يتناول الباحث الفلسطيني في هذه الدراسة الضافية سيرة الكاتب الفلسطيني الكبير حنا أبوحنا من وجهة نظر تجنيسية ومقارنة معا، كاشفا تناصاتها مع سيرتي جبرا إبراهيم جبرا ونجيب نصار، ومحاورها الأساسية: المكاني، الزمني، الاجتماعي والثقافي، وجماليات المبنى والأسلوب واللغة المتميزة فيها.

العودة لأيام الطفولة البعيدة

في «ظلّ الغيمة» لحنا أبي حنا

نبيه القاسم

مدخل أوّلي
لم تعد السيرة الذاتية نوعا أدبيا غريبا على أدبنا العربي الحديث رغم قلّة الدراسات النظرية. ومنذ كتب طه حسين كتاب "الأيام"، وعباس محمود العقاد كتابي "أنا" و "حياة قلم" ، وإبراهيم عبد القادر المازني كتابيه (إبراهيم الكاتب وإبراهيم الثاني)، وكتب ميخائيل نعيمة كتاب "سبعون". صدرت إلى الأسواق في العالم العربي عشرات الترجمات الذاتية التي اختلف أصحابها في كيفية كتابتها وتقديمها للقارئ. ولم تتأخر الكتابات المتناولة لهذه الترجمات والآراء التي حاولت جاهدة التأصيل لهذا النوع الأدبي، البعض اجتهد ليؤكد أن مثل هذا النوع الأدبي عرفه العرب منذ القدم، وأنّ نماذج من السيرة الذاتية وصلتنا منذ العقود الأخيرة من القرن السابع الميلادي والأولى من القرن الثامن تُنسَب لمحمد بن شهاب الزهدي(1). ثم كانت كتابات السيرة التي تتناول حياة الرسول العربي الكريم ابتداء من كتاب السيرة لابن اسحق وكتابات الواقدي وابن سعد، وكتابات أخرى في السيرة تناولت حياة شخصيات غير الرسول مثل محمد النفس الزكية، وبعض شخصيات من الفرق الاسلامية المختلفة والصوفية، وعرفنا في أدبنا العربي السير الشعبية المختلفة مثل: سيرة بني هلال وسيرة عنترة وسيرة سيف بن ذي يزن. وما عُرف بأدب الرحلات وما يتخلله من فقرات طويلة تتناول حياة ومغامرات وهواجس أصحابها مثل كتابات المسعودي وابن جبير وابن بطوطة، وبشكل بارز عند أسامة بن منقذ الذي يسحر القارئ بما وصف من تجاربه في حياته الزاخرة التي عاشها. كذلك يستشهد هؤلاء بكتب التراجم العديدة التي تركها لنا الأقدمون التي تناولت حياة الملوك والأمراء والسلاطين.

ورفض الدكتور عبد الرحمن بدوي القبول بالرأي القائل بوجود فن السيرة الذاتية عند العرب وقال إن هذا الفن "تأخر ظهوره في الأدب العربي لأسباب ترجع إلى مزايا الشعوب السامية"(2). وعمل البعض الآخر على إرجاع كتابة السيرة في ملامحها الأولى إلى كتابات الطهطاوي في (تخليص الإبريز ..) وأحمد فارس الشدياق في (الساق على الساق) ومحد رشيد في (سيرة الإمام) و(شكيب أرسلان أو إخاء أربعين عاما)(3). وكان لكتابة التراجم الذاتية دوافعها المختلفة منها الذاتية ومنها الاجتماعية ومنها السياسية مثل كتابات : أحمد عرابي في (كشف الستار عن سر الأسرار)، وأحمد لطفي السيد وكتابه (قصة حياتي)، وأحمد شفيق في (مذكراتي في نصف قرن)، وأحمد أمين في (حياتي). وقد اختلط عند العرب مفهوم السيرة بمفهوم الترجمة الذاتية.(4)

دقّة المصطلح:
اختلفت التسميات وتداخلت مع غيرها وأصبح من المهم أن نميّز ما بينها لنعرف المذكرات من الترجمة الذاتية، والاعترافات من اليوميات، والسيرة الذاتية من السيرة، والسيرة الذاتية من الرواية لنقف على نقاط الاتفاق والاختلاف فيما بينها. فالإعترافات كاتبها هو مَن يلتزم بقول الحقيقة المطلقة، والاهتمام بإبراز التبريرات والتسويغات واستعمال أساليب المراوغة والمكر والتمويه، بينما المذكرات يحرص صاحبها على الدقة خلال تصويره للأحداث التاريخية الخارجية دون الالتزام بتصوير واقعه النفسي الذاتي، فهو يهتم بتصوير البيئة والمجتمع والمشاهدات العامة أكثر. والسيرة تكتب عادة من قبل شخص آخر عاش في زمن لاحق وتدور حول شخصية مركزية هي مركز الاهتمام والالتقاء.

ورغم أن السيرة الذاتية هي سليلة الرواية كما يقول جورج ماي(5) إلاّ أنّ ما يميّزها اعتناؤها بوصف الحياة الخاصة للشخصية في حين تحتفي الرواية بوصف العالم الخارجي أيضا(6). كما أن كاتب الرواية يترك شخصيات روايته تنمو بحرية وبتأثير الأحداث التي تعصف بها وترافقها، بينما كاتب السيرة مقيّد إلى حياة معروفة له، عاشها وعرفها وليس له إلاّ استعادتها بذاكرته. فكاتب الرواية يبتكر شخصياته وحياة كل منها، بينما كاتب السيرة الذاتية يتذكر الشخصية ويستعيدها إلى الحاضر ويُجسدها من جديد بصورة تتناسب وهذا الحاضر الذي أوجدها فيه. وفي الوقت الذي يستطيع فيه كاتب الرواية أن يعتمد على عنصر اللبس وإثارة الشك في العلاقة بين بطل الرواية وكاتبها، باعتبار النصّ الأدبي نصّا مستقلا بنفسه، ولا يُحيل إلى خارجه ليستمدّ من ثمّة الشرعية والمصداقية لما يقول، ويكون بمقدور قارئ الرواية أن يتبنى أحد المعاني الممكنة أو المحتملة، فان الأمر يختلف في السيرة الذاتية حيث هنالك تطابق كامل بين الكاتب والشخصية ولا احتمالات والتباسات في المعاني ما بين القارئ والكاتب. ويرى جورج ماي في مسرد حديثه عن علاقات التداخل والتخارج بين السيرة الذاتية والرواية(7)، أنّ السيرة قد استثمرت أساليب السرد التي أشاعتها الرواية، ولكن الرواية قد استثمرت بدرجة واضحة السرد المباشر الذي يعتمد على ضمير المتكلم، وهو أسلوب ظهرت بذوره في المذكرات، وسرعان ما دفعت به الرواية إلى مركز الاهتمام، وأصبح جاهزا لأن يُعاد استخدامه وبتنوّع شديد الثراء في السيرة "(8)

وقد اختلط مفهوما السيرة والترجمة الذاتية في التراث العربي، وقصدوا بالترجمة تقديم تعريف أو نبذة مختصرة عن شخص معين، أما السيرة فتعني تقديم تعريف مسهب عن شخص معين، وتتبع حياته يوما بيوم. وقد تداخل مصطلحا الترجمة الذاتية والسيرة الذاتية حتى ليكاد الواحد يستخدمهما معا دون أن ينتبه لهذا الخلط وهذا التداخل، رغم أنني أرى في مصطلح السيرة مجالا أوسع وأكبر وأكثر دلالة وإيحاء من مصطلح الترجمة الذي ينحصر في كينونة ضيّقة مُحَدّدة لا ينطلق عَبرها كالسيرة، إلى آفاق أوسع وعوالم أبعد ومَعان لا نهاية لها وخيالات لا حدود لانطلاقها.

السيرة الذاتية:
ظلّت التعريفات التي قيلت في مصطلح السيرة الذاتية هي التي قالها منظرون مثل فابيرو بقوله: "السيرة الذاتية عمل أدبي، رواية، سواء كان قصيدة أم مقالة فلسفية .. إلخ، قصد المؤلف فيها بشكل ضمني أو صريح إلى رواية حياته وعرض أفكاره أو رسم أحاسيسه.(9) ومثل فيليب لوجون بأنها "حكي/ سرد استعادي نثري، يقوم به شخص واقعي عن وجوده الخاص، وذلك عندما يركز على حياته الفردية، وعلى تاريخ شخصيته بصفة خاصة"(10). ووضعت الأسس لفن السيرة الذاتية في القرن السابع عشر، وأخذ يتطور بتأثير الأيديولجيات والفلسفات والثورات الأجتماعية والسياسية، وتترسخ أسسه وتبين ملامحه حتى القرن العشرين عندما استقام كفن ابداعي له مميزاته وثوابته، وكان للعلوم الانسانية، وخاصة علم النفس، الدور البارز في تبلور وتثبيت فن السيرة الذاتية حيث أن السيرة الذاتية تعتمد أساسا على الفردانية واستقلالية الفرد وحقه في أن يعيش الحياة التي يُريد، وكما قال القديس أوغسطين: "حين يُصبح الانسان مسألة بالنسبة إلى نفسه، وحينما يحاول أن يجد عن هذه المسألة جوابا لنفسه – هو وحده فحسب – تكون الغاية من هذا الفن أكثر سُموّا وأعظم نزاهة، فيصبح معرضا يعرض فيه مجرى حياته الباطنة وتجاربه الروحية، ومعملا للتحليل النفسي الدقيق، الذي يكشف عن خبايا النفس وقواها، ومدّها وجزرها، وضلالها وهداها."(11)

ولا شك أن الاحساس بالفرادة والتميز وراء الدافع لكتابة السيرة الذاتية حيث يقوم الانسان باسترجاع ما مرّ به في حياته. فالسيرة الذاتية تعتمد أساسا على الفردية وعلى إحساس الفرد بأنه صنع أو ساهم في صنع أحداث كانت لها أهميتها على حاضر ومستقبل الجماعة. وتسجيل هذه السيرة يجعلها تصبح جزءا من التاريخ الذي يتبلور، فالانسان كمخلوق إلهي يرى في وجوده وجود العالم واستمراريته، فهو حجر الرحى ولا يكون العالم بغيره. وقد تكون الخاصيّة الذاتية في الانسان هي التي تدفع ببعضنا إلى القيام بعمل ما يعتقد أنّه يضمن له الخلود، مثل كتابة سيرته الذاتية، فيسجل ذلك على صفحات الورق لتكون وثيقة يطلع عليها الكل ويُقرّوها، وقد يكون الخوف من الآتي والموت المتربّص عاملا للكتابة للّثبّت بالحاضر وتَرسيخ البقاء عن طريق تأكيد أهميّة الذي قام به في حياته ليُؤكّد أنّه باق ومؤثر، رغم عبَث الأيام به، وذروها له وتَغييبه. وقد يكون البعد عن المكان وعن الناس الذين عرفهم، والحنين إلى المكان والناس، هما الدافع لتذكرهم دائما، والعامل في الارتداد إلى الماضي لاستعادته وعيشه من جديد. وبهذا الاسترجاع الذي دافعه الحنين تكون عملية الانتقاء والاختيار والتجزئة والحذف والتهميش والتغيير والتعديل والتكييف لخلق الماضي الجميل الذي نبكي ابتعاده ونستدعي رجوعه المستحيل، فلن يكون لنا من طريق غير رسمه بأزهى الألوان وأحلى اللوحات.

العودة للطفولة:
العودة للطفولة تعني أن يتخلى الانسان عن كل علاقاته التي بناها خلال سنوات عمره الطويلة، فيترك الذين عايشهم وصادقهم وعرفهم، ويتخلص من جدران الأمكنة التي رافقته طوال أيام عمره بما تركته عليه من أثر وسحر وآلام ومخاوف وآمال وحنين ورغبات، وينسحب بذكاء من سطوة الأزمنة التي لازمته وخادعته وراوغته وراودته، فيعود لأيام الطفولة خفيف الوفاض، كله رغبة وشوق لاستعادتها، باحيائها من جديد، ومحاولة خلق عالمها الساحر الذي كان.

جبرا إبراهيم جبرا ونجيب نصار نموذجا حنا الأثيران
الذي عهدناه من كتّاب السيرة الذاتية أنّهم يمرّون على فترة طفولتهم بسرعة، يذكرون بعض الأحداث والأسماء والمواقع والأشخاص، وينتقلون للمراحل التالية ليتَركّزوا في مرحلة البلوغ والعطاء. ويكاد الكاتب جبرا إبراهيم جبرا يكون الواحد بين قليلين حيث خصص لفترة طفولته كتابا كاملا "البئر الأولى"، وشكّلت طفولته، بسنواتها الاثنتي عشرة، حلقة مهمة ومميّزة وأخّاذة في سيرته الذاتية. وكان جبرا إبراهيم جبرا ولا يزال، هو النموذج المفضل عند حنا أبي حنا لما وجد بينهما من أشياء مشتركة وتكاد تتطابق. ومَن يقرأ "البئر الأولى" لجبرا و"ظل الغيمة" لحنا يقف على هذا التشابه إلى حدّ التماثل في الكثير من الأحداث والمواقف والأفكار.

لكن جبرا كان واضحا وصريحا ومُحددا في تقديمه لسيرته، فهو يُوضّح في الصفحات الأولى لسيرته الدوافع للكتابة، وكيف توصّل في النهاية إلى الاكتفاء بسبع أو ثماني من الاثنتي عشرة سنة من سنوات عمره الأولى لتشكل الحلقة الأولى من سيرته الذاتية(12)، واختار أسلوب السرد وضمير المتكلم ليروي بنفسه للقارئ بعضا من فصول طفولته التي رأى أنها تستحق الذكر والتسجيل. ويؤكد بقوله: "إن ما أكتبه هنا هو شخصي بحت، وطفولي بحت. ومقتربي يتركز على الذات إذ يتزايد انتباهها، ويتصاعد ادراكها، ويعمق حسّها، ولا تنتهي بالضرورة حيرتها".(13). ويوضح قائلا: "قصص الطفولة إذن هي قصص أحداث غدت مزيجا من الذكرى والحلم، مزيجا من الكثافة الوجودية والغيبوبة الشاعرية، مزيجا يتداخل ويتواشج فيه المنطق واللامنطق.

ولكنه مزيج يؤكد حضوره أبدا في عمق ما من النفس، يستحيل إيفاؤه حقّه مهما تابع الذهن جزئياته وتشعباته"(14). ويستحضر قول الشاعر وردزويرث "إن الطفل هو والد الرجل"، ويُقرّر "إنّ الطفولة تبقى مَبعث سحر يستديم فعله الغامض، ومصدرَ وهج يعجز عنه التفسير. وكلا السحر والوهج يغرينا دوما بالشخوص إليه والاندهاش به مجددا. محققا للنفس انتعاشا هي بحاجة اليه كلما راكمت عليها الأيام أحداثها، وحطّت السنون عليها أعباءها.(15). وباستعادة أيام الطفولة لا يشعر الانسان بالحرج كغيرها من فترات حياته ، وكما يقول N.Berdyaeu " وذكريات الطفولة غالبا ما تكون صريحة، لأنك سواء أكنت فخورا بطفولتك أو كنت آسفا لأيامها، ففي كلا الحالين تستطيع أن تقول ما تعتقد دون أن تُورّط نفسك لأنّ الطفولة منفصلة عن الرجولة، ولكنك إذا تجاوزت هذه المرحلة قيّدك الاحساسُ بالمسئوليّة"(16).

ومثل جبرا اقتصر حنا أبو خنا الحلقة الأولى من سيرته الذاتية على الثلاثة عشرة سنة الأولى من حياته، لكنه بدأها من لحظة ما قبل الولادة عندما استدعيت القابلة لتساعد الأم على الولادة، ولتعلن بأن المولود ذكر. بينما بدأ جبرا سيرته وقد بلغ الخامسة من عمره تقريبا يعي ويراقب ما يدور حوله من أحداث. وكجبرا كان حنا يمتاز بالذكاء والتقدّم على زملاء الدراسة، فقد تقدّم على زملائه المسلمين في الكتّاب عندما انطلق يُرتّل السّوَر بصوت واثق يحسن إخراج الحروف، ممّا دفع بأحد الرجال ليقول: "أليس خسارة أن لا تكون مسلما؟"(17).

وتفوّقه جعل مدير المدرسة ينقله من الصف الأول للثاني(18). فجبرا أيضا قبل في المدرسة وهو في الخامسة من عمره بينما كانت السن القانونية سبع سنوات(19)، ورُفّع للصف الثالث لذكائه في مدرسة بيت لحم الوطنية (20)، وقبل في الصف الخامس في المدرسة الرشيدية في القدس.(21). وكما أحب حنا أبو حنا جبرا، هكذا أحب نجيب نصار(صاحب الكرمل)، ورأى فيهما الصورة المتكاملة التي يراها لنفسه، ومَثّل كلّ منهما له نموذجا مشرقا يتمنى لو يتابعه ويتقدّم عليه. ويتذكر المرّة الأولى التي رأى فيها نجيب نصار أثناء تجوله في السوق الأبيض في حيفا قائلا: "ومطبعة تدور في ضجة ورجل يمسك بملقط يجمع الحروف من جوارير صغيرة ويرتبها على صحن معدني ليصنع منها كلمات، ويفصل بين السطور بقطع المعدن، ثم يلف حول ما يشكل صفحة خيطانا متينة، ويديرها فتترك بصماتها على الورق.

كان الرجل قصيرا جسيما كبير الهامة على رأسه طربوش كبير. هذا هو صاحب جريدة "الكرمل" وصاحب مطبعتها، واسمه نجيب نصار. وقف الصبي عند المطبعة طويلا يتأملها وينظر إلى حركات الرجل، ولم يشأ أن يتطفّل فيسأل، فليس لدى الرجل مَن يُساعده، وليس له الوقت ليردّ على كل متطفّل" (22). وإذا كان قد فعل كجبرا في العودة إلى فترة الطفولة واستعادتها، فإنه قلّد نجيب نصار في تحاشى ذكر اسمه، واختار اسما مغايرا لبطل سيرته، لكنه اختيار لم يكن عفو الخاطر وإنما مدروس ومقصود.

يوضح حنا أبو حنا في تقديمه لرواية نجيب نصار "مفلح الغساني" سبب اختيار صاحب الكرمل اسم مفلح الغساني حيث يقول: "أما اختيار نجيب نصار هذا الاسم فمُتعمّد ليؤكدَ عروبته بالانتماء إلى الغساسنة – العرب النصارى. وفي اختيار اسم مفلح ما فيه تأكيد صلته بالأعراب، وما فيه من التفاؤل"(23). ويعرفنا حنا على كيفية اختياره لاسم يحيى، فحنا الموهوب الذكي الشاعر، آمن ككل مبدع خلاّق أنّه مبعوث الذات الإلهية، وأنّ صرخته، لحظة أطلّ على هذا العالم في اليوم الثالث، لم تكن كصرخة أيّ مولود، وإنّما صرخة محتج، صرخة فيها شيء من البكاء. وآمن أنّ ولادته كانت حدثا نبّه الرب إليه جميع الناس بالزلزَلة التي ضربت البلاد سنة 1927، قبل مولده بسنة(24)، وما مولده إلاّ بشارة للعالمين "يا زكريا إنّا نبشّرك بغلام اسمه يحيى"(25).

ولهذا كان اسمه الذي اختاره لنفسه يحيى ليؤكد على التميّز والتفرّد، وأنّ رسالة إلهية موكولة إليه عليه تأديتها. وهذه الفرادة متوارثة في أسرة حنا وهو يخبرنا على لسان الراوي قائلا: "عندما ولد جدّ يحيى هذا تفاجأت الداية وتفاجأ الوالدان، فقد كان الإبهام في كلّ يد مضاعفا، كأنّه إبهامان ملتصقان، وعندما أرادوا تسميته كان أول اسم خطر "زايد" فهو زايد عن الآخرين"(26). ويُتابع حنا في تأكيد فَرادة وتميّز جدّه، وأنّه يحمل قَبَسا من الألوهية. "عندما تزوّج -المقصود جدّ يحيى- وولد له طفل ذكر استبشر خيرا فسمّاه بشارة، ولكنه لم يطل به العمر، وعندما كانت تلد زوجته طفله الثاني ماتت مع الطفل. وتزوّج امرأته الثانية، وولدت له البنين والبنات، لكن البنين كانوا يموتون أطفالا وبقيت له ثلاث بنات"(27). أليس في ذكر هذه القصة ما يحيل لقصص الأنبياء الذين رزقوا بالبنات فقط، وما يُذكرنا بالرسول الكريم، الذي فقد أولاده الذكور ولم يبق له غير البنات!؟.

وفي الوقت الذي اختار فيه جبرا أسلوب السرد وضمير المتكلم، وجاهر بأنه صاحب السيرة ولم يغيّر اسمه، فإنّ الأمر يختلف عند حنا أبي حنا منذ الصفحة الأولى. فهو من البداية يختار ضمير الغائب واسم يحيى لبطل سيرته، ويتّخذ لنفسه دور الراوي المضمَر، ويتهرب من المواجهة الصريحة مع القارئ ومن تحمّل أيّ تَبَعة نتيجة نشره لسيرته بتصريحه المُخصّص له صفحة كاملة "أسماء الأشخاص في هذا الكتاب غير حقيقية وأيّ تشابه أو تماثل مع اسم حقيقي صدفة محض ولا صلة للاسم الحقيقي بالأحداث التي في الكتاب"(28). وهذا يذكرنا ببعض كُتّاب الروايات والقصص الذين يستهلون روايتهم بمثل هذه الكلمات تهرّبا من أيّ تَبَعة قانونية. أمّا كاتب السيرة فهو يهدف إلى قول الحقيقة، ويرغب في أيصال أفكاره وتقديم تجاربه وإبراز أهميته ومركزيته في صنع الحدث وتقرير المصير.

والسؤال هو: هل أراد حنا أبو حنا بتصريحه هذا إيهامنا بأنه لا يكتب فصلا من سيرته الذاتية؟ وهل يريدنا أن نتعامل مع كتابه هذا على أنه رواية ككل رواية ؟ أشك في ذلك. فقد تكون رغبة حنا في اعطاء نفسه مساحة كافية من حرية القول والبوح والتفصيل في رسم المشاهد واستحضار الاشخاص، مع إدراكه أنّه محكوم بأطر عقلية واجتماعية وبيئية لا ترحم، وقد يكون الخجل من ذكر أمور تخصّه وتمسّ الآخرين لا يملك حقّ التصريح بها، هي التي دفعت بحنا لتحاشي استعمال ضمير المتكلم في سرده، واستعارة اسم يحيى بكل دلالاته ليكون قناعَه الذي يتستر وراءه، وإن كان في أكثر من موضع ينبهنا إلى أنه صاحب السيرة، وأنّ يحيى هو حنا، مثل "ولما كانت الرينة – قرية الطفل على خط الطول هذا كانت إصابتها بالغة"(29)، ومثل "اكتشف يحيى ذلك بعد العديد من السنين وفي مناسبة غير عادية. فقد كانت قصيدة يحيى "من هديل الحمامة" من البرنامج الدراسي المقرر في اللغة العربية للمدارس الثانوية لامتحان الاجتياز" (30).

وبذكاء يحاول أن يفسر سبب عدم ذكر بعض الأحداث أو القصص أو الحالات التي تعرّض لها في طفولته، ويُرجع ذلك لقصور في الذاكرة التي عليها يعتمد في استعادة سيرته الذاتية وكتابتها بقوله: "الذاكرة مسرح كبير معتم. تسلّط عليه دوائر ضوئيّة متفرّقة تجلو مشهدا أو موقعا أو شخصا أو حدثا أو صوتا أو رائحة. أمّا ما لا يصل إليه الضوء فيظلّ كامنا في العتمة. مشاهد تغتسل بالوضوح، ثم انقطاع مظلم ومشاهد أخرى يتثاءب فيها الضوء وتضطرب الملامح."(31). وهو في هذا يلتقي مع جورج مور بقوله: " إنّ المرء ليطالع ماضي حياته مثلما يطالع كتابا قد مزّقَت بعض صفحاته، وأتلف منها الكثير" (32) ومع شوميكر الذي قال: " إنّ إعادة الخلق الحقيقي للحياة برمّتها كما عاشها صاحبها، إعادة محكمة، أمر مستحيل"(33).

لقد كانت انتقالة حنا أبي حنا إلى القدس لمتابعة دراسته في الكلية العربية، أمل كلّ راغب في العلم يومها، هي ما ختم به المرحلة الأولى من سيرته الذاتية، تماما كما كانت انتقالة جبرا إلى القدس ودراسته في المدرسة الرشيدية الثانوية خاتمة سيرته في "البئر الأولى".

جماليات المَبنى والأسلوب واللغة في "ظل الغيمة":
تكاد "ظل الغيمة" تتميّز على الكثير من السير الذاتية العربية التي كُتبَت بأنّها تأخذ بالقارئ إلى عالم أحداثها وقصصها وطرائفها، فلا يشعر بمرور زمن ولا يملّ به مكان. تشدّه اللغة الجميلة بإيقاعية مفرداتها وجمالية جملها وفقراتها. يُقرر حنا أبو حنا منذ البداية أنّ لا علاقة من قريب أو بعيد بين أحداث وأشخاص (ظل الغيمة)، وأيّ حدث أو شخص ينطبق عليه ما ورد فيها. وينسحب ليتوارى خلف الراوي الذي يظهر على فترات متباعدة ليسترجع حادثة(34) أو يروي قصة غريبة(35) أو طرفة ذات دلالة (36) أو تفسيرا لغويا(37) أو حكاية هادفة(38) أو حكاية مثيرة (39). وأحيانا يستحضر الشارح ليفسر معنى كلمة(40) أو ليذكر شرح حديث أو يطرح سؤالا(41). وفيما عدا ذلك يتوارى الراوي وينقل لنا ما يراه من سيرة يحيى وما له علاقة بذلك من أشخاص وأمكنة وأحداث.

يُحرّر حنا أبو حنا نفسه بهذا التواري خلف الراوي الخفي الذي يعرف كل شيء ولا يبخل بنقل أدق التفاصيل من الالتزام بالدقة في نقل الأحداث وبتفاصيلها، وواجب ذكر الأشخاص وتحديد الأمكنة والأزمنة للأحداث، والصدق بكل ما يروي . وفي بعض الحالات يسمح لنفسه أن ينتقي ما يريد ويتناسى أو يتنازل عمّا يراه مسيئا أو مشوها أو محرجا له أو لغيره. فهو ككل إنسان ملتزم بمراعاة العادات والتقاليد وحساسية البعض لفضح أسرارهم الخاصة. وبهذا الالتزام تتحدد حرية كاتب السيرة في مجتمع كمجتمعنا لا تزال بعض المحرّمات تفرض عليه الابتعاد عن ذكرها أو مجرّد التلميح لها خاصة ما يتعلق بالعواطف والجنس والدين. رغم أن بعض القصص العاطفية رويت مثل قصة سلمى والمغربي (42)، وبعض الملامح الجنسية ذكرت وإن جاءت بذكاء يعرف كيف يجعل المتلقي يتقبلها وهو يضحك وحتى يتشوق لمزيد من التفصيل(43)، ومثل قصة فارس وعدلة التي تمتاز بعفويّتها وصدقها وواقعيتها(44).

ومثلها قصة يحيى وهو في الرابعة عشرة من عمره مع قريبة أمه التي كانت تزورهم، وقبلتها التي طبعتها على شفتيه فأشعلت ثورة العواطف في داخله وعذبته. ويعترف يحيى أنّ هذه المرأة كانت "ملاك اليقظة". ويصف جمالها "كانت مكتنزة الجسم. بياضها كالحليب الذي تعشقه موجة شقراء من العسل. في صوتها غنج يحتضنك فترافقه إلى حيث يشاء. وشعرها الخروبيّ أطفال سمر يلهون بالركض على شواطئ الجبين والخدّين"(45). ويروي يحيى ما حدث له :"كان في سريره على الجسر بين النوم واليقظة أقرب إلى إقليم اليقظة. شلال حرير ينهال على وجهه ودفء رطب يطوّق شفتيه ويعصرهما. مسام جسمه كلها تُستَفزّ .. تتفتّح .. تتمطّى وتنتشي لهذا الوجه الذي يغطي وجهه رائحة ترفّ في وعيه كجناحي الحسّون. وعيه يتزلزل ويُحلّق. إنّه ليس مجرّد عطر. هل هي الأنوثة تتوهج وتبث سحرها من كهف غامض سحيق؟ سؤال استثاره فيما بعد وظلّ يُحاوره.

حاول أن يفتح عينيه لكن شعرها الناعم كان يغطيهما ويتماوج فوق جفونه. تراخى الطوق على شفتيه برهة وارتفع وجهها قليلا ثم عاد شعرها يخيّم على وجهه وشفتاها تُعيدان احتضان شفتيه فتجاوبت شفتاه. تعانقت غيمتان فكان برق ورعد أصداؤه على السفوح والأودية. أجفلت شفتاها. انحسر شعرها وارتفع وجهها"(46)، فكانت هذه المرأة "الفتنة ورسالة الغيث إلى الأرض الواعدة الموعودة"(47). ويشعر أنه الآن فقط – وهو على جبل التجلّي – "تتفتّح عيناه على ضياء جديد ويرتعش وعيه في غمرة جدول فجّر ينبوعه الصخر وتدفق".(48). ثم قصة حبّه مع لمياء (49) وقصته مع ثريا (50).

وزّع حنا أبو حنا سيرته الذاتية على سبعة وثلاثين لوحة إبداعية، لو تَوَفّر لكل منها الرّسام الحاذق لقدّم لنا أجمل اللوحات. لكن حنا رسمها بالكلمات وأعطى لكل منها اسما مميّزا، واجتهد أن تقوم الكلمات مقام الألوان في إنطاق اللوحة واكتمالها وتميّزها.

 وركّز اهتمامه بشكل خاص على أربعة محاور متباينة ومتداخلة هي: المكاني، الزمني، الاجتماعي، والثقافي.

 فعلى المحور المكاني نراه يتنقل بيحيى وأسرته بين مواقع مختلفة ومتباعدة في البلاد، تبدأ من قريته "الرينة" التي ولد فيها، وتتنقل استجابة لمستلزمات عمل الوالد في مساحة الأرض، ما بين رام الله والقدس وأسدود وقرية نجد القريبة منها ومدينة حيفا والناصرة، وأخيرا يصل بيحيى إلى القدس ليتابع الدراسة في الكلية العربية. وكان لكل موقع أثره الساحر على الطفل يحيى، فنراه يترسم المواقع ويصفها متأملا مأخوذا مستوعبا"صباح صيفي ينتشر فيه عطر ناعم تبوح به أشجار الصنوبر، ولحن السكينة يعزفه النسيم النشيط على ضفائر تلك الأشجار"(51)، هذه هي طبيعة رام الله التي انتقل إليها صغيرا وسحرته بجمالها. ومثل رام الله كانت القدس "صورة المشهد المترامي، الصورة البانورامية تتقلص، العدسة تنحصر لتقطف تفاصيل صغيرة. يلتوي الباص مع أحد الشوارع.. بيوت من الحجر الأبيض نبتت مع البساتين. الشبابيك والأبواب من الحديد. الألوان تتراوح بين الأخضر والبني. يمعن الباص في اختراق المدينة. هناك حوانيت ومشاغل لا تفتخر بكثير من النظافة والشارع هنا يداعبه الوسخ."(52). والسوق في أسدود "يختلف عن السوق في القدس القديمة. فالسوق هنا في الفضاء الطلق، كل يعرض بضاعة إمّا على الأرض أو على دكّة مرتفعة. الجو مشبع بروائح التوابل والعطور، زجاجات عطر "الميكادو" تطل برؤوس موشحة باللون الذهبي وعلى الصدر إتيكيت أخضر زيتوني عليه صورة لم تعد واضحة في الذاكرة. اجتمعت قرب البائع نساء يساومنه، وترك البائع للعطر الذي يجربنه من زجاجة مفتوحة أن يرجّح موقفه."(53).. وتأخذه مدينة حيفا بروعتها "البيوت التي على السفح لا يحول أحدها دون منظر البحر، وحول تلك البيوت أشجار مختلفة منها الزيتون والتين واللوز، ومنها ذلك الزهر الرائع بعرائشه الخضراء ونجومه المتلألئة البيضاء – الياسمين. وحول كل بيت حديقة فتانة بألوانها عابقة بعطرها. الحوار بين الضياء والبحر لا ينفك ينبض- فيه قدسية نديّة مع السحر، وطراوة يافعة متدفقة مع الفجر ، ثم موكب مهيب للشمس ترقى الأفق إلى السّمت، ثم تميل شيئا فشيئا إلى مهدها المسائي تغتسل وتذهب للنوم. وفي ذلك كله مهرجان للألوان والظلال. والميناء يودّع ويستقبل، ويطلق هتافات سفنه راحلة أو قادمة. ويزيد الليل من روعة المشهد ، ويَتعانق بحر وبحر، وتتغامز النجوم في المساء، ويخطر القمر جليلا فضيّا في موكب السكينة الرمادية."(54).

وبمثل هذه اللغة الشاعرية الأخاذة يترسم الطفل يحيى مواقع الوطن، هذه الأماكن التي انغرست صورتها في ذاكرته، لا يمكنه نسيانها رغم انكسار المواقع وتغيير مظاهرها وأسمائها ويؤكد ذلك بقوله:"عندما تنظر عبر البعد الزمني للمكان، تنشأ بينك وبينه علاقة حميمة. لكل شيء حكايته، وهذه الحكاية هي ما سمّاه البعض "البعد الخامس" للأشياء."(55). "الطريق تعانق التاريخ. القرية الجارة – المشهد – هل هي حقا مشهد يونس كما قال بعضهم. أم مشهد نبيّ أو وليّ سواه. كان يستثيره دائما أن يطلّ على ماضي المكان. هذه الأرض حرثها وزرعها أجدادنا. أشجار الزيتون هذه غُرسسَت قبل مئات السنين. تحتها جلس الفرّاطون، وارتفعت الأصوات في أيام الحصاد تغني وتنادي، ويردد صداها السفح والوادي. وتلوح قباب في كفر كنا، قانا الجليل. نعم قبل ألفي سنة كانت هنا أعراس، وكان المسيح، وكانت عجيبة تحويل الماء إلى خمر؟"(56).

ويصف بحيرة طبريا "تجلس على الشرفة فتعانقك البحيرة والجبال التي تحضنها. صوت الأمواج الناعم في الليل ووجه القمر النرجسيّ الذي يعشق صورته في البحيرة.. والطيور المفترسة، وزوارق الصيّادين والشّباك المنشورة على الجسر الخشبي القريب.. كلّ ذلك يرقى بك إلى عوالم نادرة من الجمال والموسيقى."(57). ووصف الطريق إلى (عين التينة) "محاذية للشطّ، تحيط بها الأشجار والأزهار من الجانبين، أحبّها أشجار الصفصاف المتهدّلة الأوراق الناحلة نحو الماء كصبايا تُسرّح شعورها، تستر وجوهها وتُغرق في تأمّل ذواتها."(58). ولم يكن اهتمامه بالأماكن الخاصة في البيت والشارع والمدرسة بأقل، فقد أعطاها حقّها من الوصف وبأجمل الكلمات والعبارات الآسرة.

أما محور الزمن، فرغم عدد السنوات القليلة التي تتحدّد بها هذه المرحلة من السيرة (1928-1943) إلاّ أنّها كانت سنوات غنية بأحداثها على المستوى الذاتي حيث تفتح وعي يحيى على العالم الواسع وتعرّف على أجزاء كبيرة من الوطن، وعرف الكثير من الناس وزامل وصادق العشرات، وتفتحت عواطفه على الحب، وتعلم ونهل من المعرفة والثقافة ما كان له الزاد للمستقبل . وشهد يحيى في هذه السنوات تفجّر الوعي السياسي، وشارك في بعض النضالات التي سمحت بها سنّه الصغيرة، مثل المظاهرات والهتافات. فقد شهدت هذه السنوات تفجر المواجهة بين المحتل الإنكليزي والشعب الفلسطيني وإضراب وثورة عام 1936، وما رافق هذه الثورة من أعمال إيجابية وطنية وأخرى سلبية مسيئة "دخل أحدهم إلى الدكان. أفرغ رصاصات مسدّسه في أبو أيوب الذي سقط قتيلا ودمه يتفجّر على الأرض. وكثرت حوادث الاغتيال من هذا النوع، مما كان وراءه تصفية حسابات فرديّة أو ابتزاز في سلسلة انتقامية لا تنتهي"(59) ، ومثل قيام الثوار بقتل زوج أم عفيف وابنها وقريبين آخرين باسم الثورة مما أدّى إلى جنونها ورغبتها في الانتقام (60) وجوابها ليحيى بعدما سألها عن زوجها وأبنائها: "الله يتم عليك يا ابني. هاي البلاد بتحرق أولادها. بتحملهم الهموم من يوم ما بخلقوا. الله يحميكو يا بني" (61). ونسف بعض الشباب الثوار للموتور الذي يعمل على إيصال المياه إلى البيوت في الناصرة لأن المتبرعة به امرأة انكليزية، فيسخر بتعليقه على الحادثة "أليست المتبرعة به انكليزية والانكليز مستعمرون؟ وهكذا عادت النساء إلى الرحلات الطويلة لجلب الماء، منذ غبش الفجر."(62). وقصص كثيرة تثير الغضب (63). وتأزم الوضع الدولي وانفجار الحرب العالمية الثانية ، والصراع المتزايد ما بين الفلسطينيين العرب واليهود. وقد تنقل بنا الراوي ما بين هذه الأحداث مفصلا في معظمها مع الاهتمام بما كان لها من أثر على يحيى.

ويصف الراوي في المحور الاجتماعي تلك العلاقات التي ربطت بين الناس، والعادات والتقاليد التي كانت توجّه سلوك كل واحد وتُحدّدها. كيف يتعايش الواحد مع الآخر رغم ما يكون من اختلاف في الانتماء العرقي أو الاعتقاد الديني أو الاعتناق الفكري أو السلوك الذاتي. (راجع قصةالشاب من صفورية وابنة القرية(64) وقصة فارس وعدلة(65) والعديد من القصص مثل تدخل والد يحيى وإنهاء الاعتداء على أخيه من قبل شبان أيام ثورة 1936(66) ومطالبة الثوار لوالد يحيى بدفع النقود وإلاّ سينتقمون منه(67). كما اهتم في نقل مشاهد اجتماعية مختلفة تعطي صورة بانورامية عن مجتمع فلسطين في تلك السنوات كاحترام الصغير للكبير(68)، وذكر بعض العادات والتقاليد التي لا تزال بعضها تُمارس إلى اليوم في بعض الأماكن مثل رغبة تأكد الأقارب وحتى أهل البلدة بعذرية العروس(69) ومثل عادة ختان البنت(70)، ونقل الكثير من القصص التي كان الناس يتناقلونها ويؤمنون بها وأحيانا تؤثر على سلوكهم وعلاقاتهم مثل قصص الضبع(71)، وقصص طرد العين الشريرة (72). والعَرّاف الذي يقرأ الغيبَ ويفتح في المَندل (73).

واهتم بشكل خاص بالمحور الثقافي حيث صوّر مراحل تكوّن المعرفة عند يحيى، كيف عاش في أسرة محبّة للعلم، فالأم يقلقها عدم توفر مدرسة لابنها يوم انتقلت الأسرة لتعيش بعيدا عن البلدة، والأب قام بتعليم ابنه اللغة العربية ومبادئ الحساب، واهتم في كل بلدة ينتقل إليها أن يضمن دخول أولاده للمدرسة، والأم تتابع دراسة أبنائها وتساعدهم في حلّ الوظائف البيتية(74). ويظهر أثر هذا الاهتمام بنجاح يحيى في دروسه وحتى تفوقه وخاصة في اللغة العربية التي أحبها إلى درجة العشق. فيحيى لم يكتف بما يتعلّم في المدرسة وإنما يهتم بزيادة معرفته وثقافته فيقرأ كل كتاب يصل إليه، وفي المدرسة يتلقف كل ما يقوله المعلمون ويبهرهم بذكائه واستيعابه وفهمه وتفوقه. ويذكر بعض المعلمين الذين تركوا أثرهم عليه، خاصة معلمي اللغة العربية(75). ومعلم الجغرافيا الذي كان يحث الطلاب على الخروج للتعرّف على البلاد ويقول :"اعرفوا البلاد بأرجلكم. اعرفوها لتُحبّوها"(76)، ويطالبهم بزيادة المعرفة :"يجب أن تعرفوا. المعرفة قوة والجهل قتّال"(77).

وهو يكثر في هذا المحور من ذكر النوادر الأدبية والاستشهاد بالأبيات الشعرية واستحضار أسماء الكتاب والشعراء، وأسماء الكتب التراثية والأدبية. ويحاول أن يُبرز نجاح يحيى في تثقيف نفسه واهتمامه بقراءة كل ما يصل ليديه، وكيف نجح بالفعل أن يقرأ امهات الكتب الادبية والتراثية مما بوأه ليكون المتفوق في العربية، ومن ثم يُساعده على أن يكون أديبا مبدعا وشاعرا له مكانته على ساحة الأدب. وهو في هذا الاهتمام يشبه جبرا ابراهيم جبرا الذي مثله يقرأ كل مادة تصل إلى يديه واستطاع أن يثقف نفسه ويتفوق على زملائه وينجح أن يكون الكاتب والشاعر والناقد المبدع.

مستويات السّرد وجماليّة اللغة:
اعتمد حنا أبو حنا في كل لوحات سيرته السبع والثلاثين أسلوب السرد، ولكنه السرد الحكائي الذي يُشارك الراوي الخفي فيه العديد من الشخصيات إضافة إلى ظهور الراوي، وأحيانا الشارح لسرد قصة أو تفسير كلمة أو التعليق على خبر، وقد اشرت إلى العديد منها سابقا. ويكثر من اعتماد المصادر التراثية والاقتباس منها، ويذكر كبار الكتاب والشعراء ومؤلفاتهم، ويخص بالذكر الجاحظ وكتابه "البيان والتبيين". ويظهر تأثر حنا بقراءاته التراثية، وبأسلوب "ألف ليلة وليلة" الحكائي وتداخل القصة الواحدة بالأخرى التي تُذكر بها، والانتقال منها لقصة ثالثة تشبهها، واعتماد أسلوب التشويق مع التفسير والشرح والتعليق، فحنا في العديد من القصص التي ذكرها لم يكتف بسَرد الأحداث، وإنّما نراه ينتقل من حكاية إلى أخرى ومن راو لآخر فيتغيّر الأشخاص وتتغيّر اللغة وتتداخل الحكايات والنوادر والقصص. ويكون في ذكر اسم أو كلمة أو سرد حادثة وقعت ليحيى أو غيره من الشخصيّات، وإذا به ينتقل ليروي لنا ما قاله الشارح في معنى وتفسير هذه الكلمة.

ففي تناوله لاسم القابلة نفجة، انتبه بعد أن عرفنا عليها أنّ أحدا لم يهتم بتفسيره، وهذا قاده ليذكرنا بأن الأسماء في القرية لا يقصَد بها إلاّ التمييز. وأنها تختار باسم مناسبة أو شهر أو ظاهرة فريدة، أو لتحمل اسم الوالدين أو أحد الاقرباء ويذكر كيف اختار واحد اسم "لقيطة" لابنته بعد أن شاهد قصة لقيطة على التلفزيون(78). وهذا ذكّره بما ورد على لسان جولييت في مسرحية "روميو وجولييت" لوليم شيكسبير عن ماهية الاسم، وبقول لأبي عبيدة "وإنما الأسماء علامات ودلالات لا توجب نسبا ولا تدفعه" ووصل إلى رواية جيمس جويس(صورة الفنان شابا) ورأي ستيفن ديدالس بأنّ هناك صلة بين اسم المرء وكرامته. وإلى معلم التاريخ ورفضه خلط الأسماء فهناك فرق بين الاسكندر وكورش وعمر بن عبد العزيز وهولاكو. وذكر أن للإسم أهمية خاصة في تعاطي كتابة الحجابات والكشف بالمندل وغير ذلك من شؤون السحر. وكيف أنّ بعض الأسماء لا تلائم صاحبها كما حدث لابن الجيران الذي أثار قلق والديه بتصرفه المزعج وعدوانيته وعدم اتزانه، فحسب له العرّاف وغيّر اسمه فركز وهدأ (79). وبعد كل هذه التداعيات والتداخلات يشرح لنا معنى اسم نفجة كما ورد في قاموس "المنجد". ولم يتوقف عند اسم القابلة وإنّما قاده ذلك ليروي قصة حياتها وخدمتها لأهل البلدة وترملها وتجاوزها المائة وثماني سنوات، وأنها في حياتها اعتنت بابنها نعيم وبابنتها وردة التي عنّست وجاءها العريس فقط وهي في الثلاثين من عمرها .. ويستمر في نقل قصة زواج وردة باسهاب.(80)

ومثلما فعل مع اسم "نفجة" هكذا كانت قصته مع المطهر وكيف كان ذكره يُرعب الصغار حتى أنّ يحيى حاول قطع حمامته خوفا من قطع المطهر لها لولا مفاجأة الجارة له واستدعاء أمه وتحذيره من عواقب فعلته. فقد راح يروي ما قاله الطبيب المصري لرجل جاءه لفحص حمامته. وما كانت تفعله الصبايا في القرية أثناء زفّة العريس وتحريف كلمة "حلاته" في قول "هاتوا لنا هالعريس تنشوف حلاته" لتصبح "هاتوا لنا هالعريس تنشوف حمامته" . ووضع المطهر صورة جزمة على واجهة مكتبه الزجاجية. واستذكاره للعديد من أبيات الشعر التي تتناول كلمة "الحمامة". وما حدث ليحيى، أي حنا أبو حنا، مع قصيدته "من هديل الحمامة"(81). ومثل هذه القصص التي يذكرها الكثير.

هكذا تتداعى القصص وتتوارد الأفكار وتتداخل الآراء في حلقات متتالية جميلة تُثير العقل وتفرح الفؤاد، تلقي كلّ واحدة على سابقتها إشعاعا وجمالا وأبعادا جميلة مختلفة. تذكرنا بحكايات "ألف ليلة وليلة" وأسلوبها، وبأسلوب الجاحظ وطرائفه في "البخلاء" و"البيان والتبيين". وهناك قصص ونوادر وطرف وحكايات وقعت ليحيى نفسه أو لأحد معارفه أو أقربائه نقلها بأسلوب مثير وبلغة شفافة أخّاذة تشد القارئ وترسم على شفتيه البسمة، وكثيرا ما تدفعه للضحك أو للحزن والبكاء. مثل قصة "المدير واللحاف"(82) وقصة يحيى مع معلم الحساب(83) وقصته مع جميل (84) وقصة هربه من المدرسة لرفضه قصّ شعره (85)، وقصة قضيب الرمان (86)، وقصة زواج أبو صبحي (87). وقصة طربوش المعلم (88) وقصة معلم الجغرافيا (89).وقصة أم يوسف والإمام (90) وقصة عدلة وفارس (91) وحكاية المَندل (92) وغيرها كثير.

لقد نجح حنا أبو حنا أن ينقل لنا سيرته في صورة مترابطة تتسم بالوحدة والاتساق بأسلوب جذاب، وسرد فني متميّز، اختار مادتها المنتقاة باعتماده على الذاكرة حيث كان للخيال الدور المهم في التنقل من حدث لآخر ومن قصة لثانية وربط الواحدة بالأخرى. ورغم ما تفرضه كتابة السيرة الذاتية على صاحبها من التزام الصدق والواقعية، إلاّ أن للخيال الأهمية الكبرى لأنواضعي التراجم الذاتية فنانون قبل كل شيء، ومعنى هذا أنّهم لا يستطيعون أن يسردوا الوقائع سردا، وأن يسجلوها تسجيلا خالصا، لا أثر فيه للصنعة والخيال، وإنّما هم يُحاولون جهدهم أن يُقدّموا لنا حياتهم كلوحة فنيّة رائعة، روعيت فيها النسب (الأوضاع)، وأحسن فيها توزيع الأضواء والظلال، أو كقطعة موسيقيّة بارعة، لم يوضع اللحن الواحد بجانب الآخر إلاّ تبَعا لقوانين الانسجام، ولم تختلف النغمة عن النغمة – شدّة ونوعا – إلاّ حسبما تقتضيه قواعد التأليف. فكأنّهم ، إذا كتبوا حياتهم، سيكتبونها كروائيين، يخلقون الكثير من وقائعها، أو يؤلفون بين أجزائها تأليفا بديعا، ولكنه بعيد عن الواقع كل البعد."(93) . وفي (ظل الغيمة) يبدو استخدام الخيال في تجلياته في أغلب المشاهد التي صورها الراوي وأبدع فيها بمزج الخيال مع الواقع ، وفي المقتبسات التي أوردتها يبدو ذلك واضحا.

لقد اختار حنا شخصية بديلة (يحيى) لتقوم مقامَه في تبوء مركزيّة الأحداث، وترَك للراوي الخفيّ العارف أن يسرد الأحداث دون قيد برقيب وبعيدا عن التأثرات بعادات وتقاليد وحساسيّات، وإن كان أحيانا – كما بيّنت سابقا- يترك الراوي أو الشارح يظهر ويتكلم مباشرة مع القارىء. اختار حنا دور الراوي الخفيّ وضمير الغائب وهو يُدرك أنّ استخدام ضمير الغائب يُبعد بصاحب السيرة الذاتية عن القارىء المُتلقي، ويترك القارىء في موقع المُتلقي الرّاصد المُنتقد الحياديّ إلى حدّ ما، بينما في استخدام ضمير المتكلم قد يقترب كثيرا من القارىء، وفي حالات كثيرة يجعله ينسى موقعه كمُتلق حيادي مراقب، فيندمج بالنصّ، ويجد نفسه منساقا مع الأحداث والتفاصيل كأنه صاحبها، إذا ما صدف وتشابهت مع أحداث وقعت له وعاشها في الماضي. بينما ينجح كاتب السيرة، إذا كان مبدعا حقيقيا، في اشراك المُتلقي معه ودمجه في تفاصيل حياته المَسرودة بكل التفاصيل، متّخذا منه الصديق والمستشار والحامي وحافظ الأسرار، وذلك في استخدامه لضمير المخاطب.

فالسارد "يجاوز ذاتيته حينما يُشرك القارىء في تجربته، والقارىء يجاوز ذاتيته حين يخوض تجربة السارد. وإذا تحقق التواصل بين السارد والقارىء عبر التجربة الابداعية، يكون ما يطلق عليه بلوغ التنوير perieteia وبالمفهوم الديني الهداية للحق"(94). وكما قال امبرتوايكو: "إذا أراد المؤلف أن يجعل النص قادرا على التوصيل فعليه أن يفترض أن مجموعة الشفرات التي يعتمد عليها هي نفس المجموعة التي يستخدمها القارىء المتوقع والذي تفتَرَض فيه القدرة على تفسير تعبيراته بنفس الطريقة التي ولدها المؤلف"(95).

ولأن من يكتب سيرته الذاتية يكون دافعه الخفي أيضا رغبته في الهروب من وحدته، كي لا يكون وحيدا. ولذا فكثيرا ما يكون استخدام الكاتب لضمير المخاطب وراء هذا الدافع. مما يجعله في كثير من الحالات يوجه الخطاب إلى نفسه، ويقيم محاورات مع ذاته. كأن يقف أمام المرآة ليكتشف ذاته وحقيقة نفسه، إذ أنّ "شفافية الازدواج بين الراوي والكاتب تترك حيّزا للذات كي تقف فيه أمام مرآة ذاتها، وتحاور معرفيا عريها"(96). وكما حدث ليحيى عندما "وجد نفسه في خيمة كبيرة امتلأت بالمرايا منها المحدّبة ومنها المقعرة وقد تواجهت. يمر المرء بينها فيرى وجهه وجسمه وقد امتدت اليها أيدي العبث والتشويه، وقد تعاكست المرايا بالانعكاس، وعاكست المرء في صورته"، فتساء ل يحيى: "إلى أيّ مدى تحمل تلك المرايا حقائقنا؟ أليس في نفوسنا شيء ممّا تعكسه تلك المرايا؟. لنا وجودنا الشكلي الخارجي، ولكن لنا أيضا وجود باطني نفسي قلّما نتعرّف إلى دهاليزه ومتاهاته."(97)

وأحيانا يقوم كاتب السيرة بالخروج من ذاته الواحدة ليقف أمام ذاته الثانية التي تواجهه في المرآة، فيقيم معها محاورة مثيرة قد تقصر أو تطول، وتتناول مختلف القضايا الخاصة أوالعامة، وتواجه نفسها بالحقائق التي لم تُكشَف بعد كما فعلت عفاف السيد في سيرتها حيث تقول مخاطبة ذاتها:" أرأيت كم أنت مني، وأنت تعلم هذا، وسوف يعلمه القارىء، ذلك الذي يؤرقك دائما أن تكون أمامه فاتنا ونظيفا وملاكا في كل قصصي التي كتبتك فيها، لكني الآن أكتب حقائق وأنزع تلك السيقان الدميمة والرفيعة للكذب، والتي غرستها في أحوال أخرى بعيدا عن المرآة التي أعلقها الآن أمام روحي في مواجهة الشمس"(98). وهكذا يتحوّل القارىء إلى ذات أخرى تسمع وتقرأ وتُحاور وتدخل في علاقة مستقلة مع ذات الراوية، وتُتابع قائلة: "هل رأيتني يا قارئي في مكاني الأصلي، هناك دائما أكون لواحتَجتَ أن تستفسر عن معنى كلمة، أو ما جدوى هذا النصّ، أو ربما أخذك الفضول لترى عيني الجميلة، لكن لا تندهش لمّا تجدني باكية" (99).

وكشاعر تأتيه المفردات الجميلة بانسياب وإيقاعية وتكامل لتتشكل الجملة والعبارة بلغة راقية، فقد اهتم حنا أبو حنا باللغة، واستطاع بتطويعه للغة واستخدام كلّ جمالية مفرداتها وتراكيبها أن يقدّم لنا نصّا نثريا جميلا أخّاذا، عرف كيف يُجمّله أكثر بالاقتباسات المختارة من الشعر والنثر التي استخرجها من كثير من المصادر التراثية ودوايين الشعر والمراجع المختلفة، مما جعل من "ظل الغيمة" كنزا لغويا وتحفة أدبية . وبالحوارات التي جعلت النص في حركة مستمرة باختيار اللغة الصافية المنسابة، وأحيانا الانتقال إلى العامية بكل جمالياتها على لسان بعض النساء "عزا المشحّرة على إيش فرحانه؟ المعونه مليحه. أجاها مين يعينها على بليّتها. يا ستي اللي بجيه ضيف بكرمه. وهاي ضيفه ومتغربه. لو كنت محلها بَطلب الطلاق والنفقه أو بخنقه" (100) أو على لسان فارس(101):
"تْغَسّل وتْنَيّل تغسل وتنيّل
تحت سالفها يا عاشق قَيّل
هيا يا برجاوي علينا مَيّل
واقطع للحلوه قميص النّوما"
والكثير الكثير بين طيّات الكتاب. عرف حنا أبو حنا كيف يختارها، وكيف يقدّمها مما يثبت أن لكل من العامية والفصحى جمالياتها وأسرارها وسحرها إذا عرفنا كيف نلج إلى كنوزها.

الخلاصة:
رغبت في هذه الدراسة أن أقف على ما تميّزت به "ظل الغيمة" كنموذج لسيرة ذاتية تختصر من الحياة فترة الطفولة لتكون بكل عالمها الخاص محورا رئيسيا، مما ميّزها عن الكثير من السير الذاتية التي أهمل أصحابها فترة طفولتهم ليتركزوا في فترات البلوغ والشباب والكهولة المعطاءة المثمرة التي يعتزون بها ويُفاخرون. وأنّ حنا أبا حنا نجح في أن يخلق من فترة طفولته عالما متميزا ورائعا.

بدأت الدراسة بمدخل عن مفهوم السيرة الذاتية ومكانها في التراث العربي وعلاقاتها بغيرها من الفنون الإبداعية، وإلى أي مدى كان لجبرا ونجيب نصار من تأثير على كتابة حنا أبي حنا لسيرته هذه. ثم انتقلت لصلب "ظل الغيمة" ووقفت على المحاور الأساسية التي دارت حولها وهي: المكاني، الزمني، الاجتماعي والثقافي، وعلى جماليات المبنى والأسلوب، ووضوح تأثر حنا بالتراث العربي والأسلوب الحكائي في كتب التراث خاصة "ألف ليلة وليلة" وأسلوب الجاحظ الساخر، واختيار الراوي الخفي ليروي السيرة، وعلى جمالية اللغة وقدرة حنا على تطويعها وتجميلها بالاقتباسات الأدبية التي ضمّنها والتي تُشكل ثروة ومَرجعا لمُحبّي اللغة العربية والأدب.

لقد نجح حنا أبو حنا في سيرته هذه، التي أعتقد ستتلوها حلقات أخرى تروي قصة البلوغ والشباب والكهولة، أن يضيف مشاركة مهمة في تأصيل فن السيرة الذاتية في أدبنا العربي الحديث ، مشاركة تقرّبُ التراث العربي الغنيّ بلغته القويّة المتينة وأسلوبه المتميّز وغنائه المعرفي الموسوعي وثروته الأدبية إلى الأدب العربي الحديث ليكشف للقارىء كنوز تراثه ويثير فيه الرغبة في المزيد.

 

المصادر والهوامش
*              إبراهيم، عبد الله. السردية العربية . بيروت. المركز الثقافي العربي، 1993

  • الباردي، محمد . الشخصية الروائية والقناع. فصول. عدد 4، مجلد 15 شتاء 1997 . ص 33 -41
  • البحري، محمد. في السيرة الذاتية النسائية. فصول. عدد 4، مجلد 16، ربيع 1998. ص 29 – 34
  • حسونة، المصباحي. ملامح من أدب السيرة الذاتية في تونس. فصول. عدد 4، مجلد 16، ربيع 1998. ص 200 – 204
  • السعافين، إبراهيم. الأقنعة والمرايا دراسة في فن جبرا إبراهيم جبرا الروائي. عمان. دار الشروق للنشر والتوزيع 1996
  • الصكر، حاتم. السيرة الذاتية النسوية: البوح والترميز القهري. فصول. عدد 63، شتاء وربيع 2004. ص 208 – 232
  • عباس، إحسان. فن السيرة. بيروت. دار الثقافة، 1956
  • فهمي، ماهر حسن. السيرة تاريخ وفن. القاهرة. مكتبة النهضة المصرية، الطبعة الأولى د. ت
  • قرانيا، محمد. جبرا أصداء السيرة الذاتية. الموقف الأدبي. عدد386. حزيران 2003
  • لوجون، فيليب. السيرة الذاتية الميثاق والتاريخ الأدبي. ترجمة وتقديم عمر حلي. بيروت. المركز الثقافي العربي. الطبعة الأولى 1994.
  • مجلة القاهرة. رئيس التحرير غالي شكري. عدد خاص عن السيرة الذاتية. عدد 162 مايو 1996

 

الهوامش

1- السيد رضوان. السيرة والسيرة الذاتية في التراث العربي. الحياة 4.9.2004. كما وتناولت العديد من الكتب التي عالجت موضوع السيرة الذاتية مكانة السيرة الذاتية والسيرة في التراث العربي. وقد ذكرت بعضها أعلاه.

2- بدوي، عبد الرحمن. الموت والعبقرية . وكالة المطبوعات في الكويت ودار العلم في بيروت. د.ت ص 113 – 116

3- الحلاق، محمد راتب. التجربة الذاتية محاولة في مقاربة المصطلح. الموقف الأدبي. ع 342. تشرين الأول 1999.

4- المصدر السابق.

5- ماي، جورج. السيرة الذاتية. ترجمة محمد القاضي وعبد الله صولة ، قرطاج تونس، بيت الحكمة،1993.

6- الباردي، محمد. السيرة الذاتية في الأدب العربي الحديث، حدود الجنس وإشكالاته. فصول، عدد 3 ، مجلد 16، شتاء 1997. ص 68 – 80

7- ماي، جورج. السيرة الذاتية ص 189

8- إبراهيم، عبد الله. السيرة الروائية، إشكالية النوع والتهجين السردي. نزوى. عدد 14، إبريل 1998

9- لوجون، فيليب. السيرة الذاتية، الميثاق والتاريخ الأدبي. ترجمة وتقديم عمر حلي. بيروت. المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى 1994. ص 10.

10- المصدر السابق . ص 22

11- بدوي، عبد الرحمن . ص 110

12- جبرا، إبراهيم جبرا. البئر الأولى . لندن. رياض الريس للكتب والنشر. 1987. ص11

13- المصدر السابق . ص 13

14- المصدر السابق. ص 14

15- المصدر السابق. ص 14-15

16- فهمي، ماهر حسن. السيرة تاريخ وفن. القاهرة. مكتبة النهضة المصرية ، الطبعة الأولى، ص 60

17- أبو حنا، حنا. ظل الغيمة. الناصرة، دائرة الثقافة العربية . 1997. ص 14

18- المصدر السابق. ص 53، 60

19- جبرا، إبراهيم جبرا. البئر الأولى. ص 27

20- المصدر السابق . ص 16

21- المصدر السابق. ص 19

22- أبو حنا، حنا. ظل الغيمة. ص57-58

23- نصار، نجيب. رواية مفلح الغساني .تقديم وإعداد حنا أبو حنا. الناصرة. دار الصوت 1981. ص24

24- أبو حنا، حنا. ظل الغيمة. ص 17

25- القرآن الكريم. سورة مريم ، أية 6.

26- أبو حنا، حنا. ظل الغيمة. ص 153

27- المصدر السابق. 153-154

28- المصدر السابق. ص 7

29- المصدر السابق. ص 17

30- المصدر السابق. ص 37

31- المصدر السابق. ص 18

32- الحلاق ، محمد راتب. الترجمة الذاتية محاولة في مقاربة المصطلح. الموقف الأدبي، عدد 342 تشرين الأول 1999

33- المصدر السابق.

34- أبو حنا، حنا. ظل الغيمة. ص 148

35- المصدر السابق . ص 15-16 و 225

36- المصدر السابق. 54

37- المصدر السابق. ص 36

38- المصدر السابق. ص 17، 153

39- المصدر السابق. ص 158

40- المصدر السابق. ص 11

41-المصدر السابق. ص 227

42- المصدر السابق ص 118-122

43- المصدر السابق ص 36، 105، 116، 176، 178

44- المصدر السابق ص 210-212

45- المصدر السابق ص 227

46- المصدر السابق 226-227

47- المصدر السابق ص 227

48- المصدر السابق ص 227

49- المصدر السابق ص 226-235

50- المصدر السابق ص 244-247

51- المصدر السابق ص19

52- المصدر السابق ص 24

53- المصدر السابق ص 42

54- المصدر السابق ص 25

55- المصدر السابق ص 199

56- المصدر السابق ص 199

57- المصدر السابق ص 202

58- المصدر السابق ص 204

59- المصدر السابق ص143

60- المصدر السابق ص 186

61- المصدر السابق ص 187

62- المصدر السابق ص 105

63- المصدر السابق ص 188

64- المصدر السابق ص 163

65- المصدر السابق ص 210-212

66- المصدر السابق ص 73

67- المصدر السابق ص 76

68- المصدر السابق ص 161

69- المصدر السابق ص 105-106

70- المصدر السابق ص 50

71- المصدر السابق ص 169-171

72- المصدر السابق ص 97

73- المصدر السابق ص 215

74- المصدر السابق ص 62

75- المصدر السابق ص 155-157

76- المصدر السابق ص 180

77- المصدر السابق ص 180

78- المصدر السابق ص 13

79- المصدر السابق ص 12-13

80- المصدر السابق ص 13-17

81- المصدر السابق 34-38

82- المصدر السابق ص 60

83- المصدر السابق ص 62

84- المصدر السابق ص 65-66

85- المصدر السابق ص 79

86- المصدر السابق ص 100

87- المصدر السابق ص 137-138

88- المصدر السابق ص 158

89- المصدر السابق ص 176

90- المصدر السابق ص 197

91- المصدر السابق ص 207 – 212

92- المصدر السابق ص 213

93- الحلاق، محمد راتب. مصدر سابق. و فهمي ماهر حسن ، السيرة تاريخ وفن. ص 242

94- أبو النجا، شيرين. السيرة الذاتية النسوية. نزوى، عدد 12، أكتوبر 1997

95- المصدر السابق

96- العيد، يمنى . فن الرواية العربية بين خصوصية الحكاية وتميّز الخطاب. بيروت. دار الآداب، الطبعة الأولى. ص 71 – 91

97- ابو حنا، حنا. ظل الغيمة ص 95

98- أبو النجا، شيرين. مصدر سابق.

99- المصدر السابق.

100- أبو حنا، حنا. ظل الغيمة ص 44

101- المصدر السابق ص 208