يسعى الناقد العراقي المرموق في دراسته لشعرية آخر العمر، جريا على ما استنه إدوار سعيد في كتابه أسلوب السنوات المتأخرة، إلى التعرف على خصائص هذه الشعرية لدى الشاعر العراقي ياسين طه حافظ، وكيف تتداخل فيها عناصر متعددة من الواقعي والحلمي والصوفي في آن.

شعرية أخر العمر

ما قاله ياسين طه حافظ في مخاطباته وسياحاته الصوفية

فاضل ثامر

من حق الشاعر، أي شاعر، ان يعيد تأمل حياته وتجربته عندما يصل إلى خريف العمر، ويتفحص جيدا موقع قدميه، وهو يشق طريق الحياة والشعر معا، بصعوبة وخوف من الآتي والغامض من الأيام. والشاعر ياسين طه حافظ، وهو يقترب من الثمانين، وفي جعبته أكثر من عشرين ديواناً شعرياً، واكثر من عشرة كتب موضوعة ومترجمة، من حقه أيضا ان يتوقف قليلاً ليطل على مسيرة العمر التي تركض، وان يقدم حكمته ورؤيته ومخاطباته لنفسه وللآخرين. وهذا ما راحت تؤشره دواوينه الأربعة الأخيرة: "ولكنها هي هذي حياتي" و"في الخريف يطلق الحب صيحاته" و"ديوان فاطمة" الصادرة كلها عام 2012، وأخيرا ديوان "مخاطبات الدرويش البغدادي" الصادر عام 2014.

يبدو لنا الشاعر ياسين طه حافظ، انه قد ادرك ان عليه ان يعترف بوطأة الزمن الثقيلة على حياته، ولذا فقد قرر، ربما مثل أبي العلاء، أن يخفف الوطء قليلاً وان يتأمل ملياً في الحياة، ليستنبط حكمتها مثل درويش بغدادي، يحصي سنوات حياته ويسترجع تجاربه في الحب والحياة، والتي راحت تتوشح بغلاله صوفية وروحية شرقية شفافة، اخذت تهبط عليه بهدوء وهو في صومعة الشعر والحياة. فهل ثمة شعرية خاصة ومتميزة تمثل هذه التجربة التأملية العميقة، تميزها عن شعرية أول العمر وأوسطه. ليس من اليسير الإجابة عن مثل هذا السؤال الإشكالي. فالشاعر يواصل تجربته الشعرية الخاصة، ولم يفارقها. فهو اعتمادا على طاقة قصيدة التفعيلة التي يعشقها والتي تستدرجه أحياناً إلى تلذذ إيقاعي ونبري ولساني، ذهني أحيانا، يخلق من خلال سلسلة من المعادلات الموضوعية، الدرامية أو المشهدية التي يستلها من حيوات أخرى. بنية قصيدة حداثية، تميل إلى ما هو مأنوس وخافت، وتهرب قدر الإمكان من ضجيج اللغة البلاغية المصطنعة، ومن إيقاع التطريب والقافية، مكتفيا بدثار الإيقاع الدافئ الخفي واللامرئي أحياناً. لكنه في شعرية آخر العمر يبدو أكثر هدوءاً ودعةً، فقد ولى عهد الشباب وجموحه وعنفوانه، وآن للجسد وللفكر ان يعترفا بوطأة الزمن والعمر. ويبدو ان محطة استراحة الشاعر قد وجدت معتكفها في الانغماس في لون من النشوة الروحية والصوفية الشرقية التي جمع فيها حكمة الشرق بكامله، بعدما أحس ان الحداثة قد أخذته بعيداً أكثر مما ينبغي من جذره الشرقي والروحي الذي نهل منه قبله شعراء الغرب، واغتسلوا بمائه الشفاف فنجحوا في ان يقدموا للعالم رؤياً صوفية وروحية متسامية في أشعارهم.

ولذا فقد قال لنفسه - كما ورد في مقدمته لديوان "مخاطبات الدرويش البغدادي" "ارجعي لربك راضية مرضية"، "وحين انتبهت وجدت نفسي درويشاً صوفياً." هكذا يدخل الشاعر فضاء العشق الصوفي، ومكابدة السفر المضني بين أوغال المجهول، ليقدم لنا في النهاية هذه الحصيلة الغنية بالتأمل والتبصر والحكمة، والثراء الجمالي والروحي معا، إلا ان الشاعر ياسين طه حافظ في رحلته إلى مجاهيل الإشراق والسياحة الروحية والتصوف الشرقي لا ينغمس كلياً في الترياق الصوفي العرفاني والغيبوبة، بل هو يظل مشدوداً إلى الأرض، إلى أحزانها وكفاحها ومكابدتها الدنيوية اليومية. انه مثل معظم شعراء الحداثة العربية الذين عانقوا السياحة الصوفية، لكنهم ظلوا دنيويين وحسيين إلى حد كبير. وربما تمثل تجربة الشاعر الكبير عبد الوهاب ألبياتي مثلا ملموساً على ذلك في الشعر العراقي. فمنذ رحلته مع حسن الصباح إلى عوالم نيسابور وانتهاءاً بديوانه "بستان عائشة" لم يأسره الترياق الصوفي، وظل وفياً لرؤيته الدنيوية والشعرية الملتزمة. كذلك هو الحال مع شعرية آخر العمر عند ياسين طه حافظ التي ظلت تراوح بين لحظتين متوترتين: الأرضية والهيولية.

ربما تمثل هذه الدواوين الأربعة، على اختلافها وتنوع تجاربها، محطة مهمة في حياة الشاعر الابداعية، ظل فيها يراجع حساباته القديمة، حسابات الربح والخسارة، وربما حسابات الحقل والبيدر أيضاً، ليعيد التوازن إلى ذاته، ويتطلع بعينين مفتوحتين على عوالم أليفة وقريبة ولكنها ظلت بالنسبة له مهملة، أو منسية ولم تستغرقه كلياً واعني به ملاذ اللحظة الصوفية بكل تجلياتها وسموها، حيث يمثل ديوانه الرابع "مخاطبات الدرويش البغدادي" ذروة هذا البحث.

ولكي نتفحص جيداً مسارات هذه التجربة الجديدة وشعريتها يتعين علينا ان نتوقف في كل محطة من محطاتها مبتدئين من ديوانه الصغير "ديوان فاطمة". ويمثل ديوان فاطمة " للشاعر ياسين طه حافظ الصادر في دمشق عام 2012 تجربة متميزة لها خصوصيتها في تجارب الشاعر الشعرية السابقة، ذلك أنها مكرسة بالكامل لاستلهام شخصية "فاطمة" الرمز والقناع والحقيقة، والتي تذكرنا بشخصية "عائشة" في متن عبد الوهاب البياتي الشعري وخاصةً في "بستان عائشة". وفي عتبة استهلالية مهمة يضئ بها الشاعر ياسين طه حافظ دلالة اسم فاطمة فيشير إلى انه من الأسماء المحببة لدى الشعراء وانه اختاره في قصائده منذ عام 1985:

"واليوم أجد في فاطمة رمزاً يأخذ بيدي في المدائن الضائعة، ليوقفني أمام القرار الأخير في البحث عن المعجزة أو المعنى. أما لماذا هذا الاسم؟ فاعتقد بأنه أسم يجمع بين الجلال والجمال، فتحتويه القصائد".(4)

ومع ان الشاعر سبق له وان كرس ديواناً كاملاً لامرأة واحدة هو ديوان "قصائد على جدار آشوري" الصادر عام 2012 أيضا، والذي يشكل في واقع الأمر قصيدة طويلة مقطعية أو عنقودية تتشكل من مائة حبة أو لوحة أو مقطع، لكن القارئ يشعر بانه في "قصائد حب على جدار أشوري" بإزاء امرأة حقيقية، ربما مثل نساء نزار قباني الحسّيات، إما في ديوان "فاطمة" فان المرأة تتحول إلى رمز روحي وصوفي متحول وحرباوي - تماما مثل رمز عائشة عند البياتي. فهي روح حائمة تمارس الحلول والاستنساخ.

"هل هذه فاطمة، اوفيليا، ليلى التي

غيبها التاريخ أو سافو التي أضاعها الرواة؟

ام هذه روح لأولاك جميعهن، أوهمت كل الذين حولها "(ذ)

تظل فاطمة عصية على التجسد، فهي التي تغيب دوما لتتحول إلى أسطورة، كما نجد ذلك في قصيدة "عاشق فاطمة": "فاطمة، فاطمة غابت ولن تعود."(24)

يبدو لنا الشاعر في هذا الديوان مثل شيخ فانٍ تعب من الحياة، وتعبت الحياة منه، وهو يتجرع مرارات الحياة وقسوتها بصمت و بكبرياء دونكيشوتي. فتأتي فاطمة لتبعث الحياة ثانيةً وتحرك نوازع كل ما هو حسي وأرضي:

"هذا القطار، تمر ساعات وتفتح بابه

هي هكذا مرت حياتي بعد أن أخطأت في تلك المحطة

بعد ان أغلقت بابي كي أضيع وراءه:

حب جديد بعد هذا العمر؟ ترجع للكلام تعيده

لكنها قالت أحبك."(7)

ولذا تصبح فاطمة الحسية وفاطمة الرمزية هي طوق النجاة في رحلة العمر الطويلة وربما المعادل الموضوعي الافتراضي لخسارات الشاعر وإخفاقاته العاطفية والحياتية.

في لحظة خاصة سألت الشاعر عن فاطمة فباح لي بالسر، مع إن الناقد لا يمكن أن يلزم نفسه بمقولات الشاعر وهفواته اللسانية أو ما تسمى بـ "فلتات اللسان" كي لا يقع تحت طائلة "المغالطة القصدية" التي حذر منها الناقدان الأمريكيان ومزات وبيردسلي. اذ قال ان فاطمة امرأة حقيقية من لحم ودم التقاها خلال زيارة ثقافية قام بها إلى إيران، وأنها كانت تقوم بدور المترجمة للوفد الثقافي وأنها كانت جميلة وقوية الشخصية والحضور. وأنا هنا لا أفترض، اعتماداً على ذلك، ان فاطمة امرأة حسية فقط بل أذهب إلى انها أيضا رمز أسطوري متبدل، يتجسد في كل النساء عبر التاريخ. فمثلما كان لعائشة بستانها عند البياتي، كذلك نكتشف ان لدى فاطمة "بستانها" الذي تختفي فيه وتذوب: "وإذا كففتُ وقلت أرجعُ وجه فاطمة يقول:/ بستاننا خلف التلول/ حتى إذا يممت لم أجد التلال/ ولا الحقول.(15)

وتنتظم قصائده "ديوان فاطمة" بنية سردية واضحة شبه خطية تتحرك أفقيا من نقطة البداية إلى النهاية، مروراً بتجربة محتشدة فيها الكثير من استلهام تراث الثقافة الفارسية برموزها الشعرية الكبيرة: سعدي وحافظ والفردوسي والشاهنامة. ولا يبقى بعيدا صوت الخيام وزرادشت والرموز الروحية في مشهد وقم وأصفهان، بل وتظل صورة ملحمة جلجامش من خلال حكمة سيدوري: سيدة الحانة التي نصحت جلجامش بان يكتفي بالحياة الحسية التي بين يديه، ويكف البحث عن عشبة الخلود. ففي قصيدة "نصح فاطمة":

"يا أيها الراحل هذا عالم لا ينتهي،

وكل ما ترونه ظنون"(32)

هنا دعوة للكف عن الوهم بالخلود، وبالحب:

"لن تصلوا!

هل تسمعون صيحتي؟ أقول:

لن تصلوا

الارض كوكب يدور."(33)

ويؤكد الديوان صرخة سيدوري أكثر من مرة وخاصة في قصية الختام "في البحث عن فاطمة".

"نصيحتي:

الحياة غادرت

مكانها واختلف العالم، عد إلى

خطوتك الأولى

وحاول ان ترى طريقك القديم."(96)

وهكذا يجد كلكامش ياسين طه حافظ أو قناعه الضمني نفسه مخفقاً وهو يودع أحلام الحب مقتنعاً بنصيحة فاطمة، على مضض. فهو مجرد رجل فانٍ في السبعين أورثته الحياة محنها وعذاباتها:

"ألان شيخ يرتدي أسمال أزمنة مضت

وعصاه ترعش وهو في

ذاك الطريق القفر يبحث عن وصول." (15)

وهكذا تتشكل، عبر حركات الديوان وتمفصلاته السردية، ثنائية الشاعر الشيخ والحبيبة الحرباوية، فاطمة، في رحلة جلجامشية من اجل اكتشاف الحقيقة: حقيقة الحب المستحيل ضمن نسق تراتبي رباعي:

(1) الإحساس بالشيخوخة (2) بريق الحب الذي تمنحه فاطمة (3) ساعات الحلم والوهم والآمل بالإمساك بإكسير الحب (4) الإحساس بالإحباط واستحالة الإمساك بعشبه الحياة.

وهذا النسق الرباعي يتمثل سردياً في مجموعة من الوحدات السردية التي تتشكل على هيئة رحلة يقوم بها الشاعر بصحبة عدد من الضيوف عبر مدن إيران المختلفة بصحبة فاطمة: الحقيقة/ الوهم.

"لكنني أهتز فوق المقعد الخشبي في هذا

القطار الجلف، أسألها حقيقة قولها

كيما أريح الروح من قلق، وأسالها

ولا أرجو جوابا ثم أسألها ولا أرجو.." (7)

وتتواصل تمفصلات الرحلة إلى أصفهان في نسق سردي لا تخطئه العين:

"كان الطريق لأصفهان محيراً

ظل إلى الفردوس يومي

والإشارة قرب روحك تستثير تريثاً." (13)

ويتواصل المبنى السردي في قصيدة "نصح فاطمة "من خلال راوٍ خارجي هذه المرة يذكرنا بالراوي في المرويات التراثية الكلاسيكية:

"مسافرون فوق تلكم التلال

منحدرون، حيث سار قبلهم ناس وسار آخرون. " (30)

ويتخذ النسق السردي مظهراً حسياً لبنية مشهد شعري/ روائي، في قصيدة من احوال فاطمة":

"دفعت باباً مغلقة

فتهاوى خلف الباب ضباب."(42)

وتتشكل صورة فاطمة حكائياً من خلال بنية "بالاد " شعرية حكائية:

"فاطمة تنفض شراً، تقرأ آيات

مسرعة تركب أول باص.(43)

ويتخذ السرد مظهر بنية درامية حوارية متكاملة كما هو الحال في قصيدة "غياب فاطمة"

"جاءت الي مثل من ينقذني من محنة

أضاءت الغرفة قالت:

"هل مسحت مرة مصباحَها؟

أحس غيمةً

تاتي إلى وجهي، فلا أرى" (54)

ويتحول أحيانا السرد إلى سرد ذاتي من خلال راو يتكلم بضمير المتكلم:

"وصلت الآن عبادان، صحراء الزمان مضت وهاتيك الرمال. "(72)

ولكن الديوان – القصيدة وأعني " ديوان فاطمة " محتشد فضلا عن ذلك بلحظات تأملية فلسفية في الحياة والحب والحقيقة والموت:

"كم ترددت أخطو، وأوصيت روحي تمضي

ولكن هذا الطريق الذي اخترت ممتلئ بالرفات ". (76)

"ديوان فاطمة" بداية مرحلة تأملية في حياة الشاعر، وهو يدخل بكبرياء خريف العمر، ليوزع حكمته ووصاياه ونبواءته على الاجيال القادمة وليمثل بوابة لمسيرة خصبة أماطت اللثام عنها دواوينه الاخيرة.

ففي ديوانه "ولكنها.. هي هذي حياتي" يقدم جرداً لمسيرة حياته، دونما تزويق او تزييف، وكأنه يجلس على كرسي اعتراف يقدم منه اعترافاته وهواجسه ومخاوفه لآخر لا مرئي، وربما لنفسه قبل كل شيء.

تكاد معظم قصائد هذا الديوان ان تتحول إلى هجاء للعصر والحياة والمجتمع: فكل شئ ينضح بالقذارة والبؤس والزيف. ففي قصيدة "الشرق أوسطي" تقرا هذا الهجاء المرير:

"قذر هذا الشرق الأوسط، فاسدة للجذر مدينتا." (ص 15 )

وتبدو له حياته غامضة وسط هذا الخراب والبؤس الذي يغلق كوى المستقبل بعنف وقسوة: "أي حياة،

أنا أحياها اليوم وأي حياة ستجئ؟

هذا الطوق الاسود يملأه تاريخ ملغوم

أوبئة، تاريخ من خوف، جوع، لا مستقبل." (ص 15 )

وفي قصيدة "ولكنها هي هذي حياتي" التي يحمل الديوان أسمها يحاول الشاعر ان يعتذر لقارئه عن مسحة الشجن التي تهيمن على شعره:

"أيها الأصدقاء الذين يلومونني،

ما أردت القصائد محزونةً

أنما هي هذه حياتي وأنا قد تسللت من زمن موحل." ( ص 41 )

ويبدو له الإنسان في هذه الحياة مثل بدوي يرحل في طريق بلا عودة:

"هو حكم الحياة ننوء به رحّلاً في طريق، بلا عودة

نترك في الرمل آثارنا." ( ص 107 )

وتأتي القصيدة الأخيرة في الديوان الموسومة "اعتذار لمن لم اكتب عنهم" بمثابة حوار افتراضي مع الشاعر الأمريكي (ولت ويتمن) وتحديداً من خلال التناظر مع قصيدته "أغنية لنفسي" من ديوانه "أوراق العشب"، وفيها يعتذر عن كل الأشياء التي لم يكتب عنها في حياته، عكس (ولت وتمن) الذي كتب عن كل شيء:

"سلاماً سلاماً ياولت وتمن

فأنا اليوم أكتب بنهجك هي عدوى الشرف

ياصديقي الأكبر والأعظم

استأذنك لأبدأ القصيد الشغوف بالأسماء." ( ص 125 )

ويقيم الشاعر مقارنة بين نفسه وبين الشاعر (ولت ويتمن) ويعتذر لأنه لم يكتب عن الكثيرين الذين كان ينبغي عليه ان يكتب عنهم:

"لم أكتب عن الطفل ولد حيا ولا عن أمه ولدته وماتت.

لم اكتب عن فقراء المدن وفقراء القرى." ( ص127 )

لكن الشاعر يدرك ان لا عذر له في هذا النسيان: ولهذا فهو يؤكد فعل الكتابة في المستقبل في بنية ميتا سردية " دالة:

"أما انا فسأُمضي ما تبقى لي من ايام

اكتب عمن لم اكتب عنهم، من ذكرتهم وهم كثيرين

 سواهم أهملهم الله وأهملتهم أنا!" ( ص 136)

ومع ان بعض قصائد الشاعر تميل إلى النثرية وأحيانا المباشرة غير المبررة فضلاً عن النزعة الذهنية والمنطقية، كما هو الحال في قصيدة "هل أنت ياسين بن طه؟" و "صباح الإوز البري"، فان اغلب قصائد الديوان تتشكل من لوحات درامية أو مشاهد يومية حية،  سردياتموجعة مبنية بطريقة فنية ذكية. فقصيدة "عن قتيل باب المعظم" تنحو سرديا لبناء شخصية القتيل الذي اغتاله الملثمون في باب المعظم، وكأنه يكتب "بالاد" شعرية لوركية:

"تحت حشد الغيوم

جثة وطيور تحوم." (ص 58 )

ويبدو الموت هنا إدانة للقتلة المجهولين وسخطا على الحياة والحضارة:

"أتأمل وجهه يرقد فوق التراب

ساكنا في رداءة ما حوله

مستقراً بنصف التفاتٍ ونصف انكسارٍ

يريني جرح براءته

وخيوط الدم اليابسات

 عذاباته الصامتة

 وأمامي عيناه مفتوحتان

 كل عين محارة." ( 63 )

وربما تختزل صرخة الشاعر في قصيدة "موت الشاعر" موقف الشاعر الكلي في الديوان:

"يا أيها البشر اسمعوا

إني تعبت من الكذب. (ص 22)

هكذا يتعرى الشاعر بشجاعة أمام التاريخ والضمير، وهو يتمزق بين الفعل واللافعل، بين نعم ولا، بين الكذب والحقيقة، لكنه يظل دائما صادقاً مع ذاته ومع الإنسان.

لكن خاتمة المطاف في رحلة خريف العمر، أو آخره، كما يبدو قد تقطرت عبر ديوان "الدرويش البغدادي" الذي "يتدروش" فيه الشاعر أو ذاته الثانية، محتفظا بجذره البغدادي، ويسوح في المعارج والمراقي الروحية بصحبة الحسن البصري الذي دعاه للإقامة في بيته ليتعلم الزهد وينتظر الرؤيا حيث تتحول هذه الدعوة الى ما يشبه البنية الاطار ومفتاحاً للرحلة:

قال لي الحسن البصري:

"تعال أقم في بيتي،

هنا في هذه البلدة بين النخل والبحر.

تعلم الزهد وانتظر الرؤيا." ( ص 7 )

في هذا الديوان يرتدي الشاعر قناع درويش بغدادي، يتمثل ويهضم كل التراث الروحي والصوفي في الكتب المقدسة والديانات الشرقية ليوحدها في رؤيا كونية إنسانية لا تتعالى على طين الواقع وخرابه، ولذا تكتسب هذه الرؤيا مسحة أرضية ودنيوية وحسية، ربما لتحقق لونا بين ما هو عرفاني وبرهاني أو بين ما هو أثيري وغريني

ومع ان الشاعر يعلن في مقدمته عن مراجعته الشخصية لمفهوم الحداثة الشعرية ورغبته في العودة إلى ينابيع الفطرة والتصوف والوجد، بعد ان جرّب كل أشكال التحديث والتجريب والابتكار في شعر الحداثة، إلا انه يظل حداثيا في صوره ولغته ورؤياه، وتظل الحبيبة هي رفيقة رحلته الطويلة. وعلينا ان نحذر من الاعتقاد ان نزعة الشاعر هي، هنا بمثابة، تجريب آني مؤقت، لفضاء روحي سبق وان جربه في أكثر من ديوان وبشكل خاص في ديوانه " ما قاله أخر الخطباء " وفي " عبد الله والدرويش "، فهي تجربة روحية صادقة اقترنت برحلة حياتية طويلة ومضنية في خريف العمر التي كابد فيها كل صنوف الانكسار والإحباط والاغتراب في خضم خراب العالم والحياة والوجود.

وديوان "مخاطبات الدرويش البغدادي" في واقع الأمر، ليس مجموعة من القصائد المتفرقة، بل هو قصيدة واحدة من قصائد التفعيلة، ربما عنقودية، يشدها خيط سردي خفي، وحركة لعقرب الساعة الزمني. فالديوان يضم مائة وأربعين مقطعا شعرياً قصيرا، ربما باستثناء المقطع الأخير الذي يمتلك خصائص القصيدة المتكاملة، لكنه يلتحم رؤيوياً وعضوياً بمشروع الشاعر في تجربة الديوان/ القصيدة والذي سبق للشاعر وان جربه في أكثر من ديوان وبشكل خاص في " الحرب " و "قصائد حب على جدار آشوري" و"ليلة من زجاج" و "النشيد"، مؤسسا بذلك لمشروع القصيدة الطويلة في الحداثة الشعرية التي يتحاشاها، لاعتبارات مختلفة، اغلب شعراء الحداثة العرب، والتي تتطلب دراسة خاصة للكشف عن مقومات شعريتها.

يغلب على الخطاب الشعري في هذا الديوان/ القصيدة نبرة الخطاب، وهو في الأغلب خطاب قناع الشاعر أو ذاته الثانية، نحو آخر افتراضي قد يكون الحسن البصري نفسه، وقد تكون الحبيبة. لكن ضمير المخاطب لا يهيمن كلياً على الضمائر الشعرية بل يحدث لون من "العدول" او "الالتفاف" بالمفهوم البلاغي نحو ضمائر سردية أخرى مثل ضمير الغيبة، في جدلية حوارية فاعلة ومولدة تذكرنا باطروحة ت. س. إليوت عن "أصوات الشعر الثلاثة". ففي المقطع التالي خطاب نحو حبيبة افتراضية، وهو خطاب اعتذاري:

"سيدتي معذرة

لا سلطان لنا في الفوضى،

دنيانا سوق

ولسنا الباعة فيه

ولسنا في هذا السوق شراة " ( ص 86 )

لكن الشاعر سرعان ما " يلتفت " – بالمعنى البلاغي واللساني – نحو ضمير المتكلم:

"ارنو لها أظل أرسل النظرْ

ما أجمل السحر الذي يمشي وما ألذه. " ( ص 87 )

تبدو رحلة الشاعر مخيفة ومحاطة بالمتاهات التي تجعل الشاعر يتهيب ويعيد النظر مراراً في سفره:

" ياسين، يامجنون، يافرهاد،

ألا تخاف أنت

من انخساف القنطرة؟" ( ص 19 )

وتظل الحبيبة الافتراضية، هي البوصلة، وهي كعبة الشاعر التي تشده بما هو ارضي لكي لايحلق في عالم الأثير. فالشاعر قد اختار بين العرفان والبرهان:

"يا حي ياقيوم

ياصاحب العرش

اني فتحت الروح للمحبوب. " ( ص 108 )

يشعر الشاعر بان حب الحبيبة قد استولى عليه ومحاه ( ص 21ً ) لذا راح يتيه باحثا عنها في البراري:

"هذا أنا الدرويش ألقي للثرى إزاري

اتبعها، أضيع في البراري. " ( ص 22 )

وبعد ان اختبر الشاعر كل الأديان والكتب والأنبياء يعلن استجارته النهائية بوجه حبيبته:

"في حيرة أنا

لم اجد التفسير

ولا ضمنت حجة التفكير

بأي دين سأدين بعدما رأيته

بأيهم من أنبياء الله أستجير

وجه حبيبي منقذٌ

وجه حبيبي أيةٌ تنيرْ." ( ص 31 )

لكن الشاعر، في حالة انخطاف دائم وكأنه يسترجع نشيد الانشاد وهو في رحلته في الحياة وهو يحلم بان يعانق الجوهر في حبيبته:

"أريد أن أحيا

أريد أن اهجسه يقول:

أعانق الجوهر في حبيبتي." ( ص 151 )

وتندمج رحلة الدرويش البغدادي بسافو، الشاعرة العاشقة، ويرتدي قناعها في اخر المطاف تأكيدا لانتصار دنيوية هذه الرحلة الروحية:

"ياخالق هذه الأجساد، أيا قدوس

مدَّ ضياءك لي أنقذني من هذه الحيرة

فانا سافو لا اعرف غير الحب

وغير الرقص وغير شفاه حبيبتي" ( ص 162 )

وتظل سافو، قناع الدرويش البغدادي تبحث عبثاً عن هذا التوحد بين الجوهر والحب الأرضي، وهي تعود ربما مثلما عاد جلجامش بعد ان استمع إلى نصيحة سيدوري سيدة الحانة ليعانق ما هو ارضي وواقعي. وهكذا تواصل سافو عملية البحث عن المطلق والجمال بحثا عن الكون وفردوسه المخفي، وهي أيضا تتويج لرحلة الشاعر أو درويشه البغدادي:

"ياسافو في العشبة فردوس مخفي

في الصخرة أبهةٌ وجمالٌ قدسيٌّ

والقبّرة المنطلقة

تحمل روح الكون وسرّه

كوني هادئة ياسافو، كوني غائبة في حبك،

ظلي في الكون الشاسع مثل ابنته

أو زهرته

أو موجته الحرة" ( ص 165 )

وهنا تنتهي هذه الرحلة الروحية العميقة للدرويش البغدادي، عبر محطات المكابدة والعشق والانخطاف بحثاً عن وحدة الوجود. وكنت اتوقع ان يعود الشاعر ثانية إلى القصيدة الإطارية – اذا جاز التعبير – التي دعاه فيها الحسن البصري إلى الإقامة في بيته للانطلاق في رحلة الكشف هذه لتأخذ القصيدة شكل بنية شعرية دائرية لرحلة مكتملة وغنية بالدلالات والإيحاءات السيميائية والجمالية والروحية التي قطرتها تجربة العمر التي مرّ بها الشاعر، وكابدها في أكثر من ديوان، كان أخرها " ولكنها هي هذه حياتي "، وحاليا في رحلة الدرويش البغدادي هذه:

"انتهت قصتي أو هي في لحظة تنتهي،

موجع ان أكون احترقت وأنا ما ارتشفت

من ذلك السلسبيل

هي هذي حياتي التي نحن نحيا، وهذا السبيل

لا بديل."

هذه الضربة أعدها تضئ ختام رحلة الشاعر الروحية متدروشاً في ختام رحلة حياته الأرضية في الشعر والحياة والحب.

ديوان "مخاطبات الدرويش البغدادي" للشاعر ياسين طه حافظ هو ثمرة استقصاء روحي ومعرفي صب فيه الشاعر،عبر مشروعية التناص الكثير من حكم الكون وأقوال الشعراء والحكماء، كل شرائع الأرض كالإسلام والمسيحية واليهودية والبوذية والزرداشتية، ربما ليحرر الشاعر نفسه من الإحساس بخطيئة انه، بإغراء الحداثة، قد ابتعد عن المنابع الأولى للجمال والمعرفة في الموروث الشرقي الروحي وليؤكد لنفسه ولنا وللشعر:" لقد وفيت بديني بعد أن قلت لنفسي بعد تلك الرحلة، ارجعي لربك راضية مرضية." ( ص 11، المقدمة).

ديوان ياسن طه حافظ، تجربة فريدة في شعرنا الحديث، وإضافة مهمة يقدمها الشاعر ضمن تجارب أخريات العمر، لتؤكد خصب التجربة الشعرية وتنوعها وتواصلها لشاعرنا.