبها بالمؤسسة الصحفية ما.

 ونشرتها في عدة صحف ومجلات ومواقع الكترونية ما.

هذه الشهادة بنية اللون ما

لكن كلما دخل اغنيوة المكتب يراها حمراء فاقعة ما.

 يرى حروفها من دم الضحايا ليس ما

في أمريكا و العراق وفيتنام وفلسطين ولبنان ما وحتى ثمن ورقها وطباعتها من بترول هذه الشعوب المغلوبة على أمرها ما

و الذي يسرق يوميا بنهم ما.

 ومن وجهة نظراغنيوة أن مثل هذه الشهادات الملوثة ما.

لا يجب أن تعلق خاصة في مكان رسمي أو حتى يفتخر بها ما.

لكن أية خنانة (مخاط) من أمريكا في العقليات غير الواثقة من نفسها جيدة ومتميزة ولزجة ما ما ما

ودليل دامغ على التفوق والنجاح يجب علينا أن نصونه وندسه في الأحداق ما.

ويقسم اغنيوة بالطلاق ما.

قائلا: أستطيع القول ما.

أنه لو كانت هذه الشهادة من

مدرسة الفنون والصنائع الليبية

أو من منتدى اكاكوس الثقافي

أو من جمعية الخروبة للتراث

أو من صالون الشاعرة بلقيس بسيكري الأدبي ما

أو من ورشة الزيتون الأدبية بالقاهرة ليست ما.

ما نالت كل هذا الاهتمام والاحتفاء ما.

وطبعا الأخت الفاضلة الصحفية بلقيس ما.

لن تزعل من هذا الكلام الرأيوي جدا ما

لأنها قرأت وتلقت ولـقـنت حرية الرأي والحوار ما

من بز أمها في البر الأمريكي القارص نوعا ما.

قالوا لها قد تتعرضين لانتقادات اغنيوائية ليست ما.

جرّاء حضورك إلى هنا.

فتقبلي الأمر بصدر رحب ما.

نحن هنا في أمريكا ننتقد حتى رئيس الولايات الواحد والخمسين دون أن يزعل ما.

وهنا في ليبيا ها أنا ذا أعتبر شكشوكتنا هذه منبر شعبي أقول فيه رأيي بصراحة ليست ما

دون أن يقاطعني أحد أو يزعل مني أحد ما.

ومن يزعل طبعا يشرب ماء البحر ما.

*    *    *

تلك الفترة وبالذات في شهر رمضان كنا نلتقي عبر الماسنجر تـقصُّ مني النشرة (تسألني)عن أخبار بنغازي الرمضانية وتقول لي شهر رمضان في أمريكا أخّييه عليه. إيطرش (يسبب القيء) مالشي طعم ولا صنة. خاطري في تبسي براك على الفحم لكن هنا في أمريكا ربطة المعدنوس الصغيرة التي مثل ذيل الفأر بدولار ونصف. وفي ذاك الشهر الكريم كان اغنيوة مفلسا جدا والشيخ محمد المزوغي الذي لا يردّ أحدا في مصر. وجئت للأستاذ اغنيوة ما أطلب منه سلفة فصار يحلف ويقسم أنه لا يملك مالا وأن خزنته ليس بها نقود. وما الحل يا اغنيوة الهموم؟. التقى صديقه العزيز الغالي اغنيوة الفيتوري وشكى له الحال فرق قلبه وقال له نحن أصدقاء وليس هناك مشكلة ما. اللي بيّا بيك. قال له شكرا وبارك الله فيك. ومشيا راجلين حتى الفندق البلدي. قال له سأشتري لك خضروات وفواكه وبقول ومكسرات ولحم وحتى سردين وكلب بحر وزمرين. ودخلا زحام الفندق وأخذ يجس درنات البطاطس وينفخ من على ظهرها سافي قصر خيار ومسلاتة ويطبطب على البكيوة (اليقطين) قائلا تعرف يا اغنيوة الروح البكيوة اللي قشرتها غليظة تجدها من جوّى (الداخل) ليست حمراء كفاية ثم يضغط بأصابعه على خصاوي الباذنجان ويهزهز رأسه مستحسنا ثم يتناول رباطي السلق ويهزهزها وينش بها كمروحة. شوف يا الهبل انكان فيه ورقة مثـقوبة في الربطة تبان. وانكان السلق مش من سواني اللثامة أوراقة ترتخي.

صديقه اغنيوة الفيتوري ما في شهر رمضان دمه خفيف ومزاجه رائق خاصة في السوق. وواصل مروحة رباطي السلق في الهواء. وهمس في أذنه أفكر في تقديم كتاب للطبع لدى مجلس الثقافة العام حول أسرار الخضروات في الفندق البلدي وتخصص دقيق في أوراق السلق الصالحة للبراك والأخرى الصالحة للبوريك والأخرى الصالحة للسلطة المطبوخة التي يأكلونها لهضم البستيك. وواصل تجوله في ممرات السوق المزدحمة جدا. يساوم هذا و يماكس (يفاصل في السعر) ذاك ويهزهز رأسه وووه شنو هضا؟. غالي. غالي. نار شايطة يا اغنيوة. مافيش قانون. فوضى. مافيش تسعيرة ومخالفات جنيه وقرش. ووقف أمام قصاب لحومه شارفة ومريضة وساومه وكان الفندق البلدي مكتظا بالبشر والبراويط والنشالين والبصاصة فـزاغ اغنيوة منه و اختـفى في الزحام وركب حافلة ربع دينار عائدا خائبا للبيت. قالت له زوجته بلقيس. نمشوا نفطروا عند أهلي. قال لها لا يوجد ثمن التاكسي. مش مشكلة نمشوا كعابي. في اليوم الثاني التقاه وقال له وين رحت يا اغنيوة. معقولة يا راجل تهرب مني. عليك حق والله ما نفهمك. وقال له شكرا لك. لم تقصّر. الحق الذي تضعه انشيلا. لكن أمس لم يرق لي الأمر. أحب أن اشتري حاجياتي بنفسي. أحب أن تكون النقود في جيب سروالي. جيب سروالي.

في المساء حيث يكون توقيت أمريكا ساعة المنيسة (الفجر) رن اغنيوة على الصحفية بلقيس ما الماسنجر وقال لها أخوك اغنيوة على الحديدة (لا يملك أي قرش). اليوم فطر على حساء وخبزة تنور من الجيران وزوجته مريضة ومالهش واجد جايبة (واضعة). وأنت إنسان حنون وقلبك أطيب من الطيابة نفسها وما اتحمليش جوع نملة. تصرفي يا صديقتي. وراس باتك (أبوك) اللي غالي عليك واجد. انشاء الله باتك يحج ويصح ويفتك من زمط الحبوب وضرب ليباري. أنت في أمريكا وأمريكا تملك حل العالم، وأنت تملكين حل تفليسة اغنيوة. قالت له متثائبة خلاص بلاش تبكيش (توسل والحاح). سسسساهل ساهههههل يستر الله وشكرا وعيتني (أيقظتني) على وقت الإمساك بالضبط. سأرسل مسجا (اشعار) للأستاذ اغنيوة ما فهو صاحب مروءة ونجدة وما يرفضليش طلب ما أو ليس ما. وفعلا اليوم الثاني قال له الأستاذ اغنيوة ما. تعال يا اغنيوتي. وصلتني توصية عنك. ودخل به على مساعده القصير الأبيض أمضاه ورقة باستلام 10 قروش على أن يردهن فورما تصله أي مكافأة وخرج من المكتب بالعشرة قروش يرقص فرحا وجوّه (مزاجه) 100%. اشترى الخضروات والفواكه واللحم الوطني الصالح للشربة الليبية و البراك واشترى فازو امسيّر حار وزلابية ومخاريق وشبّاكية مغربية وباكو خط ولوح ليفرقعه بعد الإفطار تعبيرا عن فرحته وشبعه وعند الإفطار شكر صديقته الصحفية بلقيس ما كثيرا أما الأستاذ اغنيوة ما فدفره من شرفة عينه الكائنة في سابع سماء وبعد ذلك سامحه وقدّر ظروفه الوجدانية ما.

لقد أتاه باعتباره محسوب على الكتاب والأدب ومن حواريي الكاتب الكبير الصادق النيهوم وكان يحسبه صديقا طيبا وشرح له الظروف ورجاه كذلك وقال له الحالة حالة رمضان وأنا كاتب مهم غصبن عنك ولدي سبع روايات طبعتها بعرقي ومساعدة الأصدقاء عشاق الكلمات ومن المفروض أن لا أقع في مثل هذه الظروف الحقيرة وأنت رجل مسئول وامبحبح وامفرشك وزارط الناقة و سقياها. أعطينا اشوية (قليلا) من سقياها فقط. أنت يا دين أمي. سيارتك من الدولة. بنزينتك من الدولة. زيت افرينوّك من الدولة. موبايلك من الدولة. جلابيتك من الدولة. مراياتك (نظاراتك) من الدولة. اسفنزك وزلابيتك ومخاريقك من الدولة. سكّرك و شاهيك و دخانك ونـفـتـك ومضغتك وكلينكسك من الدولة ولديك ميزانية مالية تكفي وتوفِّي وتـفيض وادير عصبان شمس وقديد. لكنه لوى رأسه وقدم له محاضرة عن العهدة و الأمانة و السيولة النقدية والصكيّة والتحت الترابيزية والمخصصات والنثريات ومخصصات الطوارئ ونظافة اليد والرأس واللسان والبوتيل والقنبالي والكعب العالي وشبشب الاصبع والجورب اللحمي والعظمي.

لكن مسج (إشعار) قصير من U S A بخر كل كلامه ومحاضرته ونظافة يده ورأسه ولسانه وأسنانه وجبهته وجعله يقرضه مال بلاده مثل الرجل الطيب. يا نعل ديك امريكا.  وهو يمد له بمخبش متردد غمز له قائلا: بصراحة أنت منيّك (مش اكويس) لكن شن اندير (ماذا افعل) أوامر عليا. فقال له الشاعر علي صدقي عبد القادر يقول يحيا الحب وأنا أقول تحيا أمريكا.

*    *    *

 عندما عادت الصحفية بلقيس ما إلى ليبيا وأفلس عمك اغنيوة مرة أخرى كلمها لتكلمه يقرضه ثانية فقالت له يا اغنيوة العزيز أنا كلامي من أمريكا يمشي معاه لكن من هنا ما نلعّبش (غير مؤثر) معلش اعذرني يا خيي.

وأعود للمسئول الأستاذ اغنيوة ما ماذا افعل دخل عليه في مكتبه وشرح له الظروف وكلمه فقال له عدي روّح (أسلوب طرد)  وهو مروّح (عائد إلى البيت) لم يجد للأسف أي شيء مطوّح (مرمي). ربما سبقه أحدهم. لكنه التقى الصديق الرائع الذي أحبه كثيرا الإذاعي الراحل عبد الله عبد المحسن. دخلا مقهى عين الغزالة تناقشنا في الأدب وقرأ عليه إحدى قصائده الجديدة وحكى له عن بعض همومه وشربا قهوة ثم خرجا ليركب في حافلة ربع دينار خط البركة الماجوري بوهديمة بينما هبط اغنيوة وحيدا يخوض في شارع عمرو بن العاص عند قنصلية الطليان قابله الاستاذ الناشر الشعالي الخراز خارجا من مكتبته. كنك يا اغنيوة مش ولابد؟. باين عليك زعلان. قال له امفلس فأدخل يده في جيب بنطاله الخلفي فخرجت بعشرين دينار. اهن اليدين ولا بلاش. قال له أنا امرّوح الآن للبيت وان احتجت أكثر مر عليا في المكتب بعد الستة مساء. كان قد أعطى اغنيوة الخراز 500 نسخة من كتابه القصصي ليبيعها ولم يتحاسب معه أبدا ولن يطالبه بشيء. وكل النسخ قد بيعت. وربما يكون قد استلم ثمنها وأكثر وليس مهما لأنه ليس بين الرجال نقود أو حسابات فدائما يعطيه نقودا خاصة في الأعياد والمناسبات لا يذكر أبدا انه أعطاه ربع دينار. دائما عشرات أو عشرينات أو خمسينات. ومرة أعطاه 200 دينار مرة واحدة. يعطيك المال بحب. لا يكشر أو يشعر بالضيق. أو يدخل يده في جيبه ويتركها تتلمس وتتحـسس كي تبتعد عن العشرات كما يفعل أبناء القحبة البخلاء.

الخراز ماله من عرق جبينه يعمل في مكتبه صباحا ومساء. يوزع الكتب والجرائد والمجلات على كل المكتبات والأكشاك. دائما منهمك في عد النسخ المرتجعة وتحصيل المبيعات. وعندما يزوره صديق يترك ما في يده من عمل ويهتم بالزائر ويستمع إليه ويحل له مشكلته إن كان مشكولا. أحيانا يرسل اغنيوة ليحضر اثنين قهوة مكياطة مرّة من مقهى لبدة العتيق ليحلو الحديث. ذات مرّة قال له زمان تقدمت بطلب لإنشاء مصنع صابون وعندما تمت الموافقة من وزارة الصناعة زارني في مكتبي أحد أثرياء بنغازي وطلب مشاركتي وقلت له أنا رجل عصامي ومستثمر صغير لو صرت غنيا ومشت معي الأمور ستقول الناس لأنه شاركه فلان. و بإمكانك أنت أن تنشئ مصنعا آخر للصابون فأجاب الثري لن يكتب عليّ ذلك ولن أنافسك في هذا النشاط أيها العصامي. فلقد سبقتني يا رجل في هذا المشروع. هذه هي أخلاق التجارة. فالرزق واسع وفضل الله عظيم. لكن ألا يمكنك أن تسمح لي بالمساهمة ولو بعشرة في المئة. لكن الخراز رفض ألمشاركة وفي نفس الوقت سأل الرجل الغني لماذا تصر على مشاركتي وتلح؟ فقال له لأن الصابون ينظف الأوساخ من الإنسان والحيوان وكل الأماكن ومن يصنعه له أجر كبير عند الله. أريد أن أشاركك الأجر ليس إلا. هذا الرجل الغني كما اخبره الخراز اسمه عبدو إسماعيل.

 وعرض الخراز على اغنيوة وثائق مختومة من وزارة الصناعة بها الأذن ببناء المصنع وجلب الآلات والمادة الخام من ايطاليا لكن المشروع توقف لأن الوزارة قالت له لابد أن تقيم هذا المشروع إن أردت دعمنا في العاصمة اطرابلس. والشعالي الخراز صحفي مناضل شجاع محب للوطن فقد سبق و إن سجن في سبيل الكلمة الصادقة فترة ستينيات القرن المنصرم وهو رجل طيب وجنتل مان ومشجع للكتاب الشباب ويستحق تصفيقة وزغرودة وقصعة شرمولة درناوية على شاطئ جليانة البهيج وقارورة عصير عنب مثلجة وعتيقة.

سأل اغنيوة الخراز المصنع الذي نويت أن تشيده لصابون الوجه أم لصابون الملابس. فقهقه طويلا وأجاب. صابون الوجه بالطبع. وفعلا قهقهة الخراز صحيحة. فالوجوه أكثر قذارة من الملابس. وعندما تتحسن الأحوال سوف أقيم مصنعا لصابون صحّة الوجه. وصحة الوجه تعني باللهجة الليبية صفاقـته ونذالته وعدم خجله وتراها واضحة وجلية في الأمسيات الشعرية على خشوم المتشاعرين و المتشاعرات وأدعياء الأدب والمسئولين الذين يقولون ليس لدينا مال وعندما تأمرهم النساء يدفعون. سأكون ثريا من إيرادات بيع هذا الصابون. فطلبات الحجز وصلتني منذ الآن. والمصنع إنتاجه مباع حتى القرن الخامس والعشرين ونيف.

*    *    *

الفتى الجميل فتى الصابري صديق اغنيوة وفريسة الشيخ اللوطي المفضلة. لم يكن قمامة بشرية. فلم يجدِ معه صابون صحة الوجه هذا. اغنيوة من مكب الحياة. وصاغ منه قمامة مثـقـفة. محا من نفسه كل الآلام وزرعه ورودا عطرة وبهجة. اغنيوة يجلب الكتب من القمامة. يقرأها ويعطيها للفتى ليقرأها أيضا. يتناقشان ويشارك الكناسون في فحوات هذه الكتب. هم ليسوا غرباء عن الأمر فهم من جمع الكتب ونظفها من البراز والعفن بأنواعه وجففوها من البلل النتن. الشمس صابون الكتب. الهواء مكواتها. وصار اغنيوة والفتى يألفان جيدا الكتب القادمة من القمامة ويجدان صعوبة بالغة في ألفة الكتب المجلوبة من المكتبات التجارية والعامة ذات الأرفف المتناسقة. كل الحروف دخلها الدود. ساح بين السطور. تشبث ببعضها والتهم بعضها وعض بعضها وسحق بعضها بميسمه حد التفتت والاضمحلال. الدود قرأ الكتب في القمامة ثم غاص في العفن. غاص دون قناع أو اسطوانات هواء. الطين يأكل من زاد التراب ويتحيّن فرصة ميلاد كتب أخرى. سكان المدينة الدائخة يرمون في القمامة يوميا كثيرا من الكتب والمجلات والكراسات والدفاتر و الرقوق. يرمون كل الكلمات العاهرة المكشوفة. يقضون نهارهم في الرياضة والقراءة وليلهم في التأمل والغناء وفي الصباح يرمون ما عرفوا وعاشوا وجرّبوا عرض حائط.

يحضرون المزيد من الكتب من المكتبات العامة والخاصة ومن المدارس والمراكز الثقافية الأجنبية والمراكز الوطنية التي فتحتها الدولة حديثا للترويج لأفكارها الثورية وخططها الخمسية وغيرها. المطابع في الداخل والخارج تنتج كتبا تعبوية. خطب الرئيس جمال عبد الناصر. كتاب الميثاق. كتاب فلسفة الثورة. خطب العقيد معمر القذافي. كتب عن النظرية العالمية الثالثة. وعن النقاط الخمس التي أعلنت في خطاب زوارة التاريخي. محاضرات أساتذة التعبئة الجماهيرية. رضا طلبة. على مرسي الشاعري. عمر الحامدي. كتب بروتوكلات صهيون. كتب تهاجم الماسونية والعلمانية والإخوان المسلمين. تنتج كتبا أخرى مختلفة. روايات نجيب محفوظ و إحسان عبدالقدوس ويوسف السباعي ويوسف إدريس. كتب فلسفية دينية مسرحية طبية فلكية للدكتور مصطفى محمود. كتب الغاز بوليسية يؤلفها محمود سالم شخصياتها خمسة اولاد مغامرون تختخ محب لوزة عاطف نوسى. ومعهم الشاويش فرقع والمفتش سامي وكلب نجدة يخرجهم من المطبّات. كتاب حياتنا الجنسية للدكتور صبري القباني. مجلات سوبرمان وطرزان والوطواط وزاكور وميكي وسمير والكواكب واخر ساعة وروز اليوسف. روايات جورجي زيدان ودواوين احمد شوقي وحافظ إبراهيم وبالقاسم الشابي ونزار قبّاني وعبد الوهاب البيّاتي والذي خط اغنيوة بفحم الكانون مجتزأ من مستقبل بوحه الذبيح ومدنه التي أحرقتها الأحلام :

مدن بلا فجر تنام

ناديت باسمك في شوارعها

فجاوبني الظلام

وسألت عنك الريح وهي تئن

في قلب السكون

ورأيت وجهك في المرايا

والعيون

وفي زجاج نوافذ الفجر البعيد

وفي بطاقات البريد

مدن بلا فجر يغطيها الجليد

هجرت كنائسها عصافير الربيع

فلمن تغنى

والمقاهي أوصدت أبوابها

ولمن تصلي

أيها القلب الصديع

والليل مات

والمركبات

عادت بلا خيل يغطيها الصقيع

وسائقوها ميتون

أهكذا تمضي السنون

ويمزق القلب السراب

ونحن من منفى إلى منفى

ومن باب لباب

نذوي كما تذوي الزنابق في التراب

فقراء يا قمري نموت

وقطارنا أبداً يفوت.

داولت كلمة العذاب بالسراب في القصيدة والبياتي ديمقراطي حقيقي وافق على المداولة عبر منام إبداعي. ورسم البوح بجانب اختلاجات القصيدة قطارا متعدد العربات وملتوياً نحو قضبان منحدرة صوب هامش اليسار وصاعدة لسماء ماطرة مكتظة بالمناجل والفؤوس والشواكيش و الترابنوّات (مثاقب كهربائية). رسم القطار بطابشير أحمر قانٍ كلون سيارته البي إم دبليو ورسم بمحاذاة نافذة قمرة القيادة زجاجة فودكا مستديرة وسمينة جدا.

الكتب كلها خليط. تفرزه العقول والأمزجة والمآرب و يفرزه الكناسون ويضعونه في الرفوف داخل الكشك الخشبي. في خليط الكتب كتب مختلفة أخرى لطه حسين العقاد توفيق الحكيم ثروت عكاشة الفريد فرج الرافعي. روايات ماجدولين والشاعر وفي سبيل التاج لمصطفى لطفى المنفلوطي. أعداد من جريدة الحقيقة الليبية مجموعة في درج خاص. يطالعها بين الحين والآخر. يعرض على الفتى قصص ومقالات ودراسات لصادق النيهوم وأشعار لمحمد الشلطامى وعلى الرقيعي وسعيد المحروق وقصص لعلي مصطفى المصراتي وكامل المقهور وخليفة الفاخري ورجب الشلطامي وطالب الرويعي وأحمد العنيزي ومقالات لرشاد الهوني و محمد وريث و سالم الكبتي وبوبكر الهوني ودراسات عن أحمد رفيق المهدوي الملقب بشاعر الوطن بقلم الكاتب و الوزير الأديب خليفة التليسي وغيرهم. توجد أيضا في الخليط كتب موسيقية ومجلات بوردا للأزياء ومجلات اسبرتيفو الرياضية (فاء سبرتيفو عليها ثلاث نقاط) واونز ومونديال وافركا سبور وطبيبك والمختار والهلال والعربي وروز اليوسف وصباح الخير والعلم والإيمان والرسالة.

معاجم لغات عربية وإنكليزية وألمانية وفرنسية تعلم اللغة في خمسة أيام وفي أسبوع. معاجم طبية وموسوعات لغوية ومجلدات سلفية وتراثية تاج العروس. لسان العرب. الأغاني للأصبهاني أو الأصفهاني. تذكرة داود للأنطاكي ومقدمة بن خلدون وكتب رحلات بن بطوطة ورزم خرائط قديمة وحديثة ودفاتر جغرافيا وموسيقا ورسم بياني وكتيبات مغامرات أطفال و مجلات تسالي وكلمات متقاطعة وغيرها. الكتب مختلطة في بعضها متراكمة فوق بعضها. ألوانها متمازجة. أوراقها متداخلة. مواضيعها شتى. منها البالي منها الجديد منها الممزق إربا منها الذي بدون غلاف ومنها الغلاف الخاوي من الورق. ملازم كثيرة متـنسلة من خيوطها وهاربة من دبابيسها وأصماغها. كتب مبللة. أخرى جافة. أخرى مهملة في الركن متكدسة فوق بعضها أوراقها تعبث بها الرياح فتخالها جميعها تقترب من بعضها وتلتصق ببعضها كأنها في مصافحة أو مضاجعة دائمة.

الكناسون رغم أن بعضهم أمي إلا أنهم بالممارسة وتكرار فرز الأوراق والكتب عرفوا معظم أسماء الزعماء السياسيين والمفكرين و الكتّاب والفلاسفة والآلهة الميثولوجية وعرفوا أغلب أسماء الأعلام وألقابها إن وجدت. شاعر النيل. أمير الشعراء. شاعر الوطن. الضياع. الحب. قوريني. أبولو. سقراط. جالينوس.هيردوت. هرقل. هنيبعل. طارق بن زياد. رابعة العدوية. عبلة. عنترة. صلاح الدين. خالد بن الوليد الملقب بسيف الله المسلول. عرفوا أسماء كافة المجلات والجرائد وبلدان صدورها. المجلات الإباحية عادة لا يجدونها وذات مرّة وجدوا صورا إباحية على هيأة كارطة (كوتشينة) سلمها اغنيوة في اليوم نفسه إلى مركز شرطة الآداب ولم يخبر في أي جردل قمامة وجدها كناسوه. الكناس الذي وجدها قال لرفاقه من ستر مسلما ستره الله يوم لا ساتر إلا هو. مازلت أتذكر البيت وجردل القمامة الخفيف المملوء بالقصاصات الورقية ونتف الشعر وقطع بلاستيكية ملطخة بحلوة يابسة تزيل بها النساء الشعر غير المرغوب فيه من الإباط والعانات والساقين. عندما كببته في صندوق التجميع ظهرت لي هذه الكارطة الملعونة التي جعلتني أنتصب فورا. فرزتها سريعا على حدة. وتأملتها ورقة ورقة حتى شعرت بقرب بلوغ الذروة الجنسية وتبللت فرعتي قليلا من الأمام. فاستعذت بالله من الشيطان الرجيم ومسحتها أي الكارطة من القذى ونسيت عمدا من عقلي اين وجدتها وقدمتها إلى رئيسي المباشر الاستاذ العزيز اغنيوة. طلبت منه أنْ يعدني بألا يسألني أين وجدت كارطة العرايا وقد وعدني بذلك لكنه أضاف هذه المدة لن أسألك لكن ذات يوم إن سألتك وليس هناك أي ضرر من معرفة المكان فأجبني. بلكي (ربما) نلقوا في البيت بضاعة لذيذة تستحق الركوب. عارف خيّك اغنيوة ما عندش روح مع هذه التراكين. قلت له خليها بجوّها (بظروفها).

اغنيوة لم يسلّم أوراق الكارطة العارية كاملة. احتفظ بورقة الجوكر التي كانت لحورية جميلة كعروس البحر عارية تماما وواضعة إصبعيها على حلمتي الثديين بينما عانتها مبرقـشة بزغب نصفه وردي ونصفه أشقر. قال اغنيوة في نفسه هذه جوكرة دراقا (فاتنة) وليس جوكر. سأل الضابط الكارطة ناقصة ورقة الجوكر يا أستاذ اغنيوة. أجابه اغنيوة أصحاب هذه الكارطة من حي المحيشي. في حي المحيشي لا تـُلعَب الرومينو التي تستلزم وجود ورقة الجوكر. يلعبون لعبتي الشكبة والسكمبيل فقط حيث لا جوكر يؤدي جميع الوظائف ويملأ جميع الأمكنة و يمتطي كل الظهور. قال الضابط لاغنيوة أعتقد أنك بجملة يمتطي كل الظهور تتكلم في السياسة. ماذا تقصد بالضبط. قال اغنيوة لا أقصد شيئا. الجوكر في الكارطة مثل الملك غير المغلوب على أمره يفعل ما يريد. وأنا لدي عدة كناسين يعتبرونني جوكرهم. واطمئن هم يلعبون الكارطة دائما. يلعبون لعبتي الشكبة والسكمبيل فقط حيث عدد الأوراق زوجية وليست فردية. زوجية وليست فردية. زوجية اشتراكية وليست جوكرية ملكية. الرومينو لعبة امبريالية اوروبية امريكانية استعمارية لن نلعبها أبدا. هزهز الضابط رأسه بالموافقة. رائع أنت مُسيّس جيدا مثلما نريد. ما ينخافش عليك. صدقت. صدقت. الرومينو يلعبونها في المناطق الغنية الرأسمالية المستغلة والبرجوازية المتعفنة. الفويهات والرحبة وطابلينو وحي الدولار. في هذه المنطقة الكادحة حي المحيشي لا يلعبون الرومينو. الكل يلعب اسكمبيل واشكبا وشوية برنجي وسيزة. ألعاب شعبية جماعية. حتى في ظل سور مسجد سوق العبيد أراهم متحولقين ويلعبون السكمبيل وعندما يركبون على ورقة التريس يقفزون إلى أعلى ويصرخون ويأخذون في الرقص المتفحل دون توقف (ورقة التريس هي الرقم الثلاثة وهى ثاني أقوى ورقة في لعبة السكمبيل والقضاء عليها يمنح درجات أكثر لقيمة الدور للخصم ودائما يشبّه القبض على ورقة التريس بركوب ذكر على ذكر أو ذكر على أنثى حسب أمزجة وميول وغرائز اللاعبين الجنسية الدفينة وكثير ما يحمر وجه من تكون لديه ورقة التريس ويفضح نفسه من دقات قلبه وعرق جبهته أما إن استطاع الفرار من ورقة اللص رقم واحد فبعد الفرار مباشرة يشير للاعبي الخصم بإصبعه الوسطى وظاهر يده إلى الأرض ومعناها هربت منكم يا.). كمْ يحب هؤلاء البسطاء الركوب. فعلا مدينة دائخة.

طيب شكرا لك على هذه الخدمة الوطنية الجليلة التي ترتقي بأخلاق المجتمع إلى العلا وتصون قيمه وتحافظ على مبادئه وتدخلك الجنة. وإن وجدت أي كتب ممنوعة. أو شيئاً يمس الأمن الاجتماعي أو السياسي من قريب أو من بعيد في قمامتك أو أمام البيوت التي تلمون منها القمامة فبلغنا عنها فورا وسوف نكتب لعميد البلدية ليرقيك ويدفع لكناسيك الشرفاء مكافأة تقديرية سخيّة. وبعد أن وجدت في كناستكم هذه الموبقة عليك بتقديم تقرير شهري عن أوضاع القمامة ورائحتها أين تصب. من القمامة يفهم الأمن الشعب ويقيس الرأي العام بدقة. أعرف أنني لا أستطيع أن ألزمك بذلك لأنك لا تتبع البوليس وتتبع البلدية. لكن اعتبر ذلك مجرد اقتراح للخوض في الأعمال الوطنية. وطبعا ستكون لديك مكافأة شهرية مجزية وأي شيء جديد تقدّمه لنا سيكون حسابه خارج عن المكافأة وإن أردت أن تخدم حتى وردية الليل فسنمنحك إضافي وبدل مطاعم ومبيت. إن وافقت على هذا العرض فتعال غدا ووقع على العقد وجيب معاك وراقيّك و إلا نقولك أوراقك لا تهم فكلها عندنا. تعال وقع بس. وإن كنت لا ترغب فنحن لا نرغم الناس على العمل الوطني الخلاق فلا تحضر لكن هذا الكلام الذي قلته لك الآن. هنا حفرنا وهنا طمرنا لا تتحدث به لأحد فليس كل شخص ينفعنا.

*    *    *

عندما خرج اغنيوة من مقر شرطة الآداب غمز الضابط أحد رجاله. قال له هذا الأعرج مش بلاش. مش صافي. لصقولا واحد أو اثنين (خصصوا له). نبي نعرف أميته وين تصب. شنو دوتا بالضبط. سكار نكّار. متدين. ملحد. متع فروخ (مثلي سالب). فاسد (مثلي موجب). بمبا تشي (مثلي سالب وموجب في نفس الوقت يأخذ ويعطي وهو من أقذر أنواع المثليين وأخطرها على قيّم وأخلاق الإنسانية). شيوعي. قومي. بعثي. قواد. الكارطة ناقصة جوكر. جوكر يا عالم. أنا متأكد أن الجوكر أسير. والجوكر هو أثمن ورقة في الحياة. تمسك الجوكر. تمسك البلاد. تمسك كل شيء. لا أريد أن أضربه فلقة أو أضع في أذنيه اللاتريك (كهرباء). نبي أمّـيْتا وين تصب. قصته بالضبط. أفكاره أحلامه أمانيه. كم في جيبه من مال وكم لديه في البنك. كم لديه من كتب في مكتبته وما عناوينها بالضبط. نبي نعرف شنو يأكل وشنو يشرب ومن أصحابه ورفاقته ووين يسهر في الليل. هالأعرج مش بلاش. وراه خنطقيرا (كارثة) كبيرة. بلكي وراه حزب محظور. أو حركة هدامة. أو يملك زنانتين (عضوين) معناها ضد الاشتراكية لابد من تطهير واحدة. أو عنده سلاح آخر غيرهما. الأعرج سرق الجوكر من الكارطة. سله من الزحمة وحفظه في سجن جيبه. حيه على أمه. طاقته والجرّة (اسلوب تهديد وتوعد). ما تخلوشي إيغيب عن العيون وعن الأذان.

بسرعة. هيا. الآن. في جرّتا فيش اتراجوا يا متاحف يا زمالات يا بهايم وراه وراه ه ه ه ه ه ه ه ه. أعلنوا حالة الطوارئ. وتمركزوا في الشوكات (مفترق الطرقات) والأسواق و مكبات القمامة وأبواب المساجد وسوق الخضروات والسعي وسوق العبيد والظلام و الرويسات و الحشيش و الرابش والنملة والتركة وشارع بوغولة والمدينة الرياضية والبركة والكيش وجبانة العويلة وجبانة سيدي عبيد وشارع بالة والشطشاط وسوق احداش وعقبة الباكور وشط جليانة والمنقار وكل السينمات في المدينة. جيبوا الجوكر. أجبدوه منه. أجبدوه من كارطة خياله. من حجر زهره. من بين أصابع رجله العرجاء الشيطانية. تعاملوا معه بحذر. كل ذي عاهة جبار. لو أنه احتفظ بكل أوراق اللعب وأحضر لي الجوكر لأطمأننت. جابلي الشنك فرخ القحبة (ورق الكوتشينة غير المرسومة) وناك الورقة الرابحة في جيبه (كلمة ناك هنا تعني أخفى أو خصَّ نفسه). الجوكر هو المال. هو السلطة. هو الصحة. هو القوة. هو النار. هو الجماهير. هو الكل في الكل. هذه الكلمات تتلاعب في خيال المخبرين وتستشري في المخيلات القريبة جميعها. مخيلة اغنيوة تتحسس الجوكر بأصابع يدها اليمنى. مازال دافئا في جيب القميص. اليد اليسرى تمسك بالمقود. تديره عبر شوارع لم تختر إتجاهاتها. الفتى في الكرسي المجانب يقلب شريط حميده درنة. الوجه الثاني للشريط يغني فيه حميده درنة أغنيته الأليمة:

في حال يا ناشد علينا حالة. حيين لكن في حياة مذبالة

حال الهدّة.

حال الجواد اللي برك بالعدة

واحد خذاله سوط ولاخر شّده

واحد خذا الكلاب فك انعاله

اغنيوة يقول صدقت يا حميده والفتى يبتسم ويبدأ في التصفيق فورما يبرول حميده درنة تبرويلته الشهيرة:

العب يا حوت الشعبية

عايش في البر بلا اميّة

وحوت الشعبية يقصد به الفتيات الجميلات الرشيقات الفائرات اللاتي يشبههن الخيال بعرائس البحر. وكلمة العب في الأغنية تعني أرقص أو تغنج أو أقتلني يا سمن البقر.

تصل السيارة إلى المستشفى الكبير تقف عند الإشارة الحمراء. ينتظر تغيير الإشارة. تخضر. ينطلق صوب الصابري قاصدا المحيشي. عند الزريرعية ينظر صوب اليمين. مقبرة سيدي عبيد وزحام بداخلها يستعدون لدفن عدة موتى بعد صلاة الظهر. يقفل المسجل. والفتى يقرأ سور قصار ترحما على والده المدفون في المقبرة نفسها. الآن السيارة بحذاء المقبرة مارة في طريق سبخة سيدي يونس الأسطورية على يمينها أكوام الملح الجافة. اغنيوة يتأمل أكوام الملح ويتأمل وجه الفتى وتتداخل جناسات الملوحة اللاذعة بالملاحة لاذعة الأفئدة. الفتى يبتسم ويتأمل الشمس من خلال زجاج السيارة الشفاف فيزداد وجهه إشراقا. اغنيوة يلامس خده برفق. الفتى يدير وجهه ناحيته. يهزهز رأسه متسائلا ماذا تريد أستاذ اغنيوة. اغنيوة يمد له ميدالية صغيرة بها حجر زهر. وجوهه الستة منقوطة. يقول له اغنيوة هذا العالم لغز. نحن وجوه إحدى أحجاره الست. لكن العالم كروي الفطرة و الشكل وليس مسدس الشكل. الآن حجرنا يشرق صوب الشمس مظهرا نقطتين. أنا وأنت. كل مشهد نعيشه رمية على طاولة السخرية. الفتى لم يفهم جيدا. يظل مشدوها إلى هذا الكلام. اغنيوة يخرج من جيبه ورقة الجوكر. يمدها للفتى. الفتى يخجل. اغنيوة يقول له تأملها بجوانيتك واخبرني. الفتى يشعر ببعض استثارة. شيأه ينتصب قليلا. يغطيه مستلذا بيده ويعيد الصورة إلى اغنيوة فيشمها ويغيّبها في جيب القميص مجددا. يقول اغنيوة هذه هي الحياة. دمعة ابتسامة شهوة. كل شيء في هذه الحياة يحركه الجوكر. هو مصدر الأعصاب. الكل يريد أن يستحوذ عليه ويستخدمه لصالحه. يضرب به. يأكل به. يضاجع به. يلعب به. في هذا العالم العجيب الغريب. الذي حددنا أبعاده. وقسمناه رقعا و حيوزا. ووزعنا مخلوقاته جميعها على أوراق اللعب. وطلبنا من الأقدار تمزيقها وتفريطها من مسبحة الوجود.

في هذا العالم العجيب الغريب بلدان كثيرة. في كل بلاد (كوتشينة) مطلوب تمزيقها. الصف طويل. و(كوتشينة) النار تلتهم ذيله بنهم. تلتهم ولا تشبع فيما رماد فضلاتها تودعه في ظلمات الظلام. في هذا العالم العجيب الغريب وجدتني صغيرا. أتأمل اللاعبين الكبار. أجلس بحذوهم. أتابع حركاتهم وسكناتهم. سرعان ما تعلمت. عرفت قيمة كل ورقة ودلالاتها. أوراق (الكوتشينة) كأوراق العملة. منها التي تساوي ومنها التي لا تقضي شيئا. الجامع بينهما أنهما قابلتان للحرق. المادي والمعنوي. أتـقـنـت اللعبة جيدا. أجدتها ثلاثة مع ثلاثة. اثنان مع اثنين. واحد مع واحد. بل تعلمت كيف ألعبها في الأحلام. وكيف ألعبها مع ذات نفسي. لعبت تنويعاتها (اسكمبيل. اشكبّا. رومينو. بصرى. برنجي. الخ). اللعبة التي شدّتني لا أعرف اسمها. لعبة اجعل فيها للورقة ضلفتين بثنيها طوليا بالتساوي. ومن ثمّ يبدأ اللعب بإيقاف كل الأوراق صفا واحدا. ورقة خلف ورقة بمسافة تسمح لرأس الخلفية ملامسة ظهر الأمامية إبان السقوط. ويحل الانهيار. كل ورقة تلمس التي أمامها حالما يُـلمس خلفها. تداع طويل يمنحني لوحة رائعة. لا يرمش لي جفن حتى تـنـكبّ ورقة المقدمة على وجـهـهـا. أجمع كل الأوراق مجددا. أوقفها صفا طويلا متعرجا. قل على هيئة ثعبان أو حرف لا تيني أو عربي غير منقوط. وأدفع بإصبعي آخر ورقة لتـنطح التي أمامها. وكل أمام يقع على الذي أمامه. وأتسلى بهذا الانهيار السقطوي. وأبتسم لانبطاح كل الصف. وبحذر اقترب من رقم واحد الساقطة عليه كل الأوراق. أزقـق إصبعي أسفله بين ضلفتيه وأرفع برفق فيرفع التي خلفه ويرتفع الصف رويدا رويدا. وفي أول مـنـعرج يـنـصرم.

ويستمر اللعب كاستمرار الحياة والموت. كاستمرار الـخَـلق. وتُـبلى سرائر (الكوتشينة) من تكرار اللعب فأرميها سليمة في القمامة. أو أمـزّقها أو أحرقها أو أعطيها لأطفال تصغرني فيلعبون بها لعبة الصور والحجر المسطّح. يفردون ضلفاتها. يغرسونها في كوم التراب المواجه. يبتعدون مسافة متفقاً عليها. يرمون ناحيتها الحجر زاحفا فيجرف بعضا منها أو كلها. الفائز من يُـبطّح أوراقا أكثر. خلاصة أنني لا ألعب بكوتشينة بالية. أرميها وأشتري غيرها. أشتري بلدا بمالي أو أسرق بلدا لا فرق. أو (أتبلطج) لأستحوذ على بلاد. المهم أنْ يكون لي بلدي. أصفّـه وأسقطه. وورقتي الأمامية أسندها بإصبعي فلا تسقطها الأوراق الخلفية.

إصبعي رشيق ألبسه أثمن الخواتم وأكرم الدبل وأملـّـكه أقوى الرقاب والأزرار والبطم. إصبعي جميل أحبه. أقدّسه. هو كل شيء عندي. يُمكن ورقتي من الوقوف الدائم. يضغط على زناد الاستناد فلا تسقط. إصبعي شامخ به ظفر. ظفر حاد مشذّب. أخربش وأهرش به تجاعيد الصور. الورقة السائرة على مزاجي والمحلقة في فلكي أصقلها به جيدا. والمغضوب عليها أقشرها وأمسخها وأكيّفها كما أريد. ورقة بها تسعة أسدّسها بتقشير ثلاثة أرقام. الشيخ لا يعجبني أقشّر لحيته و شنبه. أجعله بنتا أو شابا. أنا حرّ في (كوتشينتي) حتى ورقة (الجوكرة) أطمسها. أفقدها قيمتها المميّزة. أضعها في جرابي كي لا يسحبها أي كان. أخرجها متى أريد. أخفيها متى ما حلا لي. وإن وخزت قلبي أو أحسست بتآمرها مزّقتها إربا وأحضرت من سوق الغفلات (جوكرة) نائمة بدلا عنها. جوكرة فك علوي. لا تصكك ولا تحكك كتيس في زمن العولمة. أنا لي ظفري وإصبعي. عصاي المتمركزة في معصمي. أصكك و أحكك و أسمل بها. وأفعل بها أي مآرب تُبهجني. أضعها في صدغي تجعلني مُـفكرا. في شنبي تجعلني ناقدا. في أنفي متقززا. في فمي طفلا. في عيني قنّاصا. في أذني محايدا. في خدّي مغازلا. وفي إستي صامتا على خيري وشرّي.

واستمر في اللعب إلى حين يداهم الفالج إصبعي. فأستعين بعصا تُربط إلي كتفي وإن داهم الفالج كتفي أيضا استخدم إصبع رجلي. بل رجلي كاملة. أركل بها بلدي. فأحسّهم سعداء بالركل. أكثرهم يستلذّون فأتمادى في ركلي لهم. الفالح من يحقق لذة بلده. اترك لعبة (الكوتشينة) وأجعلهم كورا. أركلها صباحا ومساءا. أنططها بكل جزء فيّ. هم سعداء وأنا أسعد. الناس كلها استحالت كورا. الاقتصاد ازدهر. ما عدت استورد لهم أحذية وجوارب وقفازات وملابس داخلية وخارجية أو أربطة أعناق. كيس خيش كاف للكساء. لا داع لأنْ أربطهم. كل فرد يربط كيسه من الداخل. يُسعد في ظلامه الداخلي. يستلذ باستقبال الركلة التى لا يعرف مصدرها. تأتيه على ظهره فيعتبرها تدليكة. على رأسه يعتبرها تمسيحة. على الكتف تربيتة. وعلى عظمة الساق مُداعبة. وعلى الحوض فكشفا تناسليا. وعندما يداهم الفالج قدمي. أركلهم بالذكرى. بالصوت. بالصدى. أصرخ فيهم. أنت مركول الآن على مؤخرتك فيتقي المكيّس براحته على مؤخرته ويعوّي.

أنا سعيد. لساني مازال يلعب. يفعل ذلك لاعبو كرة القدم كبار السن. فأرجلهم لا تسعفهم. ومجهودهم البدني تضاءل. وموهبتهم عليها العوض. لا يبقى لهم سوى اللعب بألسنتهم. يحركون اللاعبين الصغار بصرخاتهم ليصبّوا مجهوداتهم الطازجة في خاناتهم البور.. ولابد ممن ليس منه بد. فاللسان أيضا يداهمه الفالج. أسماع الزمن ما عادت تطيقه. ويظل رديد الصدى مـدة. ثم يهمد وتبقى الولولات في أكياسها. الركل توقف. والصوت توقف. والصدى توقف. والحياة هل تستمر داخل كيس؟. أول الخارجين من الأكياس يبدأ في ركل الآخرين مقلدا الصوت المنقرض مؤسسا بلادا جديدة للركيل. وتدوم هذه اللعبة. ويدوم الحبر في الإندلاق. والنار في التهام الصفوف. كعادتها دائما تبدأ بالذيول و القرون وتنتهي بالرؤوس. وها نحن مذ وعينا نلعب (كوتشينة) واحدة ذات أربعة أوسام (ديناري. كبّي. اسباتا. بستون) والنار تلعب بأوسام لا حصر لها. تغيّر الوجوه المستهدفة. كوتشينة خالية مؤطرة. ترسم داخلها من تريد. تُمزّقه متى أرادت. تحرقه إن حاول التجعد بين أصابعها. تصنع البيادق وتدكّها. قوة تستهلك وقودها وتندم على ضرطاتها المتسربة.

ونحن اللاعبين أو اللاعبون ببعضنا.

من يلعب بنا؟.

من يضعنا جميعا في أوراق واحدة؟.

الموت يمزّقـنـا.

الميلاد يرتـّـقـنا.

المجهول يؤرّقـنا.

الكور السابحة تحملنا.

تغرق بنا.

تفـجّـرنا بعد نعاس عـتـيـم.

هذه الوهلة سألعب لعبة غير (الكوتشينة)

سألعب الشّخ اشبيل (الشطرنج).

هل سأختار القطع البيضاء أم السوداء.؟

البيضاء مواطئها سوداء

السوداء مواطئها بيضاء

آه يا حـجـر الــزهــر

أي جـحيم بـصـقـتـنا فـيه.!!

وصل اغنيوة وفتاه إلى المكب وحكى اغنيوة لكناسيه كل شيء. من طق طق إلى السلام عليكم. حكى لهم أيضا عن الجوكر وحجر الزهر والحياة التي يتهجّا روحها و يحسها. وغنى لهم الفتى ما حفظه من حميده درنة في شريطه الجديد أثناء مشوار الإياب:

في حال يا ناشد علينا حالة. حيّين لكن في حياة مذبالة

وأجابه كناس كهل كان يتابع الأغنية يصاحبها بنقرات أصابعه على برميل طلاء صغير. صدقت يا وليدي انـقـنها حياة مذبالة. وتفقد اغنيوة المكب ووجد أن العمل يسير على ما يرام. الخبز اليابس في مكانه. الكتب مفروزة. اللقى شبه الثمينة في درج المكتب. شكرهم ومنحهم ساعتين للراحة أو القراءة أو إعداد الشاي. أكثرهم التـقـفـوا كتبا وانزووا في ظلال الكشك وظلال بعض الأشجار المتـناثرة.

*    *    *

صارت قراءة الكتب وتصفحها عشق الكناسين وهوايتهم. عرفوا ما فيها من مقالات وقصص ودراسات. وزادت معرفتهم وترسّخت من خلال حضورهم لنقاش اغنيوة وفتاه. صار بعضهم يتدخل في النقاش ويدلي بدلوه. وفي خطوة جريئة أقنع اغنيوة الأميين منهم أنْ يتعلموا ليفكّوا الحرف قراءة وكتابة. وبما أنه لا توجد في حى المحيشي مدرسة ليلية للكبار فقد خصص لهم ثلاث ليال في الأسبوع لتدريسهم على ضوء الشموع في كشك مكتبه. وأحيانا الشموع تـنفد فيجر لهم اسبكشن (مصباح كهربائي خيوطه تركب في نضيدة السيارة) موصول في نضيدة سيارته وسرعان ما تعلموا وفكوا الحرف بل كتبوه جليا واضحا. صاروا يقرأون ويكتبون الطلبات الرسمية للأميين من السكان برحمة الوالدين (مجانا). وانعكس ذلك على طريقتهم في الحياة وملابسهم. ففورما ينتهون من العمل يستحمون ويتعطرون ويلبسون كسوة مكوية نظيفة ويجلسون في المقاهي المعروفة في رباية الذائح يشاركون في نقاش المثـقفين الذين صاروا منهم بجدارة.

كل يوم بعد انتهاء العمل يركبون الحافلة حتى ميدان الفندق البلدي. يدخلون سينما هايتى إن كان فـيلمها جيدا وإلا يذهبون الى المسرح الحديث في شارع جمال عبد الناصر، يتفرجون على تجارب مسرحية هامة، ويتفاعلون مع نقاش المؤلف على الجهاني والمخرج على بوجناح مع بقية الممثلين. يشعرون أن بالمسرحية إسقاطات على الوضع المحلي والعربي الراهن فليزمون الصمت ويبتسمون. يخرجون من المسرح إلى مقهى دمشق في شارع عمرو بن العاص بجانب قنصلية الطليان يشربون القهوة والشاي ويتسامرون مع خليط الرواد يخوضون في نقاشات رياضية وفنية ولا يقتربون قيد أنملة من السياسة. فالمقاهي مشهورة بالمخبرين. وكلما رأوا أحد الغرباء يقرأ جريدة تخيّلوا أنَّ بالجريدة ثـقـبـين بمحاذاة العينين وفتحة أسفل منهما لتشمشيم الخشم. لكن دائما المخبرين يكونون ليس من الغرباء بل من المألوف رؤيتهم يوميا والاطمئنان لهم. وفي آخر الليل يعودون في أخر حافلة إلى حيّهم المظلم. مدينتهم الدائخة. حي المحيشي. يستحمون وينامون ويستيقظون للمكبّات باكرا مع صياح الديكة وزقزقة العصافير وطنين الحياة الصخيب الرتيب واسمُ الملل على بصائر الضياع.

مفارز الكناسين يحلمون فرادى وزرافات. مثنى وثلاث ورباع. كناس واحد وكناس اثنان يغنيان. كناس ثلاثة وكناس اربعة يعزفان. كل الكناسين يصفقون. صدى الصخب يصرخ يستل من المدوّنة نصا عتيقا ينزفه من هذا الباب القمامي. ما أجمل كلمة خروج. الخروج نجاة. الخروج حريّة. الخروج ارتواء. الخروج إبداع. خلق. مواليد جديدة. كرم عفيف. هيا نخرج. نخرج من أي مكان. من أي زمان. دهر. عصر. ساعة. سجن. رأي. رحم. ظلام. بحر. نفس. مألوف. طائرة. صاروخ. ذات. أمنيّة. حب. نحن في المقهى الآن. كلنا كناسين. نخرج من الباب. نسيـر عائدين. عبر الطريـق نفسها. عبر الرصيف نفسها. نتحاشى برك المجاري قدر الإمكان. والناس يعودون مثلنا من نفس الطريق ومن نفس الرصيف يتحاشون برك المجاري. والبحر أخذ يسد كلّ أنبوب ماؤه ليس من السماء. ويطلق قذائف أمواجـه محملة بالنفايـات. لتعود من حيث أتت. إذن سنصوم أو لن نأكل الكثير. ونصل محطة الحافلات. لنعود من حيث جئناها. وننام ونعود إلي الأحلام. ومن الأحلام إلي الاستيقاظ. إلى القمامة. إلى محطة الحافلات. إلى تحاشي برك المجاري. ونكررّ الموال. والبحر مازال يسد كل أنبوب ماؤه سفلي. ونصعد إلى السماء. ويهل الشتاء. لنعود إلي الأرض عبر مطر ينهمر على صفحة الماء. الموجة تلطمنا على صخور الشاطئ. لنستيقظ على صوت النادل وهو يرفع الأكواب ويطلب الحساب. ننقده ونقف ونعود من نفس الطريق والرصيف متحاشين قذائف الأمواج التي صارت أعنف من ذي قبل.

في أيام الدراسة الليلية لا يحدّرون (يذهبون للتسوق وقضاء المشاغل الإدارية) إلى المدينة فبعد انْ ينهى اغنيوة دروسه لهم في الحساب والإملاء والخط والقراءة يطفئون مصباح الكيروسين ويشعلون نار حطب يجلسون حولها كعشيرة غجرية. أحدهم يعزف على العود واغنيوة يغني والآخر يعد لهم وجبة المكرونة المبكبكة. أما الفتى فيعد لهم الشاي الأخضر بعشبة البردقوش المجلوبة من سواني درنة وأم الرزم. بعد الدرس و المكرونة والشاي لا أحد يشرب الخمر. حياتهم منظمة جدا. فالخمر لا يشربونه إلا يوم الخميس ولا يشربونه إلا بمزاج حسن وبكميّة معقولة ولا بد أن يكون أثناء حفلة غنائية يحييها مطرب شعبي كبير ليعم الطرب أعماق النفوس وأغوارها. يشربونه على حساب صاحب العرس وبعد أنْ يتعشوا عشاء العرس الدسم اللذيذ أرز بالتقلية (إيدام خاثر متكون من بصل وحمص وزبيب وبهارات يسقى به الأرز) ولحم ضأن وطني وعصبان كور ومصارين ومصّير حار ومشروب بيبسي كولا بارد وشاي ليبي ثقيل كثيف ترشق فيه عود يصبِّي. وهم يغنون مع حميده درنة أو يرددون أغنيته ككورس (مجموعة صوتية). توزع على من يرغب في الشرب كؤوس القرابَّا فيحتسونها ببهجة وحب وذوق ومزاج قلما يتواجد في أماكن بنغازوية أو ليبية أخرى. للسكر في المدينة الدائخة نشوة مزدوجة ودوخة مزدوجة ولهيب مضيء بارح ُشاسع كمحيط من قهقهات باخوس.

كانوا أوفياء للقمامة. منهم من تحصل على الثانوية العامة عبر الدراسة المسائية وانخرط في الجامعة. ومنهم من تحصل على دبلوم معلمين. ودبلوم معهد صحي. لكن لم يتركوا عملهم في القمامة رغم ضعف الأجر نسبيا مقارنة بوظيفة المدرس أو الممرض وازدراء المجتمع لهذه المهنة الموسومة بالقذارة. كانوا أوفياء للقمامة التي تجلب لهم يوميا معارف طازجة عبر الكتب المرمية التي مر عليها مبيد البشر الدود. في الوقت نفسه ترسخ في عقولهم مقالة قرأها عليهم الفتى من مجلة المختار تقول فحوى المقالة أن في دولة السويد أعلى مرتب لديهم هو مرتب الكناس. شهق الكناسون مرحا وصار أغلبهم يصلي الجمعة ويدعوا الله بعد الخطبة أن يجعل دولتهم ليبيا مثل السويد. كانوا يأملون ذلك ومتشبثين بعملهم المتعب واللذيذ والذي أدمنوه في الآن ذاته. يدعون أن تكون دولتهم مثل مملكة السويد ليتحصلوا على أعلى مرتب في البلاد. مثلهم مثل الكناسين السويديين الشقر. ظريف من الكناسين خلاسي اللون يقلد كناس سويدي. ويتخيل أنه يدخل البنك ويطلب من الموظف أعلى مرتب لديه. يقول له محسوبك كناس اسويدي اشقر بس للآسف كان الراقد اصباطا (يقصد أنْ أمه سوداء). يصلون جماعة في ركن ظليل من كشك اغنيوة الخشبي ويوم الجمعة يصلون في مسجد سوق العبيد ويبتهلون. يارب اجعل بلادنا مثل السويد. يا رب سوّدها سريعا. اليوم قبل بكرة. أحد البصاصين قال للمصلّي الكناس ماذا تقول سوّدها. سوّدها. فأجابه الكناس الذي جنبه يقصد سوّدها على العالم وارفعها عاليا أي اجعلها سيدته وسيده. ابتسم البصاص وخرج من جامع سوق العبيد راكضا صوب البريد. هتف. ثم عاد. يربت على كتف الكناس الذي أحس بالأمان. قال له قلت لهم أن الكل يدعو إلى رقي الدولة حتى الكناسين يدعون بأن تكون سيدة العالم. وعانقه بحب. ودعاه إلى مقهى سي عمر بسوق العبيد شربا القهوة القدْ ولعبا معا طرح جتـّوني (ملعب كرة قدم على هيأة طاولة تتخللها مقابض أفقية يتدلى منها لاعبو كرة من البلاستيك الملون والكرة بيضاء صلبة) خسر فيه الكناس 3 ـ 2 وبعد الخروج من المقهى طلب من الكناس أن يتوسط له عند المدير اغنيوة بأن يشتغل معهم.

وفعلا توسط له هذا الكناس الطيب. لكن البصاص سقط في المقابلة الشخصية. اغنيوة أعطاه مقشة ووضع أمامه كوم من الكتب فغرس فيه المقشة حتى تمزقت بعض الأوراق والمفروض هو أن يرفع أي أوراق بيده وليس بالمقشة الملوثة. ربما يكون في الأوراق اسم الله. صرفه اغنيوة. لكن في اليوم التالي عاد متوسلا طالبا فرصة أخرى فأعطاه عرجونا وقال له اشتغل فبدلا من أن يكنس الأرض بالعرجون ويحشر الأوساخ في زاوية ثم يرفع كوم الوسخ باللامة. صار يتأمل الكوم ويبعثره ويفتشه جيدا واستغرق في هذا الأمر حتى سرح وغاب. وكل من كان يراقبه عرف أن عقله ليس في القمامة. رفض اغنيوة تشغيله واقتنع الكناس الذي توسط له أنه لا ينفع لهذا العمل. قال اغنيوة في السويد يتقاضى الكناسون أعلى رواتب في الدولة. قال الكناس بعد أن ابتعد الرجل كفاية ليت بلادنا تصير مثل السويد. سأتمسك بهذا العرجون حتى ذلك اليوم. لكنه حك رأسه وسأل اغنيوة وهل الكناسون السويديون يقرأون كتب القمامة مثلنا أم كتب المكتبات.

أجاب الفتى:

كل شيء. كل شيء.

وأجاب اغنيوة وهو يلوّح بلوحه. هذا اللوح خاصتي من غابات السويد. كان من ضمن صاري سفينة حطمتها الأمواج على صخور ليبيا وقذفت ببعض ألواحها إلى شاطئ زليتن أو زليطن. التقطها الناس وانتـفعوا بها. صنعوا منها الأبواب والسُـقف. وكسرة الصاري المتين الصقيل التي منها لوحتي حملوها إلى زاوية سيدي عبد السلام الأسمر. وهناك قطعها نجار الزاوية إلى ألواح لحفظ القرآن الكريم. هذه الألواح خرّجت الكثير من طلبة العلم الربّاني. كل متخرج من العادة أن يحمل لوح حفظه معه. وتنقلت لوحتي عبر المشائخ المسافرين إلى الوطن الليبي الشرقي. لتستقر في مدينة المرج وليمنحها لي الشيخ لأواصل درب حفظ كتاب الله. وها أنذا أحملها معي حتى بعد مغادرتي عالمكم المرئي إلى عالمكم الأكثر وضوحا. لوحتي بها كلمة واحدة. الله. الله. هي كل الرؤية. هي الصاري النوراني. مبدد الظلمات ومضيء الخلود.

*    *    *

رُقيَّ الأستاذ اغنيوة فصار رئيس قسم النظافة بالمدينة كلها. فبينما كان يفرز الكتب والمجلات في كشكه الخشبي إذا بساعي البريد يصل على دراجته النارية الفيسبا ويسلمه مظروفا مختوما بالشمع الأحمر. فضه اغنيوة سريعا ليجده ترقية وظيفية وتكليف رسمي برئاسة قسم النظافة في رباية الذائح بنغازي. انتقل إلى مبنى المحافظة في ميدان البلدية. وخصص له مكتبا شرفته تطل على الساحة. يساره سوق الظلام و المسجد العتيق ومكتب الأهلي لتعليم الضرب على الآلة الكاتبة. يمينه المصرف التجاري وشارع عمر المختار. أمامه مقهى العرّودي الشهيرة التي كان يرتادها شاعر الوطن أحمد رفيق المهدوي وفوقها شقة المطرب الكبير علي الشعالية صاحب أغنية نور عيون اليوم قابلني عضا. شاطت نار الحب ما ينفع دواء. خلفه البحر. خلفه جهة اليسار جامع عصمان الأثري. فوق مكتبه صومعة مربعة قديمة يتدلى منها جرس ساعة البلدية. المبنى بناه الأتراك. وانتقل فيما بعد للطليان الذين استخدموه دوائر رسمية تتبعهم. في ساحة الميدان تقام عدة احتفالات خاصة احتفال الرغاطة والتي تجتمع فيه كل فرق الطرق الصوفية من أسمرية وقادرية وعيساوية وغيرها ويكتظ الميدان بالناس وبعضهم يرتقي المباني القريبة المطلة على الميدان ليعيش متعة الإنشاد. ترى من هم فوق المسجد العتيق ومن هم متمركزون في شرفة صومعته الدائرية. آخرون رابضون فوق مبنى البلدية والمباني الملاصقة. آخرون تسلقوا النخل والشجر المنتشر في جوانب الميدان وتعنكشوا به. كل الحضور يتفرج بمتعة. هو كرنفال سنوي لا يغيب عنه كبير ولا صغير. وتشرف عليه الشرطة لحفظ النظام. الأعلام و البنادير والمزامير والصنوج والغيطات والدرابيك والشكشاكات في الأيدي والفرق تقدم وصلاتها بانتظام والجمهور متفاعل ومبتهج. لا يوقف الاحتفال سوى دخول وقت الصلاة. وبعد الصلاة تستأنف الوصلات الغنائية ووصلات الحضرة والذكر.

من ناحية أعجب اغنيوة بالمكان الجديد في قلب المدينة ومن ناحية أخرى عزّ عليه مفارقة أحبابه وأصدقائه في حي المحيشي. خاصة أنه لم يجد فتاته التي بزعت القمامة واختفت. الفتى شعر بالضيق. فإنتقال اغنيوة من رئاسة الكناسين يعني أنه لا كتب ولا مناقشات. فاتح الفتى اغنيوة في الأمر فطمأنه قائلا. ستكون معي في مبنى البلدية. سوف أسعى لتشغيلك معنا بكل الطرق. حط كرعيك في أميّة باردة. اطمئن. ستشتغل معي يعني ستشتغل معي. ولا يهمك يا شدوق التفاح. أنت تأمر فقط. باشر اغنيوة عمله الجديد وعيّن مكانه الحاج بالعيد مشرفا على مكتب قمامة المحيشي وسارت الأمور على ما يرام. صار سي معتوق وفريقه من الكناسين يجمعون الكتب كما ذي قبل. ويأتي اغنيوة والفتى كل ثلاثة أيام يفرزانها ويأخذان المهم منها. يزوران بقية المكبّات في الصابري والكيش والفويهات وسيدي حسين وغيرها لكن لا يجدان ضالتهما فلا يعيدان الكرّة. اكتفيا بجلب الكتب من مكب حي المحيشي. حيث يجدونها مرتبة منفوضة من الغبار. في الوقت نفسه يتجول اغنيوة بالسيارة في شوارع حي المحيشي عسى أن تصادفه محبوبته التي رأى وجهها مرة واحدة. ويزور كذلك صديقه المطرب حميده درنة. وبالطبع يلبيّ أية دعوة لحضور عرس خاصة في منطقة ش. هو انتقل إلى العمل في ميدان البلدية فقط لكن علاقته بحي المحيشي استمرت. فمازال نابشا مواظبا لقمامته ومازال حاضرا لأعراسه ومشاركا في زراديه التي يقيمها الأصدقاء في حقفة الجخ وفي سواني عصمان والوحيشي وعلى شاطئ المنقار الكبير والصغير قرب منطقة اللثامة وحتى في بحيرة قدر عين زيانة.

فكر اغنيوة في تحسين مستوى الفتى الثقافي والعلمي والمعيشي فالدراسة الصباحية لا يمكن التعويل عليها وحدها فسجّله متدربا على الآلة الكاتبة في معهد الأهلي المطل على ميدان البلدية. كل يوم ساعة. وسرعان ما استوعب الفتى الضرب على الآلة الكاتبة وتخرج بتقدير جيد جدا وبسرعة 40 كلمة في الدقيقة وبطريقة اللمس. بعد التخرج شغله في إحدى الجمعيات التعاونية فترة ما بعد الظهر. لم يعينه في البلدية حتى لا يترك الفتى دراسته وتلتهمه الوظيفة والتزاماتها. وشغّله بمكافأة مقطوعة في العشية فقط. كانت أمه مسرورة لذلك وممنونة لخلّه الوفي اغنيوة التي رأت فيه الأخ الكبير والأب العطوف أيضا. دعت له بطول العمر و السعادة في السر والعلن. ودعت له بأن يلتقي من يحب في فراش الحلال و على سنة الله ورسوله.

*    *    *

دخل الفتى المرحلة الإعدادية. وفي الإعدادية وجد كثيرا من الأنشطة الرياضية والثقافية والفنية والاجتماعية. والتقى بعدة شباب آخرين في مثل سنه. وطبيعيا لما يملكه من مرجعية كونتها له مطالعة الكتب أن يميل إلى الأنشطة الثقافية. فساهم في الجرائد الحائطية وانخرط في الفرقة المسرحية كاتبا للنصوص التاريخية والكوميدية القصيرة. حضر الندوات وأثراها بالنقاش. وبرز اسمه في الوسط الطلابي وتمّ اختياره عضوا في اتحاد طلبة المدرسة. كان الهم القومي ومعاداة الاستعمار والرجعية هما المسيطران على وجدان الطلاب. الوحدة العربية من مراكش إلى البحرين هي الهدف الأسمى. وطرد القواعد الأجنبية عيد كبير ونصر مجيد. القضاء على الوساطة والمحسوبية أهداف نادت بها الثورة منذ بيانها الأول.. بناء المصانع. تأميم النفط. تحرير فلسطين. جمال عبد الناصر بطل قومي كبير. معمر القذافي بطل أممي كبير، وهو الأمين على القومية العربية والوحدة العربية. وارتفعت وتيرة الإحساس بالبطولة والمجد خاصة بعد انتصار العرب على الصهاينة عام 1973م وعبورهم قناة السويس محطمين خط بارليف الذي حيكت حول قوته ومناعته الأساطير.

وارتفعت وتيرة المشاركة في الحياة السياسية المحلية بإعلان الأخ العقيد معمر القذافي في مدينة زوارة النقاط الخمس التي تدعو إلى الثورة الإدارية والثورة الثقافية والقضاء على كافة أعداء الشعب من حزبيين ومندسين وعملاء وتعطيل كل القوانين المعمول بها سابقا واستبدالها بقوانين ثورية جديدة نابعة من الشعب وشورته ومنح كل الحرية للشعب ولا حرية لأعداء الشعب. ومن هنا بدأت الحياة السياسية في ليبيا تأخذ منعطفا جديدا. فالكل مطلوب منه أن يسير في الدرب الذي حددته الدولة والمخالف يعتبر خائنا ومدانا. كل المقالات لابد أن تواكب المرحلة. كل الأنشطة مسخرة لهذه الأطروحات الثورية. وطبيعي أن تحدث مصادمات خاصة في الجامعات والمدارس الثانوية والمعاهد. وحدثت فعلا. وانحازت قوى الأمن مع مناصري الأطروحات الثورية الجديدة. وزج بالمشاركين في المظاهرات في السجون. منهم من قضى زمنا وخرج من السجن، ومنهم من أعدم. ما يهمنا هنا هو الفتى الذي وجد نفسه قريبا من إحدى هذه المظاهرات. فتم القبض عليه وسجنه. لم تكن له رؤية سياسية وغير منتم لأي حزب أو تيار سياسي. كل أفكاره ثقافية. يريد جرائد حرة ليست عليها رقابة. يريد السماح بنشر كل شيء. يريد مجلات. فرق مسرحية. فرق فنية. معارض رسم ونحت. مشاركة في كل الأنشطة الخارجية. يريد إذاعة مسموعة في مستوى إذاعة لندن. وإذاعة مرئية مثل إذاعة تونس ومصر الملتـقطتين بالهوائيات في فصل الصيف. كل هذا الكلام قاله لهم في التحقيق. لكن لم يفرج عنه. واعتبروا تواجده في المظاهرة جرم يعاقب عليه القانون الجديد. لكن لصغر سنه وعلاقته الجيدة بجميع الطلاب من كل التيارات أرجأت المحكمة إنزال عقاب صارم عليه لعدم توافر أدلة الإدانة.

هو لم يشارك فعليا في المظاهرة. ولكن وهو في طريق عودته من المدرسة مر على منطقة السكبالي. جمهرة كبيرة أمام عمارة بيت الطلبة الجامعي. صراخ بشعارات غير مألوفة لديه. ليست من البيان الأول للثورة أو من النقاط الخمس أو من أقوال الزعيم الراحل جمال عبد الناصر. إطارات سيارات مشتعلة في منتصف الطريق. الفضول جعله يقترب أكثر. ليرى الصورة أوضح. ما إن دخل الشارع وصار قريبا من العمارة حتى طوقت قوى الثورة وقوات الشرطة والمباحث المكان وتمّ اعتقاله. ذاك اليوم لم يعد إلى البيت. في العشية لم تنشغل عليه أمه. قالت ربما يكون مع اغنيوة. لكن دخل الليل ومضى والولد لم يعد. كانت ليلة عصيبة على هذه الأم. في الصباح الباكر ذهبت إلى اغنيوة في البلدية تعلمه اختفاء وحيدها فوعدها بالبحث عنه وإعلامها. عند الظهر أعلمها بالأمر وطمئنها أن لا تقلق فسوف يطلقون سراحه لأنه صغير وبرئ. عند المساء أفرج عنه. وزغردت أمه وعانقته. وأحضر لهما اغنيوة طبق بقلاوة كبير وصندوق مشروب وزعوا منهما على كل الجيران.

سأله اغنيوة ما الأمر؟. وكيف كان التحقيق؟. قال الفتى: لم يضربوني إلا كفين سماح (صفعتين قويتين على الوجه) وتشلفيطة بالتوبو على توانيا (جلدة بخرطوم بلاستيك على المؤخرة). بعدها سألوني بعض الأسئلة الثقافية والسياسية. قلت لهم أحب القائد المعلم جمال عبد الناصر وأمين القومية العربية العقيد معمر القذافي والمناضل أحمد بن بلّة والمجاهدة جميلة بوحيرد وشيخ الشهداء عمر المختار وصلاح الدين الأيوبي وهانيبال وسبارتاكوس وتشي جيفارا وكاسترو. وقرأت لهم عن ظهر قلب فقرات من البيان الأول لثورة الفاتح من سبتمبر العظيمة. بل تحمست وقرأت بحماس أشد البيان الأول للثورة من رأسي كاملا. قرأته بحب لأنه نص تاريخي مؤثر ناتج عن إيمان حقيقي بجدوى الثورة على الظلم والوساطة والمحسوبية:

أيها الشعب الليبي العظيم.

"تنفيذاً لإرادتك الحرة وتحقيقاً لأمانيك الغالية. واستجابة صادقة لندائك المتكرر الذي يطالب بالتغيير والتطهير. ويحث على العمل والمبادرة. ويحرض على الثورة والانقضاض. قامت قواتك المسلحة بالإطاحة بالنظام الرجعي المتخلف المتعفن الذي أزكمت رائحته النتنة الأنوف. واقشعرت من رؤية معالمه الأبدان. وبضربة واحدة من جيشك البطل تهاوت الأصنام وتحطمت الأوثان فانقشع في لحظة واحدة من لحظات القدر الرهيبة ظلام العصور. من حكم الأتراك إلى جور الطليان إلي عهد الرجعية والرشوة والوساطة والمحسوبية والخيانة والغدر. وهكذا منذ الآن تعتبر ليبيا جمهورية حرة ذات سيادة تحت اسم(الجمهورية العربية الليبية). صاعدة. بعون الله إلى العمل إلى العلا. سائرة في طريق الحرية والوحدة والعدالة الاجتماعية. كافلة لأبنائها حق المساواة. فاتحة أمامهم أبواب العمل الشريف. لا مهضوم ولا مغبون ولا مظلوم ولا سيّد ولا مسود. بل إخوة أحرار في ظل مجتمع ترفرف عليه ـ إن شاء الله ـ راية الرخاء والمساواة. فهاتوا أيديكم. وافتحوا قلوبكم. وانسوا أحقادكم وقفوا صفا واحدا ضد عدو الآمة العربية عدو الإسلام عدو الإنسانية. الذي أحرق مقدساتنا وحطم شرفنا. وهكذا سنبني مجدا ونحيي تراثا ونثأر لكرامة جرحت وحق اغتصب. يا من شهدتم لعمر المختار جهادا مقدسا من أجل ليبيا والعروبة والإسلام. ويا من قاتلتم مع أحمد الشريف قتالا حقا. يا أبناء البادية. يا أبناء الصحراء يا أبناء المدن العريقة. يا أبناء الأرياف الطاهرة. يا أبناء القرى. قرانا الجميلة الحبيبة. ها قد دقت ساعة العمل. فإلى الأمام. وإنه يسرنا في هذه اللحظة أن نطمئن إخواننا الأجانب بأن ممتلكاتهم وأرواحهم سوف تكون في حماية القوات المسلحة. وأن هذا العمل غير موجهة ضد أي دولة أجنبية أو معاهدات دولية أو قانون دولي معترف به وإنما هو عمل داخلي بحت يخص ليبيا ومشاكلها المزمنة. وإلى الأمام والسلام عليكم ورحمة الله."

أراد المحقق الأسمر أن يوقفني عن القراءة ظانا بأنني متملق ومنافق أو أستخدم التـقيّة. لكن ضابطا نحيفا أقنعه صدق إلقائي للبيان وتفاعلي مع كلماته أثناء القراءة صرخ في المحقق: خلي الولد يكمل قراءة البيان. البيان مثل نشيد ليبيا الله أكبر فوق كيد المعتدي لا يجب أنْ يوقف قبل أن يتم أبدا أبدا أبدا. وقلت له أنا سلّمت مع الطلبة عشاق هذا الوطن على الأخ العقيد معمر القذافي وحدثنا حديثا عميقا عن النظرية العالمية الثالثة فابتسم هذا الضابط الثوري وأمر الحراس بإحضار كوب عصير برتقال شربته. سألوني عن أصدقائي فسميت لهم عدد من طلاب المدرسة، وسميت اسمك أنت يا أستاذ اغنيوة، وأيضا المطرب حميده درنة. سألوني عن الدين قلت لهم كنت من أتباع الزاوية أشارك في الحضاري وبعد أن ناكني الشيخ تركتها. الآن أصلي على نطع قرب أمي أو في أي مسجد يصادف مروري قربه وأحيانا لا أصلي وسألوني أسئلة كثيرة أخرى. ماذا تحب؟ ماذا تكره؟ لونك المفضل؟ ناديك الرياضي الذي تشجعه؟ زعيمك الوطني والعربي والعالمي. الكتب التي قرأتها والتي تحب قراءتها والتي أثرت فيك. عموما أجبت عن كل ما سؤلت عنه بصدق وصراحة. قالوا لي إن وجدت أي زحام مرة أخرى فلا تدخل فيه. من يضع يده في الحفر تلدغه العقارب. والآن كرهت الزحام. وذاك الشارع الذي في السكابلي لن أمر منه ما حييت. "شعفة يا داود ما عاد أتعاود". لقد كانت ليلة باردة وكنت خائفا. ولم أنم قط. وكلما أخذتني غفوة قصيرة قفزت من جرّاء كابوس. ولم أستطع أن أغني أو أبكي. كنت أريد أن أراك يا أستاذ اغنيوة وأرى أمي. كنت أريد بطانيتي أو عباءة أبي الدافئة وأريد أيضا أنْ أحضر تمارين الفريق الأول لكرة القدم بنادي الأهلي وأريد أن أمر معك إلى مكب القمامة في حي المحيشي نتفقد الكتب الجديدة. كنت أريد في تلك الضائقة أشياء كثيرة لا حصر لها. وكانت الغرفة صغيرة وباردة ومغبرة وشعرت برغبة شديدة في التبوّل وناديت فلم يجبني أحد. وجاوبني كما يقول الشاعر عبد الوهاب البيّاتي الظلام. مثانتي ستنفجر. اتجهت نحو زاوية الغرفة البعيدة عن الباب. وجدت ثـقبا في الأرضية صنعته فلول النمل أو قطعان الصراصير وغرته بإصبعي قليلا وطـرّقتُ فيه.

الزنزانة مملوءة بالخربشات. ذكريات وأغاني علم وعادية وحكم وأمثال وأبيات شعر ورسومات جماجم عليها عظمتين متقاطعتين. رسومات أسود وثعالب ونسور وثعابين وعرائس بحر. ووجدت مساحة خالية فكتبت بواسطة قطعة فحم أغنية حميده درنة:

ياعين ما تبكيش عللي ماتو. وابكي عللي في السجون يباتو

وبكيت قليلا ثم نسيت الأمر وصرت أقرأ ما هو مكتوب على الجدران. انسجمت مع القراءة. شعرت وكأنني أقرأ كتابا متكاملا شيقاً. كل شيء منشور على الجدران. لا فرق بين الزنزانة و مكب القمامة من هذه الناحية يا استاذ اغنيوة. فقط مكب القمامة مفتوح على الهواء. لا يمكن غلقه أبدا. على جدران الزنزانة. أسماء كتاب كبار. رسومات ممسوخة لزعماء عالميين. نجوم كرة قدم. مطربون مشهورون. أعجبتني رسمة لتشي جيفارا بقبعته السوداء ذات النجمة الفضيّة وعينيه العميقتين. أعجبتني رسمة لباقة زهور ذابلة. بعد دخولي عالم جدارية الجدران الزنزانوية لم أعد أشعر بالملل. منقوشات وخربشات الجدار وفرتا لي متعة معرفية وبصرية وصوفية أنستـني ما أنا فيه من أسر وهلع. أبيات الشعر تجلب لي الاطمئنان. الأغاني تملأني بالمرح والرجاء. والسطور السردية رؤوس أقلام لروايات حيّة. والأقوال المأثورة مؤثرة في وجداني. والعبارات الفجّة والفكاهات تشعرني بأنني لست بعيدا عن دهاليز الشوارع الخلفية. خربشات. خربشات. كلها لها قصص وظروف وحياة وموت وحبر وعهر وتسكع وأحلام. كل خربشة قصة قصيرة جدا أو رواية عميقة يكتب الزمن بقيتها. كل خربشة أغنية روحية. كل خربشة نص شيطان شيشة. نص رفيع المستوى. محكم. صادق إلى أبعد حد.:

أعطني الناي وغني. فالغناء سر الوجود.

إذا الشعب يوما أراد الحياة. فلابد أن يستجيب القدر.

تبقى على خير يا وطنا بالسلامة. وراهي ندامة. وياعون من كمل فيك أيامه.

ويا مظلوم معاك الله.

والصبر مفتاح الفرج.

ويانا اللي مرزي خفا دكنوني. لا طلتهم لولاف لا طالوني

وطويل وطوله يكسر فيه. يا خوفي مالعين عليه

وما أطال النوم عمرا. ولا قصر في الأعمار طول السهر.

وللحرية الحمراء باب. بكل يد مضرجة يدق

وعرف الشعب طريقه

ومنكم لله يا بصاصين القهاوى والاتوبيسات وروس الشوكات (نواصي الشوارع.)

وتـنيّكت يا عمري ورحت خسارة. لا فيلا لا بنت لا سيارة.

ودع الأقدار تفعل ما تشاء. وطب نفسا إذا حكم القضاء.

وهذا فريق ايعلمكم. عدّوا للرابش خيرلكم

وراجل بلا مال مقهور في دنيته ما زهاشي. طريلا كما دلو مقعور نازل وراكب بلاشي

وإذا رأيت نيوب الليث بارزة. فلا تظنن أن الليث يبتسم.

وكل توخيرة فيها خيرة. الا توخيرة العسكري والمثلي

وايش طلعك في الليل يا كاوالي. خوذ النصيحة ما ترافق والي

وخايف عليك شيء يلدعك شيء والي.

وسبحان اللي هنتك وهاونتيني. انسيتك بعد ولعات وانسيتيني.

ويستاهل عديم الراي. خيارتين على فرو طاقته (مغرر به).

والدنيا انكفت يا ريتها مكفيّة. بعد كارثة الطائرة الليبية.

(طائرة ركاب مدنية ليبية اسقطتها اسرائيل في مصر عام 1973م ضحاياها دفنوا في مقبرة سيدي عبيد ببنغازي)

وبالروح وبالدم نفديك يا ثورتنا

ولا صوت يعلو فوق صوت المعركة

ودير الخير في افروخ النصارى. وما اديراش في عربي خسارة

ودير الخير في فروخ اليهودي. وما اديراش في عربي حسودي

وما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة

وبعد ناكوه شرا غدرية

وايدك وحديدك

وخايف لنغفي نصبح لمباكر متوفي

ويا درنة يا متع الموز. تبي حارة ولا زوز (الحارة معناها العدد 4 وزوز العدد 2)

والمصحف والنعمة اشتغل امعاكم تحبسوني وتمرمطوني ليه.

شبح النخل خطر عليّا بلادي. يا ريتـني وليت مني غادي

وطاحن نجوم الليل و أنتِ وينك. قدّك سهر والا خذاتك عينك

وتشيفاتشي يا روبي. العين قصدلية والشعر خروبي (والقصدل هو الكستناء)

وكلب القاضي مات فمشت في جنازته الناس جميعها

والقاضي مات فلم يمشِ في جنازته أي كلب

ويا ناس الدنيا سيما. والأفلام قديمة

و يا دنيا ديري الناس سواء. واحد تعطيه وواحد لا

وحقيت السراب نحسابه شراب. بددت مايا

ورجعت القيت الغالي ناسي غلايا.

وحكاية غرامي حكاية طويلة.

وكثير من الكلمات المهذبة والسوقية والبين بين. كذلك آيات من القرآن الكريم ومن أوراد الدعاء. واستغاثات قصيرة مثل. يا رب. يا معين. يا ساتر. يا لطيف ألطف بحالي. يا سيدي عبد السلام. يا سيدي مرعي. يا هدّار. يا دسوقي. يا بن عيسى. يا أبقور. يا سارتر وكامو وجينيه. يا كولن ولسون. وعبارات للمسيح عيسى بن مريم عليه السلام ولبوذا ولكونفشيوس ولغاندي. أيضا توجد على الجدران كتابات بالإنجليزية والفرنسية والإيطالية والألمانية والمالطية والفارسية والأسبانية وغيرها من لغات البسيطة أجهل فحواها. بعضها يبدأ بجملة my god. وعبارات أخرى يبدو من الرسوم الخليعة المصاحبة لها أنها ألفاظ بذيئة. كل شيء وجدته يا أستاذ اغنيوة على جدران الزنزانة فيما عدا القمامة فالزنزانة صلعاء لا شيء فيها تمسك به عدا كسرات من خشب محترق. لا عود. لا ورقة. لا علبة. لا نشارة. لا قلم وطبعا لا كتاب.

قال اغنيوة للفتى جميل ما وجدته مكتوبا على جدران الزنزانة تجربة إنسانية متكاملة. إبداع صادق به كل جوانب المعرفة. كل جملة تفضي بك إلى شارع مزدان باليقين ومزدهر بالحب. لا ألم وأنت تطالع هكذا جمل وهكذا رسومات. رشفا من الشاي وأشعل اغنيوة سيجارة ثم سأل الفتى وماذا قلت لهم عني بالضبط؟. قلت لهم الأستاذ اغنيوة صديقي مثل أخي الذي لم تلده أمي. أمي تعرفه ويساعدني كثيرا في دراستي وفي كل ما أحتاج. اعتبره مثل أبي الروحي بالضبط. سألوني عن بيتكم فنعتـّـه لهم بدقة في بن يونس قريب من المسجد. هذا كل شيء. لم يسألوني عن الكتب التي نجمعها من القمامة أو نقرأها معا هناك. ولم أخبرهم أنك تشرب القرابّا مرّة مرّة وتأخذ مني في حبيبات (قبلات) على الخد مرّة مرّة. أه. آه قلت لهم أيضا يحب فتاة لمحها مرة واحدة تبزع القمامة في حي المحيشي ثم لم يرها ثانية، وهو يحبها بجنون ويسمّيها نحلة ملح ويبحث عنها دائما ويحلم بها حتى وهو مستيقظ. وقلت لهم لديه ورقة كارطة مرسوم فيها امرأة عارية يحتفظ بها في محفظته مع النقود. ودائما يضعها أمامه وينظر إليها بتركيز وتمعن وأحيانا حتى يبكي. الحقيقة يا أستاذ اغنيوة لديهم أسلوب سحري وكلام معسول يجعلك تتكلم وطبعا لم أستطع إخفاء شيء خاصة بعد أنْ حلفوني وأنت تعرف أنني لا أكذب أصلا فما بالك وقد حلفت على مصحف شريف كبير قدمه لي الضابط النحيف في إجلال ثم أعاده إلى رف خلف مكتبه.

*    *    *

اختفى اغنيوة فجأة. بعض رواد المقهى يتهامسون فيما بينهم. هل قبض عليه فعلا كما لمّح أحد مخبري المقهى بقوله اغنيوة الآن في دار خالته (الزنزانة). لا أحد رأى كيف تم القبض عليه. ربما تكون حكاية القبض عليه إشاعة. أو كذبة أبريل. آخر مرة رأوه فيها كانت يوم فاتح إبريل. زملائه الموظفين رأوه صباحا. وأمه رأته قيلولة. ورواد المقهى عشية. لا أحد يعرف بالضبط لماذا اختـفى. لكن اغنيوة وحده يدري. بعد دوامه في البلدية عاد بسيارته البي ام دبليو إلى بيت أمه. تغذى وشرب الشاي وقيّل (تمتع بقيلولة). وفي العشيّة خرج كالعادة. ركن سيارته في مدرس سيارات بجانب قنصلية الطليان وترجل يتمشى. يرمى برجله اليسرى العرجاء خبط عشواء ويلحقها بالرجل السليمة صانعا على التراب المبلل آثار أقدام بعضها يصنع أثراً عميقا نتيجة اتكاءة مشط الرجل العرجاء والبعض الآخر يصنع آثار عفسة مداس طبيعية. وصل إلى مقهى دمشق في شارع عمرو بن العاص. شرب قهوته ودخن سيجارته ومضغ مستكته (علكة) وغادر يتسكع في شوارع العقيب وقصر حمد وفياتارينو و مصراتة. بعد أن أخذ غايته من التسكع في شوارع رباية الذائح العتيقة. عاد إلى سيارته ركبها وغادر صوب حي المحيشي رائدا لتر قرابا. في علوة الزريرعية قرب جبانة سيدي عبيد اعترضت طريقه سيارتان الأولى بيجو 504 والثانية لاندروفر ونزل من كل سيارة ثلاثة أفراد ضخام الرؤوس والمؤخرات يرتدون لباسا مدنيا. قال كبيرهم نحن لجنة قبض ولدينا أمر بالقبض عليك حياً أو ميتاَ. من مصلحتك أن لا تقاوم. وإن قاومت تاكل على طاقتك (مؤخرتك) يا العرج يا زامل يا امسّخ يا شيوعي يا ملحد يا عدو الثورة العظيمة.

فتحوا صندوق السيارة الخلفي ورموه فيه واقفلوا عليه الغطاء. حاول أن يرفع الغطاء برأسه ويحتج على المعاملة اللإنسانية فضربه أحدهم بعقب المسدس على جبينه لكزه في بطنه بقضيب الكريك (رافعة السيارة) وأحكم قفل الباب. في غرفة التحقيق فتشوه جيدا ولم يجدوا في جيبه ورقة الجوكرة. قال لهم نسيتها في جيب القميص و القميص غسلته أمي فاهترأت الجوكرة من البوتاس وصابون التايد ورميتها. فتشوا جردل القمامة فلم يجدوا رفاتها. متى رميتها في القمامة؟. أجابهم: أول أمس. نقل على الفور إلى محرقة القمامة المركزية خارج المدينة وسألوا مديرها عن قمامة منطقة بن يونس التي يسكنها اغنيوة فقال لهم هناك أسفل كثيب القمامة ناحية الشرق. جميل أنك لم تبدأ في حرقها. قال لهم المدير غدا موعد حرقها. انتشروا في القمامة كالخنازير يخوضون في القذارة وينكشون أكوام العفن القذر بأسياخ حديد وبعصي وبأيديهم مباشرة. واغنيوة يساعدهم في البحث و يقول لهم هذه ليست قمامتنا. قمامة أمي بها قشور رمان. ونوى تمر. وخيوط صوف. ورغاوي من مخيض اللبن. ويصفعونه ليصمت فيواصل. وحبيبات كسكسي. وبقايا خضروات شرمولة. وعجينة عصيدة. وفتات مثرودة. وكسيرات خبزة تـنور. وقصاصات ورق. وأغلفة كتب. واسطوانات موسيقا. فيركلونه ليسقط في وسط كوم القمامة و ينغرز رأسه في براز طفل رضيع. يمسحه بكاغد صادف وجوده قربه ويبتسم. قال له الضابط تبتسم. تتسهوك مثل القحبة. تو يبالك (سوف ترى). ويأمر أفراده احضروه أمامي. علقوه. ويضعون رجليه في الفلقة فتصير رجلاه إلى أعلى ورأسه في القمامة. ويبدأ الضرب واغنيوة يحتمل ولا يبكي.

معظم الضرب على باطن قدمه اليمنى السليمة. لأن العرجاء مائلة صوب اليسار. فلا تصلها العصا إلا لماما. استمر التعذيب أياما من دون أن يصلوا إلى نتيجة أو يجدوا ورقة الجوكرة التي يبحثون عنها. استوردوا سريعا من مصر فلقة خاصة بالعرج تجعل الضربات تأتي على باطن الأرجل بالتساوي بغض النظر عن أي عروجية أو تـشوه. أحتمل اغنيوة ألمها بصبر. أحتمل كل العذاب الذي أذاقوه له من أجل هذه الورقة التي قرر أن يستخلصها لنفسه. ولا يشاركه فيها أحد. كان اغنيوة يتعذب ويقاوم بشتى الطرق المتاحة لنفسه الأسيرة. بعد أن فقدوا الأمل تركوه في حالة يرثى لها. تركوه مريضا مكسور الخاطر. ومشت الأيام كما تمشي دائما. على قدمين من دقائق وزحافة من ساعات. كان اغنيوة لا يتناول طعامه إلا مضطرا. وفي أوقات راحته يغرق نفسه في قراءة الكتب عن طريق الذاكرة. يتذكر كتابا قرأه سابقا ويتحدث عنه مع نفسه. ويقرأ منه صفحات يكون قد حفظها أو حفظ معناها عن ظهر قلب. كان يقرأ دائما بصوت مسموع. عندما يتوقف عن القراءة. يدق الحارس بأخمس بندقيته على باب الزنزانة بشدة. فيستمر في القراءة.

هذا الحارس لديه بعض الميول الأدبية. ويعجبه كثيرا ما يقول اغنيوة. واغنيوة سارد موهوب يقصّـر له في الليل ولا يشعره بملل الزمن في نوبته. اغنيوة يجيد النطق والإلقاء ويجيد التوقف بمكر بين الكلمات والجمل للتشويق. ذات صباح حضر إليه الضابط. قال له وصلتني كل الحكايات التي قرأتها في هذه الزنزانة. هي حكايات جميلة. وقدّم له سيجارة محشوة بالحشيش. فأنتشى مزاج اغنيوة وابتسم. وقدم له الضابط أيضا الشاي الحلو وقطع الشوكلاتة والبيبسي كولا الباردة. وطمأنه على أنه سيوقف تعذيبه وسيطلق سراحه لو أجابه بصدق بشأن ورقة الجوكرة الأنثى التي أدعى أنها اهترأت. قال له الضابط. أنا لا أبحث عن الورقة في حد ذاتها. لا أبحث عن الورق المادي الذي يحترق. لا أبحث عن الكاغط (الكاغد). يفعل ذلك الضباط الأغبياء. أنا أبحث عن الورق الذي لا يحترق. الورق الرابح. ورق الكوز. أبحث عن المعنى في الورقة الجوكرية. بالعربي أبحث عن شيطان الشيشة في الورقة. أحكِ لي قصتها بالتفصيل. وأعاهدك بشرفي البوليسي أن أطلق سراحك. لقد لمست فيك رجولة وشهامة ووطنية وجنتلة مانية (جنتل مان). لا يمكن لإنسان مثلك أن يكون خطرا على الأمن. الأمن في الحقيقة هو الذي خطر عليك يا روح ماما. أنت إنسان وديع. مسالم. نعامة. أرنب. فراشة. وقتك في الزنزانة تمضيه تقرأ. لم تتباوع (تـتلصص) من خلال القضبان أو تـتكعبش برجلك العرجاء (تتعلق وتتسلق) في النافذة لتخطط للهرب. تذرع الزنزانة يسارا يمينا وتقرأ. أو تبتسم. أحك لنا عن سر هذه الجوكرة التي تحتفظ بها في جيب جاكتك أو قميصك وسيكون الأمر خيرا. أنا لم أضرب صديقك الفتى الجميل. وضيّفته على عصير البرتقال على شان عيونك وأطلقت سراحه وأوصلته إلى حضن أمه المسكينة سالما من الأذى. لأنه صادق ويحفظ أدبيات الثورة وأخبرنا بكل شيء ولم يلعب بذيله إطلاقا. قال لنا توجد جوكرة في جيب صديقي اغنيوة. جوكرة يقدسها اغنيوة ويحافظ عليها أكثر من أوراقه الرسمية ومن النقود. نحن نريدها. نريد السر الكامن فيها.

أنت لم تسلمها لضابط الآداب وسلمت بقية الكارطة كلها. تقرير ذلك الضابط يقول ذلك. أوصانا أن نهتم وأن نعرف أمر هذه الجوكرة ونصادرها للمصلحة العامة. لا يمكن أن نترك قوة مطلقة حرّة تفعل في الشارع ما تشاء. هذا أمن وليس لعبا. قال لنا اغنيوة خطير كل وقته يوظفه للكتب. وجماعة الكتب دائما منهم الخوف ويجب أن نأخذ منهم الحذر. ولابد أن يكونوا معنا بأي طريقة. لابد يا أستاذ اغنيوة أن نعرف أمر هذه الجوكرة ومكانها وبدايتها ونهايتها. لابد أن تسمعنا حكايتها بالضبط. واقعية خيالية. لابد أن نعرف كما أسلفت لك قصتها بالضبط أين عثرت عليها بالضبط؟ في أي جردل قمامة؟ ومن الكناس الذي وجدها؟ ولماذا لم تسلمها مع بقية أوراق الكارطة التي سلمتها لبوليس الآداب؟ لماذا استبقيت الجوكرة بالذات يا اغنيوة؟ شن في رأسك بالضبط؟ أفصح. أنطق. كحْ. أعطس. اضرط. دير لون. يهمني أن أعرف ما في رأسك. أحك لنا قصتها. وراس (كلمة قسم) الفتى الجميل صاحبك، وراس حميده درنة مطربك المفضل. وراس أمك الحنون. وراس الفتاة التي بزعت القمامة ورأيتها مرة واحدة وتبحث عنها دون جدوى. إن لم تحك الآن. أقسم بشرفي البوليسي والعسكري أنني سأقبض عليهم جميعا الآن وأرصهم جميعا في زنزانات انفرادية وأطلق عليهم الكلاب الشاذة المستوردة من سجون امريكا.

هزهز اغنيوة رأسه موافقا أنه سيحكي. سيحكي قصة الجوكرة كما نسجها في خياله. كل ليلة قبل النوم يضع الجوكرة أمامه ويتأملها ويشرب كأسه في صحتها. ويقارن بين وجهها ووجه الفتاة التي بزعت القمامة ولم يلاقيها أبدا. كيف سيقبض عليها رجل البوليس هذا دون أن يرى وجهها. ربما بالشم. قطع الضابط تداعيات اغنيوة وربت على كتفه. أحك يا اغنيوة تتريّح وتريحنا. والبنت التي تبحث عنها سنجدها لك ونزوجها لك أيضا. أحك الآن. الضابط يصرخ أحك الآن. اغنيوة صامت سارح في عالم آخر. الضابط يصرخ أنت ما ينفعش فيك السياسة ووسعة البال، وصفق بقوة بيديه فانفتح باب الزنزانة سريعا ودفع أحد الحراس الفتى بعنف إلى الداخل. كانت بين يديه قصعة كسكسي أعدتها أمه عندما علمت أن اغنيوة في السجن. تمالك الفتى نفسه وتجنب السقوط باستناده بكتفه على الجدار ثم وضع القصعة على مصطبة خرسانية داخل الزنزانة واستدار صوب اغنيوة يصافحه، لكن الحارس جذبه من جوار اغنيوة. قال الضابط هل ستحكي يا اغنيوة أم لا. الفتى قال. سمعت كل شيء من وراء القضبان. أحك لهم يا اغنيوة عن قصة الجوكرة. اختصر الموضوع وريّحنا من البهذلة. اعصر ذاكرتك. تذكر. سوف أذكّرك. لقد حكيت لي عنها قليلا. هي امرأة جميلة وعفيفة وحدثت لها مشكلة في حياتها الماضية. غمز الضابط أحد الحراس فأمسك الفتى من شعره الطويل وجذبه بعنف حتى صرخ فصرخ اغنيوة: توقف يا أفندي وراس مينتك (أمك). خلوا العيّل وأخذ يبحث في جيبه عن سكين البوخوصة الذي أخرجه لعبدي المحيشي عندما دفعا به السيارة وحاولا اغتصاب فتاه. حارس آخر صفع الفتى على وجهه فاحمرت خداه وصارتا بلون طماطم جالو.

وهاج اغنيوة وحجل برجله العرجاء يحاول إبعاد الحارسين عن فتاه الذي صار أنفه ينزف. لكن حارس ثالث لكمه بعنف وسيطر عليه وكبل يديه بالكليبشة ثم دفعه نحو الضابط. قال الضابط إن لم تبدأ في سرد قصة الجوكرة الآن. سنخلع سروال فتاك ولباسه الداخلي أيضا ونشممهما لذاك الكلب. الكلب ينبح بشدة ويخرج لسانه هو هو هو هووووو. صرخ اغنيوة خلاص شدوا الكلب سأحكي وتربة الشايب (الأب). ترك الحارسان الفتى وترك الحارس الآخر اغنيوة يصافح الفتى ويعانقه على راحته، ويهمس في أذنه آسف سببت لك المتاعب والمشاكل. قال له الفتى أحك. أنت قادر على نسج الحكايات. هزهز اغنيوة رأسه أمارة الموافقة وصار يتجول في الزنزانة وينظر إلى النافذة الضيقة التي تـُـسرّب بعض بصائص النور. لم يستطع أن ينطق بأي حرف. صرخ فيه الضابط أنطق. خيرك ساكت. شني مصيبتك. الفتى وشوش الضابط فابتسم وأشار لحارس أن يحضر شيئا. غاب الحارس قليلا وعاد بزجاجة ويسكي بوخطوة (جون ووكر) مرسوم على الزجاجة رجل يخطو وفي يده عكاز أو سيف. رجل غير أعرج. ابتسم اغنيوة. حتى أنا بعد أن أشرب أدوار من بوخطوة لا أشعر بأنني أعرج. وأشعر أنني أمتلك ليبيا كلها. أوزعها على هواي. وجذب منه الشيشة بلهفة. أشار للرجل المرسوم على الزجاجة وقال هذا الرجل الذي يخطو كمن يكيّل (يقيس) في ملكه. نزع الغطاء ورشف منها رشفة طويلة وأغمض عينيه ورشف جرعة أخرى وأمطرت حكاية الجوكرة سريعا إلى خياله. فجلس الضابط وبجانبه الفتى.

وبدأ السكرتير يسجل و يكتب ما ينطق به اغنيوة الذي صار لسانه ثـقـيلا بعض الشيء لكن خطواته أنشط حركة ووجهه أحمرّ وعرقه نز وبدا كمن عادت له الروح بعد اختـناق. أخذ جرعة عميقة من الزجاجة ثم مسح فمه بكمه وابتسم للضابط قائلا بعد أن أنتهي من حكاية الجوكرة بقية الشيشة لي. فهز الضابط رأسه موافقا. وصارت عينا اغنيوة تدمعان وتحكيان حكاية الجوكرة. حكاية أحلامه التي صنعها داخل مخياله الثري. حكاية دولته التي خطها على ورق شفاف كورق بفرة الحشيش. حكاية دولته التي يقيمها ويحرقها كل ليلة. حكاية دولته التي وجد لها الشعب ولم يجد لها الأم. يحكي و يذرع الزنزانة من الباب حتى الجدار. يحكي لأحلامه التي أجبر على البوح بها بالسياط والعصي والكلاب. ربما يتم تأويلها من قبل أشباه المثقفين المخنثين الفاسدين المتقلدين لمعظم المناصب المهمة في مؤسسات الثقافة والإعلام والجوسسة الداخلية والخارجية. ربما يجعلونك يا جوكرتي شيوعية أو قومية. أو إرهابية دينية أو محافظة جديدة كونديليزية. الجوكرة تسمعه. الجوكرة المسكينة لا تريد أن تكون سببا في ألمه. الجوكرة تحب الحكاية التي أوجدها اغنيوة فيها بغض النظر عن التأويل والمرجعيات والخلفيات ووحم التيوس. لقد استراحت من الرطم على طاولات التسلية والقمار الزجاجية. استراحت من وضعها على الذكور لشك العميرة (العادة السرية الإستمناء) وكلمة عميرة عربية فصحى يقول الشاعر القديم الذي لا أذكر اسمه وقد يذكره أساطين اللغة العربية بدقة. الأسطون خشيم. الأسطون التليسي. الأسطون وريث. والأسطون الجديد مليطان:

إذا حللت بوادٍ لا أنيس به. فاجلد عُميرة لا داء ولا حرج.

استراحت من سماع السماجات والبقاء في الأدراج والاختناق بالتبغ والحشيش. مع اغنيوة وجدت الهواء النقي. الحرية. المناجاة. الأحلام العظيمة. وجدت نفسها جوهرة. أميرة. ملكة. شخصية محترمة ممتعة متصالحة مع ذاتها. انـتـشلها اغنيوة من قمامة الحياة وصانها في قمامة الروح. مع اغنيوة شعرت أنها حيّة نابضة. شعرت أن أحلامها موجودة حقيقة ومتحقـقة. الجوكرة شخصية عذبة نسجها اغنيوة في مناجاته اليومية لها ونسجت هي اغنيوة في إلهامها الممنوح. هي طائرة واغنيوة مطار. هي حبر واغنيوة قلم وأوراق. دائما يضعها اغنيوة أمام وجهه كمرآة ويرى في داخلها الإبداع والحلم والخلاص فيحكي لها عن هذا العالم غير النقي الملوث بالشك والمغطى بمشمع الريبة القذرة التي لا تقود إلى أي اختراع سوى القمع. اغنيوة يحكي لها ولنا وله. يعلنها صراحة. أنها ليست ورقة. ليست جمادا. ليست جوكرة. إنها كما أسرَّ له اغنيوة منذ أزل هذا النص الشيطاني الشيشوي شخصية مقدسة إبداعيا. نحلة ملح نقيّة. جوهرة شعبية ترتاح على جبين البسطاء. شجرة ماء ماطرة. شخصية من الميثالوجيا الذاتية التي تخلقها أنفسنا كل لحظة. شخصية مهمة وملهمة جدا. مؤثرة جدا. عفيفة جدا. غير تافهة. اسمها فيها. جوكرة على حق وحقيق. الجوكرة. الجوهرة. من هي؟ إنها بلقيس. بلقيس الساحرة الهادئة السريعة الشفافة العابدة. نحلة ملح الروح وشغافها. نحلة ملح تائهة. مسمسرون بها. تمتص قدرها من الشارع. عبر نافذة صغيرة. يدخلها الضوء والموت معا.

عندما دخل عليها اغنيوة بكى وتألم وصرعته الدهشة والوحشية. تأملها واصابعه العشرة على وجهه. يباعد بينهما قليلا فيرى هول المشهد. كانت جثة مهشمة الجمجمة مبقورة البطن. تظهر من المعدة بقايا حبيبات أرز مبرقشة بالزبيب ودشيش اللوز والصنوبر. قطع لحم ممضوغة برفق وقرن فلفل مصيّر ومضغات من عصبانة ليبية. كان اغنيوة طفلا بدويا من وادي القطارة. يرعى الغنم ويجني العنب والزيتون والتين. يساعد قبيلته في حرث الأرض وحصادها وتنظيفها من أشواك الخرشوف والعوسج. وفي أوقات فراغه يصيب بعض العلم لدى شيخ المسجد الحاج الصفراني. مرت مراهقته كمراهقة كل شاب بدوي. مراهقة ساخنة مثيرة زاخرة بالمتع الطازجة اللذيذة. تماس مع بنات عمه وخالاته وعماته. تماس مع الراعيات الهجالات والعوانس من نساء الجيران. تلامس معهن وتبادل معهن القبلات وأغاني العلم من صنف صوب خليل. السلام على بنت الأجواد. سلامك تمكّن. وعظامك ارتكّن. وهات ستين غناوة علم على صوب العزيز يبكّن. تذوق قليلا من لذة الفتيان المتغنجين. تارة بالإكراه وتارات كثيرة بالرضى. لم تنج منه حيوانات النجع الأليفة وحتى شبه المفترسة. وبدأ الإستمناء أيضا في النجع بواسطة اللعاب أو الصابون أو جوف الصبّار اللزج. عندما بلغ الثامنة عشر حدّر معه أبيه إلى رباية الذائح.

ووجدا قريبا لهما يعمل دلالاً وبرّاحاً في شارع بوغولة وسوقي الظلام والذهب. التقياه في قهوة العاشق يقرأ جريدة ويرشف الشاي. فرحبا بهما ودعاهما لتناول الغداء في مطعم بن غشير. بعدها تجولا في شوارع وأزقة المدينة وذهبا سويا إلى البيت للغفوة والاسترخاء. قريبهما هذا معروف جدا في المدينة وله علاقة وطيدة بالتجار العرب واليهود فطلب منه والد اغنيوة أن يجد عملا لاغنيوة وأن يضمنه ويكفله. وكانت الجريدة مازالت آنذاك في حوزة الدلال فأخرجها من جيب فرملته وقال لأبي اغنيوة شن رايك يركب (يلتحق) اولدك في بوليس المتحركة. أجاب أب اغنيوة بحماس يا ريت يا خوي والتحق اغنيوة بمعسكر إمداد الشرطة في رأس عبيدة واجتاز الكشف الطبي والمقابلة الشخصية بنجاح فقد كان اعترّبي (ضخم الجسم متين) وبدأ التدريب بجد ونشاط ورغبة جامحة ولفت أنظار الضباط خاصة في درس كيف تسيطر على مجرم خطير. كان اغنيوة ينقض على المجرم المفترض الذي يمثل دوره أحد المدربين ويبطحه أرضا ويلوي له يده خلف ظهره وإن أبدى مقاومة أكثر فيمسكه من خصيتيه ويفركهما بشدة فيصرخ المجرم ويستسلم. تحصل على الترتيب الأول مع كسوة إفرنجية معها رابطة عنق وطربوش و سُلِّم هراوة غليظة ومسدس وصار فردا رسمياَ من أفراد شرطة المتحركة. ساهم مساهمة فعالة في قمع مظاهرات الطلبة التي وقعت في يناير عام 1964 م والتي سقط فيها ثلاث شهداء من فتية بنغازي الرائعين صالح النقاز. علي لامين البيجو. و مفتاح بن حريز والذي لم يستشهد بواسطة الرصاص الحي لكن بقرت بطنه بحربة بندقية وظهرت امعاؤه ومعدته لكل الناس، وظل في المستشفي سبعة أيام يعاني العذاب والألم المبرح حتى أسلم الروح. وبسبب هذا المشهد ماتت أمه التي أحرقت شعرها من هول الفاجعة.

لم يطلق اغنيوة الرصاص على الطلبة لكنه ضرب بهراوته على الرؤوس ورفس برجله القوية بطون من تساقط أمامه من الطلبة الهاربين خاصة الذين يهمسون نميمة فيه كلما مر بلباسه المدني قاصدا شوارع الكازينا قرب سينما النصر وهايتي فيوشوشون لبعضهم ويضحكون. يقولون عبارات مثل هذه. البلاد تعبّت زغد ((بادية). من مضاجعة الحمير إلى مضاجعة النساء. آه يا دنيا يا دنيا ودرنا ساس تهدم بنيا. بعد قمع هذه المظاهرة فعلت الحكومة كما تفعل كل حكومة رجعية. منحت مكافآت سخية لكل المتصدّين لهؤلاء الطلبة العزل. فترك اغنيوة (القدر) المبيت في المعسكر وصار بدلا (مبيت خارج المعسكر) واكترى بيتا في شارع بن عيسى في وسط المدينة. عاش فيه في سعادة وفرشكة. كل يوم ينظف أمامه بعرجون ويرش الماء على المصطبة ويسقى دالية عنب غرسها تحت نافذة المربوعة المطلة على الشارع والتى نبتت فصنعت على نافذة المربوعة بأوراقها منظرا بهيجا خاصة عندما تتسلل أشعة الشمس من بين الوريقات وتحط على وجهه وهو يستمتع بالقيلولة..كل أصيل يجلس على مصطبته يدخن سجائر لبدة ويتملى في المارة ويرد تحاياهم. البيت الذي يقابل بيته تسكنه أسرة غرباوية لديها فتاة في السادسة عشر جميلة تخلب اللب كما يعبر التراثيون. كانت معجبة به وتتلصص عليه من شق النافذة. تتمعن في كسوته الرسمية وبطمها الذهبية اللامعة ومسدسه الضخم وعصاه الغليظة التي تتخيلها في ذروة شبقها أنها ذكره. وعندما يتفطن اغنيوة لتلصصها يتوارى خجلا إلى داخل البيت فتبتسم وتقبّل خشب النافذة وتسند رأسها عليه. اغنيوة يدخل البيت لكنه يتوجه إلى نافذة المربوعة ويستغرق في تأملها من خلال وريقات العنب التي يحركها مزاج النسيم فتارة تمنحه رؤية واسعة وأحيانا ضيقة لكنها واضحة ولذيذة.

 استطاعت بلقيس بواسطة الإشارة أن تتفاهم معه وتعلن عن حبها. في مناسبة عاشوراء تجرأت وأرسلت له مع أخيها الصغير طبق فول وحمص. وكتبت له ورقة بها اللى ما تعطيش الفول يصبح راجلها مهبول. واللي ما تعطيش الحمّص. يقعد راجلها ايتلمس. واغنيوة بعيد السوْ عليه من الهبال والعمى. فرد لها في الطبق عقد محلب فائح اقتناه من أبي العطر البنغازي الحاج سليمان النجار. الكائن محله في بداية شارع بوغولة. غطى لها العقد بأوراق عنب خضراء من دالية نافذته. و مضى الزمن الجميل و تحايل كلاهما على اللقاء النوافذي يوميا. أه ما أحلى لقاء النوافذ هذا. لقاء عبر كائن اسمه نافذة. يدخل النور. الهواء. الشمس. الأرواح الشريرة والخيّرة.

في الصباح عند ذهابه للعمل تحرص بلقيس على الخروج بجردل الكناسة. فيبتسم لها وتبتسم له. ويصيح بائع السفنز من أول الشارع. اسفنز من ناره. فيتجه صوبه اغنيوة ويشتري منه ويطلب منه أن يضع أمام عتبة بيتها كيس به اسفنزة بالدحي تشمها بلقيس سريعا فتأخذها من على عتبة بيتهم قبل أن تبرد وإن وجدت الشارع آنذاك خاليا من المارة تلوّح له باسمة متوردة الخدين من الخجل ومن دفء الاستيقاظ. تتذوق من السفنزة وتملحها قليلا بملح كركورة المبارك وتقدّم نصفها لأمها المريضة مع كوب حليب بينما تتلذذ بالنصف الآخر في المربوعة عند النافذة على أنغام أغاني فيروز الصباحية المنعشة. عم بتضوي الشمس. ع الأرض المزروعة. عم بتضوي الشمس. والدنيا عم توعا. وتبدأ نشرة الأخبار الصباحية فتقفل الراديو وتشغل المسجلة فتنساب منها أغنية عندليب ليبيا سلام قدري الحلوة المملوءة بالعتاب. انشد يا سيد الحلوين. واشغل فكرك مرة بينا. رانا لزولك مشتاقين. وانت من بالك ناسينا. يطل اغنيوة برأسه من النافذة مبتسما ثم يقفلها ويغادر إلى عمله وجوّه رائق. وتبقى بلقيس لا تمتص ليم العوانس لكنها تمتص الأمل. تمتص قضيب الانتظار اللذيذ وتتسلقه بخيالها فينزلها عبر سلم رذاذ بنغازي المالح إلى لسانها الوردي الذي تمتص به قطعة السفنزة أولا حتى تجففها من الزيت والدفء وبعد أن تصير القُطِيعة عجينة باردة تبتلعها فتشبع نواحيها كلها. تحرص دائما على أن تعطى قطعة من السفنزة إلى القط الساكن عند قدميها فيبدأ يتشممها أولا ويبدأ بلعق الزيت مثلها وأكل البيض المقلي الملتصق بالعجينة الطائبة ثم العجينة بأكملها و التي يتبقي منها نتف قليلة تكاد لا ترى يغنمه نمل جبانة سيدي الشريف إلى ثقوبه قبل أن تمسك بلقيس المقشة وتبدأ في كنس البيت.

كان اغنيوة وسيما بعض الشيء. شعره أسود مصفف إلى الوراء. عيناه واسعتان سوداوان. طويل. رشيق. بشرته بيضاء بها بعض الإحمرار. شنبه أسود مشذب بعناية كتركي من الأناضول. ابتسامته الواسعة تعلن عن اسنانه البيضاء المشابة بإصفرار قليل تعشقه بلقيس. ملابسه المدنية أنيقة والبوليسية أكثر أناقة. أحبته بلقيس لجماله ولكرمه ولجسده القوي ولحاجتها إلى رجل يعشّرها قبل فوات القطار. التعشير بعد فوات الأوان ملوشي طعمة هكذا قالت الشغالة بهية في الإسكندرية. كان اغنيوة محبوبا من الشارع. وظيفته منحته احترام الشارع والمنطقة وجعلت له هيبة. ومعاملته للجيران وكرمه معهم جعلتهم يشعرون كأنه فرد منهم. الأطفال الصغار يحبونه كلهم. ما إن يدخل بائع المثلوجات سي مفتاح تربل بدراجته التريشكو (ثلاث عجلات) التي يبيع عليها الجولاطي(آيس كريم) حتى يصيحون جولاطى. جولاطى. ويركضون إلى بيوتهم وأكواخهم. لكن أهلهم فقراء. لا يملكون نقودا لهذه المتع الصغيرة والكماليات. فيخرج بعض الأطفال من بيوتهم حزانى باكين ومنهم من تظهر على وجهه أمارات الغضب والحرمان. لكنهم سرعات ما يبتسمون فورما يروا اغنيوة قادما إلى الشارع أو فتح نافذته وأطل من خلال أوراق العنب. يصيح بائع الجولاطي أكثر. جولاطى. جولاطى. ثم يضغط على طرنبته (منبه يدوى) بيب بيب. يخرج اغنيوة ويشترى لكل الصغار أما أخ بلقيس فيشتري له طربوشين فتعرف بلقيس المتلصصة من قضبان النافذة أن الطربوش الثاني يخصها. تأخذه من أخيها وتعود إلى النافذة. ويبدأ اغنيوة في امتصاص طربوشه وهو يتأملها من خلال أوراق العنب وآه من طرابيش الجولاطي البسكويتية. وتبدأ بلقيس في امتصاص طربوشها البسكويتي وهي تتأمله من خلال قضبان نافذتها. سرعان ما يذوب الجولاطي بسبب الآهات المصاحبة لامتصاص المثلوج. وعندما ينتهيان من امتصاص كل ما احتوى طربوش البسكويت يضع اغنيوة في تجويفه المخروطي لسانه ثم يقلبه إلى داخل فمه ويأكله بينما بلقيس تضع الطربوش في فمها من رأسه الأسفل المقفل وتبدأ في التهامه بعصبية وقلق.

تعرّف على أهلها ودعوه لتناول الغداء أو العشاء أكثر من مرة. وهو كذلك دعاهم كثيرا. تبادل معها بعض الكلمات مباشرة. كلمات عفوية بسيطة. صباح الخير. شكرا على الطعام. انت بنت حلال. أهلك كرماء طيبون. ومع ارتياده دور السينما تعلم من الأفلام المصرية كلمات رومانسية. فعلى حين غرة وهى خارجة لركن جردل الكناسة وجدته أمام البيت فحيّته فرد عليها بكلمة أحبك يا شمسي المشرقة فتوردت وجنتيها خجلا. لكنه واصل. وسوف اتزوجك ونطير معا على غزال أبيض حتى وادي القطارة لأقطر لك شوية. ودخل إلى فيلم أجنبي فتعلم منه جملة I love you وقالها لها في الصباح فلم تفهمها فقال لها يا عروستي الجميلة معناها صايخ فيك (أحبك).

ذات عشية دخل سينما هايتي وكان الفيلم بعنوان اللص والكلاب وبعد نهاية الفيلم خرج من ظلام السينما إلى ضوء الشارع فلم يستطع فتح عينيه وظل هكذا معتم. وهو يتبيّن طريقه في الشارع قبض على ذراعه فرد من البكت الحربي (الشرطة العسكرية) وسأله. مدني أنت يا أخينا أو عسكري؟ فأجاب اغنيوة عسكري فقال له اركب تلك الشاحنة لو سمحت سننقلكم لنجدة اخوانكم الليبيين الذين ضربهم الزلزال العنيف في المرج. وقفز اغنيوة إلى صندوق الشاحنة دون وداع بلقيس. لم يرفض. أو يطلب دقائق يركض فيها إلى البيت القريب ويعود. انقاذ الروح كانت أهم لديه من موعد غرام مع بلقيس. وفي مدينة المرج بذل مجهودا جبارا في التعامل مع هذه الكارثة. فهو يزيل الأنقاض. ويداوي الجرحى. ويدفن الموتى. ويقبض على لصوص الكوارث يسترجع منهم المسروقات ويوزع المساعدات الإنسانية ويواسي من فقد عزيزا أو عزيزة. بل امتد نشاطه حتى إلى مساعدة الحيوانات المصابة من خيول وحمير وثيران وكلاب وقطط وأرانب وكباش وتيوس وغيرها. كان لا ينام إلا سويعات معدودة جالسا على مصطبة أو مستندا إلى جدار أو شجرة.

أنقذ الكثير من الضحايا. وشعر أن ضميره مرتاح جدا. في هذه المهمة شعر بأهميته كرجل بوليس وبأهميته كإنسان. عكس ما شعر به في مهمته الأولى عندما أمروه بقمع الطلبة فصار وحشاًَ كاسرا يركل ويصيح ببذيء الألفاظ ويضرب بالعصا وبقبضته وببوز كندرته التشيكية. لم يشعر آنذاك أنه إنسان قط. لم يشعر آنذاك أنه بني آدم كرّمه الله. آنذاك لم يكن يعرف بلقيس. لم يكن قد التقاها بعد. و فرد بوليس لا يحب لا انسانية في قلبه. والآن بعد أن عرفها ها هو يستلذ بعمله النبيل هذا ويتفانى فيه. عندما انتهت مهمته هناك في اغاثة ضحايا زلزال المرج منحه المحافظ مكافأة مالية عن جهوده. فصار يقسمها على المصابين ويمشي خبط عشواء إلى أن وجد أمامه المقبرة. قرأ الفاتحة ودعى الله أن يغفر للجميع. بحث عن صندوق تبرعات يضع فيه صدقة فلم يجد. نادى على حفار القبور أو عساس المقبرة فلم يجبه أحد. أخذ يتجول بين القبور ويتأمل الأزهار الجبلية البديعة النابتة فوق طينها الخصيب المبلل بماء الشتاء. لفت نظره قبر في وسط المقبرة. لم تكن شاهدته قطعة حجارة. كانت قطعة خشب مكتوب في وسطها كلمة الله. قطعة خشب يستخدمها الأطفال في المساجد والكتّاب لحفظ القرآن الكريم. يكتبون عليها بأقلام من قصب ويمحون الكتابة بلطيخ تراب الطفلة. وقف عند هذا القبر الصغير. ورأى أن هذه الكلمة كلمات. كلمات. كلمات. كلمات مباركة من نور. ردم ما تبقى لديه من مال في الطين الذي تحت اللوحة بالضبط. لكن كلما ردمه تأتي ريح مشاكسة وتكشفه. ردمه ووضع فوقه حصوات صغيرة وجاءت الريح أيضا وأزاحت الحصى وكشفته. قال سبحان الله. فبدأ المطر يساقط بغزارة فخرج من المقبرة ومع صوت الرعد القوي والبرق الخاطف شعر اغنيوة أن قلبه قلق جدا وأن هناك أمر عظيم قد حدث.

نظر وراءه صوب المقبرة فرأي ذاك القبر لافظ المال وكأن فوقه خيال إنسان واقف يلوّح له ويودعه ويصغر تدريجيا و يشف حتى يعود إلى طينة الأصل. ركض اغنيوة إلى محطة الحافلات ركب بما تبقى له من مال إلى بنغازي. والسيارة نازلة من عقبة الباكور الهضبة الخضراء التي تشرف على بنغازي تذوق ريحا مالحة وآهات تحثه على الإسراع. ووصل إلى بنغازي مساء. ركب عربية يجرها حصان أشقر من الفندق البلدي حيث المحطة المركزية حتى شارع بن عيسى مقر سكناه. كان مشتاقا لبلقيس جدا. هو مسترخٍ في العربية والحصان يطرق بنعليه الإسفلت فيسمع صوتا جميلا تك تك تك تك. والعربادجي يفرقع سوطه السوداني في الهواء قرب أذن الحصان فيهمهم الحصان محتجا و يسرع مهزهزا رأسه هزات متداولة بين اليمين والشمال. يصهل ثم يتغوط بضع كرات من الغائط الأخضر المبرقش بحبيبات الشعير. رائحة الغائط وبخاره الساخن تصل أنف اغنيوة فيقفله لأمتار قليلة ثم يفتحه مجددا مستنشقا هواء بنغازي المالح الشفيف. هو لا يشمئز من غائط طبيعي لكنه يشمئز من غائط خرج نتيجة ألم. وصلت العربية إلى شارعه فوجده متغيرا عن ذي قبل. من أوله حتى آخره مزدان بالبالونات والأشرطة الملونة ومظلل بسعف نخيل أخضر مجلوب من منطقة اللثامة ومضاء بالمصابيح الكهربائية وفوانيس الزيت والكيروسين. معظم الزينة تتركزأمام بيت بلقيس المقابل لبيته. نزل اغنيوة من العربية مندهشا يستفسر عراف داخله عن الأمر ودخل الشارع يمشي ببطء ويحي من يلتقيه من الجيران. كانت نظراتهم تخفي سرا ما. لم يسأل لمن هذه الزينات ولمن هذا العرس الزايط (الباذخ). مر من أمام بيت سي عقوب وجده جالسا كالعادة يخربش في كراسه و يشرب كؤوس الأصيل. حيّاه اغنيوة كالعادة وناوله سيجارة فرفع سي عقوب رأسه شاكرا وغنى له:

قالوا زوزوها نور العين.

 قالو زوزوها نور العين.

 قالو زوزوها لسمسار

 في الفندق عطوها.

 نور العين.

*    *    *

واصل اغنيوة سيره البطىء القلق ودخل بيته. استحم. وحلق ذقنه. ولبس ملابس نظيفة. ثم أشعل سيجارة ووقف قرب نافذة المربوعة ينظر إلى نافذة بلقيس من خلال أوراق العنب المبللة بفعل المطر. كانت نافذة بلقيس المقابلة لنافذة مربوعته موصدة بينما بقية نوافذ البيت مشرعة تصاعد من كوّاتها رائحة الجاوي والوشق والفاسوخ والشرغدان. كان العرس في بيت بلقيس. من الذي تزوج عندهم؟. هل هو عرس أخيها.؟ أم أنَّ أباها فعلها و تزوج على أمها المريضة؟. أم أنه عرس عمتها الهجالة. ومع انتهاء سيجارته بدأ صخب عرّاسة يقترب. وتناهى إلى سمعه موكب زفة عريس على وشك الوصول. وارتفعت الوتيرة أكثر. وتمركز الموكب أمام بيت بلقيس ظهره لنافذته. وأُخرِجت العروس بلقيس من الداخل تغطيها بطانية حمراء وتحيطها نساء الشارع ونساء أسرتها وتشابكت زغاريد شجية في بعضها مختلطة ببكاء الوداع وارتفعت دعوات من جداتها وعماتها. ربي ايهنيك. ربي يسعدك. وغناء مرسكاوي بنغازي وتصفيق حاد عمّ المكان وأدخلت العروس بلقيس إلى بيت العريس وهو سمسار أراضي مكتبه يقع في أقواس الفندق البلدي. بيته بينه وبين بيت بلقيس بيتين من تراب بينما بيتها بينه وبين بيت اغنيوة طريق من أزهار. كان اغنيوة يعرف هذا السمسار جيدا. وقد حقق معه في عدة قضايا حول ايجارات بيوت وبيع أراضي طابواتها غير قانونية وغير مصدقة من المحكمة وسامحه لأنه جار. ومكث أهل بلقيس أمام بيت العريس السمسار ينتظرون المنديل. يحيط بهم الموكب المبتهج. كل أفراد الموكب يغنون ويشربون الشاي ويأكلون حلويات المقروظ والغريبة. و يدخنون. وبعد نصف ساعة خرج العريس ووشوش لخاله الحاج بومعيرقة فانتحى به خاله إلى ركن قصي ووشوش له طويلا فتقدم من جديد بعد أن أشعل سيجارة وسط التهليل والهتاف وكلمات التشجيع وأغاني من مثيل يا العريس امغير الليلة. واللي ايجيك اقطعله ذيله. ودخل مرة أخرى إلى العروس بلقيس. يبدو أنه وجد صعوبة في افتضاض بكارتها أو هناك شيء ما. بعد ربع ساعة خرج العريس غاضبا ووشوش لأخ العروس. وحدثت بينهم مشادة كلامية تطورت إلى اشتباك. وصفع أخ بلقيس العريس على وجهه ونطحه في جبهته صارخا نحن عائلة محترمة يا ولد القحبة. وصرخ العريس في وجه أخ بلقيس أمك ميبونة وما نفهمكش بيناتنا المحكمة والقانون اترجعولي خسارتي على داير مليم يا واطيين. ونهب من أحد المدعوين زجاجة مشروب سينالكو صارخا فيه خلاص سم سم خربتوا بيتي معاش تفتحوا القازوز وانتلفوا من قدام وجهي ودخل اخ بلقيس إلى بيت العريس وبعد دقيقتين سمع صراخ شديد وصرخة عظيمة تلاشت في بوق الصمت.

خرج أخ بلقيس في حالة غير طبيعية عيناه جاحظتان واوداجه محمرة ويداه ترتجفان وتمسكان بساطور يقطر دما. افسحوا له الطريق فتوجه الى الشارع العام راكضا يقال أنه سلم نفسه لمركز البوليس ويقال أنه صار نزيل أبدي في مستشفى المجانين. واندفع الناس الى بيت العريس وكان اغنيوة من المندفعين. النسوة تصرخ وام بلقيس اغمى عليها بعض النسوة رغبن أن يلمسن الضحية بلقيس غير ان اغنيوة ورغم الدموع الذارفة من عيون قلبه ورغم الحزن العميق والصدمة الشديدة التي يعيشها الآن، إلا أن رجل البوليس في داخله استيقظ فجأة وأمر الجميع باسم القانون بالابتعاد وعدم لمس الجثة. أمر قابلة المنطقة وهى ممرضة اكريتية في المستشفى الكبير أن تجس نبضها فقط بواسطة قفاز فجست وقالت له البركة في راسك يا حضرة الشاويش. أمر أحد الرجال بالذهاب لإحضار الطبيب الشرعي وحضر الطبيب الشرعي وأجرى كشفه وأعلن لهم عبر تقريره السريع المختصر أن بلقيس عفيفة، وأن العريس جاهل بالنساء، وأن أخاها تسرع في غسل شرفه من عار وهمي. قال لاغنيوة العروس غشاء بكارتها من النوع المطاطي وهذا الغشاء منتشر كثيرا في منطقة حوض البحر المتوسط خاصة المدن والقرى المحافظة. وقد فضها العريس اكثر من مرّة. الثقوب الحديثة في أكثر من مكان في مهبلها تثبت ذلك.

ماتت بلقيس وسُجن أخاها ثم أدخل مصحة نفسية مكث فيها إلى ما شاء الله أما عريسها الشاطر في السمسرة والجاهل في المضاجعة فقد جلا مع أهله كلهم عن المدينة. عاد إلى قريته التي أتى منها. يرفس البازين ويلتهمه بالفلفل الأخضر ويعبّد الزميتة ويلتهمها بالبصل الحويل. ومن المال الذي ادخره من عمله في رباية الذائح تزوّج من بنت عمه واشترى طارطاروي (عربة حرث) يحرث به لأبناء عمومته بمقابل ويجر به سيارات بيجو القيطون الغارقة في الوحل أو السافي. كل يوم يبدأه في العمل على الطارطوري وعند الأصيل يرتاح فيطفىء محرك الطارطوري وينهمك في ارتشاف طواسي الشاي الأحمر المكشكشة ولعب أم السبع (سيزة غرباوية) مع شياب القرية في ظل نخلة مائلة.

بعد أيام من موت بلقيس عاد اغنيوة إلى عمله. لكنه عاد فاتر الهمة مشتت الفكر والخيال. شعر أن قلبه قد دفن مع بلقيس. وكيف يعيش انسان بدون قلب. كيف يأكل أو يشرب. إنه ذاهل جدا وكلما يأتي إلى النافذة وتلمس وجهه أوراق العنب تتسارع دموعه إلى الهطول. وتتسارع دقات قلبه حتى يعجز عن الوقوف ويجلس في المربوعة تحت النافذة. ظهره للجدار ووجهه إلى مصباح السقف. فيرى في نور المصباح صورة بلقيس فيبكي وتغمض سيول الدموع عينيه بملحها الدامي. لم يعد اغنيوة القوي الذي نعرفه قامع المظاهرات وخالب المجرمين من خصيهم. صار هزيلا. يدخل مستشفى البرزدوشمو كل شهر لأيام. قررت القوة المتحركة الاستغناء عن خدماته. نقلوه إلى قسم البوليس السري. قالوا له تجلس كل صباح هنا في قهوة عرّودي العريقة. مهمتك مراقبة الكتاب والصحفيين وأصحاب المكتبات خاصة امويلة لنقي واشعولة الخراز. اكسر وذنك شورهم واسمعهم شن يحكوا بالضبط وقولنا عليه. اكسر وذنك اكويس يا اغنيوة. أي لعنة للحكومة جيبها لنا ساخنة. أي لوية وجه من كاتب نبوا نعرفوا سببها. هل مش عاجبه النظام السياسي أم لأن فريقه الكروي خسر. أم لأنه مفلس جيبي فارغ من الفلوس أم لأن حبيبته تركته. أو امرأته لم تتركه يركبها البارحة.

يخرج كل صباح باكر من شارع بن عيسى يتمشى عبر شارع المهدوي حتى يصل ميدان البلدية حيث قهوة العرّودي. سعيد جدا بخروجه الصباحي. يرى أولاد وبنات المدارس خارجين من بيوتهم. حقائبهم في ايديهم يطوطحونها إلى الأمام والخلف. يستمتع بصخبهم البرىء وما إن يصلوا أمام المدرسة حتى يعم الصمت. الوشّيري (المباشر) في يده خرطوم قوما يلذع به المتلكئين في الدخول أما المتأخرون فيجعلهم صفا عند الباب ليبث حضرة الناظر في أمرهم. لا يطرد أحدا منهم. لكن يجلدهم أربع جلدات بعصاته الرقيقة على راحاتهم فيضمونها إلى صدورهم الواجفة وينقزون في الهواء قليلا ثم يلتقفون حقائبهم ويلتحقون بالحصة الأولى. قبل أن يمد التلميذ يده للناظر كي يجلدها ينفخ فيها بفمه هواء ساخن لتخفيف الألم ويبللها قليلا بلعابه بعد كل جلدة. هناك من يمد يده اليمين ثم اليسار ثم اليمين ثم اليسار ويمضي وهناك الذي يتلكأ في مد اليد حتى يجلده الناظر على ساقه أو مخروقته (مؤخرته) فيميل متألما ويمد يده ليتفادى الجلدات على الساق والمخروقة وهي لا تحسب من قصاص التأخير. وهناك من كانت أيديهم يابسة متحشرفة بسبب العمل اليدوي الذي يقومون به بعد الظهر. كرفع الطوب أو العمل على براويط (عربة يدوية بعجلة واحدة) التحميل. هؤلاء يمدون يدا واحدة فقط ولا يضمونها إلى صدورهم أو ينفخونها بالهواء الساخن. هؤلاء ينعتهم الناظر بعد انزال عقابه فيهم بأن جلودهم كيف الحلوف لا تحس الألم.

يتمشى اغنيوة عبر شارع المهدوي يستمتع بالحياة الطازجة. ينعرج إلى شارع بن جحا فتلاقيه رائحة القهوة المنبعثة من مطحن اندرياس سركس فتفعم أنفه وتدوزن مزاجه النكهوتي. رائحة أخرى تزاحمها لكن لها خصوصيتها ونكهتها يتشممها من مطحن الزاوي وأخرى من مطحن الصرماني. يهم بدخول شارع بوعشرين ليصل الى ميدان البلدية لكن يتوقف ويعود الى الوراء. لقد نسى أن يتناول اسفنزته الصباحية من سنفاز يوسف بوكريميعة عند زاوية سيدي على الوحيشي ذات القيمة الصوفية الكريمة المعروفة لدى كل الزوايا. فلا أحد سينسى ما حدث لفتية من قبيلة الجوازي هربوا من غدر الوالي القره مانلي الذي استدرجهم الى قصره وذبحهم عقابا لهم على تحيّزهم لأخيه منافسه على السلطة. هؤلاء الفتية استطاعوا الهرب من الموت والتجئوا إلى هذه الزاوية. فأمر الوالي بحصار الزاوية و بأن لا يتصل بهم احد ولا يقدم لهم الطعام ولا الشراب. ولحرمة الزاوية وقدسيتها آنذاك لم يستطع الوالي اقتحامها فظل محاصرها بانكشاريته دون أن يستسلم هؤلاء البؤساء. وبعد أن يئس من ذلك فك الحصار ودخل الناس الى الزاوية فوجدوا لديهم طعاما شهيا وماء كثير. لا أحد حتى الآن يدري من أين جاءهم هذا الزاد والماء والزاوية مقفلة عليهم من الاتجاهات جميعها الكل مقتنع بأنه كرامة من كرامات الأولياء الصالحين.

يحي اغنيوة السنفاز سي يوسف فيقدّم له اسفنزته المقلية جيدا في زيت الزيتون. حوافها عجين سميك أصفر محترق حسب طلب اغنيوة من بعض جهاته. وسطها طبقة رقيقة يابسة تسمى قرماشي. يثقب اغنيوة بإصبعه عدة ثقبات في طبقة القرماشي فتصدر هذه الطبقة الرقيقة المحترقة المنهارة أصوات تشك تشك تشك وتصير السفنزة حلقة مفرغة من الداخل فيمسكها اغنيوة من الجهتين بسبابة وابهام كل يد ثم يجذب فتنقسم أو تنفصم السفنزة إلى قسمين على شكل هلال. يرشش عليهما قليلا من الملح ويأكل بالهناء والشفاء. رائحة دكان السنفاز زيت زيتون. عجين مخمر. دخان حطب. سجائر. رائحة صباح لا يمكن وصفها. البيض المفرقع في طست القلي يمتزج برائحة الرحيل ويشق طريقه عبر الهواء البارد الخارج من كوة الطرد أعلى الدكان. يتمختر في شوارع المهدوي يتناكح مع روائح صباحية أخرى. أنوثة رائحة القهوة. ذكورة رائحة الفاصوليا بالكرشة والقلايا المنبعثة من مطعم سي بشير بسوق الحوت. تخنث رائحة بوخة اليهود. طزاجة رائحة الخضروات في سوق الحشيش. كل الروائح تتزاوج في ما بينها وتنجب لنا اكسجين الذاكرات الباقية. تخترق قطعان الرائحة ميدان البلدية تلامس قبة جامع رشيد وتباركها ثم تطير أعلى صوب منارة سيدي اخريبيش ومن المنارة يقابلها رذاذ بحر بنغازي الهائج فيذوب بها ويمزجها ويغسلها بزفير الأنين.

تمر من أمامه بائعة الفول الساخن دادا خميسة. تصيح بصوتها الواهن فول ساخن من ناره. يشتري منها قرطاسا صغيرا. تأخذ ورقة. تلفها بأصابعها الرشيقة المحنّاة على هيأة طربوش. تملأ الطربوش بالفول الساخن ثم تضغط على قمة الطربوش المملوء بباطن إبهامها حتى ينزق الفول إلى أسفل وتفسح مكانا للحبيبات الإضافية التي تضيفها للزبون وتسميها أوفّاية. تبتسم لأغنيوة قائلة وهي تضع خمس حبّات إضافية في قمة الطربوش وهذه الأفواية يا وليدي اغنيوة. فيشكرها اغنيوة وترد بابتسامة طيبة عذبة. ودادا خميسة من نساء بنغازي المكافحات. امرأة سمراء زوجها عاجز عن العمل لمرض ألم به فاضطرت أن تعمل من أجل إطعام صغارها لقمة شريفة بالحلال. في الصباح الباكر تبيع الفول الساخن من ناره وفي الضحى وحتى الظهر تبيع الكاكاوية أمام سوق الحوت فيشتري منها البحارة الجالسين في قهوة سي ميلاد بعض ميزاتهم.

البحارة في سوق الحوت كرماء طيبون. يهبون لنجدة المظلومين ويقدمون للفقراء قسما من دخلهم. يجلسون في أوقات فراغهم وفي إنتظار الإبحار في قهوة سي ميلاد يشربون الشاي ويدخنون النرجيلة ويتأملون الشارع الصاخب بالحياة ويلتقون الأصدقاء. كثير من البحارة شرفوا هذه المقهى وكانت لهم ذكريات طيبة. الرائع عبدالكريم اسبيريا. الرائع شيش بيش. الرائع حريف. الرائع السنوسي كرداش. وغيرهم من أبناء هذه المدينة الساكنة في قلب القلوب والنابضة بالحب المالح غير القابل للعفن كقديد جدتي.

يدخل اغنيوة مقهى العرّودي فيجده صاخبا. مكتظا بالرواد. الكلام كثير هنا وهناك. يكسر أذنه على رأي المصريين لإيه وإلا لأيه. في واجهة المقهى يجلس شاعر كهل يصافحه اغنيوة بحرارة فيستبقى الشاعر يد اغنيوة في يده ويقول له صباح الفل. يدك رطبة يا لعيّل ورائحتها اسفنز ساخن من ناره ويرفع الشاعر يده ويمسح على شعر اغنيوة الناعم فيبتسم بعض الرواد ويتغامزون. وشعرك يا اغنيوة الحب ناعم كي ريش النعام. ما شاء الله وحويتا وخميسة وقرين. يبتسم اغنيوة للمداعبة و ينزل يد الشاعر من فوق رأسه برفق ويناوله ما تبقى من قرطاس الفول الساخن. يودع الشاعر في واجهة المقهى و يدخل إلى الداخل. الصخب مرتفع. والنادل يصيح قهوتين قد وواحد سحلب وشاي اخضر للاستاذ اغنيوة. شيشة معسل سلوم لسي عقوب. يجد اغنيوة كرسيا شاغرا على طاولة جهتها الأخرى يجلس إليها رجلان يتجادلان همسا. يرشف اغنيوة من الشاي الأخضر ويكسر أذنه مسترقا السمع.

ـ مازال يوجعني بشدة. لم أتبوّل هذا الصباح حتى رأيت الموت بعيوني.ألم فضيع يا خيي.

ـ امشي لصيدلية جوزيبي في شارع فياتارينو سيعطيك دواء.

ـ  ذهبت إليه البارحة واعطاني دواء لكن قال لي لن تشفى الا بعد ثلاثة أيام بعد اتمام كورس الدواء كله.

ـ وكيف أصبت بهذا المرض

يضحكان أحدهما في سعادة والآخر في ألم

ـ ألست متزوجا؟. وزوجتك جميلة لا ينقصها شيئا. ما شاء الله عليها

ـ آه ريحنا يا سي الهايك. أخرج زوجتي من الموضوع راهو نركب عليك حتى أنت ولا تقترب من الخط الأحمر

ـ حاضر. أنا آسف. بس انحب نعرف سبب جريّك وراء مؤخرات الذكور.

ـ مش عارف يا خوي. أشعر بمتعة. انحب الضيق. يمشي من قدامي وليد سمح نقعد نرعش نغ بعضي. معاش انتحكم في روحي.

ـ معقولة يا راجل

ـ معقولة ونصف. وتو نحكيلك بالضبط شن صار. كنت قاعد على شاطئ الكبترانية. انتفرج على الصيادين. واحد منهم رفع سنارته في شصها علقت سمكة بوري بوراس. قلت له بيعها فرفض. تركته وجلست حزينا على المصطبة الرخامية. ولد جميل مر في يده جريدة. سألته جريدة اليوم هذي يا شاب. أجاب نعم. قلت له معلش خليني انتصفحها. فمدها لي. قلت له أجلس قليلا شم هواء بحر واعطيته قرطاس كاكاوية ليقرمش منه حتى أنتهي من تصفحها. جلس بجانبي يلوك الكاكاوية ويمضغها بلذة. شفتاه حمراوين. ويده ناعمة وعيناه عسليتان. وانا اتصفح الجريدة رأيت أعلان عن وصول السيرك والملاهي. قلت له اليوم الملاهي تبدأ. ابتسم وقال يا ريت عندي افلوس نمشيلها. قلت له مش مشكلة بإمكاننا الذهاب معا. وكل لعبة نجلس بجنب بعض. واعطيته موعدا في العشية وذهبنا إلى هناك. ركبنا الطائرة والأرجوحة. وصوبنا بالبندقية. وضربنا كيس الرمل أبواني (لكمات) لنعرف قياس قوتنا ثم دخلنا دار العفريتة وجلسنا في العربة جنب بعض. وفي دار العفريتة المظلمة ذات الأصوات المرعبة والوجوه المتوحشة خاف الولد والتصق بي اكثر وعانقني كطفل يعانق أباه. كان طيبا ولذيذا جدا. براءته صفعت شيطاني فخجل وأخذ إجازة. لم أمسه أو ألوثه. وخرجنا من دار العفريتة الى النور. فرأيته مشرق الوجه سعيدا نظيف شفاف كملاك. سعدت أنني غيّرت رأيي وخذلت شيطاني. أول مرة أترك ضحية ساذجة لحالها. أوصلته شارعهم في عربية. وذهبت إلي خمارة في شارع فياتارينو شربت عدة كؤوس نبيذ ثم توجهت الى سينما البرنيتشي. فرخ ابيض معروف وجدته في الكرسي الذي بجانبي. لم اهتم به أو أكلمه. هو الذي مد يده في الظلام وصار يتلمسني بحرفنة فأحضر شيطاني الزعلان وأشعلني رغم أنفي. عندما جاءت ذروة الفيلم والصراع بين البطل والعصابة حيث لا أحد يترك من كرسيّه وقف وأشار أن أطيعه وأتبعه فتبعته إلى دورة المياه ونكته باثنين في واحد. بعد ثلاثة أيام تورّم زبي.

كتب اغنيوة كل هذا الكلام في ورقة طلب مسطرة وأقفل عليها في ظرف وسلم الظرف عند الظهر لضابط المباحث فقرأ الضابط الورقة وشكره كثيرا وقال له رائع لكن هذا التقرير المفصّل لا أريده حول هؤلاء اللوطيين. أريده حول كاتب. شاعر. فنان. أستاذ. طبيب. محامي. مهندس. هؤلاء هم الذين كاسريلي رقبتي. اكتب فيهم أرجوك. لكن الزوامل والفرواخة والسكارى والحشاشين ما منهمش خوف. هذوم حبايبنا. ياريت كل الشعب يبقوا هكذا. كان هذا انتريحوا من وجع الدماغ. وانحطوا رجل على رجل. وعلى فكرة قالوا لي أنك تزعج اليهود وتطلب أوراقهم ورخص دكاكينهم. اليهود حبايبنا يا اغنيوة. لا تؤذِ أحدا منهم. ولا نريد فيهم تقارير. هم أناس في حالهم. هم أهل ذمة يشتغلون في التجارة والصناعة ولا يهتمون بالسياسة اعتراضهم وتعطيل مصالحهم زقووووووم. لكن المطرب الذي غنى في العرس:

 وين قالوا السعداوي جي. دهشت وبخوني بالمي.

حيه على أمه. هذا خطير و لازم تراقبه وأريد عليه معلومات يومية. السعداوي زعيم وطني. الكازريما امتعة كبيرة. له شعبية في الداخل والخارج. البلاد كلها تحبه. وهو من اللي جابوا ورقة الاستقلال من الأمم المتحدة. الغناء عليه ممنوع يا اغنيوة. الغناء على الملك بس يا اغنيوة. وعلى ولي العهد. وعلى الحاشية المقربين.

أنت بصاص وطني يا اغنيوة. هذه خدمة وطن. وخدمة الوطن من الإيمان. خليك على الوطنيين بس. وتو انرقيك. وانخليك اتخوّج (غني) واتصير فوق الريح. فوق في العلالي. وعلى فكرة مراقبة النصارى ليس تخصصك يا اغنيوة. لا تتعرض لهم أبدا. إنشاء الله يقلبوها الفوق لوطا. تلقا حتى واحد منهم يبي يشيط النار في خزان البنزين خليه ايشيط وإن طلب منك مساعدة ساعده.

لم يستطع الاستمرار في هذا العمل الوطني. مكث فيه اسبوعين. كل يوم يذهب الى المقر ليوقع الحضور فيسأله الضابط آه يا اغنيوة شن شمشمت فيجيب اغنيوة لا شيء مهم. اليهود والنصارى كما أمرتني تركتهم وشأنهم. والوطنيون هل راقبتهم أو تنصت عليهم. نعم. احكِ بالتفصيل. وأنا جالس اتشمس على الكورنيش لفت نظري رجلان يوشوشان ويقهقهان فاقتربت منهما وطلبت منهما ولعة وتختختهما (تملقتهما) بسيجارتين وجلست ليس ببعيد عنهما وبدأت أصيخ السمع. كانا يحكيان عن أيهما أفضل مضاجعة الغلام الأبيض أم الغلام الأسود؟. بعد سجال كلامي طويل ومناقشة حادة تخللتها عدة أقسام بأغلظ الإيمان وأشهر المرابطية اتفقا على أن مضاجعة الصبي الأسود ألذ من الأبيض لأن الأسود ثقبه أكثر احمرارا وسواد الإليتين الذي يحيطه يمنحه جمالا أكثر. هناك ميزات أخرى فأسنانه أكثر بياضا. ودمه خفيف جدا. وفي الشتاء ساخن كيف اسفنز من ناره. وابتسم الضابط قائلا يا اغنيوة مرة أخرى انقولك نبوا أخبار خطيرة. هذه أشياء ليس منها خوف. طاقته حمراء او لازوردية لا تؤثر في استتباب الأمن. جيب كلام مش مفهوم يحتاج إلى تحليل. به شفرة. رسالة. تهريب سلاح. اختلاس افلوس. جماعة يجتمعوا في حوش ويتكلموا في السياسة. كتب مهربة. مقالات ممنوعة. شعر يهاجم الملك ويضربه من تحت الحزام. نبو مسكوت عنه يا اغنيوة. خلاص لا تتنصت على هذه الشرائح منذ اليوم. قبل أن يغادر اغنيوة المكتب قال للضابط واحد منهما قال جملة ربما تكون خطيرة لم افهمها جيدا. سريعا الضابط قال ما هي قول قول. قال لصاحبه اضحك للعبد ايوريك سواد طاقته. ضحك الضابط وقال لاغنيوة هذا مثل شعبي قول مأثور ما فيشي خطورة. وبعدين العبيد حبايبنا مامنهمش خوف. وقبل أن يغادر أوصاه مجددا راقب المدرسين المهندسين المحامين الاطباء الموظفين الصحفيين الممرضين الضباط الكتاب الشعراء الرسامين الفنانين وركز على التيوس الكتاب يا اغنيوة ما نوصيكش عليهم كان جبت عنهم شيئا مهما علي الطلاق انعلقلك على كتفك السمح دبّورة (دبورة معناها نجمة أي يجعله ضابطا).

كما أسلفنا لم يستطع الاستمرار في هذا العمل. لم يستطع أن يشِ في الكتاب. وجد أن الكتاب كرماء. دمهم خفيف. يفهمون في الحب والموسيقى والرسم والرياضة والنحت والمسرح. خففوا عنه مأساته كثيرا و دعوه لتناول القهوة والشاي على حسابهم. واعطوه جرائد ومجلات وكتاب به نيك كثير اسمه الف ليلة وليلة صار يقرأ فيه فينتصب ولا يراقب أحدا. أعطوه أيضا بطاقة دعوة لحضور امسية شعرية للشاعر محمد الشلطامي. وعندما أنشد الشلطامي قصيدته:

مشرق كالشمس وجه الكلمة.

فلماذا حاصروها.

لتغني بين أقدام الخليفة

وبأسماء الخليفة

ولماذا صادروها

حينما غنت لموت القبرة

وعري الشجرة

ولماذا قاوموني حينما أشرعت بابي للرياح

 تذكر اغنيوة بلقيس. وقال في نفسه علي الطلاق من بلقيس التي تزوجها خيالي ما ني باص في واحد. البصاصة مش صراكتنا (عادتنا). كس أم البوليس والمباحث. وسلم مسدسه وعصاه وأخذ إجازة وانتهت الإجازة ولم يلتحق فتم طرده بدون مستحقات واستبداله بقريب لزوجة الضابط المطروحية. وبدأ يعيش في بيته. يتحصل على طعام من بعض الأصدقاء والجيران. وأحيانا يطرح ماكاوة (بسطة ورق مقوى) أمام سور المستشفى الكبير يبيع عليها كتب ومجلات يتحصل عليها مجانا من أحبابه الكتاب الذين يعرفون قصة حبه وقصة تركه العمل فيأخذونه معهم إلى شاطئ جليانة ويبقونه لدى بابا سليم أياما كي يروق ويرتاح ويتنقه. وحاجته من النساء يتحصل عليها من ملهى الريفيرا القريب.

ومضت أيامه على وتيرة النسيان والغرق في الخمر إلى حد الإختناق. كل عشية يجلس قرب اصطاحات السيكم (مسدات حجرية ذات اربع رؤوس على شاطئ بنغازي) يشرب الخمر لينس وليبتهج. يبدأ الجلسة بعد العشاء. يشرب وحده ويستمع إلى أم كلثوم من راديو صغير. وتظلم الدنيا ويخلو الكورنيش من المارة ولا يسمع شيئا سوى هدير الأمواج فيزداد ابتهاجه ويسرع عبّه من قنينته الثمينة وعند منتصف الليل يعود إلى بيته مخترقا سوق الحوت وشارع المهدوي وسوق الحشيش حتى يصل إلى شارع بن عيسى. يدخل بيته الذي ما عاد يدفع إجاره لأن صاحبه أعجبته شهامته وطيبته وكرمه رغم فقره فقال له اسكن فيه فهو لك ما دمت حيّا. عند منتصف الليل يدخل البيت يستحم ويتناول عشاء من الموجود لديه ثم يقف قرب النافذة وينصت جيدا فيستمع إلى خرخشة في أوراق العنب يتطلع من خلالها فيرى الشارع مظلما ونافذة بلقيس موصدة لكن شعاع بسيط جدا بدأ يكبر تدريجيا وكلما كبر درجة انفتحت نافذة بلقيس درجة حتى تنفتح الضلفتين تماما ويرى قضبان النافذة تذوب كجولاطى سي مفتاح تربل يمتصانه أيام الزهاوي ونفساهما تغنيان لهما:

أيام الزهاوي والعزيز الغاوي شربنا قهاوي ما هوتهن نار.

أيام العقيدة والعزيز أريدا. كلينا عصيدة ربّها ما صار.

ويقول اغنيوة بلقيس محّة دحيتي. بلقيس أصالة عصيدتي. بلقيس ملائكتي ستغرقني في رُبِّ التمر ولن تمسها النار. بلقيس عفيفة. وتمس وجهه أوراق العنب التي منذ موت بلقيس لم تثمر عنقودا واحدا وتحولت إلى أوراق غريبة عن حشيش التراب لكنها عطرية ومغذية. أصادف أنه أكثر من ليلة ومن ظهرية لم يكن هناك طعام في البيت فلاك منها اغنيوة فشبع وانتشى ونام واكثر من ذلك أنه كلما أكل منها استحلم اكثر من مرة. هذه الأوراق أغنته عن الذهاب الى الكنتينة (الماخور) قرب سينما النصر رغم أنه لم يذهب إليه منذ أن عرف بلقيس. لكن مرة ذهب إليه وكان ثملا جدا. لأنه سمع أن امرأة بدوية من منطقتهم انخرطت في تقديم خدماتها فيه. عندما دخل عليها كان لم يدخل قبله أحد فالأولوية دائما للبوليس وللمفتش الصحي همنكة الشهير بدجيم والذي دائما يمتشق مسدس أطفال مائي في جيبه الخلفي و يأتي على دراجته الهوائية شهريا فيحلق لكل الشراميط فروجهن ويكشف عليهن ويمنحهن شهادة صلاحية للركوب. كل من يكشف عليها يطلق على فرجها طلقتين ماء زهر من مسدسه وهي بمثابة الختم والتصديق على الكشف.

همنكة علاقته جيدة بالمومسات دائما يمنحنه المال والخضروات والفواكه والسجائر والمكسرات وفي العيد إحداهن منحته تيسا بقرون طويلة ملتوية أحضره لها بدوي معجب متيّم بها ومكبّد عليها (التكبيد هوالتعلق بالمرأة حد العمى وكثير ما يفعله المخنثين أو من لديهم نزعة رومانسية) حتى أنه طلب يدها للزواج وتشاجر أكثر من مرة مع الواقفين طابورا أمام دكان دعارتها. ربط همنكة التيس في برتباقالي (كرسي خلفي للدراجة) الدراجة وصار يلوي البيدالي في شوارع الشويخات وسوق الحشيش والناس تراه وتبتسم. همنكة يدولب برجليه الدراجة بعناء والتيس المربوط يتبعه ويلبلب ويعرقله بالتوقف فجأة وغرز حوافره في التراب حتى أنه يصنع خطين متوازيين خلف دراجة همنكة. الكثير يعلقون على هذا المشهد بكلمة ريت تيس بقرونة على الطبيعة. وصل همنكة إلى دكان السكليستا مينتا في سوق الحشيش وقال أريد أن أبيعك هذا التيس أيها الصديق الوفي أو أستبدله بدراجة همبر نصف عمر أو سبورت أو بيانكي. فرفض السكليستا مينتا وقال له لا أشتري تيوس القحاب.

والسكليستا مينتا هو مصلّح دراجات قادم من طرابلس. همنكة دائما ينفخ عنده عجل دراجته ويرقع عنده أطاراتها ويجلس في دكانه في أوقات الفراغ. مينتا يصلح دراجة همنكة ولا يتقاضى منه مالا لكن يقول له وصي علينا شراميطك. الليلة خميس. فيدله همنكة على أفضل عاهرة وأنظف عاهرة وأصح عاهرة. يقول له قل لها من طرف همنكة فسوف تعطيك جو سمح وسعر مخفض وحتى كان تبيها تمصهولك اتمصا. وضح مينتا لهمنكة أنه لا يستطيع شراء التيس ليس لأنه من قحبة فحتى وإن كان من شيخ جامع فلن يشتريه. ماذا سيفعل بتيس في دكان بشكليطات ونصحه أن يأخذه إلى السلخانة القريبة من البحر. هناك سيشترونه منه في الحال. فأخذ همنكة التيس وأنطلق به. والسكليستا مينتا يبتسم وينقر على علبة معدنية برؤوس أصابعه مغنيا أغنيته الشهيرة:

داقا بيْ. داقا بيْ. حبيبي سافر خلانيْ.

داقا بيْ. داقا بيْ. الغالي عدا ما جانيْ.

داقا بيْ. داقا بيْ. عام يعدّي وعام ايجي.

داقا بيْ. داقا بيْ. بلاها ميْت حيه عليْ.

والسكليستا مينتا اشكابلي (عازب يسكن لوحده) يسكن في دكان مؤجر بسوق الحشيش. يصلح فيه الدراجات وعربات الأطفال. وكل سكان الحي يحبونه لروحه المرحة ولخدماته التي يؤديها بسعر رمزي. يقضي يومه في تصليح الدراجات وعند المساء يذهب إلى اليهودية دودا يشتري منها خمر البوخا ويعود إلى دكانه يشعل فنار الإنارة ويولع بابور الكيروسين ليعد العشاء. كثير ما شاركه سهراته شباب من سوق الحشيش وكتاب معروفين لأنه كريم. بعد منتصف الليل كثيرا ما ينقص الخمر فيصيح يا حواتو يا حواتو وهو زوج بائعة الخمر اليهودية دودا يحضر اليهودي حواتو سريعا فيقول له هات فياشكة نبيذ للشباب واني وحدة بوخا ثانية. يشرب دون توقف. مادام الخمر أمامه وهو يشرب. يشرب ولا يغني إلا أغنية واحدة. يرددها بإستمرار:

داقا بي. داقا بي. حبيبي سافر خلاني.

يغنيها بحماسة وتأثر وصدق والحضور يشاركونه في الغناء كمجموعة صوتية. لا أحد عرف قصة هذه الأغنية فمينتا لا يحب كشف سره العاطفي لأحد. لكن في إحد سكراته الثملة جدا صرخ. هردني البيْ. بعبصني البيْ. خذا بلقيسي البيْ. فخمّن الجميع أن مينتا كان يحب فتاة اسمها بلقيس لكن رجل غني أو صاحب منصب حطم حلمه واختطف بماله بلقيسه تزوجها وسافر بها بعيدا عن مينتا. كان مينتا دائما يمتص حلوة النعناع ويمضغ مستكة النعناع وإذا أعد الشاي فلابد أن يكون فيه النعناع. له مع النعناع علاقة روحية. يقول لأصحابه أحب النعناع. يريح معدتي ويصفي ذهني ويخفف عني الكحاحة ويسأله خبيث من مجالسيه وإيش أخرى يا مينتا العزيز ويمد له زجاجة البوخا وبعض الفول الساخن من ناره فيعب مينتا حتى تدمع عيناه ويلتقط حبّة فول يمتصها ويمضغها ثم يبتسم للذي سأل. الحقيقة يا صاحبي مع فوائد النعناع لصحتي في حاجة ثانية ما قلتلكمش عليها ولأنكم كيف اوخييني فسأقول لكم حويجة ثانية خلتني انحب النعناع. ويصرخ الجميع وايش هيا يا مينتا العظيم قول قول. همس مينتا لهم كان أول لقاء مع حبيبتي اللي خذاها مني البيْ بفلوسه في جدولة نعناع تمرغنا عليه نين قلنا بس.

ويصرخ الجميع رائع يا مينتا. عظيم يا مينتا. يعني نكتها قبل لا يأخذها البيْ. يصرخ فيهم مينتا اسكتوا عيب تقدروا اتقولوا انى نكتها لكن مش هلبة (ليس كثيرا) ويسأله أحدهم تمرغتوا في الليل أو النهار. فأجاب مينتا. الحمير تتمرغ في النهار. كالا البنادمية ففي الليل. تمرغنا في الليل يا تيوس. من نصف الليل حتى الفجر. فيصرخ الجميع رائع يا مينتا ويغنون معا ومينتا ينقر بأصابعه على علبته المعدنية: نين الفجر ايعلم ضيّا. ونحن في موّال الغيّة  لكن مينتا يكسر لحنهم فهو المتحكم في الإيقاع عبر نقره للعلبة وهو صاحب الخمر والدكان والسجائر والعشاء وقصة السكرة فيغني من جديد:

داقا بيْ. داقا بيْ. حبيبي سافر خلانيْ.

داقا بيْ. داقا بيْ. الغالي عدا ما جانيْ.

ويقفل أحد الأصدقاء باب الدكان ويزق تحت أسفله شوال خيشة فالمطر بدأ يهطل بغزارة وعتبة الدكان واطئة بعض الشيء. يترك همنكة السكليستا مينتا في دكانه ويغادر بتيسه يبيدل بصعوبة والتيس أحيانا ينقاد خلفه وأحيانا يحرن ليلتقط ورقة أو يتعلق بغصن مورق في الشارع. وعند منعطف شارع مدرسة توريللي القريب من السلخانة مر كاروا يحمل على ظهره نعجتين وثني وعنزة مالطية فبلبل التيس وانطلقت منه رائحة نفاذة وانطلق بكل قوته عكس اتجاه دراجة همنكة يريد الالتحاق بالعنزة التي فجرت شبقه. كركر همنكة وراء فتزلطت ركبتاه وحاول أن يمسكه من قرونه ويزيد من قوة ربطه ليسيطر عليه إلا أن التيس نطح همنكة وانفلت قافزا إلى فوق الكارو يتشمم العنزة ويلحس مؤخرتها. نقل همنكة إلى المستشفى الكبير القريب لعلاج رضوضه بينما التيس بقى فوق الكارو واعتبر صاحب الكارو صعود التيس إلى عربته اعتداء صارخ على حرمة عربته ومواشيه فصادره واحتفظ به غنيمة.

وصل اغنيوة إلى الماخور وأفسح له الرواد الطريق. سأل عن القحبة الجديدة فأشاروا إلى دكانها طرق الباب فقالت كان معاك قروش خش وان كنت امفلس فدرق وجهك والا انعطبها على خشمك منها نقة. لم يجبها فقد عرفها. كانت حجالة (راقصة بدوية) من نجعه وتمت إليه بصلة قربة بعيدة. دخل عليها حانقا محمر الأوداج متناثر اللعاب ويده على مقبض هراوته. ما إن رأته بمسدسه و هراوته و بكسوته الرسمية حتى عرفته وصرخت ياناعلايييييي انذبحتي على غير قبلة يا سالمين، وقفزت من النافذة كعناق فارة من الماخور. ركض خلفها فلم يظفر فدخلت زحام سوق الجريد واختفت. سأل عنها بعد أيام فأخبروه أنها استقلت سيارة فردينا إلى درنة أو طبرق أو للإعتكاف والطهارة في واحة الجغبوب.

*    *    *

هذه الأوراق التى يلوكها الآن ساعدته كثيرا. واشفته من عدة امراض تعرض لها. وأذابت له قضبان نافذة بلقيس. وطارت بلقيس إليه. ووقفت عند نافذته من جهة الشارع. هو في الداخل. هي في الخارج. والاوراق بينهما متشابكة بين الداخل والخارج. والجولاطي الورقي يمتصانه معا. والجدار الذي بينهما من أسفل يصير اسمنتا لحميا خاثرا. ويطوقها وتطوقه ويغني لها وتغني له. ويحكي لها وتحكي له. يتكلمان حتى الفجر دون تعب. دون اسئلة. وعند الفجر يغادر خيطها الأسود تدريجيا وتتواصد النافذة تدريجيا وأوراق النافذة تفطره بحليب الندى وتدفع راسه الى اسفل حتى ينطرح ويسمع الديك يؤذن والمساجد تؤذن الله أكبر وبائع السفنز يصيح اسفنز من ناره ولسان اغنيوة يستغفر. ولسان بلقيس يدعو في السماوات. وأوراق الجنة التي تحيط النافذة تسأل عن الربّان الذي أحضرها إلى هذه البقعة البنغازية الطاهرة وغرسها نحلة نباتية هنا. تسأل عن ثمنها. هل ثمنها روح بلقيسية. أم مال. أم كلمة. الأوراق سعيدة الآن. كانت أوراق عنب يعصر. فصارت أوراق ليبية خالصة كهذه المبدوعة السلفيومية تضعها على الجرح تبرأ.

يقولون أن عفريتة بلقيس تظهر لاغنيوة كل ليلة فيناجيها وتناجيه حتى الفجر. لكن مع دخول الحضارة المادية إلى المنطقة من سيارات وأعمدة نور وكهرباء ضغط عالي وهواتف وقطارات وطائرات و صحّة وجه اكترونية. اختفت هذه العفريتة الجميلة التي اسمها بلقيس. ولم تمض دقائق حتى اختفت غرسة العنب التي تحولت إلى غرسة مقدسة مجهولة مع موت بلقيس. لم يجد اغنيوة اسما لهذه الغرسة ولم يستطع أن يسأل بلقيس لأن حديثهم لا اسئلة ولا أجوبة فيه. نسيج كلامي مبهج نظيف نقي وحسب. نسيج صوتي ثمين يرتقي إلى الغناء ويصعد إلى البكاء الشعري ويرمي المطر بفقاعات الحنين ويسافر مع أنين اللذة إلى جنان الرؤى. ويرى الحياة

ما لهم وما لنا

ما ذهب وما بقى

ما انقرض إلى غير جذر

وما رفع كمسيح سلفيومي

إلى فضاءات

لا تحدد

ولا تطلق عليها الأسماء

ما أجمل أن نر شيئا ولا نعرف له اسما

ولا نخترع له اسما

ولماذا الإعتداء

قد نقول إنها المعرفة

وأقول إنه استعمار أناني. الآن يرى أشياء ولا يعرف لها اسما. حدائق تتدلى من هدير شلال درنة. يتفيأ بظلالها من وجع بلقيس. ومن وجع بنت العم التي هربت. ومن وجع ضباط المتحركة والمباحث. ومن وجع الحياة. سيتنقه هناك. سيروي الآن أنه عاد إليها. عاد إلي ليبياء قلبه بعد وهلة عذاب. عاد إلى بلقيس المدن بعد سراب عذبه بتموجاته. عاد ليلتقي الأصدقاء والشوارع ونسيم الأحبة الممتزج برائحة الورد والفل والياسمين. كان وصوله يصادف يوم القنديل. مساء اليوم السابق لعيد المولد النبوي الشريف. ازدحام كبير أمام وداخل مسجد الصحابة. هناك احتفالات صوفية بالمناسبة. سيارات الشرطة أمام الجامع بجانب مقهى النجمة تنظم حركة السير وتحفظ الأمن. سأل نادلا في مقهى النجمة أين الأدباء والفنانين؟ هل ما زالوا يرتادون مقهاكم هذه أم غيّروا مكانهم. أجاب النادل: الشاعر اغنيوة العجيلي هو الوفي الوحيد للنجمة كان هنا منذ قليل. احتسى قهوته في رشفة واحدة وغادر. الباقون لم نعد نراهم.

درنة هذا المساء زحام. انطلق عبر امتداد شارع الصحابة شرقا. اجتـاز جسر الوادي الجاف المبرقش بالأنصاب الحجرية المقرّبة من الجبل إلى البحر. جموع من الأطفال لاقته بقناديلها الالكترونية الوامضة بعدة ألوان أكثرها الأصفرالليموني والأخضر البازيلي لوني نادي دارنس والأفريقي ومنها من تصاحبها موسيقى أوروبية. بعض الفتيان العابثين يوجهون بؤر مصابيحهم الحمراء لأقفية الفتيات خاصة اللواتي يلبسن بنطلونات الجنز اللاصقة والضيقة. لم يقابله أي مخمور أو مسطول أو زارط (حبوب هلوسة) ففي هذه الأيام كل المعاكيس يحترمون المناسبة. الأطفال يتصايحون زمرا زمرا.

هذا قنديل وقنديل. يشعل في ظلمات الليل.

هذا قنديل النبي. فاطمة جابت علي.

هذا قنديلك يا حواء. يشعل من أمبارح لا توّى (إلى الآن)

احتفالات هذا العام تميّـزت بعدم وجود خط ولوّح (العاب نارية). النساء تمشي الهويني بإطمئنان. لا خط ولوّح يرمى بين أرجلهن. الطقس أيضا جميل. بارد في غير صقيع. ودافئ في غير رطوبة. طقس دمه خفيف كالسكليستا مينتا. ناوله النادل كوب ماء. قال لي بالهناء والشفاء. الذي شربته ماء جلب من بئر الصحابة. صاحب المقهى أمرنا بتوزيعه على كل الزبائن قبل تقديم أي طلب لتحل البركة في الشاربين وفي المقهى وفي كل المدينة. شرب ومسح شفتيه بكمه وودعه مسرورا.

وها أنذا أسير في زحام مساء العيد خبط عشواء. حقيبتي على كتفي. أتأمل الوجوه. وتتأملني الوجوه. والتأمل يتأمل التأمل ويعمق الأحاسيس والرؤى. عرجت يمينا حيث مقهى العمامي وفندق الجبل الأخضر ودكان شحات شليمبو للسجائر ولوازمها واكسسوارات الهاتف النقال. جلت في ميدان المسجد العتيق المصان حديثا. هذا المسجد زاره ذات يوم السفاح موسوليني فاحتفى به شيخ الجامع والمؤذن والمفتي والأعيان الموالين للحكومة الإيطالية ومعظم المصلين وتبرع موسوليني للمسجد بثريا تنير جباه المتعبدين وعدة ألاف من الليرات لزوم التمر والشمع والبخور وخلافه. اكتظاظ بشري في المقاهي المحيطة به. تركت اكتظاظ المقاهى إلى اكتظاظ الأطفال المقندلين في زنقة سيدي الوشيش. الأطفال دخلوا إلى شارع الكنيسية وعرجوا يسارا إلى زنقة اليهود التي افضت بهم إلى سوق الظلام وغابوا عن ناظري لكن أصواتهم الطازجة مازالت تتردد في جنبات أسماعي. وقـفت أمام الكنيسية التي هي مقر بيت درنة الثقافي. أعمال الصيانة تـُـجْرَى على قدم وساق. وعدة مسؤولين صلع وسمان ومشدقين داخلين وخارجين. وأينك يا رخام. وأينك يا جبس. وأينك يا فسيفساء وقيشاني وطلاء. لا خير غائب البتة. الصيانة على حساب أمانة الثقافة. وهذا شئ جميل مبهج نتمنّى دوامه واشتماله على كل مرافق الثقافة في كل المدن والأرياف والنجوع. فأي قرش يصرف على الثقافة هو استثمار يؤتي ثماره الدائمة بعد حين والى الأبد. واصلت طريقي عبر زنقة اليهود. قطعتها في خطوات بطيئة وأمام دكان شنيني اليهودي حرفي الزجاج الذي كان يصنع الفنارات والقوارير والقناديل توقفت قليلا ومع صراخ الأطفال هذا قنديل وقنديل يشعل في ظلمات الليل. وصلت أسماع ذاكرتي مشاكسة أطفال زمان لهذا اليهودي المرح وهم يعابثونه بصراخهم:

" شنيني طايح في المربط. عليه الترْ افلط فلط."

ومن أضواء القناديل والذكرى عبرت الممر ذا الباب المتقوس والسقف البرميلي و وجدتني في سوق الظلام. لم أجد الأطفال. أسمع أصواتهم الصاخبة قادمة عبر باب السوق من جهة شارع وسّع بالك فقط.

في سوق الظلام أناس تشتري الملابس. وخطاب وعرسان تشتري الأقراط والقلائد والعقود والكرادين والنبايل والأيدي الجريحة والمضمّات والحدايد من دكاكين الذهب لتقدّمها صداقا أو هدايا بالمناسبة. دخلت إلي زقاق متفرّع من سوق الذهب انتهى بي إلى ساحة البياصة الحمراء. والتي ظهرت لي بهيجة متألقة بأقواسها الأندلسية الواسعة وأعمدتها الإسطوانية القصيرة ونافورتها ذات رأسي الحصانين النحاسيين. أرضيتها بُلطت بالرخام وجدرانها التي أمام الدكاكين زُينت بلوحات نحاسية منقوشة بحرفية عالية. فوق اللوحات ربضت مصابيح كثيفة الضوء تبرز جمال اللوحات أكثر وأكثر. المقاهي التي في باحت البياصة الحمراء مزدحمة برواد يلعبون السكمبيل والشكبّة والرومينو. والظاهر أنَّ كل المباريات حامية الوطيس أو أنَّ بها رهان فكل طاولة لعب يحيط بها مشجعون يصيحون مع كل لعبة وكأنهم يشاهدون مباراة في كرة قدم بين قطبي المدينة نادي دارنس ونادي الأفريقي. طلبت قهوة مكياطة والسكر أضعه بنفسي وجلست في الباحة على كرسي معدني لامع. أحضر النادل المكياطة مع كوب ماء. رشفت رشفتين. وصرت أتأمل السماء الواسعة المرصعة بالنجوم وروائح بخور عيد المولد النبوي الزاحفة والسابحة نحوي من البيوت القريبة في زقاق دربي وشارع لومباردو. شاب منفـوس دخل البياصة وتوجه نحوي. تناول كوب الماء. هزهزه قليلا وشربه جرعة واحدة ثم مضى. أكملت قهوتي ووقـفـت أتجوّل دون تخطيط. دخلت إلى زقاق آخر أعادني من جديد إلى سوق الظلام. خرجت منه مباشرة إلى شارع وسّع بالك. مزدحم أيضا بالبشر والمعروضات والإعلانات الملصوقة على أحجار سور درنة القديم المدفون تحته الشيخ عبدالمولى لبحْ أحد شيوخ قبيلة العبيدات الشهيرة قاوم المستعمر التركي رافضا دفع الضرائب فدبر له الوالي مؤامرة وشنقه.

 إعلانات عن حلويات. وعن موبايلات. وعن أشرطة أغاني. وإعلان رياضي عن تنظيم ندوة رياضية يديرها الصحفيان الرياضيان فيصل فخري و محمد بالراس علي تناقش هموم كرة القدم ومشاكلها في درنة وفي ليبيا بوجه عام وتتواصل لمدة يومين. وجدتني أمام مكتبة الشاعر اللافي دخلتها فلم أجده ووجدت شريكه يشرب القهوة وينقر قلقا بأصابعه على طرف الطاولة. ألقيت نظرة على الكتب. لا جديد. كتب قديمة ومجلات قديمة. الجديد في المكتبة بضع قناديل وشموع مكومة على الغطاء الزجاجي لأحد خزائن المعروضات. واصلت طريقي لألتقي بالشاعر عبدالحميد بطاو جالسا أمام محل ابن خالته سرقيوة لتصليح المفاتيح ونسخها وفتح الخزائن وتركيب أجهزة الإنذار. وكالعادة بادرني كيف حالك ومتى جئت إلى درنة وهيا تفضّل معانا يا راجل الجود من الموجود ما اديرش غيبة (كلفة) وقلت له معي صديق تركته في جمعية الهيلع للأبحاث الأثرية فقال لي أحضره معك ضيف الأجواد إيضيّف. شكرته على كرمه الأكيد و سألته عن أصدقائي الأشرار فقال لي تجدهم في مقهى النجمة قلت له لم أجدهم فقال لي تجدهم تجدهم أجلس في المقهى وسيتساقطون عليك مثل الفراشات. عدت أدراجي صوب مقهى النجمة عندما وصلت إلى الساحة الكبيرة أمام عمارة الأوقاف التقيت فنان الكراكاتير فتحي الشويهدي بنظارته السميكة سلمنا علي بعض بالأحضان وقال هيا إلى الأصدقاء لقد تركنا مقهى النجمة والآن نتسامر في براكة (غرفة صفيح) المسرح الوطني قرب البحر بجانب منارة سيدي بوعزّة العريقة.

ذهبنا إلى هناك عبر شارع حشيشة المملوء بمحلات الالكترونات ومطاعم الدجاج المصهود وصالات الأثاث الجديد التي تبيع بالتقسيط و مقاهي الانترنيت والتي قبل أن تـنقر أي زر تسجل اسمك ورقم بطاقتك الشخصية في سجل الأمن مبتسما وتقرأ ورقة بها ممنوع تصفّح المواقع الإباحية والمواقع التي تمس بأمن الدولة من قريب أو بعيد أو من جنب.  شارع حشيشة شارع واسع مزدهر مكتظ بالمارة يبدأ بمبنى البريد وينتهي بعدة مباني قديمة من المعمار الإيطالي. انتهى شارع حشيشة وعرجنا يسارا عبر شارع الأنصاري وصلنا مبنى المسرح الوطني الذي ينجز الآن. البراكة هي منامة للعمال بها موقد يضعون عليه براد الشاي. الفنانون والشعراء والكتاب والمهتمون بالأدب والفن يجلسون في هذه البراكة ينظرون إلى مبنى المسرح ويتابعون إنجازه طوبة بطوبة. قادني الفنان المسرحي منصور سرقيوة في جولة داخل مبنى المسرح. فوقنا الدعائم الخشبية وبجانبنا أسياخ الحديد المسلح وأكياس الإسمنت وشرح لي عن تاريخ المسرح الوطنى في درنة وتأسسه وعن أركان وأقسام هذا المبنى الذي ينجز الآن بقيمة 800 الف دينار فقط وهو من وجهة نظري ثمن رخيص وتحت المعقول. فصيانة إحدى مسارح العاصمة اطرابلس كما بلغني من أحد المسرحيين. صيانة وليس بناء كلفت أكثر من مليون دينار. المسرح كبير به خشبة عرضها عشرة أمتار وارتدادها إلى الخلف عشرين متر. وراءها مبنى ورشة الديكور وخلف الخشبة توجد غرف الممثلين والممثلات والحمامات وغرف المكياج. المسرح شامل لكل الأقسام من مبنى إدارة ومقهى ومكتبة وغرفة إضاءة وصوت وأبواب طوارئ وأبواب لدخول الممثلين والجمهور وهو مبنى مهيب حتى قبل أنْ يكتمل ما إنْ تدخله حتى تشعر بالقداسة وأنك في محراب فن يؤدي رسالة إنسانية تدعو للمحبة والسلام وتناقشت قليلا مع الفنان منصور سرقيوة حول التجهيزات الفنية من آلات صوت و إضاءة ومكملات أخرى تساهم في إنجاح العمل المسرحي خاصة في ظل التطورات الإلكترونية الأخيرة والتي شاهدها معظم الفنانين في مهرجانات القاهرة ودمشق وتونس والعالم الأوروبي والأسيوي عبر القنوات الفضائية.

غادرنا البراكة إلى الكورنيش وعند مقهى ومطعم المزيني على الشاطئ دعانا الصديق حافظ ساسي إلى شطائر كبدة و قازوزة صداقة العريقة. والصديق حافظ ساسي هو ابن الاستاذ الفاضل المرحوم الهواري ساسي أحد أعيان مدينة درنة وأحد أبناء نادي دارنس البررة وهو معروف ومحبوب من كل الاوساط الرياضية الليبية والعربية لما يتميز به من خلق ونزاهة وكرم ووفاء وحب للرياضة وأدبياتها الراقية والحضارية. وهو من النماذج القليلة التي نالت شهرة واسعة وتقلدت عدة مناصب تنفيذية مهمة دون أن تستفيد شخصيا أو توظف مناصبها لمصالحها الخاصة فعاش في شقة ورحل في شقة. لكنه لم يرحل إلى الموت والنسيان والظلام إنما رحل ليسكن القلوب دائما. بعدها احتسينا الشاي بالبردقوش وغادرنا نتمشى مستمتعين بنسيم بحر درنة الجميل. فرامل سيارة أصدرت زعيقا لوقوفها الفجائي. إركبا. إركبا.ركبنا وصافحنا السائق. هو صديق لفتحي. سيارته جميلة يفوح منها عطر درناوي أصيل أنطلق بنا ووضع لنا شريط في المسجلة لعازف مزمار شهير من حي المغار كانت موسيقا الزمّارة فاتنة شجية خاصة عندما يرفع الصوت إلى أعلى مدى ويزيد من سرعة السيارة ملوحا لرجال شرطة المرور الذين يبتسمون له كلهم. هذا الصديق هو ناصر بوعلجية. إنسان كريم شهلولي. دخل خلفي إلى محل البقالة وعبأ لي كيسا سمينا من المواد الغذائية الفاخرة ثم أعطاني عشرة دنانير. أوصلنا حيث أردنا وشكرناه كثيرا من القلب و الروح. عندما يعطيني مسؤول ثقافي أو غيره عشرة دنانير أقول خير من وجهه وعندما أعطاني بوعلجية عشرة دنانير قلت وجهه خير من مليون دينار.

*    *    *

رائعون كلهم أصدقاء الفنان فتحي الشويهدي أما صديقاته فأسكتْ ساكتْ.

ذهبت إلى الشاعر اغنيوة العوكلي في البيت. وجدته مشتت الفكر وشعر رأسه ولحيته كل شعرة في جهة. ظننت أنه في مخاض القصائد. أو قرأ نصاً ركيكا فكدّره أو واعد صديقة وخذلته. واغنيوة العوكلي هو شاعر ليبي ابيقوري النزعة في داخله أمزوجة من رامبو وبودلير والقورينائي. كلما جالسته أو قرأت أشعاره استفدت منه. هو مدرب جيد في مجال الكتابة. يناقشك في العمل فتنفتح أمامك خيارات جديدة. أسئلته لؤلؤية متـفـتـقة. خاصة أثناء الشراب حيث يفاجئك بسؤال ماداً سبابته نحو عينيك لينتـزع منك الإجابة السكرانة. متمتع بثقافة واسعة تلم بالأجناس الأدبية كافة. كلاسيكية. حداثوية وما بعد بعد حداثوية. أنجبته أمه على حصير سعف في قرية لالي. وهي قرية من أعمال مدينة القيقب التاريخية ذات الوجود القديم في مدونات التاريخ والآثار والمشهورة بأشجار القيقب المعروفة عالميا والتي لها علاقة بالجنس و الفحولة والنضج وبروز الأثداء والمؤخرات والإنتصاب الفجائي والقوة حتى أنّ دولة كبيرة مثل كندا جعلت شجرة القيقب أيقونة وسط علمها. هذه القرية لالي قريبة من مدينة درنة الساحلية. تتخللها وديان متشعبة شرهة للإندلاق مع أول غيمة حتى وإن كانت صيفية كاذبة. وديان تضاجع شقوق التراب دون توقف. ينـشطها الروث الدسم والحرارة المعطرة بالدفء. سفوحها خضراء طوال العام. زاخرة بالغابات والمراعي. أشجار مجنونة ترمي بكل شيء عنها وتتعرّى. ومن تحت تبحر عروقها في أديم سفلي.تهزهز ما يغطيه من عتم. فتــتوالد الشقوق و الأثلام و الجروف ومخابئ العشاق الطبيعية.

من الغابة تعلم اغنيوة العوكلي كيف يحتطب متجنبا الشوك والحشرات السامة. ومن الغابة عرف كيف تقطف الأزهار الجميلة بإصبعين فقط (التكثيف وجودة الإنتقاء) ومن الغابة تعلم كيف يوقد نارا حطبها جففته شمس الربيع فيعطّر ولا يدخّن. ومن الغابة عرف حياة الغابة وقانونها الفطري الواقعي الذي لو أخذ به العالم لعاش في سلام. فالحياة في الغابة هي حياة براري واختلاط عفوي. ينمو الإنسان في الغابة ذكرا أو أنثى دون عقد من أي نوع. ينمو كزهرة أو كثمرة خرشوف. في الغابة يوجد الإرتواء. الوادي يسقي البشر. الحشرات والبهائم تتسافد أمام السماء. في ضوء النهار أو في ظلام الليل. الأصوات المنبعثة كلها شجية. عصافير. خرير. غناء طيور. مواء. عواء. نعيب. نهيق. حفيف. كل هذه الأصوات تصنع سيمفونية الحياة الجميلة. في الغابة يكون الحصن. الظل من الأشجار الوارفة. الفراش من العشب الأخضر. الطعام من الكمأ وبيض الحجل وحليب الماعز اللذيذ. المزمار يعزف ألحانا لا تتكرر أبدا. وغناوي العَلمْ العفوية يتبادلها العشاق علانية وتكتب لذائذ الحياة على سحاب يتغنج ولا يتراصن بتاتا. أبدا. من مآثره الخالدة إبداعه قصيدة بعنوان سرير على حافة مأتم. صارت عنوانا لأحد دواوينه فيما بعد. تحكي عن شاعر قيقبي يضاجع عانس في كوخ صفيح وفي الخارج كانت تمر جنازة تصاحبها الناس بالعويل والنواح والندب واللطم وشق الجيوب. الشاعر لم يؤنبه ضميره قط وهو يضاجع أثناء مرور الموت. أمّا العانس فقالت عن الميت انعنا ما يرد ولا يسد (إنشاء الله ما يرجع) لأن الميت ابن عمها و كان قد حجّرها (خطبها) لخمسة أعوام ونال منها وطره كثيرا ثم فسخ الخطبة فجأة وسافر إلى المدينة لتصدمه سيارة قلع (نصف نقل) وهو خارج من سوق السعي.

 شربت معه القهوة وقضمت من كعك مبرقش بالجلجلان ثم خرجت إلى جمعية الهيلع التاريخية الأثرية لألتقي صديقي و أبحث في اللقي والصور عن أي شيء يستفزني. وجدت مشرف الجمعية ينتظرني صحبة صديقي. قال أن وقت الإقفال قد حان منذ ساعات لكن دائما نراعي ضيوف درنة بسعة صدير وراحة بويل. أنا في الخدمة. شكرته وسألته عدة أسئلة. ثم تجولت في ردهات الجمعية وحجراتها اتأمل المعروضات. دونت عدة ملاحظات في دفتر رأسي ثم شكرت المشرف وصحبت صديقي إلى محطة سيارات الأجرة لأنه قرر العودة إلى بنغازي لظروف عمل طارئ و عدت حثيثا إلى اغنيوة العوكلي فلم أجده. ابنه سراج قال أخذه عمي معه في المرسيدس أم العيون وكان الوقت ليلا تجاوزت الساعة 11. سألت الشويهدي ما الأمر. وين طالع هالبلوة في هالليل. هل سيشرب نبيذ القيقب لوحده ويتركنا ناشفين. قال لا. لا. اغنيوة العوكلي ماايديرهش. أكيد يكولسون (يربطون) من أجل التصعيد (الانتخابات) فاغنيوة العوكلي قبيلته ذات وزن في مدينة درنة وضواحيها واقترحته أي اغنيوة لتسلم حقيبة أمانة الزراعة.

لكن اغنيوة العوكلي شاعر. لا يريد الخوض في العمل الرسمي الشعبي. صحيح أنه خريج زراعة أي مؤهل جدا وله رواية اسمها بنات الغابة رفض مجلس الثقافة بسبب الرقابة طباعتها فغيّرها لهم بمقالات متحجبة عن الجسد. لكن هو ينام حتى الظهر. ويسهر حتى الصبح. ويقرأ حتى العشية. فكيف سيصلح الأراضي البور وكيف سيوزع الأسمدة والبذور وكيف سيستلم من الحطابين حطب التنور. أضف إلى ذلك أنْ البذور والأسمدة التي سيوزعها ستكون ملوثة بقصيدة النثر فيرفضها فلاحو التفعيلة والعمودي رفضا قاطعا ويطالبون بإسقاطه وقد يسقط فيتألم لذلك كثيرا ويصير شعره كله ساقطا.. لكن نتمنى أنْ يقبل اغنيوة العوكلي المنصب ويصير أمينا ولو لإسبوع. سيعطي سيارات الزراعة للمسرح الوطني ولبيت درنة الثقافي ولصديقيه الحميمين الشاعرين اغنيوة بلو واغنيوة العجيلي وسيدعو ناقدا مشهورا لإلقاء محاضرة حول الشعر والشعير وفراش الاسفنج وفراش التازير ومحارم الشولاكي والحرير وسيعيّن الصحفي اغنيوة بوجلدين سائق كاشيك (جراف) درجة عاشرة مع تكليف بالحرث أمام وخلف مبنى جريدة الشلال في ضاحية أمبخ وسيعيّن كل الأدباء والفنانين العاطلين عن العمل والإبداع في أمانة الزراعة ويمنحهم قطع أرض اكتفاء ذاتي ويعطيهم جوالات علفة وسماد يبيعونها في السوق السوداء على حالهم. والفتيات الفرحات بنهودهن الصغيرة التي جاء ذكرهن في قصيدته مقعد لعاشقين يعطيهن رزمة حمالات صدر حرير على حساب أمانة الزراعة ويصرخ أحد الحضور وما دخل حمالات الصدر الحريرية في الزراعة فيجيبه اغنيوة بوسيف وهو قاص شاب متين البنية من أكل الحوت يوميا ويعتبر من عوّالة اغنيوة العوكلي وحراسه ومن أبناء عمومتة المقرّبين: كيف يا غبي. الحرير من دودة القز.

والحشرات لها علاقة بالزراعة وبالآفات الزراعية واغنيوة العوكلي ليس آفة زراعية ويقفان ليتضاربا لكن صديق الجميع الأستاذ اغنيوة عشّة يراهم كثيرين أي عشّـة (زحمة) فيدخل بينهم ويفك الاشتباك قائلا لكل متشاجر معلش امسحها في وجهي. الأغلبية تريد من اغنيوة العوكلي أن يقبل. بعض الشعراء الشباب يتخيلون أنَّ هناك شيئا غير عادي سيحدث لو تقلد أمانة الزراعة شاعر. شاعرة بنغازية أسرّت لي آه يا مودي لو يمسك سلومه المنصب. يا نا علاي. الفلفل الأخضر سيصير بطعم الفقوص وشاعرة طرابلسية أضافت آه يا حليلي و المشمش لا ينتهي موسمه في شهر مايو. سيغدق علينا حتى ديسمبر الكانون. قلت لهما يا نا عليْ من شرمولة الفقوص ومشمش الكانون. لكن اغنيوة العوكلي يرفض بشدة إرادة جماهير قبيلته. كل ليلة يأخذونه إلى عقّال (حكماء) القبيلة ليقنعونه. يقولون له أنت قدّها وقدودها (مؤهل). عندك شهادة جامعية لما تحصلت عليها درنالك كشك يرقصن فيه سبع حجالات مازالت تحكي عليه كل قبائل الجمل الاخضر وبرقة ومرمريكا. اقبل فقط يا سلومة وخليك حنك فوقاني لا تحك ولا تصك نقصد خليك في قطافك أي في شعرك وثقافتك. نحن اللى انمشِّي الأمور. لكن اغنيوة العوكلي لا يحب الإدعاء والزيف. لا يحب أنْ يكون فكاً غير ماضغ. يرفض بشدة رغم توسلات أصدقائه الذين لن ينـتـفعوا أبدا إن لم يستلم المنصب. يقول أنا شاعر فقط ويمد له العامل المصري كوب الشاي فيشرب منه ويصدح بقصيدته المهداة إلى زوجته التي دائما تسامحه في كل ما يرتكب من حماقات.

زوجته تتذكر أمها المرحومة التي رحلت منذ عام في إحدى مستشفيات صبراتة بسبب ورم عضّال. آه يا اغنيوة لو كنت أمينا آنذاك. لعالجت أمي في سويسرا أو بريطانيا. ربما تعافت. ربما مازالت حيّة تـقـندل مع بنيتنا فيروز ووليدنا سراج وكل أحفادها. يجيبها اغنيوة بنظرة صبر ومواساة. اغنيوة شاعر ولن يفعلها إلا عندما يسافر كل المرضى للعلاج بالخارج. الشعر يعني المساواة. اغنيوة العوكلي لا يريد أن يكون سيناتور. لا يريد أن يتحصل على منصب. لا يريد المال القادم عبر الطرق الملتوية. لا يريد شيئا بعيدا عن الشفافية. أحيانا يفكر بينه وبين نفسه لكن لماذا لا يُمنح حقيبة يفهم في أمورها مثل حقيبة الثقافة أو جريدة الشلال أو رابطة الكتاب أو موقع فيلادلفيا الانترنيتي. لكن هو تخصصه العلمي زراعة. والأدب يريد شهادة أدب. والمناصب الأدبية تريد أشخاصا بمواصفات معينة ومعروفة لا يمتلك منها اغنيوة العوكلي شيئا ولن يمتلكها أبدا. وتتواصل التداعيات و اغنيوة العوكلي لم يعد إلى البيت والجو بارد جداً. أفضل شيء أن أعود للشاعراغنيوة العجيلي. عدت إليه الواحدة صباحا وجدته لم ينم. يقرأ رواية يا نا عليْ لمحمد الأصفر ويقهقه. إنها ثلاث روايات في واحدة. اليهودي رواية. درنة رواية. طبرق رواية. وبإمكانه إضافة رابعة. وخامسة. إنه اكتظاظ. تناسخات. توالدات. انبثاقات. انبجاسات. إنه مرايا ناصعة خلفها مرايا عديدة تختلف دائما. وكيف يكتب في الرواية أننا تعشينا في مقهى النجمة بعدها تتحدث الرواية ن عشاء آخر في مربوعتي هذه. قلت له دعنا من الأدب. أنا جائع. وإياك ان تحضر لي مثل اغنيوة الفيتوري مكرونة مطوجنة بالجبن المجروش.

 أحضر لي طنجرة مكرونة قراجيط مملوءة حتى ربعها. هل أحضرْ لك صحنا (سألني). قلت له: لا. أحب الأكل من الطنجرة مباشرة وسأشكر زوجتك وكل قبيلتها إن كانت الطنجرة مشيّطة قليلا. أحضر الشاي. وقلت له أريد دخول الحمام. أفسح لي الطريق وقال انتظر قليلا فمصباح الحمام محروق (عاطل). دخل غرفة نوم الأطفال وكانت ابنته ميْ نائمة فسحب من حضنها قنديلها الصغير الذي مازال يومض. دخلت الحمام على ضوء القنديل. جلست إلى المرحاض وأخذت أفكر في هذه الحياة القحبة. أفكر في موج البحر الذي سمعته وأنا أتجول داخل أروقة المسرح الوطني. وأنا صامت داخل براكة العمال. وأنا أتأمل منارة سيدي بوعزّة العريقة واجترُّ لها منارة سيدي خريبيش ببنغازي. ومنارات برشلونة والاسكندرية وأزمير و كل مرافئ العالم ومنارات الصحراء التي لم توجد بعد. الومض أتى من إغماض العين وفتحها. من الشروق والغروب. من البدء والمنتهى. كل الومض الحادث في الوجود أتخيله أمامي الآن متوحدا وممتزجا بومضات قنديل ميْ داخل هذا الحمام جالب الراحة للجسد ومانح الخلوة جرعات وحدة مرغوبة جدا.

أخذت حماما دافئا. تركت ماء درنة يهطل على قبوعة رأسي ومنها يتسافل حتى أخمصي قدمي. ماء فقط. لا شامبو ولا صابون. كيس البصل البلاستيكي الذي أكدّ به لم تضعه زوجتي في حقيبتي. ابنتي لوثته بألوان الإكريلك فتركته زوجتي منقوعا داخل صهريج السيفون. نشفت بمنشفتي الخاصة (كمّا قميصي) التي تلازمني أينما نمت وتهالكت على فراش الأسفنج الصناعي المفشوش. وبدأ الشاعر اغنيوة العجيلي يحكي لي عن الأدب وقضاياه التي ربحها والتي خسرها والتي تعادل فيها بصعوبة وجلسنا إلى جهاز حاسوبه. حقنته له بعدة مواد من فلاشي. أعطيته موادا جميلة لأمين معلوف وكونديرا والمسيري وفيصل دراج وكليطلو وليوناردو دافنشي وامبرتو ايكو وفان جوخ وبيكاسو وشكري ومليكة مستظرف و دالي وغوغان وابزاد وماتيس ورينوار والموسيقي موزار. وعرض عليَّ ملف لديوانه الجديد مهب القبلي. وآه من القبلي ورياحه. ورياح القبلي اسم محلي للرياح القادمة من الصحراء محملة بالأتربة وذرات الرمال وشعرت رغم رياح القبلي أننا خرجنا من جو التصعيد والكولسة والقناديل والبخور ورائحة الشموع المنطفئة والشوارع المزدحمة إلى عوالم أدبية مزدانة بالشعر والحب وارتقى الطرب وهو يضغط بإصبعه على زر الفارة لينفتح ملف وورد مهب القبلي فخطرت على بالي أغنية مرسكاوية دائما أرددها عندما أكون بعيدا عن بلقيس:

اصحاب الغلاء ويش حالهم يا قبلي. جيب الخبر الصاح ما تكذبلي

وسرعان ما غناها الشاعر العجيلي بلحن سبق أنْ غنى به فنان درنة وليبيا الكبير سالم بن زابيه أغنيته الشهيرة:

يا غاليا في غيتك لاموني. ايريدو فراقك يا ربيع عيوني

أذكر أن هذا الفنان غنى هذه الأغنية في إحدى حفلات بيروت ونالت إعجابنا كثيرا وإعجاب الجمهور اللبناني الذواق. سألته عن الفنان الكبير سالم بن زابيه فقال صحته الآن جيدة. منذ شهور تلقى العلاج في القاهرة وهو صديق والكل هنا في درنة يحبه ويقدر فنه الأصيل. واتفقنا تلك اللحظة أن الحب هو أصدق دواء وأنجح مصل. وأفعل ترياق.

تمنيت أن يكون الفنان الكبير شحات شليمبوا بجانبنا ليصاحب أغنيتنا بالعزف على العود. فهو يفهم في الميوزك جيدا ويعرف كيف يصاحب اكثر من لسان في زمن واحد. وهذه الأغنية أيقظت جروحا قديمة ساكنة منذ زمن. ولكي ننومها ماذا نفعل يا عجيلي. الأفضل أن ننهمك في قراءة ديوانك الجميل. كبّرت الخط قليلا وغيّرت الخط من الاريل الى الأندلسي لأنني في درنة وأحب الأندلسيات كثيرا فلا أقرأ الشعر إلا بخطهن الرشيق. تركني العجيلي اقرأ براحتي وأدوّن ملاحظاتي. والحقيقة أن الشاعر اغنيوة العجيلي من الشعراء العرب الكبار وهو لم يحظ بالتكريم اللازم والتقدير لعدة ظروف تتعلق بالدعاية والنشر والتواصل وكر الحبل (التملق) مع المحافل الثقافية في الداخل والخارج وأغلب قصائده رائعة ومعبرة ومشحونة بالشعر الحقيقي فبها كل شيء. التاريخ الحب العواطف الداخلية الجياشة السرد الموسيقي الطزاجة الجنون العشق الخمر الحشيش التصوف الحياة اليومية الخيال الخصب الصور الصادقة أو المتخيلة بإلهام. في قصائده نجد مدينته درنة حاضرة بهمومها وتاريخها ومعاناتها و سعادتها. تجد ضاحيته باطن بومنصور في أغلب قصائده. تجد درنة تمشي على محفات الكلم ينقلها شاعرنا على كاهله المنحني حيثما حل. يوصلها برؤيته بمشيمة من تراب مبللة بماء الشلال الذي رضعه صغيرا. تراه صباحا يذرع شوارع درنة العتيقة يجرجر رجليه ويسحب من سيجارته ويبتسم صامتا لكل من يلتـقيه.

تراه موجودا في الوجود وغائبا في العدم يتغنى بشعره ويغنينا عبره:

أعرف.

أن القمم

التي تطوق الباطن

من الجنوب

هي التي أعطتك

كل هذه الصلابة

وكل هذا العسل

والباطن هو الاسم القديم لحي بومنصور الحي الذي ولد فيه الشاعر ويعيش فيه حتى الآن. والقمم هنا لا يقصد بها الجبال الموجودة واقعيا لكن المعنى مجازي. أي انه نواة أصيلة تستند على قمم المعاني وشجيرات الكلام المانحة الصلابة والحلاوة. فالمعروف أن الماء في درنة يأتي من الجنوب عبر ساقية تمر على كل البيوت في باطن بومنصور فتسقي البشر والحيوان والزرع ومن فائضها الذاهب إلى البحر تحلي مرارة البحر التي يزفرها دائما. والجنوب هو الأسفل هو الجذر والأصل و الإتكاءة. في نفس القصيدة يستدرج القارئ بتلميحات رومانسية حديثة لتعتقد أنه من الشعراء السابحين في الوهم وفي لحظة اعتقادك ذلك يصدمك بنفحة شعرية تسحب بساط الظن من تحت قدميك ليرمي بك في وحل المعاناة والفقر فتأمل هذا المقطع المهدئ:

سأضع

السوط السوداني

في يدك

فانتبهي.

أيتها الصغيرة

للنجوم.

الطازجة والطرية

أخاف عليها

من كعب حذائك

قبِّلي كل سحابة

تَعِدُ بنسرين

يشاكس الصباح

ويُعلم

الأولاد والبنات

جرأة

الألوان. والحروف

 والطيش الجميل

ومن هذا الطيش الجميل والشعر الذي لا أعرف كيف أشرحه وغبي من يحاول شرح الشعر. فأجد السوط السوداني وهو أداة تعذيب تراثية معروفة بجانب النجوم الطازجة والطرية. ونجد كعب الحذاء الطفولي والمختلف عن كعب الحذاء العسكري أو البوليسي ونجد الألوان والحروف والخربشة كل هذه الكلمات خلقت صورة شعرية تبشر بالهدوء والمحبة والاتزان والمزيد من الاقتراب لكن كما أسلفت يسحب فجأة إلهام الشاعر هذه الأحاسيس ليورطنا في هم يومي يعاني منه الإنسان البسيط الكادح محدود الدخل اقرأ له الآن كيف ربط رغيف الخبز بوجه الإله. وكيف جلب لنا ما تختص به قصيدة النثر من إنتاج اليومي فحدد التاريخ 2004 وحدد المكان باستخدامه مناطق محلية بمدينة درنة مثل الكورفات (الانعطافات) السبعة والبربيط الذي لا يحضرني الآن معناه وحدد عدة معاضل نعاني منها جميعا. الإيدز. الوباء الكبدي. بكاء الرجال. جفاف الساقية. صمت الميناء بسبب الركود. استدعاء الهلاليين الذي يرمز به للدخلاء و الاستعمار مادي أو معنوي قديم أو حديث. ناعم وجذاب رمزا الزيف والخداع والقشور. إضافة لكلمة الرياح والتي أعتبرها أيقونته الأثيرة ففي أغلب قصائده تجد مفردة الريح طاغية وحاضرة أي أنه شاعر يكتب بحبر الريح التي يسرقها من مراوح الشعر غير المتاح لكل من هب ودب وكب الحبر القذر على بياض نظيف. نقرأ له الآن:

اقتربي.

اكثر

كي أعطيك

أوصاف الإله

أسمر ونحيل. ومراوغ

مثل

رغيف درنة ‏2004 م

ناعم وجذاب

مثل قمر "الكورفات السبعة"

موحش ومريب

مثل مسَالك "البربيط"

لا تطيلي.

الشرح والكلام

في حضرة الإله

كل الرياح

أخبرته

بكل شيء

بصمت

الميناء والساقية

بغباء

البحر والمطر

بسنابك

خيل الهلاليين

وهي

تكتسح الحدائق

وتثير

الغبار من جديد

بالإيدز. والوباء الكبدي

 ببكاء الرجال

ومن شعوره باليومي إلي شعوره بالأبدي. فبعد إحباطاته المتكررة وفقدان ثقته في العالم المحسوس الواعي نراه يلجأ إلى ما يعوّل عليه الشعراء دائما وهو الكلمة. لكن الكلمة في الواقع يراها الشاعر أنها غير مثمرة ولا تصل إلى النفس بسبب الصدأ الإنساني الذي راكمته ظروف الحياة. لا مفر من السكر والتحليق في عوالم تأتي سريعا وتذهب سريعا لكنها تترك أثرا مختارا في النفس فبإرادته يمنح صوته أو ثقته لكأسه فهي الوحيدة التي ستعثر له على حبيبته الناعمة وكلمة الناعمة هنا لا علاقة لها بحاسة اللمس لكن بحاسة الحلم لأنه خرج من الواقع عبر شلال الكحول ها هو يغني:

أحتاج الاَن

أنْ أثق بكأسي

كي أعثر.

على نونك الناعمة

 في خراب الصراخ

ويصل ذروة القصيدة وثمالتها عبر صرخة الويل:

ويلي عليّ !!!

كيف أكمل

فيها أغنيتي!؟

وكيف أنجو بنفسي!؟

وكل تمائمي

تلقفتها ثعابين جواربها.

وكلمة ويلي عليْ العربية القحة هي نفس صرخة يا نا عليْ عندما تعني الألم بالدارجة الليبية. والكأس الذي وثق بها قادته من جديد إلى الواقع واظهر له فشل كل تمائمه التي التهمتها الثعابين المنقوشة على جوربها اللحمي. هذه صورة شعرية رائعة. ثعابين منقوشة على جوارب جميلته تلتهم كل دهاء الحياة ومكرها. وهنا يكمن الشعر الجيد. فالصور الغرائبية التي يجلبها الشاعر عبر كلمات سهلة سائغة ملتصقة بحواس الإنسان كاللسان عندما صرخ بويلي عليْ. وبالقلب عندما ذكر كلمة أغنيتي ويقصد بها لذته أو أمله أو سعادته وبالرعب الذي أظهره عبر سؤاله وكيف أنجو بنفسي وكل تمائمه التهمها ذاك الجورب المنقوش بالثعابين وبصفتي قرأت قصة حكاية جورب لمحمد الأصفر فاعتقد أنني صرت أفهم جيدا في الجوارب والافرولات أيضا. كلمة تلقفتها استدعاها الشاعر من القرآن الكريم عبر قصة موسى وفرعون غير أنها في هذه الوضعية لا تمثل إي بعد ديني. فالغريزة والابقورية هي المسيطرة عبر التوجه مباشرة من قبل الشاعر إلي الثعابين المنقوشة على جورب يغطي ساقيها الشهيين الناعمين. و ورود كلمة تلقفها ربما أراد بها الحصول على حبيبته بأي طريقة ولو بالسحر الأسود أو الشفاف.

*    *    *

هنا الشاعر يرفض أن يكون ذكر عنكبوت أي يموت بعد الوصال أو الوصول ويفضل ألا ينهي القصيدة ويترك نهايتها سؤالا يضرب سؤالا. لكن العيب حسب وجهة نظري يكمن فيه هو وهو سبب هزيمته فهو الذي يرمي بتمائمه إلى أسفل حيث الجوارب و الثعابين. لو كنت مكانه لرميت التمائم إلى أعلى حيث النقاء والملائكة والوضوح الدافئ الذي لا يحتاج إلى أي جوارب أو أوشحة. الشاعر اغنيوة العجيلي شاعر يدعو إلى الحب و التسامح و قصيدته هذه بالنسبة لي أعتبرها أفضل من اليونسكو وأفضل من الأمم المتحدة وأفضل من كل الجمعيات الخيرية و من كل دعاة السلام في العالم إقرأوا هذا النص البسيط المعبر الواضح الطازج المذهل الشبيه بشروق شمس الشبيه بابتسامة طفل هذا النص به كل شيء أعتقد أنه موصول بوشيجة سالت من لعاب السماء:

الخلاء موصد

ولعاب الشمس

 مهدور.

فلماذا لا ألعب !؟

ولماذا لا أرسم قوساً !؟

يمتد من درنة

و حتى الضفة الأخرى

قوساً.

 يحمل كل الألوان

الأحمر. للنعاس

ولزهر الرمان

وللجلسات الحميمة

الأصفر.

 يلهب المدرجات

ويشعل السماء

الأزرق.

 للأعياد

والبنفسج.

 لبنات (الجبيلة)

 المغرورات

حين يمرقن خفافاً

بعطرٍ.

عصيٍ على الرياح

وببرق.

 لا يخذل المحاريث

سوف.

 أرسم قمراً

يرش رصيفاً خالياً

 من الأحذية

 الخشنة والقبعات

البنات فيه يقرأن.

الشعر الحديث

من دون محارم

والأطفال.

 يبيعون الياسمين

سوف.

 أرسم مطراً

يغسل شارعاً

يعج بالمساجد

 والكنائس والحانات

يتسع.

 لأطفال المدارس والشاحنات

 للمسرعين. والمبطئين

للسكارى. والمفلسين

للأثرياء. والأغبياء

شارعاً.

لاينام

ولايترك العشاق

من دون ماء

في جملة سوف أرسم مطرا يغسل شارعا يعج بالمساجد. إلى آخر القصيدة. هو يعتقد أن هناك تشويه وعدم فهم لرسالة الأديان الثلاثة فيرسم لهم مطر الفهم أو الغسل. هكذا الشاعر دائما يحلم بإيجاد أجوبة لكل الأسئلة العصية. والمطر أيقونة الطهارة. فهو لا يهبه لنا البشر. لكنه من عند الطبيعة التي خلقها الإله. اغنيوة العجيلي شعره ممتع جدا. الآن هو نائم في غرفته وأنا وحدي في المربوعة انقر على حاسوبه الخاص. قال لي سأنام. البيت بيتك. المطبخ إنْ أردت قهوة أو شاي فهما على الموقد والحمام هذا القنديل بجانبك. وماء الحياة افتح الدرج السفلي من المكتبة وكأس جن البلور انهوَا في البوفيه. الآن انقر على حاسوبه واقرأ في شعره وأقف لأنظر من النافذة أشم هواء بو منصور الممزوج برائحة الأعشاب وبخور المولد القادم من روضات الصحابة القريبة. في مربوعته عشت أو عاشتـني بعض ذكرياتي الجميلة. عندما بدأت الكتابة ذات حلم دلتني بلقيس عليه. قالت لي هذا إنسان اسمه اغنيوة العجيلي وهو مثل أخي. وأضافت مازحة لا تغرْ منه فليس له اهتمامات نسائية.

هذا شاعر كبير وأنت كاتب كبير لقد رأيت ذلك في عينيك وفي قلبي الصادق في حبك. وحتى الرائية قالت لي قلبه لك مهما ابتعد. عرضت عليه بعض أشعاري وبعض قصصي التي كتبتها سريعا قال لي أنت مشروع كاتب عظيم. أنت حاوي كلمات. و كنت أريد أنْ أكون شاعرا لأكتب شعرا يتغزل في بلقيسي الدرناوية. شعرت ببعض الإحباط لكن عندما فكرت جيدا فيما بعد قلت هذا العجيلي المصطول بالأدب كلامه صحيح لأن نفس الكلام قاله لي فيما بعد الشاعر علي الفزاني والكاتب منصور بوشناف والناقد منصور العجالي. لكن ماذا أفعل كانت القصائد تغزوني فأكتب ولا أكترث. بعدها أحوّل ما كتبت من قصائد إلي قصص أو روايات أو مقالات. كل كتاباتي تبدأ بقصيدة. كل كتاباتي أعتبرها قصيدة عظيمة. عند الغير ركيكة ليست مشكلة أبدا لأنني لا أشعر بشيء اسمه الغير ولإنني بعد أن اسرّد هذه القصيدة تكون جيدة. القصيدة علاقة قصيرة والسرد سريب طويل. أي علاقة حب تبدأ بالشعر تتم. لأن الشاعر دائما مضروب على دماغه. والحب الناجح يريد المضروبين على دماغهم.الشاعر أو المحب الصادق سرعان ما ينهي قصيدته كالفنان مع لوحته والموسيقي مع لحنه واللاعب مع كرته لأنه متـقـيّد بزمن بعمر بوزن بإيقاع لكن الرواية شيء طويل لا ينتهي. ثعبان خيانة إبداعي رأسه ليس في مقدمته وذيله ليس في مؤخرته. الرواية حياة يدخلها أناس بتداعياتهم ويخرج منها أناس بتداعياتهم ويعود إليها أناس بأحلامهم. مثل القطار أو الحافلة. الشاعر الوحيد الذي اتبع نظام الرواية ونجح هو هوميروس. البقية قذفات ونوم.

مربوعة صديقي العجيلي غير مربوعة صديقي اغنيوة مخلوف. تذكرت اغنيوة مخلوف الآن. الآن عيد ميلود لا خمر. وهو مفلس. يكتب الحكايات وينشرها في جريدة أخبار مدينته وموقع جليانته وإذاعة بنغازيه وغيرها من المطبوعات والمواقع والإذاعات ولا يدفعون له درهما واحدا. هو خجول لا يعرف كيف يطلب حقوقه. أحد المسئولين قال لو أعطيه نقودا سيسكر بها.وأنت شن دخلك يا ابن القحبة يسكر بها أو يرقص بها. أعطيه حقه و لا تسرقه. وأنت إن لم تعطه نقوده هل ستضعها في صندوق المسجد أم تتصدق بها على الفقراء !!. مرة اشتكى لأمين الإعلام فكلم الأمين الجريدة فأعطوه مئة دينار على مضض لكنهم بعدها توقفوا عن نشر مادته وهو يحب الحكايات البنغازية والفاصوليا بالكرشة مع المسيّر وخبزة الشعير والبوريك بالجبنة من حلواني بوعشرين. والجريدة كل صباح يشتريها بخمسين قرش ويطلب قهوة من مقهى تيكا بربع دينار ويقرأها من أول سطر حتى أخر سطر. وكل عيد وطني أو ديني يرسل للجريدة تهنئة. اعطوا لهذا المسكين مكافأة عن أعماله. فهو يتعب في كتابتهن. وتراه منهمكا جدا في مشروعه الإبداعي. في الصباح وفي المساء والقيلولة. يكتب ويشطب ويعيد الكتابة ويشحذ ذاكرته ويبحث عن الصور القديمة من الجيران والأصدقاء ويحضرها لكم وانتم مستريحين. وحكاياته حسب وجهة نظري جيدة وصالحة للنشر وذات عفوية صادقة. أما مشكلة الإملاء والنحو التي يعانيها فلديكم مصححيين يتقاضون المكافآت المحترمة عن كل عدد فشغلوا تيوس اللغة اشوية. وتذكروا أن الدنيا بها حياة وموت. وأكل رزق هؤلاء الكتاب المجتهدين زقوم ما بعده زقوم. أي زقوم مركز. وعندما لا تعطونه حقه يكتئب ويحزن و يسكر أكثر ويحملكم الإثم.

الآن حاجتي ملحّة لبعض الخمر البنغازي الحارق. خمر العجيلي به زهر وخفيف. أريد خمر اسبيرتو. من اول طاسة شاهي صغيرة يشعلك. سأشربه في الخيال وألبس السروال الإبداعي وأتذكر تلك البلقيس الملائكية التي جعلت مني كاتبا كبيرا رغم أنف الجميع المجدوع. في هذه المربوعة تركتني مع اغنيوة العجيلي ودخلت إلى زوجته وأحضرت لنا القهوة. كانت قهوتان. قهوة وجهها بني كثيف غامق والأخرى وجهها خفيف تتخلله جزر سمراء. أعطاني اغنيوة العجيلي الفنجان الكثيف وأشعل سيجارة رياضي. اغنيوة العجيلي مثل أخيها وأنا خطيبها الحنون. الآن الجو تمام. صورتها على الجدار. أراها كما ذاك الزمان. تعاملني بلطف. وتشفق عليَّ. خاصة عندما تراني من خلال شقوق حصيرة نافذتها أمشي مثل الذاهل ببنطلوني السمني وتي شرتي الأسود ومداسي الجلد البنّي الذي جلبته من مدابغ مراكش. عقلي ليس معي. وليس معها كله. بعضه يركض وراء الكلمات. اتخيّل كثيرا. ومعظم وقتي أعيشه في الخيال. أنا أسمع الكلمات ولا أسمع معناها. معناها ضائع مني. متفتت ومنتشر في ذوات كثيرة لا أعرفها. كلما لم أجد المعنى أشعر بالسعادة. هاتف داخلي قال لي إن أردت أن تكون كاتبا أترك الحب. وبلقيسي تقول لي أنت كاتب كبير جدا لكن عليك أن تخرج مني. لا تكتب عني. لا تظل فيَّ. أخرج. وعندما خرجت ضيعتها وضيعت نفسي وضياع كل العالم الآن كس أمه لا يهمني. ربما إن ضاع وجدت تحته آلهة الحظ فحظظتها بهمي. لكن الحجر ثقيل كلما زحزحته قليلا ازداد ثـقلا.

الشاعر اغنيوة العجيلي يحتفي بالمكان أي بمكان مولده ومعاشه حي الباطن بأبي منصور ومن شعره تنضخ الموسيقا الآسرة. لغته رصينة قوية متينة مرحة. يتناول اليومي المعاش. يجيد رمي الإسقاطات الموجعة. يقول ضمنا أكثر مما يقول تقريرا. قصائده تقرأ عديد المرات وفي كل مرة تكتشف شيئا جديدا. هي منجم من البليغ وصهريج واسع من الإيحاء ودموع يومية تذرفها الناس فيترجمها بوحه بلغة الإنسانية.

الليلة…

 لن أترك

الشوارع بلا أماني

سأؤثث الأرصفة بالأصدقاء

والشرفات بالمواقيت

وأنتظـر…

حتى يغسل

 الفجر ركبتيك

**

لأنك.

مثل حبة توت حمراء

في مهب القبلي

تشاطرتها القبائل

القبائل التي نهضت

من الرماد

لتكسر الجرار

وتشعل النار

في

العسل

**

المناخ الحار

يزعج البنات

ويفسد.

تسريحة

 الصباح

لكن…

 الابتسامة

أقوى من القبلي

ومن.

واو الجماعة

**

نقش

حنائك الأحمر

يرسم

طريق المتاهة

ويجرني

من لساني

ألان فقط

صار بإمكاني

أن استرد كاسي

من فم الريح

**

جاءت هاربة

من الغزاة واللصوص

وعندما هدها التعب

فكت ظفائرها

وألقت برأسها

على كتف الجبل

وأرسلت قدميها

العاريتين

من الفرح والحناء

إلى حافة الموج

**

هأنا.أبدو

مثل

نخلة

سحبوا الماء

من تحتها

مثل

تلميذ راسب

في جميع المواد

عدا

الوعي السياسي

 والعسكرية

آه من الوعي سياسي أو غيره. وآه من العسكرية. سأبتعد عن هذا الوعي واسترخى وأتخيّل أنني أعيش لحظة إبداعية أخرى. لحظة درناوية. الآن بداية صيف لكنها تمطر أو ترذذ. أجلس في مكتب الفنان فتحي الشويهدي المطل على البحر الصاخب. هو منسق عسكري لمؤسسة مدنية. لكن مكتبه كمكتب كل فنان غارق في الفوضى الجميلة. لوحات وعلب قهوة ومجلات وكتب وجرائد ومنافض سجائر وفراشات مجففة وصرصور قابع قرب الباب لامع ومرتخٍ. ولوحة عنوانها بنت الريح لصديقة رحلت عن عالمنا المرئي إلى عالمنا المشع متألقة في منتصف الغرفة. تحاكينا ونحاكيها. و نغني لها هذه الكلمات المنعشة المشبعة بعبق البحر والقهوة والبردقوش المنبعث من براد الشاي الفائر. لا نستطيع المكوث أكثر في مكتب الذكريات. بعد شرب الشاي غادرت إلى وسط المدينة. مقهى يستند على فندق الجبل الأخضر الشهير جلست فيه. أرشف الشاي الأخضر الرديء. متأملا دكان عبد الشافي القديم. ومدخل سوق الظلام الجنوبي وفناء المسجد العتيق. الجو نصف ممطر. ملائم جدا لمزاجي. أشجار النم متلاصقة من فوق. متباعدة من تحت. الأوراق المتلاصقة تراقصها الريح. الجذور المتقاربة يراقصها التراب. العصافير المقيمة في تشابكات الأوراق والغصون تطير من شجرة إلى شجرة. السماء رصاصية. يُبقعها لطيخ من حليب. الريح تهز السحاب فيمرق من خلال الشرخ بصيص يكفي لأن يجعل الرؤية واضحة.

أجلس على نتوء زمني انتظر هذه الشرخات بالذات. إن شرخت الريح السحاب وكنت ساهيا أو مقفل العينين والقلب فلن أقبض على شيء. وإن لم أقبض أعيش فارغا تعيسا بلا ضوء. الأيام طول العام ظلام في ظلام. الشمس والقمر لا يعنيان لي شيئا. وسيلة فقط لتبيّن موطئي ولتجنب الارتطام. المصابيح الكهربائية والغازية والشموع وكيمياء الفسفور والحشرات لا تجعلني أرى. لابد كي أرى أن يكون الجو نصف ممطر. لابد أن تهز الريح السحاب. لابد أن أكون تلك الأثناء متأهبا مركزا ظامئا جائعا مجنونا. أقتنص ذاك البصيص. أحفظه في روحي. أهشم روحي. شظاياها تشرخ قلبي. يسيل الدم. يسقي القنديل. أحمل القنديل في يدي وأدور حول نفسي. فأرى أوراقا كثيرة منثورة حولي. ورقة عرجاء. سمينة. بيضاء. بدوية. صفراء. ورقة ساخنة. باردة. بسطور. بدون سطور. ورقة مخننة. جافة. عاطسة. ورقة تضحك. أخرى تبكي. ورقة ترسم. تجري. تتمرغ. تتملق. تتلمس. ألملم هذه الأوراق. أصمّغها جنب بعض في كراسة شوك. أو روزنامة عوسج. وكلما أجد الجو نصف ممطر. أحرق واحدة. أجذبها بعنف. أبصق فيها بلغم حظي. أركلها. أدوسها بمشط قدمي. أسحقها حتى تتهرأ. ولا تعود ورقة أبدا. وإن عادت. تعود مثقوبة كسحابة برصاء لم تـثـقبها أو تشرخها الرياح.

الجو نصف ممطر ومزاجي رائق حبّـتين. والسماء رصاصية متبايضة. والريح تهز السحاب فيمرق من خلال الشرخ بصيص. أتأمله فيصرعني ببطء. يجعلني أندلش على سيف جذعي. أتكئ على مرفقي. وأضع راحة يدي الأخرى على هيئة قوس فوق جبيني ناظرا إلى البؤرة القادمة التي أسمع حاديها يغني:

يا بنت الريح.

" أنا و أنتِ اثنين مجاريح*"

* شطر للشاعر المبدع فضل المبروك.

بعد نهار نصف ممطر وجدتني أعيش في نهار قائظ. يكتبني وأكتبه. يكتب جوعي فأكتب عطشه لإطلالة تدوم أبدا. أنا جائع الآن. ومطعم الحصادي السمين الكائن فوق جسر شارع البحر يقدّم أكلات ليبية لذيذة. بنقود أو بدون نقود. تقول له صديقي الدكتور نجيب الحصادي فيعطيك قصعة صغيرة بها أرز بالخلطة واللحم والوطني والعصبان مجانا. وإن قلت له دارنس فريق ممتع كرته شهية مثل الأكلات التي تقدمها للزبائن فيعطيك قصعة كبيرة ولا يسألك عن المال. كل الأكلات صفراء لأن نادي دارنس شعاره أصفر. لا يقدّم أي سلطة خضراء أو فجل أو جرجير نكاية في نادي الأفريقي المنافس لدارنس والذي شعاره أخضر. حتى المسيّر مصبوغ بالكركم. المطعم مزدان بالصور الرياضية والتراثية. وبه صورة لعجوز كبيرة تمسك بحفيدها أعتقد أنها جدته. كانت معي نقود كثيرة. دولارات تحصلت عليها من مجلة المؤتمر. إنفاق بدون حساب. كل يوم أصرّف 100 دولار عند دكان بوعلجية. وعندما أصرف نقودا كثيرة أشعر برغبة في تعويضها فأكتب أشياء جميلة تجلب لي الحب الذي سيجلب لي المال والسعادة وراحة البال. بعد الغذاء الدسم أرى نسمات بحرية تنساب متبعثرة في الجو حاملة معها عبق الياسمين ونوّار العشية. الناس خرجت من بيوتها واكواخها الواطئة وجلست على المصطبات الحجرية والطينية تشرب الشاي و تثرثر وتتتبّغ وتلعب السيزة والورق. عرائش العنب أوراقها تهتز بفعل هذا النسيم البحري. بواكير عناقيدها الخضراء تتراقص متماسكة في أغصانها.

البيوت الطينية الواطئة وأكواخ الصفيح متلاصقة تنشد التماسك. الزينقو يأنس للخشب والمسامير. الطين يأنس للجير المُبيّض به. الأنس يجلب الكثير من الطمأنينة والتماسك والحب. لا فرق في ذلك بين حي وجماد. بين جماد وحي. ربما يكون الجماد حي لا ندركه. وربما يكون الحي جماد لا يدرك الجماد حياته. نحن نحطم الجماد والجماد يحطمنا. والجماد يكتبنا كما نكتبه نحن الآن. النسيم البحري قتل قيظ النهار في القلوب جاعلا حروفها وألحانها وأغانيها وابتساماتها تنتشي وتنبض. النسمات تجرف القيظ من شارع البحر وترمي به في جوف وادي الشواعر الجاف. كلمات امتنان وشكر تسمع من ألسنة حكيمة ومخيلات رصينة. هذه رحمة ربك. إن بعد العسر يسر. أيادي ترتفع بالدعاء متوجهة جنوبا حيث تتموضع مقبرة الصحابة بأضرحة قادتها الثلاثة. البلوي. الفارسي. ابن عبد البر. (رضوان الله عليهم).

بينما كانت الشمس تغوص في البحر رويدا رويدا وارتفاع أذان المغرب من مآذن المساجد والمنارات القريبة على وشك. ضجّت في الشارع أصوات شجار وسباب متهتك بذئ. كل الجالسين على المصطبات وقفوا. والماشون في الشارع التفتوا إلى مصدر الضجيج. الكل مستعد للفرجة أو التدخل لفك الاشتباك وردم نار الفتنة بتراب الماء. الشجار كالعادة في كل عام قادم من بيتين صغيرين متلاصقين يفصلهما سور واطئ لا يتجاوز ارتفاعه مترين. البيت الأول يخص عائلة الحطّاب بركة. البيت الثاني خاصة عائلة الفحام بركات. العائلتان تنحدران من الجنوب الليبي حيث جبال اكاكوس العريقة. سبب الشجار السنوي هو شجرة مشمش مغروسة في بيت بركة. مغروسة جنب السور الفاصل بين البيتين. لكن هذه الشجرة نمت مائلة. لا أحد يذكر من غرسها. نبتت فجأة ذات فجر. استيقظ بركات فجرا ليذهب إلى الغابة لتفقد المفحومة فوجد ساقا رهيفة تحمل وريقات تطل. ابتسم لها واتضح اخضرارها فور بزوغ أول شعاع شمس. وجدها مائلة فتركها مائلة على حالها. خبرته في غرس و تقليم وتفحيم أشجار الغابة علمته تجنب لمس أي ساق بكر وإلا تلوثت وماتت أو نما الساق عقيما غير مثمر. وإن كان ذكرا فلن ينفع لتلقيح أنثاه من الأشجار.

رعى بركات هذه الشجيرة فكان يقلمها بانتظام ويبعد من حولها الحشائش الطفيلية ويسمّدها بروث خراف وطنية سمينة ويسقيها بماء يجلبه من بئر الصحابة. وكلما توغل الصيف في شهوره طارقا بوابة الخريف وبدأت أوراق المشماشة تسقط شعر بركات بالحزن. وكلما هلّ الربيع وبدأت الأوراق الخضراء تعود للمشماشة شعر بركات بالفرح والسعادة والانبساط. لا يدري بركات من لقح له مشماشته. الرياح.؟أم أنَّ أحد فُعّال الخير رماها بثمرة لقاح.؟. في ذاك الصيف لم يتجاوز ارتفاع المشماشة مترا. لكنها أثمرت فجناها وأكل منها ووزع من ثمرها العسلي العطر على الجيران ووضع من ثمارها طبقا جنب محراب مسجد الصحابة ليفطر عليه الصائمون. في العام الثاني ارتفعت المشماشة أكثر وتجاوزت السور بشبر. وفي السنوات التي تلت تجاوزت السور المشترك مع جاره بركة وصارت معظم أغصانها المورقة المثمرة داخل بيت بركة. تمنح بركة الظل والعبق العطري طوال العام. وفي بداية الصيف الحر والريح يجعلان ثمار المشماشة تتساقط في بيت بركة والذي يعتبرها حلالا عليه ورزق منحه الله له مكافأة عن نيته النظيفة. بركة الحطاب رجل عنيف. علاقته ببركات سيئة. دائما يشتري منه الفحم من أجل التدفئة ويماطله في الدفع. يقول له انتظر الشتاء. انتظر البرد. انتظر حتى تشتري الناس حطبي كي أدفع لك.

كل عام يتشاجران بسبب ثمار هذه المشماشة المتمردة التي تمنح ثمارها لأرض بذرتها لا تنام فيها. بركة يجمع الثمار المتساقطة في طبق سعف. وبركات لا ينال من مشماشته سوى النزر اليسير. وهو بالطبع بحكم العرف والدين وإجرام بركة لم يستطع أن يتجاوز السور المشترك ليدخل يده في حرمة البيت ويجمع مشماشه. لقد هدده بركة أمام الحشد الجالس على مصطبة السرواحي قائلا له: إن تجاوزت يدك السور المشترك بيننا عليَّ الطلاق بالثلاثة نقطعها بفأس الحطب هذا وضرب بالفأس جذع زيتونة يابس فقسمه نصفين. الأمر الآخر الذي جعل بركات لا يتجرأ ويدخل يده وراء السور ويجمع بها ثماره المهدورة هو بلقيس بركة الجميلة. فبركة بلقيسه خلاسية رشيقة. بياضها غالب على سوادها. وشعرها مزيج من الكرادة والنعومة. وشفتاها. العليا رقيقة والسفلى ممتلئة. وأنفها فطسه قائم شامخ. أما عيناها فسوداوان واسعتان. أغلب الأحيان تـُرى ذابلتين محمرتين من النعاس والغنج. هذا المزيج الخلقي جاء من زواج مختلط. فأمها تنحدر من مدينة غات الجنوبية و أبوها من مدينة القيقب الشمالية. الكل في الشارع يشيد بجمالها ويقولون أن بركة الحطاب محظوظ. وربي عطاه على قصاد نيته. وبركة بدوره يعجبه هذا الكلام لكنه يغار عليها غيرة عمياء. ذات مرة صفع صديقا له في حانة الرقريقي بشارع الفنار فأغمى عليه. صفعه لأنه تجرأ وسأله: بلقيسك لمن من غير مصغرة؟ أي ما اسم قبيلتها؟

كان هذا الصديق ثملا وأراد فقط أن يجد صلة قرابة ببركة. فهو أبيض وبركة أسود والقرابة هنا بعيدة وغير متاحة عرقيا فسوّلت له نفسه أن يسأل عن قبيلة بلقيس بركة. هو يعلم أنها جميلة وقال في نفسه ربما لديها أخت أو بنت عم أتبلقسها على بلقيسي البدوية العنيفة. وربما تكون البلقيسة من قبيلته أو من قبيلة أخواله فيقول لبركة أنت صهري العظيم ويقدّم له (مالقي) بوزة على حسابه. بركة لم تصله هذه التداعيات. ما إن تلفظ هذا الرجل ببلقيس بركة في الحانة حتى ثارت ثائرة بركة. بصق في وجهه وصفعه بعنف فأغمى عليه ولم يستعد وعيه إلا بعد يومين. كان بركات حاضرالموقف. وهو من أسعف هذا الصديق. وفشخ على أنفه خمس رؤوس بصل حويل من دون أن ينتعش أو يفيق قليلا. نقل في عربة إلى المستشفى القريب من البحر وهناك عالجته السوريلا الروميّة الخبيرة بإغماءات السكارى والمشاجرات. شممته غاز النشادر وألصقت على جبهته كمادات باردة. غسلت له وجهه ورجليه وتركته ينام على فراش الفحص ساعات. عندما أفاق قال أنا وين؟. أنا من يا علم وايش؟. أنتم من؟ وشن طوحني هنا؟. نظر إلى وجهه في المرآة وتساءل كنّا خدي حمر كيف الطماطمة؟. ابتسمت له السوريلا الروميّة وقالت له أنت هنا في مكان آمن وصحتك جيدة. وناولته كأس نبيذ وكسرة خبز تنور فظنهما القربان المقدس الذي يتناوله النصارى في الكنيسة فقفز من على السرير إلى الأرض وصرخ: معاذ الله. لا إله إلا الله. محمد رسول الله. وغادر المستشفى جريا بأقصى سرعة. وجد نفسه في الشارع يركض بين الشاحنات والعربات والحمالين يدفع ما يلاقيه من بشر وحمير و جداء و يحطم ما يصادفه من جرار أو أصص. يركض ويصرخ بالشهادتين. ظهر للمارة وكأنه ممسوس أو مجنون. عرفه بعض أقاربه فانقضوا عليه وكتفوه بحبل شيما ورموه في عربة كارو يجرها بغل هرم أوصلته إلى البيت. كانت قصة الصفعة قد وصلت قبله إلى بيته وانتشرت في أرجاء المدينة كافة. قالت له بلقيسه البدوية تستاهلها. يا ريتا برك عليك وشممك التراب. مازالت الطريحة اللى تو اتحصلها مني انا ومن خويا امراجع. والله انعطبها على خشمك يا صايع يا سكار. ياجباد صبايا الرجالة في الخمارات. وقالت له أمه. الله لا تسامحك كان مازلت حطيت الخمج في فمك.

هذا العام كان الرزق ضنين. مع الجدب والحرب ونهب الحكومة لموارد الشعب ساءت الحال. صار المواطن عاجزا عن تحصيل قوت يومه. الأطفال يصرخون من الجوع والمرض. ورب البيت يتذمر ويصير عصبيا.. و ربات البيوت يهملن أنفسهن و يقضين كامل اليوم بحثا عن شيء ينفع للأكل. والحكومة تشتد شراستها وتحكم قبضتها على الشعب الجائع تحاشيا لأية ثورة أو انتفاضة مفاجئة. وعندما يفتك ناب الجوع بالبلاد. أول شيء ينتشر ويستشري هو الدعارة وبالطبع الخمر والحشيش. معظم الناس صارت تشرب الخمر لتنسى واقعها المتردي. وكثير من النساء والفتيات منحن أنفسهن مقابل سد الرمق أو قليل من القمح. في هذا الصيف كان بركات في أشد حالاته سوء. الدكان الذي يبيع فيه الفحم صادرته البلدية لتراكم الإيجارات المستحقة الدفع. اشتغل بركات في حانة في البياصة الحمراء. لم يبتعد عن مهنته كثيرا. اليهودي مالك الحانة شغله في غرفة النرجيلات. يوقد الفحم ويرص كراسي المعسّل. ويوزع الجمر على نراجيل السكارى والحشاشين. وبطبيعة الحال صار يتناول جرعات كثيرة من الخمر. اليهودي كان كريما مع كل الندل والعمال. يمنح كل يوم نصف لتر من البوخة لكل فرد من العاملين في الحانة. هو لا يمنح مالا للندل والعمال. لكن يمنحهم نصف لتر بوخة إضافة إلى نصف البقشيش الذي يتحصلون عليه من الزبائن. معظم الزبائن من سكان المدينة ومن بعض البدو الميسورين القادمين من أميمة الرزم وعوينة مارة والقبيبة والقويقب ورويس التين والذين يرتادون الحانة خاصة في مواسم الجلامة والحصاد وجني العنب.

*    *    *

سكان المدينة والبدو يعتبرهم اليهودي زبائن عاديين قوتهم الشرائية محدودة. لكن الزبائن المميزين هم البحارة النصارى الذين ينزلون إلى اليابسة من أجل السكر ومضاجعة المومسات والغلمان. هؤلاء كان حظ بركات معهم جيدا. فهو يتكلم لغتهم. لأن والده كان من المصوعية التابعين للجيش الإيطالي. أخذ عنه الإيطالية وعندما قامت الحرب العالمية الثانية اشتغل مع الجيوش المتناحرة على الأرض الليبية. اشتغل مع الحلفاء واشتغل مع المحور. يقول لمقربيه لا فرق لدي بين نصراني وآخر. أنا مع الفائز دائما. اشتغل معهما مترجما. ساعدهما في شراء المواشي والدواجن والبيض والزيت والخضروات والفواكه. وكان متميزا جدا في شراء الفحم حتى أنّ والي المدينة الإيطالي منحه جائزة وشهادة تقدير. لم يسمح للبدو أن يغشوا الفحم الجيد بالمرعوب. ينبه البدو قبل تعبئة الشاحنة أنه سيلغي الصفقة إن وجد مرعوبة واحدة في الكوم. إن دمعت عين نصراني فمعناها من مرعوبكم المدخن. يقول لهم حرام عيون النصارى الجميلة تدمع من الدخان. الدموع لنا نحن أصحاب العيون الحولاء والعوراء والمطمزة. دائما يفضل فحم البطوم على فحم الشعرة كثير الطقاش. في الوقت نفسه كان يجلب للبدو بدل الفحم ثمنا جيدا ومعقولا. بالإضافة للمال يتحصل لهم على كميات من الأرز والسكر والمكرونة والمعاطف الدافئة ولشيوخهم الضالين فقط بعض صناديق البيرة والويسكي ونبيذ بورتو.

في تلك الظروف القاحطة العمل في الحانة مقابل نصف لتر بوخة ونصف البقشيش جيد جدا. بل محظوظ وتحبّه العجوز (الأم) من يتحصل عليه. حتى بدون نصف اللتر هذا فبركات لن يترك هذا العمل المربح واللذيذ. هذا العمل جعله يختلط بالنصارى الجميلين. ذات ليلة غمزه ضابط بحار ودعاه إلى قمرته في السفينة الراسية بالميناء. طلب منه أن يستحم ويتعطر بالكولونيا وأعطاه لباسا خفيفا نظيفا. وسهرا معا حتى الفجر يحكيان ويتضاحكان ويتلامسان ويتناولان الخمر الفاخر والميزات الشهية. في نهاية السهرة تناولا وجبة ساخنة خفيفة مسحت الكحول من على جدران المعدة والأمعاء. كانا في قمة النشوة. و في قمة الإثارة. اقترح الضابط على بركات أن يلعبا لعبة والفائز يركب الآخر. ظهر بعض التردد على وجه بركات فأضاف الضابط سنختصر الموضوع. سنلغي اللعبة أو نؤجلها مرة أخرى. ما رأيك أن نجري قرعة سريعة والفائز يركب الآخر. هز بركات رأسه موافقا وصار يتلمس ذكره خفية عن الضابط. بينما الضابط يفتح الكوميدينو باحثا عن قطعة نقدية. كان بركات سكرانا. وخائفا جدا من خسارة القرعة فيضاجعه الضابط النصراني ويلحقه عارا لا يمحى. كانت تداعيات كثيرة في خياله. كلام مختلط في بعضه البعض. يقول في نفسه الآن وماذا لو فعل في هذا الضابط النصراني. ليس معنا أحد هنا لينقل الخبر إلى الشارع. وجد الضابط قطعة النقد وناول بركات كأس فودكا قوي تجرعه على عجل وواصل تداعياته باللغة العربية بصوت قريب من الهمس لكنه مسموع. سأدخل القرعة نايك أو منيوك. وماذا لو خسرت. لن يحصل لي شيء. هل سأخزن فيها الزيت. سأله الضابط زيت زيت لم أفهم ما قلت؟. فأجابه بركات باللغة الأجنبية: أجرِ القرعة. الليلة مطنشة. ياتركبني. يا اركبك.

رمى الضابط القطعة النقدية في الهواء وسقطت على البساط. نظرا إليها فكان ظهرها هو وجه الملك. قبل رمي القطعة النقدية نسيا أن يختارا كلاهما الوجه الذي يرغب. قال الضابط: أنا الخاسر. أنا اخترت الوجه السفلي في خيالي. قال بركات لا أريد أن أكذب عليك. أنا أيضا اخترت الوجه السفلي في خيالي ومستحيل جدا أن اختار ملكا في يوم من الأيام. لن اختار وجه ملك بتاتا.

وما العمل الآن؟

جملة قالاها معا في نفس الآن. قال بركات لن نعيد القرعة. القرعة المعادة غش وتدليس.  القرعة في الحياة تجرى مرة واحدة.

قال الضابط: صدقت.

قال بركات: أنت ضابط الليلة وأنا جندي الليلة. فأمرني وسأطيع.

قال الضابط: حسنا أيها الرائع المطيع. أنا أرغبك. أشتهيك. التقطتك من حانة البياصة الحمراء لأنك الألطف والأخف دما. أنا أحبك وأريدك أن تقذف في أحشائي همومك ومتاعبك وجنونك ولذتك الدافئة. أشعر أن لديك حقا عندي. أشعر بالألم العنيف. أريدك أن تقتص بعنف أو وداعة حسب مزاجك. في بلادي يشحنون البشر من إفريقيا يقتلونهم في المناجم ويعذبونهم في الأقبية الباردة. يغتصبون بناتهم ويضاجعون نسائهم ويمتصون الحياة من عروقهم. ويجتثون جذورهم من الأساس. نحن الآن في بلادك فاقتص مني. أريدك أن تضاجعني كي يستريح ضميري قليلا. لقد شحن أجدادي كثيرا منكم وقهروهم وقتلوهم ودمروا أحلامهم الإنسانية. أنت يا بركات جميل حلو لذيذ. خذ ما في المحفظة من أوراق مالية. انزع الرتب العسكرية من على كتفي معطفي وخذه. ضاجعني حتى ترتوي واتركني نائما في هذا الحلم الفلسفي البديع. إن أردت المبيت فبت وإن أردت المغادرة بعد إتمام الفعل فلن يوقفك الحرس وستوصلك عربة عريف الخفر حتى شارعك.

مع شروق الشمس ظهر بركات في أول شارع البحر متدهشرا يرتدي معطفا كاكيا خفيفا وفي جيبه بعض المال. دخل بيته وأخرج المال من تحت طاقيته وضعه في حجر بلقيسه. نظرت في عينيه وسألته هل سرقت أحدا أم بعت نصيبك في البستان لأعمامك. لم أبع الأرض بعد ولن أبيعها. أريد أن أنام الآن. كانت ليلة ولا ألف ليلة وليلة. خلعت من على ظهره المعطف وعلقته في مقبض باب النافذة ثم عادت إليه واندست بجانبه في الفراش. طوقته بذراعيها وبدأت تقبّل وتلعق رقبته وصدره لكن لا رغبة لديه. ليس مثل بقية الأيام السابقة التي يعود فيها منتشيا من بوخة الحانة راغبا في مضاجعة قبل أن ينام. سألته ما بك؟ هل رائحتي كريهة أم زينتي ليست ولابد.؟ ضمها إلى صدره وقال لها: لا. أنت غزالة مصوّرة. أنت في أجمل حالة. أنت أجمل امرأة في خيالي. لكن أشعر ببعض التعب فقط. قالت له. أحب تعبك هذا. والتصقت به أكثر وسألته هامسة أصدقني القول. من أين جلبت هذا المال الوفير. ماذا بعت. صار بركات يدمع ثم يبكي ثم دفعها برفق جانبا و أعطاها بظهره فصرخت فيه وحق سيدي اغنيوة تحكيلي وتخبرني عن الفلوس وكنك ما تبيش ترويني كيف العادة؟.

جلس في الفراش وطلب منها كأسا من البوخة فأحضرت كأسين لها وله وطبقا به حبيبات زيتون وشرائح ليمون ومع تواصل الكؤوس حكى لها قصته مع الضابط من طق طق إلى السلام عليكم فقالت له: ليس على المضطر حرج. والآن هيا إلى الفراش. اعتبرني ضابطا نصرانيا عريانا يا مشماشتي المعوجة. وتعالت الضحكات.  سرعان ما نفد المال وسفينة الضابط أبحرت. ولترات البوخة التي يجمعها من الحانة نصف لتر كل ليلة باعها وصرف ثمنها. كان النهار قائظا جدا. الإنسان يقلق فيه من نفسه. لا يحتمل ذبابة تناوش أنفه. الأعصاب متوترة نتيجة الحر والإفلاس. كان بركات حزينا لحالة البؤس التي يعيشها. بلقيسه مريضة وأطفاله يصرخون من الجوع. ورياح القبلي الصاهدة تهز المشماشة وتطوح بثمارها في بيت بركة. لا شيء في البيت الآن سوى لتر بوخة. بدأ بركات يشرب وبلقيسه تشاركه الشراب عسى الشراب ينسيها الألم الفظيع الذي يمزق أحشاءها. مع منتصف الزجاجة اشتعلت نيران الشكوى وتعالى مؤشر الحزن. ضاجعها فلم تتغير الحالة. ضاجعته أزدادت حالة الفراغ اتساعا. واصلا الشراب والثرثرة في مواضيع شتى تتعلق بأسباب فقرهما وحظهما السيئان. حتى مشماشتنا لا تثمر لنا. مضى الأصيل المفعم بنسيم البحر على ما يرام. شعرا بالارتخاء والرغبة في النوم. لكنه الجوع. والأطفال المحتاجون لشيء يسدون به رمقهم. وقف بركات يذرع الفناء على غير هدى وينظر إلى السماء العائشة الآن ظلمة المغيب الأرجوانية وفجأة سمع خشخشة في أوراق المشماشة المثمرة. ليس قطا أو طيرا أو خفاشا أبصر فجأة فضلَّ الطريق. إنه بركة يجمع ثمار المشماش في طبق ويغني بصوت منخفض ما إن شعر ببركات حاضرا خلف السور حتى رفع وتيرة غنائه لأغنيته الاستفزازية الدائمة:

خوذيلك حطّابي خير. انت يا فحمة عين الطير

لم تكن بلقيس بركات خلاسية جميلة. كانت سوداء كظهر خنفوسة. أمها من مرزق وأبوها من القطرون. صرخت بلقيس بركات السكرانة هل سمعت ابن القحبة ماذا يغني؟. صرخ بركات السكران سمعت التيس جيدا. لكن اتعارك التيوس اتيْسك.

سمع بركة الكلام لكنه لم يعر له أي اهتمام لأن جوّه رائق من طعم المشمش ومن جمال بلقيسه المستحمة المتعطرة. يسمع توبيخات بركات ولا يعير أي اهتمام له. ولماذا يرد عليه وهو سعيد جدا و يجمع المشماش الطازج لبلقيسه التي تنتظره شبه عارية على الفراش. يقول في داخله لن استبدل مضاجعة غروب شمس بعركة مع فحّام. واصل جني المشمش المائل إليه. ورفع من وتيرة غنائه أكثر حتى صار يسمع في الشارع وبعض الأشقياء الفتـّانين الجالسين على مصطبة السرواحي جعلوا من انفسهم مجموعة صوتية له. ما إن يكمل اللازمة:

خوذيلك حطّابي خير. انت يا خزرة عين الطير

حتى يردون عليه بنفس اللازمة ويعقبونها بتصفيق قوي ورقص وصراخ.

 الشارع أثار بركات أكثر مما أثارته بلقيسه. خمرة البوخا شجعته لبدء مشاجرة وإيقاف هذا البركة أفطس الأنف عند حدّه. دخل الكنيف وملأ جردلا من الغائط واقترب من السور بحذر ثم اعتلى طست الغسيل الألمنيوم ليتبين له موقع بركة بالضبط. فشاهده بركة المستحم والمتعطر يطل برأسه فأعطاه بظهره علامة الازدراء والاحتقار. وانحنى يلتقط الثمار الناضجة التي أسقطها الحر. يلتقط ثمرة من التراب ينفخها ويضعها في الطبق. يجمع الثمار ويغني في سعادة وحينما همّ بالوقوف والالتفات ناحية السور دلق عليه بركات جردل الخراء وتأخر إلى الوراء سريعا مقهقها متجنبا المنجل الذي أطلقه فيه بركة كردة فعل فجائية. صرخ بركة وهاج وماج كثور الحلبة وتسلق السور. ما إن نتق برأسه حتى عالجه بركات بضربة بالجردل على جبهته أعادته داخل سوره ساقطا على التراب. بلقيسه صرخت وأوقفته تحثه على قتل بركات الذي أفسد عليها ضجعتها المرتقبة. بلقيس بركات السكرانة صرخت هي أيضا مشجعة وحثت زوجها على قتل بركة الملطخ بالبراز. الناس في الشارع يستمعون لمقدمات المعركة الوشيكة ويصرخون. منهم من يقول بصوت عال المعارك في الشارع تدخل التاريخ. خرج بركة إلى الشارع أولا وتلاه بركات. وقفا متقابلين متحفزين للاشتباك وأسورة الناس تحيطهم. كلاهما يمسك بهراوة. بدأت الحرب الكلامية.

قال بركة: الفحّام صار رجلا يعارك.

قال بركات: أدافع عن مشماشتي ليس إلا.

قال بركة: أنا أجمع لك المشماش الساقط في أرضي وأضعه لك في طبق أمام البيت حسب الاتفاق مع الشيخ.

قال بركات: لا تجمعه حسب الاتفاق. أنت وبلقيسك تلتهمان وتخبيئان الثمار الكبيرة الطازجة وتضعان لي في الطبق العفط والثمار النيئة والحامضة و الصغيرة.

قال بركة: طبعا أنا حطّاب طازج وأنت فحّام محروق.

في المواسم المشماشية السابقة تقدّم بركات بشكوى إلى شيخ الجامع من أجل جني مشماش مشماشته المائلة. هذا الشيخ أفتى بحرمة دخول بركات إلى فناء بيت بركة إلا بإذن من صاحب البيت بركة. ولأن بركة غيور جدا على زوجته الجميلة ومن أجل أن يستحوذ على نصيب كبير من المشمش رفض منح الإذن. ترك بركات شيخ الجامع ولجأ إلى شيخ الشارع المشهور بالحكمة والرصانة. بعد تفكير عميق وصل إلى حل رضي به الطرفان وهو قيام بركة بجمع المشمش المتساقط من المشماشة ووضعه في طبق يضعه أمام البيت فيأتي بركات ويأخذ الطبق يفرغه في مطبخه ويرمي بالطبق مجددا إلى بركة من وراء السور. يجمعه كل موسم مقابل العشر. أي كل عشر مشماشات يخصم منها مشماشة لنفسه. استمرت الحرب الكلامية بينهم عدّة دقائق وكانت ستستمر أكثر لأن كليهما صار يعيّر الآخر بأشياء قذرة حدثت في الطفولة لهما وتماديا فجبدا دلوا من أخبار الزوجتين السرية أو الخصوصية وأيضا تطرقوا للجوانب السلبية في تاريخ الأسرتين. شارك في المعركة الكلامية بعض الحضور كمؤيدين ومفندين. وكانت ستستمر أكثر وستتميّع المعركة لولا أن بدويا من الحضور أطلق تعليقا ساخرا سمعه بركات وبركة وأيده معظم الحضور بالصفير والصراخ والقهقهات. هذا البدوي قال لهما: هل هذه معركة مشمش أم قعمول (خرشوف). إن لم تشتبكا حالا سأغادر وأقول فيكم مجرودة يرقصن عليها حجّالات النجوع.

اشتبكا فور انتهاء كلام البدوي. انقض بركات على بركة وضربه بالهراوة على رجله فسقطت هراوته بعيدا عنه ووقع أرضا وبرك عليه بركات يصفعه على شدقيه ويبصق عليه. لكن بركة المتألم من رجله استجمع عزمه وقواه ورفع رجله غير المصابة ودفع بها بقوة بطن بركات الذي ارتفع عنه وسقط إلى الوراء على ظهره. أندفع نحوه بركة سريعا وبرك عليه يصفعه على شدقيه هو الآخر من دون هوادة ويبصق على وجهه ويهرس له انفه الأفطس بقبضته المقفلة ثم يشدّه بقوة من شعره المضفور. المشاهدون يصرخون أقض ِ عليه يا بركة الجبار. يخنقه بركة ليقضي عليه فعلا ويبدأ بركات يرتخي وتجحظ عيناه وتبرز عروقه ويخبط بيده الأرض رغبة في الرحمة والاستسلام. أحد الحضور أصحاب القلوب الطيبة صرخ لا تقتله من أجل مشماشة. يا قاتل الروح وين اتروح. طيب أخر صرخ بصوت أعلى لا تقتل بركات من أجل مشماشة. وتعالا صراخ التعاطف وطلب الرحمة وامتزج بصراخ التشجيع الدموي المجنون. وزغردت الخلاسية بلقيسة بركة فرحة بالنصر. لكن بلقيسة بركات السكرانة اقتحمت الحلقة صارخة. بركات رجل. بركات لا يستسلم. لن يركبني جبان أبدا. ربما يكون الذي سمع صرخات بلقيس بركات شيء قوي في داخله. شيء لا يعرف اليأس. لا أحد شاهد بالضبط كيف حدث ذلك. فمن أقصى حالات الهزيمة وأقصى درجات الضعف انبعثت قوة استثنائية. فمن شبه الموت والسكون الذي كان يعيش فيه بركات تحت خصمه انتفض جسده انتفاضة عظيمة. انتفاضة سريعة أسرع من لمح البصر. كل القوة تركزت في قدمه التي ركل ببوزها خصيتي بركة المتدليتين فأبعده عنه. وقف سريعا مستنشقا الهواء وصافعا بلقيسه على وجهها آمرها بالعودة إلى البيت. واشتبكا مجددا يتراكلان ويتلاكمان. لا أحد يمكنه أن يتدخل بين ثورين هائجين. فتحا ثغرات عدة في حلقة الناس التي تحيطهم. رميا بعضهما بأي شيء وجداه في طريقهما. صناديق طماطم. أطباق خوخ. حزم فجل بصل جزر. رؤوس يقطين. دلاع. بطيخ. كلاهما يتفادى ما يقذفه فيه الخصم قدر الإمكان. الذي يصاب منهم يزأر ويرد برمية أقوى. النــاس سعيدة جدا. تتفرج على هذه المواجهة الحرّة الطافحة بالفكاهة والتراجيديا. لكن سعادة الناس الطيبين تحولت إلى قلق عندما وصل الصراع بينهما إلى دكان الجزار. بركة خطف دوّارة من المعلاق ورمى بها بركات فتلوث مثله بالغائط. بركات خطف رأس تيس ماعز ورمى به بركة. صاحب دكان الجزار خرج من الدكان مبتعدا. بركة استل سكينا حادة كانت مرشوقة في فخذ عجل وبالمقابل امتشق بركات ساطورا ضخما كان متروكا فوق القرمة.

الغضب والهيجان وصلا في هذه اللحظة إلى أخر معدل لهما. من السهل أن يقتل أحدهما الآخر بسرعة. الظروف المحيطة من تشجيع الجمهور تساعد على ذلك. الخمر الذي في عروق بركات. الغائط البشري الذي يلوث جسد بركة. حالة الفقر والفاقة التي يعيشها الجميع الذين منهم من يفضل الموت على حياة كهذه. حجل بركات إلى الوراء حجلتين ثم تقدّم حذرا. نظر إلى أعلى موهما بركة بوجود شيء مهم سيسقط ومشتتا انتباهه. في اللحظة نفسها التي رفع فيها بركة رأسه ليتبيّن ما في الأعلى ضرب بركات بساطوره سكين بركة فطارت السكين بعيدا عن يد بركات. وهم بركات بأن يضربه بالساطور على رأسه ليقضي عليه. ضرب الضربة الأولى فتفاداها وأراد أن يلتقط سكينه فعاجله بركات بركلة على بطنه أبعدته عن السكين وأسقطته أرضا. همّ بركات العائش الآن حالة حماسية بضربه بالساطور على عنقه. رفع ساطوره وصرخ لينزل به على الرقبة الزنجية الغليظة لكن صراخه أوقفه صراخ آخر قادم من حنجرة نسائية رخيمة معروفة ومألوفة للجميع. انطلقت بكلمات واثقة حازمة.

- ارمِ الساطور يا وليدي بركات وألعن الشيطان

رمى بركات الساطور وزفر متنهدا ثم لعن الشيطان

- وأنت يا وليدي بركة قف والعن الشيطان مثل أخيك.

وقف بركة ولعن الشيطان.

وأنتم أيها الحاضرون المستمتعون بالدم إلا من رحم ربي. تفرقوا. عودوا إلى مصاطبكم. أو كل واحد ينطمر في قطرته.

قالت الحاجة أمينة لبركة وبركات: تقتلان بعضكما من أجل مشماشة. لو أدري أنكما ستتقاتلان هكذا ما قطعت سرتيكما وما ختنتكما.

أنت أيها الحطاب الذي يأتيك الثمر في بيتك والشجرة خارجه ألم تسأل نفسك لماذا لم تنبت شجرة المشماش في بيتك.

و أنت أيها الفحام ألم تسأل نفسك لماذا نبتت شجرة المشماش في بيتك.

 لكن ثمرها خارجه.

من قبل شيخ الشارع أوجد لكما حلا. بركة يجمع المشماش في طبق ويضعه أمام بيته وأنت تأتي تأخذه. يفعل بركة ذلك مقابل العشر. لكن هذا الحل لم ينجح. ها أنتما اليوم كدتما أن تقتلا بعضكما وترملا بلقيسيكما وتيتما أولادكما وبناتكما.

لابد أن نجد حلا لهذه المشماشة. التي كادت تودي بحياة إنسان غالية. لن نجتثها لأن ذلك مخالفة لتعاليم الله والرسول والصحابة.  في هذه الأثناء ارتفع أذان صلاة العشاء من مصلى ملحق بضريح سيدي اغنيوة. بعد انتهاء الأذان قالت لهما ما رأيكما لو وكّلنا عليها سيدي اغنيوة. هزّا رأسيهما المنكسين أمارة الموافقة. واستغرقت الحاجة أمينة تتلو الدعوات ثم تقول: يا سيدي اغنيوة. يا ولي الله الصالح. يا صاحب الكرامات. لا نريد أن يطلع علينا صبح الغد حتى تكون مشكلة هذه المشماشة قد حُلت. آمين. الفاتحة.  والآن عودا إلى بيتيكما. استحما واستعيذا من الشيطان والصباح رباح. في صباح اليوم الثاني استيقظ بركة وبركات وأهل الشارع ووجدوا أن شجرة المشماش قد التوى جذعها إلى الداخل وصارت كل أغصانها وأوراقها وثمارها داخل بيت بركات الفحّام حيث جذرها ومرقد بذرتها.

*    *    *

منذ ذلك الصباح أطلق على الولي الصالح سيدي اغنيوة. والذي لم تكن له من قبل أي كنية أو لقب. سيدي اغنيوة لوّايْ المشماشة. مات اغنيوة في حادث مؤلم. سيارة دهمته. رصاصة ثقبته. حبل التف حول رقبته. سكتة قلبية ذبحته. مزّاله طاح ولم يلتقطه. قطار عمر تعوّج عن سكته فجأة. مرض عضال أصابه. سنتخيّل طريقة موته لاحقا. أو أقول مع الموت لا تهم التفاصيل. فدعونا نروى من جنون هذه المتعة. لقد وجد اغنيوة بلقيس في حالة سيئة. كانت مسودة الوجه و شاحبة جدا ولا رغبة جسدية لديها. كانت ضعيفة هشة بسبب موت مؤلم حدث لاغنيوة الذي تحبه إلى حد العبادة. لم تمكث في مكان الألم. وشدّت الرحال إلينا. جاءت إلى حي آخر من أحياء رباية الذائح بنغازي.

ملح بنغازي واساها.

 ورذاذ بحرها مسح أساها.

وتفاحها الذهبي أطعمها وحنـّاها.

وهسبيريداتها حرسنها من طيشها وهواها.

 وحرارة قبليّها عبأتها بالرغبة والفوران. لم يمض وقتا حتى تحسنت حالتها النفسية والجسدية وبرأت من ألم قلبها وجرح وجدانها و تعاسة روحها. ومع الطعام اللذيذ الذي كانت تـقـتـنيه من مطابخ بنغازي الشهية وتتناوله في ظل شجرة التين ومع النبيذ العتيق الذي كانت تحتسيه مع كل وجبة تمشمش وجهها وازداد نضارة وجسدها ماس أكثر وتمتن. وأضحت أحاسيس الرغبة تغزو روحها وتستعمرها وتحكيها. هي بلقيس عابدة شابة في العشرينيات من العمر. جميلة وجذابة. خفيفة الدم. شفافة الروح. تواسي المرضى وتعطف على الفقراء والمساكين والمحرومين. سائقها الأعرج الليبي اغنيوة لا يتأخر عن ميعاده. كل صباح باكر يأخذها إلى السوق فـتـتـقضَّى الفواكه الطازجة والخضروات الطرية والحبوب الناضجة واللحوم والدهون والوقود. تضع ما جلبت من غذاء في المطبخ لتطبخه طباخة المعبد ثم توزعه منتصف النهار على جياع المدينة. كل جائع يمد صحنه فتملأه له إلى الجمام (القمة) وتناوله كيسا به فاكهة وخبز وقارورة ماء.

بلقيس داخل المعبد هادئة وقور. تتكلم برصانة وتتخذ القرارات بحزم. تعامل زملائها باحترام. تتعبد معهم. وتصاحبهم في إنشاد التراتيل. وتشاركهم الرقصات والإيماءات التي تستدعيها العبادة. وعندما تطفأ الأنوار وفق طقس تعبدي. تنسل بعيدا إلى ركن غير متاح كي لا تحتك بأحد أباطرة الخصب. لكن فورما تخرج من المعبد تتحول إلى فتاة أخرى مفعمة بالحياة. منطلقة. صاخبة. تحاور كل من تلتقيه. تتأمل الشمس وتفرد ذراعيها للهواء. تستنشق أكبر قدر منه. لطالما طلبت من سائقها اغنيوة أن يأخذها إلى وادي القطارة. ربما تلتقي بدويات في الطريق يبعن اللوز و الكمأ والفل. الطريق إلى وادي القطارة يمر جنوبا عبر طرق غير ممهدة. مملوءة بالحفر والنتوءات والأخاديد. وعرة جدا في أكثر مراحلها. هذه الوعورة الدروبية تجعل عجلات السيارة تهتز بشدة. فتهتز معها بلقيس من أسفل إلى علٍ. وأحيانا من اليمين إلى الشمال. والعكس. كتفها الأيمن يلامس باب السيارة وكتفها الأيسر يفر منها ليلامس كتف اغنيوة الذي يبعد نفسه في خجل مواصلا القيادة والتشبث بقوة في المقود بكلتا يديه. يصلان إلى وادي القطارة وهو مصدر المياه الوحيد في المدينة. تنزل بلقيس. تغسل يديها وتمسح على وجهها بكفيها المبللين. يملأ لها اغنيوة أزيار الماء. ويشاركها تناول بعض ثمار التوت. ثم يعودان. في الطريق أكثر من مرّة تستوقفه طالبة منه قطف ثمرة زهت في عينيها تتدلى من شجرة على قارعة الطريق. كل سكان المنطقة أقارب لاغنيوة ولا ضير إن قطف ثمرة أو دخل أرض إي واحد منهم. بلقيس أيضا شخصية محبوبة من الجميع. طلباتها كلها ملبّاة سلفا. هي أيضا تعامل الجميع بمودة. تزور المرضى في بيوتهم ونجوعهم. تقدم لهم الدواء والمساعدات. في الأعياد تشاركهم فرحتهم. تمنح المحرومين بعض الملابس والطعام والمال. والمرضى الذين يعاف الناس مخالطتهم كالمجذومين تقترب منهم وتربت على رؤوسهم وتواسيهم وتشاركهم الطعام والشراب وتطلب من اغنيوة أن يأخذهم جولة في السيارة. اغنيوة تخلق بأخلاقها الفائحة بالأفعال والنيّات النبيلة. حتى أن بعض أصدقائه صاروا يلقبونه باغنيوة بلقيس. كانت الحياة الدينية في المدينة تسير على ما يرام. كل ديانة تمارس طقوسها في معبدها. لا أحد يزدري أحدا. لا أحد يعتدي على أحد. كل عبادة يمارسها أتباعها بحرية. فهؤلاء يتناكحون في ظلمات الليل. و أولئك يرقصون مع بزوغ الفجر. و ذاكم يرسمون في القيلولة. ورهط آخر يتأملون أوان الأصيل. وآخرون يلعبون النرد. وآخرون يلعبون الوابيص والليبرا وجمل عاشوراء. وآخرون يسجدون إلى وثن الوشاية ويتسابقون إليه في الوشاية في بعضهم وفي أنفسهم. وذالكم يتمتمون بكلمات تدعو إلى الحب. في تلك السنوات كانت الحروب قد وضعت أوزارها. واقتنعت الأطراف المتحاربة كافة أنه لا جدوى من الموت. تصافحت جميعها وتعانقت وغسلت كل القلوب من الحقد والانتقام والوحشية. كانت هذه المدينة آنذاك تحت حكم الإدارة الأممية. المؤن توزع على السكان. الأمن مستتب. الناموس الذي تعانق عليه كل أرباب الحرب هو الفيصل بين الناس. استطاع سكان المدينة أن يفتتحوا النوادي. والجمعيات الأهلية. أنْ يتظاهروا من دون أن يجابهوا بالنار. سمح لهم بإصدار الصحف والمجلات وافتتاح المواقع الانترنيتية. سمح لهم بصعود القمر متى أرادوا وبركل الشمس وتكسيفها أو تخسيفها متى ما حلا لهم.

تأثر اغنيوة ببلقيس كثيرا. طيبتها انعكست على جلافة ملامحه البدوية فتودعت قليلا. تطهر رأسه من الضباع والذئاب وبنات أوي وصيود الليل. مكر البدو وتعجرفهم هبطت و تيرته إلى أقصى حد. حتى أن ابن عم له تحايل عليه في اقتسام أصوعة الحبوب فلم يكترث لذلك. صار هندامه أنيقا. فقبل أن يغادر بالسيارة لاصطحاب بلقيس من المعبد يكون قد استحم وحلق ذقنه وصفف شعره وثبت ذوائبه وشوشته بمثبت معطر لامع. وبالطبع نظف أسنانه البارزة بالفرشاة والمعجون حتى صارت بيضاء ناصعة. قبل أن يعمل سائقا لبلقيس كان غير مهتم بنظافته الشخصية. شعره أشعث. أسنانه البارزة صفراء من التبغ وقذرة من مضغ لحوم التيوس الشارفة. كلما مر من الأزقة الملاصقة للسوق عابثه الفتيان مغنين:

يا اغنيوة يا فيك اسنون. ناقصهن فرشة ومعجون.

فيلعن دين أمهم ويـبصق عليهم ويواصل طريقه. الآن بفضل مرافقته لبلقيس الأنيقة التي تدفع له معاشا جيدا وتصلح له من شأنه بطريقة لا تشعره بالحرج. كأن قالت له ذات صباح وهو واقف خلفها يثبت لها دبوس وشاحها القرنفلي. آووف يا غنيوة. لو تترك أكل الثوم سأضع في كفيك النجوم واستدارت نحوه ووضعت في كفيه قطعتي حلقوم بالفستق كل قطعة على هيئة نجمة رؤوسها اللامتناهية مستديرة.

من يومها لم يذق الثوم. وحتى البصل والكرّات. صار يتناول طعاما لا يخلف أية رائحة نفاذة. بلقيس تقترب منه كثيرا تصلح له من هندامه. ياقته أن كان طرفها منطويا في رقبته جذبته إلى الخارج ومسحت بإصبعها قرب أذنه فيفغر فاه نشوة ثم يطبقه ويبتسم وتبتسم وينطلقان في السيارة إلى المشاغل اليومية تظللهما البهجة وتمطر على روحيهما لذائذ الاهتزازات.

فهم رغباتها وفهمت رغباته. العمل يسير على ما يرام تماما. أحيانا تتوعك من الدورة الشهرية فترسله إلى السوق لوحده يتقضّى لها ما تريد من مشتريات. وتكلفه أيضا بإيصال الرسائل إلى وجهاء المدينة. كانت الثقة متوفرة إلى أبعد حد حتى انها تسمح له بتوزيع الغذاء والمال على الفقراء وعلى كل من يستحق. تقول له أنت تعرف الفقير من المتفاقر. تعرف الناس أكثر مني. فيتم الأمر ويأتي إليها في غرفتها بالمعبد يجلس على حافة السرير ويحكي لها عما حدث بالتفصيل ويعيد لها ما تبقى من مال أو غذاء. تربت على شعره وعلى كتفه وتشكره وتضم المخدة إلى صدرها وتهصرها بشدة ثم تنظر إلى النافذة في أعلى الغرفة. هي ترتاح له كثيرا وهو يرتاح لها. مذ أن فقدت حبيبها ابن العم في الفيضان الشهير الذي التهم كثيرا من الأرواح والممتلكات لم يدخل إلى قلبها رجل. ليس كل الرجال قادرة على دخول القلوب. هكذا تقول لنفسها دائما. شحبت واصفرت وتكونت هالات سوداء حول عينيها بسبب الحزن. لكن بعد فترة من موته تحركت دواخلها وفطرتها للحياة. اشتعلت جذوتها فلعنت الشيطان والجفاف و تركت الحزن والعبث والغياب. وقررت أن تجده عبر عبادة تمنح السعادة للذات و للآخرين. كثيرا ما تحدثت مع حبيبها عن أعمال خيرية. وعن حب ينعكس دفئه على الآخرين. وعن جنس ارتعاشته تنشِّي الكون. وعن طعام يكفي الجميع ويفيض. وعن نار تدفئ وثلج ينعش وريح تلطف لظى الجحيم. ونسيم يدخل الإنسان إلى جنة القرب. لكنه مات. التهمه الطوفان. وتركها متمسكة في جذع شجرة زيتون منعه عمود أثري قديم كثير الثـقوب من الانجراف. حيث مر الماء إلى الماء. مرَّ من خلال الثـقوب إلى الخلاء والبحر والمحيط. وجذع الشجرة الغليظ دخل ثـقبا ضيقا. لا يسمح له بالمرور. وان سمح له بالإيلاج قليلا. كانت بلقيس تعانق منتصف الجذع. والماء من الخلف يدفع الجذع الذي ازداد توغله في الثـقب رويدا رويدا حتى لامس رأس بلقيس العمود الحجري الأثري. ما إن لامس الرأس العمود حتى هدأ الطوفان قليلا. واستمر الهدوء في الماء وفي العمود وفي رأسها وفي العالم. استمر هدوء الطوفان وبطء جريانه إلى أن همدت ثورته.

حبيبها لا يشبه اغنيوة. لكنهما يلتقيان في شيء واحد وهو العزف على المزمار. حبيبها يعزف ألحانا جميلة على مزماره المصنوع من سوق القصب واغنيوة مثله يعزف ألحانا جميلة على مزماره الذي صنعه بنفسه عندما جلب قصبه من بحيرة السلماني الملاصقة لجبانة سيدي عبيد. اغنيوة يعزف جيدا خاصة إن رأى أو تخيل قطيع مواشي أو سرب خليش (نوع من الطيور). حبيبها بعد أن ينتهي من العزف يغني أغنية طويلة واغنيوة مثله يغني أغنية طويلة في نفس واحد. بلقيس تفهم أغاني حبيبها لكن أغاني اغنيوة تجد صعوبة في فهمها فتطلب منه شرحا مفصلا. بعد مدة تعودت وفهمت و ما عادت تسأل اغنيوة عن معنى هذه الكلمة أو تلك. صارت تـفهم بالروح. صارت تفهم أن اغنيوة لا فرق بينه وبين حبيبها. الموسيقى وحّدت بينهما في نسيج انساب الى قلب بلقيس. أول يوم رأت فيه بلقيس اغنيوة كان لحظة نزولها من الباخرة. التقاها اغنيوة في فم الميناء وساعدها في حمل حقيبتها. وضعها في صندوق سيارته. وانطلق بها إلى المعبد. لم يشترط عليها سعرا معينا. تصرف تلقائيا وكأنه يعرفها منذ زمن. فتح النافذة وصار يغني بصوت خفيض موّال:

يا حلو يا لابس الحلو. يا صغيّر يا عاجباني.

ويا مولع النار في العلو. دخان نارك عماني.

وفي آخر الموّال تأوه فنظرت إليه بلقيس و سألته: أأنت عاشق؟. فأومأ برأسه موافقا وأرادت بلقيس أن تنظر إلى صورتها في المرآة الصغيرة المثبتة في واقية الشمس أمامها فرأت زمارة قصب تتدلى من واقية البلاستيك البيضاء. استأذنت من اغنيوة وتناولتها لتتأملها. زمارة مزدوجة يتدلى من طرفيها بالوصين. ثبتتهما بلقيس في الفتحتين ونفخت محركة أناملها على الثـقوب. وزاد اغنيوة السرعة واكتنفته النشوى والمرح. وتوقف بالسيارة تحت شجرة خروب ظليلة. صار يسمع لمعزوفاتها الجميلة. وانسابت دموعه إذ توغلت الموسيقي إلى أعماق أعماقه ووغرت جرحه القديم فحبيبته التي أحبها من القلب تزوجها ابن عمها وعجز اغنيوة عن نسيانها. توقفت بلقيس عن العزف وتناولت قربة الماء المثبتة في مقدمة السيارة شربت منها حتى ارتوت وعندما أعادتها مكانها كان اغنيوة يعزف على الزمارة لحنه الأثير الذي يختزل نار الفراق الى جحيم ينتصب. بلقيس شعرت بما يشعر به أرادت ان تواسيه فابتسمت له واعتبرها وهو يعزف انها ابتسامة حظ ممزقة تجلب أحلاما لذيذة ففرّح لحنه قليلا. ورقصت بلقيس رقصات تدور فيها حول نفسها ثم حول اغنيوة ثم دورات سريعة تصاحب إيقاع الزمارة السريع وعندما توقف اغنيوة فجأة عن العزف صرخت بلقيس وكادت تسقط على نتوء صخري حاد لولا أن اغنيوة ناولها يده في الوقت المناسب فتمسكت بها وتذكرت جذع الزيتون الذي انقذها من الطوفان.

جذع الزيتون المدفوع من الطوفان أنغرز في ثقب بالعمود الصخري الأثري. وبلقيس غرزت يدها في جراب تحمله على كتفها وأخرجت منه قلادة صدف أهدتها لاغنيوة فعلقها في حاملة مرآة السيارة. ينظر إلى صندوق الموشرات أمامه وينظر للمرآة ليرى من خلفه. وكل مرة ينظر فيها للمرآة يرى القلادة تتأرجح أسفل منها وصدفاتها تخبط بعضها مصدرة موسيقا من نوع خاص. غير قابلة للعزف. عازفة عن التعزّف. تعزفها اهتزازات الطريق والريح ان كانت كل نوافذ السيارة مفتوحة. ومع الزمن. ومع الطعام اللذيذ. ومع الفلفل الليبي الحار الذي يُقدّم مخللا في أكواب غارق في سائل ملح الليم وتتخلله وريقات النعناع والكسبر وشرائح الليمون. ومع خبزة الحلوزي الساخنة. ومع الهواء العليل الخالي من التلوث. ومع اللبن والزبدة والسمن والفواكه الطازجة والماء العذب الرقراق نضج جسدها وجن وتفتحت شهوته كثمرة تين فجرها غنج السكر. وأشرق خيالها وضج بأحلام بها ضم وشم وعناق وارتعاش وصدف يضرب دفوف بعض ويلعن زمن القواقع. بعد وادي القطارة بمسافة كانت السيارة منطلقة في أرض براح. أرنب بري يركض. السيارة تطارده وسط الحفر و الأخاديد. لو كان ليلا لسلّط عليه اغنيوة الضوء المبهر وسمّره مكانه. لكن الزمن نهار. والأرنب يركض بين أزهار المريمية ونبتات الخرشوف ويرى. ينهب الأرض بتعرج يصعّب مهمة السيارة في مطاردته. السيارة تنعطف وراءه أينما تعرج. يمين. شمال. دورة. دورتان حول نفسها. اغنيوة يلعن الأرنب ويتوعده بالهزيمة. بلقيس تضحك وتستحلى اهتزازات السيارة. و العفويات اللمسوية القادمة من كتف اغنيوة القوي أحبتها. تحثه أن يواصل المطاردة والانعطاف والدوران واللعنات. كتفها يلمس باب السيارة. كتفها الثاني يلمس كتف اغنيوة. ملامسة وابتعاد. مطرقة وسندان. الأرنب عنيد لا يتوقف. لا يستسلم للهث. يركض بكل روحه. حتى هو له حبيبة. أرنبة تحضن خمس جراء. والسيارة طوفان ولا عمود اثري ولا جذع زيتون ينفع الأرانب. واغنيوة وبلقيس قدر يدفع الحياة إلى ضحكات الموت. السيارة تركض. والتلامس يتزايد. والخصوبة تتبلل. والأرنب يسعى للنجاة. يركض بكل قوته. يصادفه جحرا في تبّة منخفضة فيدخله. يخرج منه سريعا و خلفه حيوان آخر يطارده. الأرنب مطارد من شيئين. الحيوان الآخر يرى السيارة فيعود إلى جحره. ويظل الأرنب وحيدا واقفا في المفازة. يلتفت ذات اليمين والشمال. يرفع رأسه إلى أعلى وهو يلهث. اغنيوة يوقف فرامل السيارة بقوة ويضع راحته أمام صدر بلقيس لئلا يرطم الزجاج. تتمسك بيدها في مقبض الباب فلا يلمس الصدر اليد ولا اليد تعود الى مقودها. ينزلان من السيارة. تقترب بلقيس من الأرنب. إنه ينزف. من رقبته. من أطلق عليه النار. هما لم يطلقا عليه النار. اغنيوة تأمل رقبة الأرنب. وأشار إلى الجحر. الحيوان غرز مخلبه في عنق الأرنب. بلقيس شعرت بحزن. هي لم تقصد صيده. قصدت مطاردته وتركه. قصدت المزيد من الاهتزازات المسيلة لأسفلها. الكتفان يتلامسان. السيارة تهتز باستمرار. انعطف يمينا. شمالا يا اغنيوتي. بسرعة أكثر. فوق. تحت. إلى الوراء. ضحكات. صرخات. تأوهات. حيوية. غبار غير مشعور به. جو جميل. مطاردة تجدد الروح وتجعل الجسد لا يملها.

عادا بالأرنب إلى المعبد. داواه طبيب المعبد بالتـنـتورة (ضرب من صبغة اليود أو الميكركروم) وقال لبلقيس لقد تأخرتي. لقد نزف كثيرا. ومخلب الحيوان مسبب الجرح ملوثة. من الأفضل أن تعطيه لاغنيوة ليشويه. لا أمل في شفائه. لم تستسلم بلقيس وركضت به مع اغنيوة إلى طبيبة شعبية. كوت رقبته وصبّت عليها نقيع أعشاب بريّة وقطرات عسل مر وضمدتها برباط نظيف. وقدمت للأرنب الخس والجزر الطريين. لم يمت الأرنب. تعافى بعد أيام قصيرة. كل يوم يزورانه عند الطبيبة فتقدم لهما اللبن والتمر وخبز التنور المغموس في عسل النحل. يربتان على الأرنب فيستكين كقطة دلوعة ويتمدد على نطع الصوف. ثم يتمرغ قليلا ويقف يتمشى في خيلاء. بعد أن شفى تماما أخذته بلقيس إلى الخلاء حيث وجداه. انزلاه هناك وقفلا عائدين. صارا يتأملانه في المرآة. وقف قليلا ثم بدأ يركض وراء السيارة. يزيد من سرعته كلما زاد اغنيوة السرعة. ويتوقف كلما أوقف اغنيوة السيارة. رق قلب بلقيس. لم تستطع تركه. نزل اغنيوة وحمله من أذنيه. وضعه في حضنها. اختلط فراءه الأبيض ببياض ثوبها. هزهز رأسه وتمطى ثم سكن. عندما عادت به بلقيس إلى المعبد رفض كبير العباد أن يبقى هذا الأرنب في المعبد. قال سيفسد لنا الأرضية ويحفر لنا ما ردمنا من ثقوب وثغرات وقد يكشف لنا عن خبيئة سرية لا نرغب في ظهورها. واقترح أن يخصص لهذا الأرنب قفصا معلقا. لكن بلقيس رفضت أن يسجن في قفص. وأخذته معها إلى غرفتها. بلقيس تملك قطا رماديا بلون غيم الشتاء. وضعت الأرنب في غرفتها مع القط. لم يتشاجرا. بل مع الأيام صارا يلعبان مع بعضهما. وعندما يمر فأر غافل. القط يطارده ويجري خلفه وعندما يحاصره ويكاد أن يظفر به. الأرنب يعرقله و يعترضه ويشاكسه حتى يتمكن الفأر من الهروب والإختباء في الصدوع الضيقة. بلقيس ترى المشهد فتبتسم. اغنيوة يرى المشهد فيبتسم مثلها ويصفق يديه قائلا: سبحان الله.

اغنيوة عطشان. و مياه السماء تنهمر طول العام. في الشتاء تتقوّى ومع الربيع تخف قليلا. وفي الصيف ينقص انهمارها كثيرا. وفي الخريف تنتعش فتنثر بذور قطراتها ويمتزج وقع انهمارها بصوت الرياح. هكذا هو الماء الممزوج بالرياح. مجنون كنهد رجرجه النضج ودغدغته الطراوة. الماء يسيل مع سوالف العشب المنبثقة من ثنايا الصخور ويبلل حصى الأرض منتشيا من تماس الرحلة. راحة اغنيوة بدأت تتدفأ على فخذ بلقيس. هذه الفخذ الريانة التي ترتعش رعشة فجائية ثم تهمد وترتخي. اغنيوة سعيد جدا. بيد يقود السيارة. وبيد أخرى يمسح على فخذ بلقيس. يمسح بأصابعه حتى الركبة ثم يعود حتى الحوض. لا حفر في درب اللحم هذا. بلقيس تكز على أسنانها من قشعريرة اللذة. شفتاها ترتعشان. عيناها تغمضهما وتفتحهما في بطء. عندما تـنعطف يد اغنيوة نحو الأخدود الذي بين الساقين تضربه بلقيس بيدها وتقول له عيب. اركح بلاش شطانة. فيمتعض اغنيوة ويعض بأسنانه البارزة على شفته السفلى ثم يدوس على دواسة البنزين بكل قوته وتنطلق السيارة بكل سرعتها مخلفة وراءها غبارا ودخانا. بلقيس تصرخ لا تسرع ارجوك. قد ننقلب. واغنيوة لا يكترث لصراخها ويغني بأعلى صوته أغنيته المفضلة:

يا لاندروفر يا زينة. يا قاطعة الصحراء بينا.

يا حرشة. اغنيوة فوقك عالفرشة.

وايصب فيك البنزينا.

ولا تتمالك بلقيس نفسها من القهقهة وتسأله أفرشة عجمية أم فرشة عشب ستضعني عليها يا مجنون؟ !. ويصرخ اغنيوة عجمية على عشب ويزيد من السرعة وتنحرف به السيارة نحو جرف صغير فتميل بشدة إلى الجنب حتى أن الراهبة تسقط بكتفها عليه فيعدل السيارة بالانعطاف نحو الاتجاه المعاكس. يعتدل هو لكن بلقيس تظل ملتصقة به وجهها مغروس في صدره المشعر لا يعدل قامتها لكنه يعانقها فلا تقاوم ولا تقول له اركح بلاش شطانة أو تضربه على يده بالنشاشة. يوقف السيارة فتبدأ في ارتشافه وارتشاف أجداث حرمانه المزمن.

لم يكن اغنيوة قد مارس الجنس مع امرأة جميلة نظيفة من قبل. أكثر ممارساته كانت مع بدويات متحشرفات أو غرباويات رائحتهن زميتة وبصل وعرق أو مع الحمير أو الخيل أو مع مخنثين معروفين في السوق. منذ أنْ بدأت تـقبل شفتيه انتـشى وصار يلهث ويجأر كحيوان فتركت شفتيه ورفعت تنورتها ودخلت بين ساقيه. فلم يحتمل وأفـرغ صارخا يا نا عليْ. يا نا عليْ. حلووووووووو فوق من اللزوم. ابتسمت بلقيس وابتعدت عنه. تعدل من هندامها وتعيد تنورتها إلى مكانها. لقد تمزقت ابتسامة الرواق هذا اليوم ولن تستطيع خيوط الدنيا و مخارزها أن ترتـقها. وهذه القذفة كسرت حاجز التحفظ الذي كان قائما بينهما منذ أن اشتغل عندها. عاد بالسيارة إلى المدينة بسرعة بطيئة. وكلما واتته فرصة خلوة جذبها وقبلها. تقول له لقد تأخرنا فيقول لها فعلا تأخرنا لأننا لم نمس بعض إلا هذا اليوم المبارك. اليوم تصبّحت على ديك راكب على دجاجة. هذا الديك سأشتريه من جارتنا ولن اذبحه ابدا. وضحكت الراهبة. سأشتري له دجاجة شفافة حتى ينبسط مثلك ويكوكي كاكاكيْ (يا نا عليْ) بلغة الديوك. وصارت الراهبة تتلمس فخذه وتمرر يدها حتى تقبض على عضوه فيفتح فمه متأوها وينظر في الطريق ذات اليمين والشمال فلا يرى اي مارة او سيارة قريبة فينحرف عن الطريق العام إلى شجرة كثيفة يوقف السيارة تحتها ويرفع تنورتها ويدخل بين ساقيها يلتصق فتعانقه وتهصر خصره ويتلمس لباسها الداخلي محاولاً إنزاله فتمنعه وتتملص منه قائلة. إلا هذا. ما فينش (ممنوع). خلينا من برا لا برا (الخارج). ويحاول أن ينزع لباسها الداخلي بقوة فتدفعه عنها وتصفعه على وجهه فيصرخ من الصفعة ومن القذف الذي عجل به التـقاء العنفين. ويسترخى قليلا متمتعا باللذاذة ثم يصرخ ويحاول أن يعود بين ساقيها ليلجه فيها لكن ترفض بشدة وغضب فيتوسل لها. لكنها ترفض وتهدده بالطرد من العمل فيقول لها اطرديني مش مشكلة. لكن تقول له وراس العزوز (امه) اتخليني فيطأطئ رأسه ويتركها ثم يعود بالسيارة الى الطريق. يسير ببطء متشبثا بكلتا يديه بالمقود. بلقيس تتأمل الطريق وتصلح من نفسها مستعينة بمرآة الباب الجانبية. اغنيوة بعد الذروتين شعر بالاكتفاء والشبع لكنه صار يتظاهر بمناوشتها فيتلمس فخذها ويذهب بيده الى تحت فتضربه عليها. فيعود. لكن هذه المرة وخزته بإبرة مغروسة في كبّة الصوف التي تشتغل عليها فأبعد يده ومص الدم القليل النافر من جرّاء الوخزة. نظر لها نظرة دموية وقال لها لقد سيلتي دمي وسأسيّل دمك. قالها مازحا وقهقه عاليا وصار يغني لها:

لو تعطيني مرّة.

لو تعطيني مرّة.

لو تعطيني مرّة.

حتى من برّة لا برّة. (دون إيلاج).

عندما وصلا المعبد ساعدها في حمل النبيذ والتين المجفف والمكسرات إلى غرفتها. في الغرفة لم يجدا القط. وسمعا عواءه من بعيد. ووجدا الأرنب يلحس جزرة حمراء. ابتسم اغنيوة واقترب منها قائلا ورأس الأرنوب ما تقولي لا. الأرنب يلحس الجزرة الحمراء وبلقيس تلحس فجل اغنيوة والقط دفع بمخبشه فردة النافذة المواربة ودخل و دخل معه شعاع شمس أصيل انفلت من كثيب سحاب غامق. لم تترك بلقيس اغنيوة يلجه فيها لكن سمحت له بأن يلامس عضوها بعضوه. ومع الأيام صار الأمر عادي. واستمتعا ببعض دون إيلاج. في الغابة وعلى ضفاف وادي القطارة. وفي الغرفة. كانت دائما تمسح جيدا وتغتسل. واغنيوة الذي كان لا يشرب النبيذ صار يشاركها الشراب ويشوي لها القديد ويعد لها امقطع حار بعصبان الشمس على حطب البطوم (عصبان الشمس نوع من القديد الليبي قطعة كرشة محشوة بقطع الكبدة والرئة والشحم وتبهر وتربط بالأمعاء الدقيقة وتنشر في الشمس لتجف). وفي بعض الأيام يركن السيارة بعيدا ويزورها في الغرفة لشأن ما ثم ينام عندها. عرف المرأة جنسيا بصورة حقيقية من خلال جسد بلقيس الفاتن. وإن هي عرفت الرجل سابقا مع حبيبها الذي مات في الطوفان وسبب لها الجفاف والبؤس حتى وجدت الخلاص في ملح بنغازي وسباخها الأسطورية ونهرها المنسّي هموم الكون وتفاحها الذهبي المحروس بالهسبيريدات الجميلات الشرسات وفي التعبد النقي والطعام اللذيذ الشهي. عندما يعود منها إلى البيت يتسلل قبل النوم إلى اسطبل جارهم فيضاجع الفرس ذات الفرج الساخن ويقارن بين هذه الفرس وتلك البلقيس التي تؤججه وتسمح له بالملامسة فقط. يقارن بين الحلاوتين ويقول المثل المأثور.

" الفرس أحلى بـنـّـة والعروس أحلى صـنـّة ".

والبنـّـة تعود إلى المذاق والحسيّة والصنـّة تعود إلى حاسة الشم. أي الفرس لذتها الجسدية أقوى من العروس التي تـتـفـوق في مجال الرائحة العطرة إنْ أحسنت التعطر وأوقفت الضراط.

ذات مساء حضر عرس ابن عمه ورأى العريس يدخل على العروس ويخرج بعد ربع ساعة وفي يده منديل ملطخ بدم البكارة يعطيه للنساء وتتعالى الزغاريد وطلقات البارود من بنادق الصيد وشيخ كبير يصرخ آهم الرجالة ولا بلاش. وكان قد احتسى بضع كؤوس من القرابا فركب سيارته وذهب إلى المعبد. في غرفتها عرفته سكرانا. وكانت حتى هي منتـشية قليلا من النبيذ. وكان الجو باردا. والأرنب نائما. والقط يطارد القطط فوق أسطح البيوت القريبة. تعانقا وتعريا تمام وبدأت تداعب جذور شهوته. لكن طرق على الباب. وبيباص المعبد (راهب صغير) يقول هناك امرأة ستلد الآن. زوجها جاء يطلب مساعدة. لبست بلقيس ملابسها بسرعة ومدت حقيبة التمريض للبيباص لينزلها إلى تحت وخرجت بسرعة ترافق الزوج القلق إلى زوجته التي في حالة نفاس. ما أن ابتعدت السيارة حتى عاد البيباص كعادته إلى غرفة بلقيس ليختلس رشفات من النبيذ او بعض المكسرات. دفع الباب ببطء وتسلل في الظلام إلى خزانة الشراب. اغنيوة على السرير متناوما تحت اللحاف يسمع خرخشة فيظنه الأرنب أو القط. لكن البيباص عندما عب حد الارتواء من النبيذ انتشى وتنهد ثم اشعل سيجارة وتأخر ليستلقى قليلا على السرير فتلقفه اغنيوة وطوقه بذراعيه صارخا تسرق في السكير يا ابن القحبة. أنت تستاهل الركوب عليك. ودفعه على السرير واعتلاه بعنف. لم يقاوم البيباص وارتاح للأمر و استرخى منتـشيا. لكنه توسل في غنج. بالشوية يا سي اغنيوة بس. الشغل ظرافة مش كبر..

كان هذا البيباص فاسدا كبيرا. يعرفه كل الفرواخة (اللوطيون +) المقيمون حول المعبد. فيصحبونه إلى بحر الشابي ويعتلونه باستمرار. بل ويأتونه شبان من القرى القريبة خصيصا. كان مدمنا على الإنبطاح. يفعل ذلك بصورة شبه يومية. وكل مرة يأتي إلى كبير العباد ليعترف. لقد فعلوا بي اليوم. اطلب الغفران. ومن كثرة هذه الأفاعيل صار يدخل إلى غرفة الاعترافات ولا يتكلم لكن كبير العباد يفهم أنهم فعلوا به مرة أخرى. فيمنحه الغفران سريعا لينظر في أمر غيره.

وفعلتها الحياة ووقع المحظور وتسرب ذاك المخلوق إلي رحم بلقيس وتكون الجنين. انقطع الطمث. وبدأت بلقيس تـتـقـيأ. وتكره كافة الأطعمة. وتسقط في منتصف التراتيل. فيحملها اغنيوة إلى غرفتها وينش على وجهها بنشاشة السعف وعندما تنتعش قليلا تعانقه فيعاود معها الكرّة. لقد أدمنها و أدمنته. في الشهر الرابع انتفخ بطنها أكثر وشك مجلس المعبد في الأمر فأخضعوها إلى كشف طبي. وجدوها حبلى. لكن في الوقت ذاته عذراء. قال كبير العباد. ثمة معجزة ما. ففي الكتب هناك بشارة بأنه سيظهر من هذه الأرض شئ مهم. سنرسل حمام الزاجل إلى المعبد الأم ونخبرهم بالأمر. سنقيم حفلة الرسالة غدا مساء. غدا القمر في منتصف السماء. نبه على الجميع انه لا غياب. جهزوا النبيذ والشواء والبخور والدفوف. والرسالة ستكتبها بلقيس بنفسها على قطعة من جلد أرنبها. أحدكم يذبح الأرنب الآن ويسلخه ويدبغ جزء من جلده ليكون جاهزا مساء الغد. والحبر من دم القط. ذاك القط الرمادي الذي تربيه. ليس مهما أن تذبحوا القط من الممكن أن تجرحوه فقط. لكن اقبضوا عليه منذ الآن لئلا يهرب أو يضيع وراء قطة سمينة. كثيرا ما يتغيب هذا القطوس الرمادي لعدة أيام مصاحبا قطة في إحدى الخرائب. اعزلوا بلقيس عن غرفتها. ضعوها في الأسفل في غرفة التمريض. قبض على القط. وذبح البيباص الأرنب. ليس أرنب بلقيس. لكنه أرنب آخر احضره له اغنيوة خفية في كيس وأخذ أرنب بلقيس إلى بيتهم أوصى عليه أمه للعناية به. قال لها يا أمي هذا أرنب مرابط. جبته من سيدي مرعي. صاحت تستور يا أسيادي. وأدخلته الغرفة. قالت للأرنب احفر وين ما تريد. عليك الطويل اينادي (لن اهتم للأمر بتاتا).

قدمت له الماء وربطة برسيم طرية و أبعدت عنه حشائش المعدنوس السامة بالنسبة لمعاشر الأرانب.

أقيمت الحفلة. حفلة صاخبة. بها غناء ورقص وطعام وشراب وطقوس تعبدية غامضة وإطفاء نور واختلاط بلا حدود. كانت بلقيس من نصيب اغنيوة. جرها وراء عمود في ردهة المعبد. وبعد أن هدأت الأحوال. أي كل رفيق امسك رفيقه انسل بها صوب مصطبة في آخر الممر. جلس عليها وصار يتناجيان بهمس. عند الفجر صعدا إلى الغرفة وأكملا النوم. في الصباح لم يتلمس الأرنب أصابعها و يلحسهما استيقظت مفزوعة. الأرنب. الأرنب. وخرجت تجري إلى تحت. الأرنب. الأرنب. خرج لها البيباص وكبير العباد من غرفة جانبية. وقال كبير العباد الأرنب حسب الطقوس المقدسة ذبحناه وكتبنا بدمه الرسالة فصرخت ارنوبي. ارنوبي. مجرمون. إرهابيون. قتلة. سفاحون. وكادت تهوي أرضا بيد أن البيباص أسندها و التقف يدها في آخر لحظة وصار يساعدها في الصعود إلى غرفتها وهمس في أذنها سيحكي لك اغنيوة. لقد كان فحلا معي لذلك خدمته من عيوني.

فرحت بصنيع اغنيوة وعانقته بشدة. كانت الرسالة قد كتبت في رق الأرنب وعند الفجر طيرت حمامة الزاجل والرسالة مغمودة في جلد ومربوطة إلى رجلها. بعد شهر عاد الرد عبر الزاجل. ستصلكم السفينة فضعوا بلقيس فيها ولتأتينا بحملها المبارك.

لاحت السفينة للميناء عند الأصيل. المنارة قوّت من ومضها بتجرع جرعات مضاعفة من الوقود. الناس عشّت أمام الميناء انتظار الوصول. الزمن شتاء. الأمواج عالية ومتلاطمة. السفينة تناور وتـفشل. القاطرات برياسها أصحاب الخبرة يحاولون دلها ومساعدتها ويفشلون. هناك من أتى من القرى المجاورة للتسوق من سوق المدينة لكن بعد أن شاع نبأ وصول السفينة التي ستنقل بلقيس الحامل إلى موطنها الأم. فضّل عدم الرجوع إلى حيّه بن يونس واستحلى البقاء قرب الميناء ليرى الحدث بأم عينه. وليحكيه لأناس بن يونس والمدينة الدائخة عندما يعود بأم رأسه. المناخ بارد جدا. وهذا الوقت بالذات يسميه الناس وقت قرّة العنز.

الأمر داخل المعبد يختلف اختلافا تاما عن الأمر أمام الميناء. كان البيباص في أعلى البرج يضع للحمام قصبا ويغير له كؤوس الماء ولاحت منه التفاتة صوب البحر فرأى خيال السفينة ودخان مدخنتها العملاقة يختلط بسحاب الشتاء الغامق. هبط سريعا إلى صالة العبادة الفسيحة. وعلى الرغم من أن كبير العباد مستغرق في طقس تعبدي مهم إلا أن البيباص اقترب منه غير عابئ بنظرات عدم الرضا من بقية العباد ذوي الدرجات المتفاوتة ووشوش في أذن كبير العباد الذي بدوره رفع يده وابتسم و أنهى طقسه بترقيصة حاجبين وهزّة رأس تأمر الجميع بالخروج من الصالة وبقى وحده مع مساعده ومساعدته العجوز. بعد عشرة دقائق دبّ النشاط في أروقة المعبد وأرسلت سيارة للبحث عن اغنيوة وبلقيس و إحضارهما. وجدهما السائق صحبة البيباص تحت شجرة بطوم يرتشفان الشاي الساخن بالبردقوش. نزل البيباص و أخبرهما بضرورة العودة إلى المعبد لأمر هام. صب اغنيوة للبيباص طاسة شاي وأخرى للسائق ثم ردم نار الشاي بالطين وغمزه البيباص قاصدا أن يقول ونار مؤخرتي. فابتسم له اغنيوة وصفعه على ظهره قائلا: اطلعوا الساع (الآن) نلحقوكم.

قاد بلقيس إلى السيارة برفق. ساعدها في الجلوس على الكرسي. حرّك لها عقد الصدف المعلق في المرايا حتى يشكشك شكشكشك. ضغطت بلقيس على شريط في المسجل فبدأ يغني أغنية قد ألفاها ولحناها وعزفاها بالمزمار بالتناوب وسجلاها في غرفة بلقيس مستعينين بالبيباص كدرباك. يبدأ اغنيوة أولا:

يا بلقيس يا حفنة أحاسيس. أنت شاهي برغوة. مانكش شاهي كيس

تضحك بلقيس لخفة دمه وتغني:

يا اغنيوة يا اغنيوة. ياروح قلبي يا حليوة

وتتواصل اللازمتان من اغنيوة وبلقيس بتفاصيل غنائية ارتجلاها آنذاك إلى أن ينتهي الشريط بمواء القط الذي قفز من النافذة إلى الغرفة يشاركهم بمواء طويل تصعب على النوتات الموسيقية تدوينه. قلبت بلقيس الشريط وأوقف اغنيوة السيارة أمام المعبد. فتناولت بلقيس الشريط من المسجل وحفظته في جيبها. كان في الباب كبير العباد الذي استقبل بلقيس بترحاب وبشاشة و اغنيوة أيضا. لكن بعدها قال لاغنيوة عليك أن تعود إلى بيتك يا بني الآن وتأتي غدا صباحا. غدا لدينا شغل كثير ونحتاجك كثيرا. أنصحك ألا تقف لأحد في الطريق. ولا تتكلم مع أحد حتى الغد. غدا باكرا نحتاجك صائما عن الكلام. لا تلتفت أو تقف لأحد. الأمر مهم جدا يا إبني اغنيوة. عاهدني على ذلك. قال له اغنيوة كلام رجالة خلاص تم.

كان اغنيوة قد ألف هذه التصرفات الطقوسية التعبدية وتعايش معها فلم يستغرب الأمر. كثير ما نفذ مثل هذه الأمور. أحيانا يكون في المعبد ويقولون له اقفل عينيك وما يحدث لك ليس حقيقة بالضرورة فيقفل عينيه وكثيرا ما ناك مخلوقات لم ير وجوهها. لكنها أشياء ناعمة ونظيفة فلم يصب بأي مرض جنسي. إلا مرة واحدة عندما ناك البيباص في غرفة بلقيس وأسعفه البيباص بالعلاج في ثاني يوم. أحيانا يصحوا فيجد بجانبه نقود أو طعام فاخر. ذات مرة أثناء طقس تعبدي شعر بأن أحدهم يريد أن ينيّمه على بطنه فطاوعه ونام متمثلا مقولة البدو الشهيرة الحرير كيف ما اتفرشه كيف ما اتغطى به. وعندما أراد حل تكة بنطلونه قفز اغنيوة جالسا وامسك بالفاعل من رقبته. كان أحد عبيد المعبد مشرف على الإسطبل. صرخ اغنيوة فيه شن تبي ادير يا فاسد. فردَّ العبد. حلمت أن عقربا مدسوس في سروالك لم أره من جهة الأمام فقلت أقلبك واشوف. لم يعلق اغنيوة وقال للعبد مانيش ربع ادماغ العب غيرها ودرّق وجهك من قدامي ورجع لنوم الصيد. لم يفكر في أمر الاستدعاء المفاجئ والصوم عن الكلام. لم يضع في رأسه أي شئ سيء. أي لم يضرب النقص (يحذر و يشك) ما إن خرج من زنقة المعبد حتى لاحظ أن كل الناس تنظر إليه. ومنهم من يلوح له تلويحة اعجاب أو تهديد. تلويحة إعجاب على هيأة قبض الأصابع إلى الداخل وإبراز الإبهام إلى أعلى. تلويحة تهديد على هيأة فرد الأصابع وهزهزتها في وضع السيف إي ليست ووجهها للوجه. ورأى تلويحات أخرى على هيأة عملية الذبح. و تلويحة علامة النصر برفع السبابة و الوسطى مع قبض بقية الأصابع. آخر تلويحة لاحت له وهو ينعطف إلى طريق غير مأهول يوصله إلى بيت أمه كانت من عبد الإسطبل الذي كان يتجرع النبيذ من جرّة صغيرة ما إن رأى اغنيوة حتى وضع فوهة جرّته على مؤخرته وغرق في ضحك هستيري. ووضع الجرّة على المؤخرة يعني بها:

طاقتك والجرّة

وهو كما أوضحنا من قبل أسلوب تهديدي معروف بين أناس بنغازي وكلمة طاقتك تعني بالضبط مؤخرتك وهي عربية قحّة 100%. والعرب يستخدمون معناها بمفهوم حسن النيّة فيطلقونها على النافذة مثلا أو الكوّة. بينما هنا في اللهجة البنغازية يستخدمونها بمفهوم حسن الليّة فيطلقونها على مؤخرة الآدمي أو الحيوان خاصة القرد.

*    *    *

عندما حملت بلقيس لم يتهم المعبد اغنيوة. وعومل كما ذي قبل سائق مخلص لبلقيس. لم يشعر بأية نظرات غريبة. ولم ترمَ له اية كلمات ذات مغزى. لكن الشارع منذ أن عرف بحمل الراهبة حتى وجه لاغنيوة إصبع الاتهام. وصخبت الإشاعات. أحدهم في الدكان وهو يشرب الشاي بطريقة بايك وإلا هدراز (من يريد شرب ادوار الشاي الثلاثة يدفع الثمن ومن يريد التحدث أو الاستماع فقط فلا يدفع شيئا لكن يمر الشاي من امامه ولا يدعى اليه). هذا الشارب أقسم أنه شاهد اغنيوة راكبا على بلقيس في الغابة. وآخر قال شاهدته يمص في شواربها (شفتاها) وبزازيلها (ثدييها) وآخر وهو هدراز فقير ليس لديه قدرة على دفع الشاي فهمس للجميع أنه رأى بلقيس ترضعه له واغنيوة فاتح فمه وأسنانه البارزة ترقص فصرخ كل من في الدكان وأعطاه الشوهاي طاسة شاي بالكاكاوية مجانا وسبسي جفارة.

عموما صار اغنيوة في الشارع محل إعجاب من الجميع. لأن بلقيس جميلة جدا ومتمنعة جدا. حاول معها الكثير من الأعيان والأغنياء ورؤساء الشرطة والجيش والبلدية وحتى الوزراء ولم يفلحوا في الحصول حتى على ابتسامة. فتيات المدينة كلهن أحببن اغنيوة. العذراوت يزرن أمه باستمرار ويساعدنها في الغسل ويحضرن لها بعض الطعام وعندما يصل اغنيوة يستعرضن أمامه مكر أنوثتهن من عطر ولباس وكلام مغناج. الهجالات (المطلقات) والأرامل صارن يعترضن سيارته يرغبنا في التوصيل مجانا في الطريق منهن من تعرض نفسها بالكشف عن ساقيها او صدرها ليراه اغنيوة في المرآة ومنهن من تقول صراحة التوصيلة بلاش يا سي اغنيوة ولا تسلك (تقبض) لحمْ. كان اغنيوة يوصل من تعترض طريقه حتى شارعها دون أن يمسها أو حتى يكلمها. إحداهن بدوية جميلة ومتكبرة وذات حسب ونسب ومال. عندما اعرض عنها اغنيوة سألته: كنك يا اغنيوة مش أمعدّل علينا (غير مهتم بنا). ولا مش ماليين عينك. فأجابها اغنيوة قائلا:

من ذاق موز المدينة ماعاد يالف ابوادي.

لم يعد الفتيان يجرون خلفه مغنيين يا اغنيوة يا فيك اسنون. ناقصهن فرشة و معجون. خاصة بعد أن أوصل واحدا منهم ذات مساء وانحرف به إلى طريق جانبي واغتصبه وعضه في مؤخرته بأسنانه البارزة للذكرى. ثم وهو عائد إلى البيت وضع في المسجلة شريط زمارة زكرة (قربة) والمغني يغني:

هالا و هالا. تصادفنا تيـنة ضالا.

والتينة في هذه الأغنية تعني المؤخرة ولا علاقة لها بثمار التين المعروفة الناعمة منها و الصبّارية الشوكية المسمّاة هندي.

صارت أسنان اغنيوة البارزة فاشن (موضة). صورته يعلقها أصحاب محلات العطور وعيادات الأسنان. حتى معجون الأسنان الشهير غالي الثمن أهمل الناس اسمه الأجنبي وصاروا يقولون للبائع من فضلك أريد معجون اغنيوة. أحد الأفارقة أحضر شوال بوخط مملوء بأعواد السوّاك ما إن قال أن هذا السواك نوعه اغنيوة. حتى باع بضاعته في الوقت نفسه.

وصل اغنيوة البيت. فوجد أمه مشغولة عنه. كانت البنات لديها وإحداهن أخبرتها بأمر السفينة التي تناور للدخول إلى الميناء. قالت له أمه تعالا يا وليدي. فيه موضوع نبي نحكيلك عليه. اشار لها بالصمت كما امره كبير العباد. أضافت. موضوع خطير. نبي انصبي معاك فيه تصباية رجّالة. انبيع اللى وراي واللى قدامي. لكن ما نبيكش اتكون أرنب.

صرخ اغنيوة لا شعوريا. أرنب. كنا الأرنب. ما به؟. صارتله حاجة. شنو موضوع خطير. وضرب جبهته بيده. لقد انتهك صومه.

قالت له أمه الأرنب بخير. هو نائم على نطع الصوف. ومنذ قليل أعطيته وجبته من الخس والجزر وجرعته من الماء. وفي الصباح أطلقته على أرنب جارتنا وعاد منها يهزهز ذيله من السعادة.

دخل اغنيوة الغرفة وأخذ الأرنب في حضنه يفلي وبره الناعم متخيلا بلقيس وهي تفعل هذا الأمر في غرفتها قبل أنْ يختفي الأرنب هذا من أجل الطقوس.

الموضوع يا وليدي خطير وخذ بالك من نفسك. وكانك تريد رضاي بكرة امشي اكرس (اختبئ) في الجبل. وشوف من فوق. فيه بابور جاي يبي ياخذ صاحبتك بلقيس إلى بلادها. والناس كلها اتقول أنها حامل من اغنيوة. وخايفة يا اغنيوة ياخذوك معاها في البابور ومعاش انشوفك وانا أعزيّز اقريب نموت وما عنديش ولد غيرك.

اغنيوة يستمع ويفكر في الأمر والأم تواصل كلامها.

انكان جماعة المعبد ايريدوا مسار (مجلس صلح عرفي) انسيروا عليهم. شيخ القبيلة قال ماعنديش مانع. اغنيوة راجل نموتوا كلنا وراه. وان كان ايريدوا ايزوزوها لك فمبروك علينا وهذه زغرودة مقدما وزغردت أم اغنيوة ففتح الأرنب عينيه المغمضتين وهزهز ذيله القصير. المهم بكرة خليك بعيد. نين نعرفوا الميّة وين اتصب.

كان اغنيوة لا يعصى أمه أبدا. لم ينم ليلتها. عند الفجر ترك السيارة مكانها وصعد إلى منارة سيدي اخريبيش خفية. اختفى في غرفة الفنار وصار يتأمل المشهد من الكوّة. البحر هادئ واغنيوة يضيء فجر كل موجة قادمة ويربت على كل قطرة رذاذ تلطف تراب بنغازي. ومع شروق الشمس قاطرة تخرج من الميناء وتقود الباخرة الكبيرة إلى الرصيف. الناس تلوك السفنز الساخن و تتجمع أمام الميناء. السفراء والقناصل. أفراد الشرطة والجيش. الطلبة. كل شرائح المدينة. لم يغب أحد. كبيرا ولا صغيرا. حتى أم اغنيوة اقتربت من الحشد متنكرة وعلى رأسها صرّة دلالة (بائعة متجولة). في الضحى تنزل فرقة موسيقية بها كل الآلات الموسيقية المعروفة. الناس متجمهرون أمام الميناء. الموسيقا بدأت تعزف لحنا هادئا كصوت الأمواج عندما تكون بطيئة جدا. الناس تتمايل سائحة كقطرات العسل. ورويدا رويدا. بدأ اللحن يتشكل صوب الفرح ليبدأ الناس الرقص كل بطريقته. واقترب موكب مهيب قادم من شوارع المدينة. عربة تجرها الخيول المطهمة. أمامها البيباص يبعد الناس ويفسح للعربة الطريق. يقود العربة كبير العباد وبجانبه تجلس مساعدته. وازداد صخب الناس وصخب الموسيقا مع كل اقتراب. ووصل الموكب إلى رصيف الميناء. نزلت بلقيس ببطء وحيّت الجميع بيدها و أحنت رأسها للفرقة الموسيقية واتجهت إلى السلم تصعد درجاته إلى الباخرة. وتعالت وتيرة الموسيقا تعزف الفرح. والناس واصلت رقصها لا شعوريا أكثر من ذي قبل وصاروا يتمايلون كالسكارى حتى أن أم اغنيوة استرجعت أيام شبابها عندما كانت تحجل في أعراس القبيلة وهزت وركها الضامر الآن بعنف فسقطت الصرة من على رأسها وقفز منها الأرنب الذي ركض سريعا صوب الباخرة أراد الحراس منعه أو الإمساك به إلا أن بلقيس رأته وهي تلقي النظرة الأخيرة على الجمع والموكب فأشارت للحراس بتركه فقفز في حضنها سعيدا جدا دافئا وغابت به في الجوف المعدني.

في قمرتها بالباخرة صرفت الممرضة والخادمة وبقت مع أرنوبها. تتلمس قلبها المجروح من فراق اغنيوة. وتتلمس فراء الأرنب الناعم الدافئ وحينما وصلت أصابعها عند الرقبة حيث مكان جرح الأرنب القديم. اصطدم إصبعها بجسم صغير صلب بعض الشيء. وغرت إصبعها في الفراء أكثر لترى. هل هو ورم لا قدّر الله أو ماذا؟. إنه جراب جلدي ناعم. نتـشت سلكه بابتسامتها وفتحته بلهفة لتطل منه بقايا مهترئة من وريقة الجوكرة مكتوب في حاشيتها بريق اغنيوة:

مشيتي وين ولمن خليتيني؟!.

إنها مشكلة. بدون بلقيس قلب اغنيوة حزين. وجسده لا ملابس تغطيه. ليشو (عاري) كما ولدته أمي. سيكتب بحبر العري هذا. سيذهب إليه ليملأ محبرته منه. الآن يزحف. يزحف إلى غار العري عاريا من جلده. سيقبله هذا الغار الشفاف. لن يطلب منه جواز سفر أو بطاقة هوية. أو يتأمل هيأته أو وجهه ليعرف جنسه أو يتلمس عضوه ليعرف ديانته ودرجة فحولته. قبله هذا المجتمع المغاري لأنه عارٍ وحسب. طلب منه مساهمة فقط في نسج سروالهم المشترك. أي شيء أيها الإنسان. كان حليق الشعر آنذاك. والإبطين أيضا. والعانة كذلك. فاقترح عليهم أن يعطي هذا المجتمع المغاري السعيد قطعة من عضوه الذكوري فوافقوا فورا لكن حائك السروال اشترط أن تكون ملطخة بالمني حتى يصير السروال خصيبا أكثر وفي الوقت نفسه يتمكن من إلصاقها في موضع شاغر وكان الشغور ذاك الآن عند موضع الركبة. وكيف يحضر له المني وممارسة العادة السرية (الإستمناء) في ذاك المجتمع منقرضة لتوفر النساء العاريات طوال الوقت وشيوعهن في كل ركن. قالوا له ستنام مع هذه العذراء وتمارس معها الجنس. ها هيا. أنظر صوب السماء فستراها. ونظر سريعا فلاحت له عارية في ضوء القمر. جسد أبنوسي. خصر رشيق. ثديان نافران. مؤخرة مستديرة ذات رخوة متينة. زغب خفيف يحيط بعضوها المشتعل. سرتها مشرقة بكحل بلّوراته تتعاكس مع نور الوجود. لم ينتظر. ولم تنتظر. وصرخ كطفل صغير يتفرج على مسلسل قراندايز الكرتوني. إلتحام. الرزة المزدوجة. وشنقلها. وشنقلته (الوضع المألوف لممارسة الجنس رجل فوق امرأة). و تداخلا في بعض كصحن دوّار. أفقدها عذريتها فصرخت ونتشت من عضوه أثناء رعشتها مساهمته في السروال وألصقه الحائك سريعا وهو ساخن مخضب بالبياض والإحمرار والإصفرار وغُطس الرأس الجريح في عسل خرشوف ثم ضمد. وضحكت العذراء وقالت نحن الآن في شهر العسل. أنت فتحتني الله يفتح عليك وسأتألم لإسبوع وأنا عضيتك وجرحتك وستتألم لإسبوعين. الإناث تشفى من أسفل أسرع من الذكور. الآن سنتألم معا. كلانا مجروح. كلانا في الهواء سواء. عندما ننام في مغارتنا ونتضاجع سيتشاجر الألم ويتصالح في محراب اللذة. قالت له موافق؟. قال لها موافق ونصف.

*    *    *

حي المغار عالم عجيب. ارتاح فيه حياة وكتابة. ولأنه وافد جديد من بلاد رأسمالها الأساسي الكسل و الثرثرة و النميمية و تقييد الأحوال والبصاصة حتى أن أشهر بصاص في التاريخ يهوذا الأسخريوطي من جبله الأخضر الأشم فسيحكي لكم عن هذا الحي قليلا. وفعلا إنه حي. ما إن دخله حتى قدّم له فتاة عذراء جميلة. قدمها له دون سؤال أو تحقيق. لم يختبروه أو يضعوه على صراط دنيوي. أراد أن يكون مواطنا من هذا الحي. أراد أن يكون عاريا. لا مانع تفضل. ساهم في سروالنا الوحيد بأي شيء منك وتفضل. السروال يسع الكل ويستر الكل ويدفئ ترم الكل ويحمي الكل من لسع السياط. عندما تغادر هذا المكان النابذ للتعذيب. سيقبض عليك وتعذب وقد ترحل إلى معتقل سرّي أو تموت. السروال يسع الكل. جيوبه واسعة جدا. تتمطط في مطاط الحرية. تحمل كل شيء. وحزامه ناعم لا يخنق أو يضيق. حي المغار عالم شفيف. عالم سعيد. الآن سيوقف الانثيال و التداعي ويحكي. لكن كيف يحكي بدون قراءة؟. يقرأ أولا ثم يكتب. لكن ماذا يقرأ ليس هناك كتاب جيد بقربه الآن. أراد أن يكتب الآن. ولا يكتب أبدا بدون أن يقرأ سيقرأ قليلا من خياله. خياله يمده بشيء من رواية سُرّة الكون لليبي محمد الأصفر الصادرة في صيف 2006 م ببيروت. سيقرأ قليلا من سفرها الأخضر:

" * السلفيوم نبات حولي شأنه شأن نبات الحلتيت ، له جذر غليظة ممتلئة ، وساق سميكة كساق ذلك النبات ، وأوراق شبيهة بأوراق الكرفس ، وبذرة مغلفة بغشاء مفرطح ، ولهذا السبب فأن بذرته تسمى (الورقة). أما أوراق السلفيوم نفسها ، والتي تسمى ((ماسبيتون – MASPETON)) فأنها تتفتّح في فصل الربيع ، وهي تثير شراهة الخرفان فتقبل على التهامها بشهية. وفيما بعد تنمو الساق ، وهي تؤكل. وتتأتى أهمية هذا النبات أساسا من عصارته التي يتم استخلاصها إما من الجذر وإما من الساق. ولجذر السلفيوم قشرة سوداء تغلفه ، ولابد من خرطها. ويجني بائعوا الأعشاب الطبية أموالا طائلة من وراء بيع جذور السلفيوم هذه. وللحصول على عصارته ، فإنه لابد من حزّ هذه الجذور بمشرط ، مرات متتالية في عدة مواضع ، حسب الحاجة ، حيث تأخذ هذه العصارة في النضوج والسيلان عند كل موضع يتم حزّه. ولابد من معالجة هذه العصارة على الفور ، وإلاّ فإنها تتخمّر وتفسد. وللحفاظ عليها وتصديرها ، فإنه يتم تجميعها في أوان وتخلط بالدقيق ، حيث تعجن حتى يكتسي الخليط لونه المعروف ، وهو لون أحمر فاتح ، بحسب ما ذكره ((بليني الأكبر)) وعندئذ تصبح عصارة السلفيوم قابلة للتخزين. وكان يتم تصديرها إلى الخارج على هذه الشاكلة ، خصوصا إلى ميناء ((بيراوس)) الأثيني. وكان السلفيوم ينمو في ليبيا عبر أقليم مترامي الأطراف يمتد من – بحسب ما ذكره ((ثيوفراستوس)) – على مدى أربعة ألاف مرحلة قياسية ، أي ما يعادل مساحة سبعمائة كيلو متر ، هذا ، وإن كانت هذه المساحة مبالغ فيها بدون شك ، وتقع منطقة جني السلفيوم الرئيسية قرب خليج سرت ، ابتداء من مدينة يوسيبريدس (بنغازي).

ونبات السلفيوم لا يطيق النمو والترعرع في الأراضي الزراعية المستصلحة، إذ من الملاحظ أنه كان لا يلبث أن يختفي من أي بقعة يتم استصلاح تربتها وزراعتها ، لأنه ، في المقام الأول ، نبات برّي ، بحسب ما ذكر (ثيوفراستوس). وللسلفيوم فوائد عديدة ، فهو علف مغذي للماشية حيث يسمنها ويجعل لحمها لذيذ الطعم كما قال ثيوفرساتوس وبليني ، كما كان يعتبر من الخضروات الممتازة التي تظهر على صور مختلفة كما أن سيقانه كانت تقطع قطعا صغيرة وتحفظ في الخل عدة أيام فتغدو من أشهى أنواع المخللات وفي هذا الصدد يشير أثينابوس إلى طريقة لإعداد نوع من السمك يسمى البوربون للأكل باستخدام السلفيوم في طهيه. وأهم ما في السلفيوم عصيره الذي يستخرج من جذور النبات وسيقانه ، وإن كان عصير الجذر أفضل من عصير الساق وكان العصير يخلط بالدقيق ويجهّـز منه عقار طبي يمكن تخزينه مدة طويلة ، ويشير ثيوفراستوس إلى أنه لولا هذه الطريقة لتلفت عصارة النبات. ويقول بليني إن أوراقه تستخدم طبيا في توسيع الرحم وإخراج الجنين الميت ، وجذوره علاج لإلتهابات القصبة الهوائية ويستخدم مع الزيت لعلاج الكدمات ومع الشمع في علاج أورام داء الخنازير ، أما عصيره فإنه إذا أخذ في شراب فإنه يخفف آلام الأعصاب ويبطل سموم الأسلحة والأفاعي وعضة الكلب. كما أنه يستعمل كمساعد للهضم بالنسبة للمسنين ويستعمل كذلك للكحة وأمراض الأسنان وغير ذلك من الأمراض.

ويقول ديوسكوريدس: السلفيوم يثير الرطوبة على الجسم وأوصى به في حالات الصلع العام وأمراض العيون ووجع الاسنان وعضة الكلب والجروح والنزلة الشعبية. ويذكر الرئيس أبوعلى ابن سينا أن السلفيوم يعالج ريح البطن ، تخثر الدم في الجوف ، الصلع ، يطيّب الطعام ، يعالج الثآليل والأورام ، والبثور والجراح والقروح وآلام المفاصل و والأعصاب والفالج (الشلل) والأضراس المتآكلة ، والصرع ، ويزيل العلق من الحلق وماء العين ، والسعال المزمن ، وأورام اللهاة ، واليرقان ، والبواسير ، يستعمل ايضا كمسكن وقابض عظيم النفع في حمى الربيع quartan feve والسموم خاصة العقارب والرتيلاء وعضة الكلب ، والسهام المسمومة طلاء بالزيت وشربا. أما على بن العباس المجوسي فقد أشار إلى فائدة السلفيوم في حالة مرض القولونج " التهاب الغشاء المخاطى للمعي الغليظ " وفي طلب الإسهال وإسقاط الأجنّة الميتة. وقد تسرب خبر السلفيوم إلى أوروبا عن طريق فنيسيا خلال العصور الوسطى فنرى أن (جون جيرارد) في القرن السادس عشر يقول:" إن السلفيوم وأفضله ما جاء من أعالي جبال قوريني افريقيا وذو رائحة طيبة ، يداوي تجلط الدم ، كما يزيل العلامات الزرقاء والسوداء من على الجسم ، ويعالج مرض الاستسقاء ، والورم الحاد ، والنقرس أو داء المفاصل." ويقول الطبيب اليوناني الشهير جالينوس عن السلفيوم بأنه يعالج (نشاف الرأس)!

وما أحوج كثير من البشر في عصرنا هذا إلى جرعات وافرة من عصير السلفيوم. ولعل من أهم مميزات ذلك النبات السحري الذي ظهر في ظروف غامضة واختفى أيضا في ظروف أكثر غموضا. أنه استخدم في عمليات التحنيط التى عرفت في وادي النيل في أزمنة الفراعنة. فسكان الصحراء الليبية يسمون السلفيوم آسيار ، ويجمع المؤرخون القدماء أنه كان دواء لكل الأمراض في العالم القديم وكان ملوك ليبيا القديمة يصدرونه إلى مصر وما وراء البحار ويعتقد الكثيرون أن فيه يكمن سر التحنيط إذ استخدمه الفراعنة لهذا الغرض.

وفي العصر الحديث قال أحد الكتاب اليونانيين المعاصرين المعروفين وهو "نيكولاو دولكير" عن نبات السلفيوم ما يلي:. أكتشف الليبيون الأولون نوعا من الأعشاب في منطقة كريناكي (قوريني) وقد حلله الليبيون القدماء واستعملوه في شفاء الأمراض نظرا لأنهم برعوا في مجال الطب ، وقد استعملوا هذا العشب في طعامهم مما جعلهم أقوياء أصحاء وهذا ما يشهد له التاريخ والشعوب القديمة ، ونتيجة لذلك أطعموا خيولهم من الأعشاب نفسها لكي تكون قوية ، وقد تاجروا بهذا العشب وأدرّ عليهم أرباحا طائلة ، ونقل بعد ذلك إلى روما حيث تمّ حفظه هناك ، وكانت الأوقية الواحدة منه تعادل ثلاث أوقيات من الذهب ، وقد أطلق اليونانيون على هذا العشب إسم سلفيوم.

ويرجع ورود أول ذكر للسلفيوم في النصوص القديمة إلى مطلع القرن السادس قبل الميلاد ، فلقد ورد ذلك في قصيدة للشاعر سولون (توفي حوالي سنة 558 ق ب) وحفظها لنا النحوي (فوللوكس – pollux). ويذهب الشاعر أرسطو فانيس المتوفي حوالي 386 ق ب في الفقرة 925 من مسرحيته (بلوتوس إله الثروة) إلى أنّ عبارة (إنك لن تغيّرني حتى وإن أعطيتني سلفيوم باتوس جميعه !! To battou silphion)، هذه العبارة سلفيوم باتوس جميعه و التي ذهبت مثلا، كان يُقصد بها على ألسنة الناس: (ذهب الدنيا كله) إي أنه كان يُكنى بها عن شدة الثراء. ويقول أحد الشُّرَّاح ، عند تفسيره لهذه العبارة ، إن الليبيين كانوا قد قدّموا السلفيوم ـ الذي يعتبر أنفس نباتاتهم ـ إلى باتوس ، إكبارا له ، ومن ثم ، فإن أولئك الذين تنهال عليهم النعم الممتازة، كان يقال عنهم ـ مجازا ـ إنهم وهبوا سلفيوم باتوس جميعه."

مصادر هذه المقالة عن السلفيوم واردة في متن رواية سرة الكون.

بعد تناولكم لأعشاب السلفيوم سنواصل شكشوكتنا وستكون معد ذائقاتكم أقوى من ذي قبل. لا إمساك ولا إسهال. رعشات متتالية لا تعرف التوقف وآهات باذخة زاخرة بيا نا عليْ:

في حي المغار.

الكل عرايا.

لديهم في الحي سروال واحد.

من يريد التسوّق إلى المدينة يرتديه.

السروال ملك الجميع.

كل فرد له فيه خيط من دودة نوره.

السروال معلق على مشجب الحي.

الخارج يرتديه.

الداخل يخلعه ويعيد تعليقه برفق.

مشجـب بدون حرّاس.

لأن كل العالم لابس.

وكل المجهول أشد لبساً.

لا أحد ينضوي تحت عالم العُري إلا العُراة.

وهؤلاء ندر ونوادر جداً.

جداً. جداً. جداً.

جداً طويلة.

كهوميروس

أو تولستوي.

أو سعدي يوسف.

أو حتى جحا.

الكل يفضّل البقاء في حي المغار.

حيث المغارات التي يتخذونها مساكن.

حيث شمس الأصيل وطراوة السماء.

حيث الليل البهيج بالسكينة والمسرّات.

حيث الفواكه الطازجة والزبيب العتيق.

حيث الحبوب التي تـنـبـت وتـنطحـن وتـنـخـبـز لذاتها.

حيث السعادة الدافئة والشقاء المنعش لدرأ الجليد.

حيث الحريّة الفائضة عـن صواع المألوف.

حيث التوغـل في الخيال السحيق.

حيث الموسيقا التي يعزفها زامر الحي فـتصدّع كل كدر أو فيروس أو ميكروب.

حيث و حيث و حيث كل المشاعر والأحاسيس و الاختلاجات.

في حي المغار قامت أول جمهورية في الوجود.

الرئيس هو أكثرهم في الابتسام.

والعبد هو كل من يبكي.

والقواد - أكرمكم الله - لا يوجد قط.

فقد ذهب مع الريح.

في حي المغار يوجد كل شيء:

الجنة

النار

القـط

الفأر

الكلب

المخـّـار (اللص)

الحياة

برمتها

الموت

بدون رمّة

فإلى هناك

يا هؤلاء.

يا أولئك

يا هوه ه ه

يا أبناء الآهات

أنتم.

أنتن

أنتما

أنتَ

أنتِ

أنتِ

أجل أنتِ

 يا ليبياء قلبي

ماذا تنتظرين؟!.

ذات يوم لبس رجل السروال وخرج إلى الميناء

وغربت الشمس وأشرقت من جديد عدّة إشراقات

ولم يرجع هذا الذكر المتسرول بكسوة الحي

هل يعقل أنْ يكون قد باع السروال

أو نساه في حانة أو حمّام أو ماخور؟!

أو هرب به في إحدى السفن المغادرة.

هل يعقل أنْ يكون قد ضيّع في الأوهام سرواله

و خجل أنْ يعود إلى قومه عاريا أسفا؟!

سريعا ما انعقد المجلس

سريعا ما خرج الرئيس عاريا للبحث عنه

خرج كما ولدته العارية بالضبط.

بدون حرّاس أو خيل أو طرطرة (موتسيكلات).

لم يبتعد عن حي المغار خطوات حتى أمسك به الرعاع

وفـُـلِّق على رجليه الطريتين بمسواق زيتون.

وجلد بسوط سوداني يابس على مؤخرته السمينة.

وصُفِع على خدّيه وأنفه حتى زنَّ في أذنيه الشيطان.

ثم زُجَّ به في سجن الأمبراطور.

لم يصدقه القاضي أنه رئيس جمهورية ذات نشيد وبيارق ودستور وميزانية نسجت لرعيتها سروالا وحيدا تتلابس فيه. لم يصدقه رئيس الشرطة أنه رئيس شرعي خرج بنفسه يبحث عن آبقٍ من رعيته. لكمه المدعي العام و صرخ فيه:

أنت مجرم تـنتهك الحرمات.

أنت تافه تزدري عرف الشوارع والأزقة والردهات.

حتى مجانيننا في عالمنا الحر يجنون مستورين.

حُكِمَ على الرئيس بالموت بواسطة الخازوق. وعند الفجر أُخرِج محشورا في جوال خيش مشدودا بتل شبردق إلى نقالة معدنية صدئة. أخرجه الجلاد من الجوال بعنف وأراد بوحشية أنْ يدفع في مؤخرته الخازوق. فصرخ هذا الرئيس المسكين:

يا شعبي الجميل

المطيع الحليم

الطيب العزيز

الكريم الصبور

الجبار الباسل

الساكن في ذاكرتي أبدا

ارتدوا سراويلكم التي بلغ سيل منيّها الزُبى و البسوا هؤلاء التيوس.

وفي لحظة احتلت جموع العُراة المدينة.

الدولة.

العالم.

كل شبر مأهول أو بِكر

وخوازيق الموت أُحْرقتها الزفرات.

أمّا الأمبراطور ابن الوسخة

ورئيس شرطته ومدّعيه العام وقاضيه وكل حاشيتة المحشيّة منها والفارغة

ذهبوا في خبر كان.

ما حكيناه آنفا هو خبر كان

المنصوب دائما بأي شيء

والمبني على النصب دائما و أبداً وعلى طول.

وعلى طول طويلة جدا.

طويلة جداً.

كأنف أمريكي أجرب.

لا يرتوي من القار.

وإنْ أحببتم فمِنَ العار.

أمّا خبر يا ما كان

فيحتاج إلى سريويلٍ جديد

أو كريسيٍّّ جديد

لقد انطفأ حشيش طنجة

لقد جف لاقبي البصرة

لقد ذبل قات مـأرب

لقد انقرض سلفيوم ليبيا

ولُبان صلالة ما عاد يفرقع و يسيح

وآه من نهر الليثي.

نهر النسيان.

بعيــد.

بعيد.

كيف من هنا

وجحر الهامّة.

*    *    *

المغارة التي يسكنونها تطل على الوادي. على جدرانها الخارجية تتسلق عرائش عنب ناشرة عناقيدها للشمس. العصافير تنقر بعض حبيبات العنب. الأب يلعنها ويهشها وابنته تمتعض من تصرف أبيها غير الرومانسي وتنزوي في آخر المغارة حزينة دامعة. إنها تحب العصافير. تحب كل مغرد صادح بالنشيد. أمها تواسيها وتهمس في أذنها. ما دام لم يعصر خمره من هذه العناقيد فهو يتصرف برعونة. هكذا هو أبوك منذ أن عرفته. هذه العرائش هي كل شيء بالنسبة له. زرعها ورعاها وتعهدها بالعناية. طوال العام يعتني بها. يزبرها (يقلمها) يسقيها يسمّدها ويقيها من الريح والحر وفي نهاية الصيف يجني المحصول ويعصره ويخزّنه في القبو بعد أن يمنح الرئيس حصته منه. أبوك ينتج أفضل خمر في حي المغار. خمره فاخر مرتفع الثمن. عندما يحين دوره في التسرول (لبس السروال) ينقل منه إلى سوق المدينة قربة واحدة يبيعها ويعود إلينا محملا بكل ما لذ وطاب. باقي الخمر نشربه ونهدي منه كل الجيران والأصدقاء والمحتاجين والدراويش. أعذريه بنيتي. العنب روحه. وهذه العريشة اشترى غصنها من ربّان سفينة فينيقية قادمة من بلاد الشام. دفع فيها رقبة بشرية من كبدته. أدهشته رائحتها التي وصلته من الميناء إلى هنا. فاستعارالسروال من صاحب الدور. حشى فيه رجليه وخرج يجري إلى الميناء. ووجد الربّان وسأله أي بخور جلبت هذه المرّة فقال له ليس بخورا إنها غرسة عنب. غرسة مباركة. اجلس أولا وعبْ هذه الكأس وسأحكي لك حكايتها. فبينما كنت أستعد للإبحار من ميناء صور وإذا بعاصفة تهب. وإذا بالجو يمتلئ بأوراق الشجر وحبيبات الزيتون الهاطلة كمطر نباتي بََرَدَه ثمار تفاح وبرتقال وليمون حامض وشفشي. زيتون سماوي يجلب فاكهة متنوعة. أهمل بحارتي واجبهم في مواجهة العاصفة وانهمكوا يلتقفون الحبيبات ويبتلعونها بالنواة ويقضمون ويمتصون من ثمار الفواكه غايتهم ويزيد. وصرخت فيهم اربطوا الحبال جيدا يا رجال وارموا إلى قاع الماء المخاطيف كلها. واطووا القلاع واتركوا التهام فواكه السماء إلى حين هدوء العاصفة.

والريح كانت عاتية ومزمجرة فلم يسمعني أحد وقوت الزوابع وعانقت الصاري بكل قوتي فدفعتني الرياح بعيدا عنه حتى ارتطمت كتفي بمقود المركب وشعرت بحزمة أغصان مورقة تغني على رأسي ووجهي فأمسكت بها أيضا بكل قوتي. كانت أغصان عريشة عنب. شعرت ببعض الأمان فألصقت الأغصان المورقة جيدا على وجهي فأشعرتني أكثر بالأمان فضممتها كلها إلى صدري و تقرفصت وتوقفت عن الصراخ في البحارة ففي حالة الدهشة هذه كل إنسان يأتيه الأمان من شيء ما. هم من حبيبات الزيتون الممطرة وبردها الفواكهي وأنا من حزمة أغصان العنب. وغيري من شيء آخر يرتاح له حسب رغبته ولم يمض طويل وقت حتى أخذت العاصفة تهدأ رويدا رويدا فرويدا كسولا جدا. بل كلما ضممت الأغصان أكثر إلى صدري ازداد سكون العاصفة فصرت أضغط على الأغصان أكثر حتى تفصدت جبهتي عرقا وأحسست أن هذه الأغصان قد توحدت مع قفص صدري و وغاصت تتنفس من رئتي مثلي وهدأت العاصفة تماما ليهمس هذا الهدوء في روحي أيها الربان الطيب إنك امتلكت شرابا مقدسا يذهب بطيش الريح ويبدده. قال لي بحار على دراية بالعلوم الدينية والفلكية والأساطير وأسرار الغيب. هذه الحزمة الخضراء المباركة خذها معك في السفينة و في كل ميناء تزوره إزرع منها غصنا فيصير كل العالم متوحدا فيك. جلت موانىء كريت وصقلية ومالطا وطنجة وموانئ الأندلس والكناري والآن وصلت هذه الميناء العطرة وهي آخر ميناء زرتها في هذا الإبحار. وهذا آخر غصن معي. فكيف بحق الحب شممته وجئته بأنفك راكضا إلى هنا.

لن أبيعك الغصن المبارك حتى أعرف

من أنت.

وأين تسكن.

وكيف أتيت إلى هذه البقعة؟!.

لم يمنح الربّان الغصن الأخضر الأخير من زرعة العنب لأبيك إلا بعد أنْ دفع أبوك ثمنا باهضا له. كان مع الربان مالا كثيرا فرفض كل المال الذي قدمه أبوك له. قال الربان لأبيك اسمعني حكايتك أولا وسأمنحك هذا الغصن الثمين مجانا. من أنت؟. أين تسكن؟. كيف أتيت إلى هذه البقعة الطاهرة؟. لم يرض أن يمنح أبوك حكايته للربان مقابل غصن عنب. قال لن أمنحها أبدا مقابل متاع دنيا أو آخرة. حكايتي تخصني لن أحكيها إلا لمن أحب أكثر من نفسي. وحتى الآن لم أجد شيئا يُحَبُّ بهذا القدر. وقد استدرجته أكثر من مرّة أن يحكيها لي يا بنيتي. فيبدأ في سردها. آه يا بنيتي ما أروعها. لكن ينقطع السرد فورما يشتعل وجده وتصّاعد حماسته. فيتوقف ويعاهدني أن لا أفشي هذا السرد لأحد فأعاهده بحب. ومع عناد أبيك ورغبته في الحصول على الغصن الأخضر. ومع عناد الربان الذي رفض أن يقبل ذهبا أو عسلا أو قمحا أو كاكاوية مقابل منح الغصن الثمين. تدخلت أنا في الأمر. عندما تأخر أبوك في العودة صعدت قمة الجبل ولوّحت له بمشعل سبع تلويحات فأجابني بثلاث تلويحات. وبعد ثلاث ساعات رملية عاد إلى الحي ومعه الربّان والغصن. وأعددت لهما العشاء وقدمت لهما كؤوس الماحيا. وكان القمر منيرا في منتصف السماء. لا يرى الربان عُريّنا واضحا ونحن نراه لابسا جدا. سلم لراعي السروال في البوابة حصانه وقبعته وسيفه ونعليه. ودخل الحي حافيا. وبعد شرب كؤوس الضيافة المعتادة اعتدل المزاج وصار يحكي عن أسفاره وعن مكتبة الإسكندرية وبابل وروما والقسطنطينية وروما وسمرقند وأصفهان وتبريز وبخاري وبغداد ومكتبات قرطبة وغرناطة واشبيلية وطليطلة ومراكش وشنقيط وتمبكتو وعن المخطوطات والكتب التي اقتناها من هناك وباع بعضها واحتفظ بالبعض وأبوك يبادله الحديث ويتحاور معه ويناقشه في عدة قضايا أدبية وفلسفية. وفي ختام كل نقاش يتفقان على أن المال ليس كل شيء. ويبتسم الربان ويقول لذلك لن أمنحك الغصن مقابل مال أبدا.

*    *    *

كنا جالسين جميعا على أكليم مصراتي بديع لا نطرحه إلا للضيوف ونتكىء على طنافس جلد مراكشية ذات لون زعفراني وكنت في الركن أرقب إبريق القهوة وأصب لهما منه بعض الفناجين لتهدئة المزاج وتثبيت نشوة الخمر في ترنح الروح. ووجدتني أشارك في الحديث. نعم يا رجل (اقصد أباك). هناك أشياء أغلى من المال. غصن العنب هذا سيمنحك المتعة من خمره والدفء من سعراته والظل من وريقاته والمتعة والدفء والظل أشياء لا يساويها مال. وإن ساواها فحتما سيظهر ظل أغلى ودفء أشد نعومة. وانبسط الربان وصفق لي قائلا: أحسنت أيتها الأخت الطيبة. ما تقولينه هو عين الصواب. لن أتنازل عن هذا الغصن إلا مقابل شيء يشبع باطني. لو كنت رجلا عاديا كالذين التقيتهم في الموانئ الأخرى لمنحتك الغصن مقابل دينار ذهبي أو أكثر وانتهيت. لكنك إنسان مختلف. شم السر وركض إليه. واستفرد به في بيت راحة الخيّال. لديك شيء في روحك يستفزني أتوق لمعرفته. أمام العلم أضحِّي بروح الروح. وارتعش رواق في أقصى المغارة رغم هدوء الريح. فوجّه الربّان سبابته سريعا ناحية الرواق وقال بحزم: أريد أن أعرف. أعرف. أعرف من هناك. من الذي يتلصص من وراء الرواق. ألا تثـقون في؟. ألم أسلم سلاحي وفرسي لراعي سروالكم ودخلت حافيا إلى مغاركم المقدس؟. قال أبوك تلك قصة أخرى وضبح على أختك الكبرى التي تعيش الآن في جزيرة ببحر الظلمات فلاحت لنا عارية في ضوء القمر. جسد أبنوسي. خصر رشيق. ثديان أنفر منهما لم يرَ. زغب خفيف يحيط بعضوها شامخ الجبهة. سرتها مشرقة بكحل بلّوراته تتعاكس مع نور القمر. وقف الربّان ومد الغصن لأبيك ونظرته مثبتة على زول أختك التي أسرت كل ما فيه. فلتزرعه هذه الآية الإنسانية. تزرعه حيث كانت وراء الرواق. ولسوف أرويه بكأسي وبدموع قلبي التي سأسكبها جميعها لو غادرت هذا المكان بدون أن أصحب هذه الصبيّة.

ابتسمنا كلنا. وأختك أكثرنا ابتساما. وقال الربان بعد إن منحتك هذا الغصن ماذا تريد أيضا كي تسمح بغرس غصني في أنثاكم هذه. صمت أبوك وطال صمته فقالت أختك شرطي أن أظل عارية أبدا. قال الربان ذاك شأنك أمّا أنا فسأظل لابسك أبدا. وضحكنا كلنا. وتوقفنا عن الضحك إذ قال أبوك ليس لدينا إلا سروال واحد. وهذا السروال لابد أنْ يعود يوميا إلى البوابة ويستلمه راعي السروال ويحفظه في صندوقه الحصين الذي لا تصله الحشرات. ولكي ترافقي رجلك هذا إلى سفينته لابد أن تكوني لابسة. قلت لهم وقد أدارت الخمرة رأسي قليلا ابنتي ستصل إلى السفينة عارية. كيف؟. كيف؟. ستصل إلى السفينة سابحة. ولم تنتظر أختك وقفزت في عين الماء وسبحت مع الساقية المنحدرة صوب البحر والربّان سبقها على حصانه إلى هناك. وعند مصب ماء الساقية في البحر مد القبطان لها يده ورمى على جسدها عباءته القرمزية وأدخلها سفينته. كان الجنين ينمو في رحمها. وكانت العريشة التي زرعوها تزحف وتتسلق وتتشابك مع كل ما تلمس. عندما علمنا من حمام الزاجل بوصول أختك سالمة إلى عشها في بحر الظلمات كانت العريشة قد قدّمت لنا أول عناقيدها الناضجة. أكلناه أنا و أبوك حبّة بحبّة. وتضاجعنا لنثمرك يا عفيفة., يا سليلة العنب المبارك.

هذه العريشة العنبوية هي روح أبيك. لا يحتمل أن تمس أو يعبث بها من قبل أي كائن حي أو ميت. حتى الرياح عندما تثور يعترض وجهها بمسدّات من سعف النخيل كي لا تبعثر عناقيد داليته الوليدة.

دالية العنب التي تغنت بها المطربات الليبيات الجميلات:

يا لعنب ويا لعنب. الله يبارك عالدالية.

فجرة ودنادين ذهب. يقلنك لإيطاليا.

العنب المُلذ الزاخر بالغذاء الربّاني المبارك. مانحنا الظل والنشوى والبراك الشهي. العنب الذي ترك في سبيله اغنيوة سرواله اللحمي في أندلسنا وسافر بعضوه ليعمل في جنيّه في بلاد الصقيع. فأستدرجه العنب البارد وعبأه بالنسيان ولم يتركه يعود ليرتدي سرواله الأنثوي. أنساه الحبيبة الوفية وجعله عاريا في كساء مزيّف هناك. القراطيس القادمة تتدوّن بالحكاية. وبلقيس الأندلسية تبكيه هنا عند مصب هذا النهر البديع. هما حبيبان يعيشان فورة الشباب وطموحه وحماسته ، يبنيان عشهما بطين الآمال المؤجلة.

-                   لابد أنْ أُغامر وأركبه يا بلقيس.
- وتتركني يا يا اغنيوة !
- بعد أنْ استقر وأعمل أعود لأخذكِ أو أُرسل لك الدراهم فتلتحقي بي.

-                   عبر اغنيوة البحر مختبئاً في غرائر الصوف المصدّرة إلي أوروبا ، بعد أيام رست السفينة في نابولي ومنها عُبِّئت الحمولة في عربات شقّت طريقها إلي النمسا حيث تسلل في حرص وذاب وسط الزحام البارد.

لم يمض وقت حتى تعرف على عجوز في إحدى الحانات اقتنته نيّاكا و زوجاً لها وأصبح صهراً للنمسا متمتعاً بكافة حقوق المواطنة بما فيها حق امتصاص سلفيوم العالم. في أعلى الجرف الأيمن يوجد أخدودان على شكلA. B

-                     عصير العنب والأخدودان.
- أيُعقل هذا؟ أيكون الجرف قد كان في المغرب ودحرته الأمواج إلى هنا؟
- ولِمَ لا.

وآه منك يا موانئ الهموم والذكرى. الآن. الآن. الميناء يعج بحركة السفن. داخلة وخارجة. الحمّالون يعملون دون توقف. عربات الكارو تحمل ما جلبت السفن وعربات أخرى تجلب ما جادت به المداسة من صوف وعسل وتمر وزبيب وتين مجفف وزيتون وزيت وقمح وأغنام وأبقار وجلود صحة وجه وسبابات طويلة معكوفة ومستقيمة ومشرشرة وحنّاء وحلفا وماء زهر وعاج ونيوب فيل وخشب عطري. سفينة كبيرة تتخذ مدرساَ قصياَ عن باقي السفن لا تشحن هذه السلع وتجلب إلى الميناء الحديد والخشب والزجاج والبارود والألمنيوم والسلاح. هي تقف بعيدا عن الرصيف والمراكب الصغيرة تحمل عنها ما جلبت وتحضره إلى الشاطئ. وعندما تنتهي من إنزال حمولتها تنتظر حتى الصباح وتطلق سبع طلقات من مدافعها فيرد حاكم المدينة على هذه الطلقات بأحسن منها وعند منتصف النهار يتوجه إليها بزورقه فيدلّون له السلم ويصعد صحبة حراسه ومحاسبه ويُصَّعْد معه ما جلب من صرر مليئة بنبات السلفيوم الثمين والذي يحتكره الحاكم فقط ويحظر على أي تاجر أو مزارع أو مواطن المتاجرة فيه أو تذوقه أو لمسه حتى ولو كان نابتاً في أرضه. يمكث الحاكم في السفينة نصف نهار ينهي أشغاله مع الربّان ومع غروب الشمس يعود إلى اليابسة.

اليوم الذي خرج فيه اغنيوة بالسروال كانت تلك السفينة راسية وكل الناس تشاهدها من بعيد وهي تفرغ حمولتها في المراكب الصغيرة وتنتظر خروج زورق الحاكم إليها. وكان هذا الرجل من المنتظرين. وجاء موكب الحاكم وطلب محاسب الحاكم بعض الحمالين فاندفع كثير منهم صوب عربته وكان اغنيوة الغالي من المندفعين. تم صرف أكثر من أندفع إلى العربة من حمالين وأبقى المحاسب على اغنيوة مع عدد قليل من الأفراد وفورا ابتدأ العمل. فتحت خزنة خشبية تحملها العربة ورفع الحمالون صرر السلفيوم بحرص وخزنوها في قعر الزورق فوق دكّة خشبية جافة وانطلق الزورق يتهادى في وسط الأمواج صوب السفينة. ودلّت له السفينة السلم فصعد الحاكم ومحاسبه وبعض الحراس وبدأ الحمالون في رفع الصرر والصعود بها إلى السفينة. وكانت صرر كثيرة. كان اغنيوة يشتغل بنشاط. يصعد بصرة وينزل من جديد للزورق لجلب صرة أخرى. وفي إحدى التحميلات انفلت من ثقب في أسفل الصرة غصن مورق من السلفيوم الخصيب وناجاه في جبهته وخدّه فمد اغنيوة لسانه الدبق وجذب بواسطته إلى فمه ورقتين طريتين بدا لا ايراديا يمتصهما ويلوكهما مستغلا الممرّات الملتوية والمظلمة داخل السفينة الكبيرة.

وشعر بشعور بهيج وانتعاش لذيذ لم يعشه من قبل. وسوّلت له نفسه أنْ يقضم قليلا من ساق هذا النبات السحري فتلكأ في العودة إلى الزورق لتحميل صرة جديدة وما إن خلا المخزن في قعر السفينة حتى وسّع ثقب الصرّة وأخرج ساقا مورقة تنتهي بجذر سمين قضم منها قضمات وزق بقية النبتة عبر ثقب الصرة إلى داخلها وازداد هذا الشعور المبهج وازداد النشاط في رفع الصرر والتوازن على السلم وحافة السفينة. وكان بقية الحمالين قد بان عليهم الإعياء بينما هو ازداد نشاطاً ولم يكل أو يتعب من العمل. ينزل إلى الزورق قفزا ويصعد إلى السفينة جريا محملا بصرة جديدة في زمن قياسي مما لفت أنظار ربان السفينة وبحارته فأثنوا عليه وأمر الربّان بأن يتم تحيته بطلقة مدفع تنويرية ملونة كالمستخدمة في طلب النجدة فأطلق الطبجي طلقة التكريم وهذا الأمر ملفت للنظر لا يُفعل إلا لأناس مميزين فأطلت زوجة الربّان وابنته من كوّة قمرتهما وأشار لها الربان أنْ تنظر إلى هذا الحمال النشيط الذي لا يكل ولا يتعب. فتأملته مليا ثم لوحت له بيدها راضية تحيّيه وجذبت الصبيّة ودخلت. وقاربت الشمس على المغيب وقاربت الحمولة أن يُنتَهى من تخزينها. وكانت الأمور تسير على ما يرام. الربان وحاكم المدينة جالسين جنب بعض يحتسون النبيذ ويمزون بالجمبري المشوي. أمامهما الميزان. محاسب الحاكم ومحاسب الربان يسجلان الوزن والعدد ويتحاسبان. كم أنزلت السفينة من بضاعة وكم صعد إليها من سلفيوم. وانتهى الحمالون من إفراغ الزورق وبدأوا يتسلمون أجرتهم ويعودون إلى قعر الزورق كي يعود بهم إلى الرصيف.

كان اغنيوة قد وضع آخر صرّة وقضم قضمة أخرى من جذر السلفيوم وأخذ يلوكها ويمتص عصيرها و يتأمل مخزن السفينة الكبير ويرتقي الدرجات على مهل. وعند آخر درجة بصق ما في فمه في البحر فارتج البحر وارتفع موجه فجأة وترآى لكل الموجودين وكأن بلقيس بحر صعدت مع رذاذ الموج ثم غاصت. ابتسم وبصق بصقة أخرى ليس بها إلا القليل من نكهة السلفيوم ففعل البحر مثلما فعل سابقا لكن بدرجة أقل وابتسم هو أيضا بدرجة أقل وطلب من البحر أنْ لا يشي به وواصل طريقه ناحية الزورق ولاحت منه نظرة خاطفة إلى كوة القمرة التي ظهرت منها رأس زوجة الربان ورأس ابنته فوجد الزوجة تتوسطها و تبتسم له وتشير له بالتوقف مكانه. وبحار من بحارة السفينة يأتيه سريعا و يقوده من يده إلى داخل أروقة السفينة.

كان اغنيوة خائفا فزعا. ظن أنهم اكتشفوا أمره في قضم السلفيوم. لكنه تمالك أعصابه. وطمئن نفسه أنه ربما يكون هناك عملا يودون أن ينجزه لهم. أدخل إلى غرفة نظيفة ومنحته الخادمة كأس نبيذ. ومن خلال النافذة شاهد الحاكم يغادر إلى الزورق صحبة محاسبه وحراسه وتفك حبال التثبيت فينطلق الزورق عائدا صوب الرصيف. لم يفهم ما يحدث. ولم يقل له البحار شيئا سوى انتظر هنا. ومع وصول الزورق إلى اليابسة كانت الشمس قد غربت. وأشرقت شمس زوجة الربان التي دخلت إليه. ومعها خادمة خلاسية تحمل صرة ملابس. وقف اغنيوة تحية لزوجة الربان فقالت له أريد هذا السروال. هيا إخلعه. وإليك هذه الملابس. الخادمة سلمته الصرة. وخرجت. وبقى مع زوجة الربان فقالت له. إخلع. فخلع سرواله. وخلعت زوجة الربان أيضا سروالها وفستانها. وصارا عاريين. قضيبه المختون والمنتوش منتصب جدا بفعل السلفيوم وجمال الزوجة. لكن لم يشعر برغبة جنسية فيها. وهي أيضا. قالت له ستبقى معي دائما يا اغنيوة. أنت مني. وأنا منك. لقد عرفتك من هذا السروال. أنظر إلى هذا الخيط الأسود في السروال. إنه من جديلتي هذه.

أنا بلقيس يا اغنيوة. أنا إصفرار بيضتك وأنت بياض بيضتي. نحن بيضة واحدة كسرتنا الحياة في مقلاة الفراق. أنت اغنيوة. متأكدة من ذلك جدا. لقد عرفتك الآن وتيقنت أيضا من عضوك المنتوش الذي فتحني. أنا من نتشك. أنا بلقيس العذراء أيها الجميل العاري. أنظر إلى السروال ناحية الركبة. تلك القطعة المتحشرفة هي مساهمتك. كنا نسميك نظيف الركبة. كلما تخرج بالسروال لا تبرك به بتاتا. وتعود بركبتيه نظيفتين. الكبد أو قطة الزب حَرْفة كما يقولون لا تدوس نفسك أبدا. أنت مني و أنا منكم. أنا من حي المغار. كنت أعيش معك في سلام. حتى جاء ذاك اليوم الذي زار فيه حيّنا ذاك الربّان. جالب أغصان الكروم الشامية. قايضني أبي بغصن عنب. وسفينة ذاك الربان الذي صار زوجي غرقت. لكنني نجوت. هذه السفينة التي نحن فيها الآن كانت محملة بالسلفيوم وتبحر ليس ببعيد منا. عندما شاهدوا سفينتنا تغرق رموا لنا أطواق النجاة. ولم اتمكن من الحصول على طوق. ففي حالات الغرق تنتفي الكرامة والانسانية والشهامة وكل انسان تهمه نجاة نفسه فقط.

آه يا حبيبي الجميل ليسوا مثلنا عندما فضضت بكارتي لم تتركني أتألم وعندما ختـنـتك بأسناني لم أتركك تتألم. كنا نذيب الألم في شاي القبلات أو في قهوة الآهات أو في كاركدي السلام. الكل تركني لمزاج الماء يا اغنيوة. وكان البحر مضطربا جدا والأمواج عاتية فأغرقت كل من تمسك بطوق. وأنا لا طوق لي. لكن هناك صرة سلفيوم رماها أحد البحارة مع الأطواق بطريق الخطأ فأهملها مصارعو الغرق وتمسكت بها أنا وصرت أمتص وأقضم منها فتمدني بقوة طازجة تجعلنى لا أشعر بالبرد. تجعلنى دافئة وقوية ومطمئنة. تجعلني طافية فوق سطح الماء كفلينة. صرت اسبح بتركيز واتتبع الأخاديد البديعة والمسارب التي يصنعها رفاس السفينة. صرة السلفيوم ربطتها بزنار على صدرى بين نهدي. قرب نحري وفمي. جذورها تلامس سرتي وقمتها تلامس جبيني. وبدأت أسبح واتجه صوب السفينة رغم ارتفاع الأمواج وهطول المطر. السلفيوم أشعرنى بالحياة ومدني بهواء جديد اتنفسه. هواء لا يدخل ولا يخرج من الأنف. أغوص دون أن اختنق. اسماك القرش لا تقترب منى. وعند الفجر ومع شروق الشمس قليلا. وجدت نفسي لست بعيدة عن السفينة. ورأيت الربان والبحارة يدفعون بشخص مهلل الثياب صوب مشنقة علقت في الصاري الكبير الأوسط. يدفعونه وهو يصرخ أنا برىء. برىء. لست لصا. لست لصا. لكن البحارة الأشداء يصعدون به إلى أعلى الصاري ليعلقونه والربان مستندا إلى حافة السفينة ظهره إلى البحر مستعدا لإعطاء أمر الشنق. وعندما وضعوا الحبل حول رقبته لم أعد أحتمل وصرخت صرخة أنجده. صرخة سلفيومية رحيمة فاستدار الربان صوب الصوت ورأني أصارع الأمواج فأشار بيده للبحارة أن يؤجلوا تنفيذ الحكم ريثما ينقذونني من الغرق وأمر بحاران فقفزا صوبي ورفعاني إلى السفينة وما تبقى من صرة السلفيوم مازال مشدودا بنفس الزنار إلى صدري الذي بان محمرا طريّا مرتجفا من مشهد الشنق الوشيك. برم الربّان طرف شنبه بإصبعيه وأمر بإنزال حارس المخزن البرئ من المشنقة.

فكت إحدى الجواري الصرة عن صدري ووزنها الربان ثم ابتسم وقهقه عاليا والجارية تأخذني من طرف يدي إلى الغرفة وتبتعد بي سمعته يقول لوزّانه ومحاسبه لو أنام مع هذه الأنثى الجميلة وهي متناولة هذه المثاقيل من السلفيوم سأموت من قوة ولذة مضاجعتها سأتركها أياما حتى يخف نبات الخصوبة في ترائبها قليلا ثم أدخل بها. بعد اسبوع فقط دخل بي وهذه البنيّة التي رأيتها تطل معي من كوة القمرة ليست ابنتي. إنها ابنته من زوجته التي توفيت في وباء الطاعون. هذه هي قصتي. وأنت عرفتك من السروال. أنت من حي المغار. جنتي التي خرجت منها سابحة مقابل عود عنب زهى في مزاج أبي. سأعود إليها. يوما ما. وبفضلك إن فتحت دماغك قليلا. والآن سيكتشفون نقص مثقالات السلفيوم التي مضغتها. سيكتشفونها عند معاودة الوزن في ميناء التسليم ولابد من أن يدفع أحدهم ثمن هذا النقص. يدفع حياته. هذا عرف متبع. لاتهاون في وزن السلفيوم. وانت يا عزيزي استشرت الربان على أن استبقيك. قلت له أريده خادما وهو ينفع في كل الظروف المناخية الطارئة التي تحدث للسفينة. أضف على ذلك أن خادمي السابق شنق بسبب نسيانه كوّة القمرة مفتوحة فدخل الذباب والبعوض وأزعج فخامة الربان أثناء قيلولته المقدسة. لم يتكلم اغنيوة لكن عضوه ازداد انتصابا فنادت الزوجة على جارية سوداء وغمزتها اهتمي بهذا الفحل واسترينا معاه يا قحبة.

 ثم غادرت الغرفة.

لم يستطيعا الهرب من السفينة كما خططت بلقيس. يقول اغنيوة. الربان كان عادلا وكريما وفيلسوفا حكيما. تهرب منه حرام. إن واجهته العاصفة فمن سيساعده بضمير. زيادة على ذلك فسراويله كثيرة ونظيفة وأنيقة وجيوبها كثيرة. سراويله واسعة جدا تسع كل أرجل ومؤخرات العالم. سروال المغار الوحيد الذي كنت ألبسه وخلعته لبلقيس لم يمكث في خزانتها. طار منها بعد هنيهة فقط وجاءني ليمسني على وجهي كما السلفيوم الذي مس بلقيس أثناء الغرق وأنقذ حياتها ومس فمي أثناء العرق وأنعشني بنشاط مكنني من رفع صرر كثيرة في زمن قصير. هذا السروال كان في حي المغار اشتراكيا يلبس من كل المساهمين في نسجه. فصار هنا على ظهر السفينة حراً جيوبه مملوءة بالبارود. يغسل بصابون معطر وليس بمحلول الفودكا. لا يشده حزام حول خصر ولا تضرط فيه المؤخرات بالتداول. طار من خزانة بلقيس زوجة الربان وعذرائي العتيقة ومسني في وجهي فدمعت وعبرت فمسحني بطرفه السفلي الذي يخط التربة ويتناظف معها ثم طار وئيدا كفقاعة صاعدا إلى أعلى الصاري. ما إن مس الصاري حتى تملّس الصاري ورفض السماح للمشانق أن تتعلق فيه و ما عادت ترتبط به الحبال أو تدق في قلبه مسامير التصليب. السروال يرفرف فوق الصاري فأراه جميلا جدا. أراه من بعيد فسيفساء قماش تحتوي كل وجوه عشيرتي تنقص وتزيد فأعرف أن هناك مواليد ووفيات. السروال ينحسر ويصغر فأعرف أن هناك حروب وزلازل وبراكين و فياضانات وأعاصير وأوبئة ودكتاتوريات عالمية ترفض المغادرة. السروال يكبر وتلتئم هروده ويتوتر حزامه فيتسع فأعرف من قطعتي على الركبة التي تبان لي كطابع بريد أن الخير وفير والتسافد على طاقت طاقته والتكاثر على قدم وساق. وعندما يرفرف السروال أعرف أن الكروم والنخيل والرمان والزيتون والنحل تتلاقح و تتسافد بحب تباركه آلهة الأوكسجين. أتأمل السروال والسفينة في عرض البحر. أتأمله وهو ممتشق سن الصاري. أتأمله وأشعر بالراحة والفهم فيراني الربان فيحييني ويمسح دمعة سحت على خده رغما عنه وزوجته بلقيس عذرائي تقدم لي النبيذ وابنته تقدم لي حلوة الديك. والجارية السوداء لا تشبع من مضاجعتي. تضاجعني كلما سنحت الفرصة أو كلما واجهتني مقدمة السروال منتفخة متوترة. أما إن واجهتني مؤخرته فأذهب إلى المرحاض و أتغوّط. ومن نافذة المرحاض الضيقة أراه غيمة ربيع مكتظة بالمحلومات. أخرج لأطالع حلمي العاري. أقترب. أقترب وأقترب أكثر. فأراه شفافا كنبض بلقيس التي أحببتها فلبست سروالها و تخبلت أحلامها في خيوط النسيج. وكلما حاولت تخليصها صرختُ من سذاجة إبرتي.

آه يا إبرتي العمياء.

يا زوبعة من العتم.

 أطرق بابك صباحا و مساء.

وعند الفجر أدفعه بكتفي و أدخل بلا غيبة (بدون كلفة).

فلا أجدك.

ولا أجد الشمس.

 أجد الديك وحيدا

يظنني دجاجة

فيرتـقيني ويحط على كتفي.

 فأصير جنرالا.

أسجن دجاج العالم كله في حضائري.

أشرب من دمه

أكل من لحمه

أكتب بريشه أوامري النافذة

 أجمع بيضه كل فجر

وأطبخه شكشوكة

لكن الديك فوق كتفي

 يصير صقرا.

نسرا.

ديناصورا عملاقا ميّل كتفي.

 فلم أعد كما أنا منتصب القامة.

أمشي مائلا.

أقف مائلا.

أكتب مائلا.

أضاجع مائلا.

أصلي مائلا

ما رأيكم لو أقنعت الديناصور بممارسة الرياضة ليخف وزنه

الديناصور وافق

كل فجر يطير حول العالم بأقصى سرعة ويعود عند المساء إلى كتفي.

نقص كيلو.

كيلوين.

عشرة.

مائة.

ألف.

عشرة ألاف.

مليون.

مليار.

بليون.

ماذا بعد

اغنيوة ضعيف في الميتاماتيك

وبلقيس تغني له ولا تحسب له

. .

خلع ريشه.

 جلده.

لم يعد راكزاَ على كتفي.

اكتفى بالوقوف على غصن أخضر مورق

كتفي بدون طير لم يعد كتفي

صار شيئا من حتفي

الديناصور عاد نسرا

صقرا

ديكا

كتكوتا

بيضة

تبحث عن صرم دجاجتها.

 تمت