هناك نصوص تسقط من الذاكرة فور قراءتها، وأخرى تزداد أهميتها بمرور الزمن، وما أحوج واقعنا العربي وقد زحف عليه التخبط والدمار تأمل مثل تلك النصوص الأخيرة واستلهام دروسها، ومنها هذا النص الذي ترجمته لنا الكاتبة العمانية، والذي لاتزال كشوفه فاعلة، برغم مرور أكثر من نصف قرن على كتابته.

حريّة الصحافة

مقدمة جورج أورويل المقترحة لـ«مزرعة الحيوانات»

زويـنة آل تـويّه

يعود التفكير في هذا الكتاب، حتى الحدّ الذي تذهب إليه الفكرة الرئيسة، إلى عام 1937، لكنه لم يُكتب إلا في أواخر عام 1943 تقريبًا. وبحلول الوقت الذي كُتب فيه كان واضحًا أنه سيواجه صعوبة بالغة في النشر (مع أن سوق الكتاب يعاني نقصًا اليوم، وهذا يؤكد أن أي شيء يحمل صفة كتاب يمكن "بيعه")، وفي النهاية رفضه أربعة ناشرين. ناشر واحدٌ فقط من بين هؤلاء كانت له دوافع إديولوجية. اثنان كانا ينشران كتبًا مناهضة لروسيا لسنوات، ولم يكن للآخر لون سياسي جدير بالملاحظة. بدأ أحد الناشرين في الواقع بقبول الكتاب، لكنه قرّر بعد وضع الترتيبات الأوليّة استشارة وزارة الإعلام التي بدا أنها حذّرته، أو أنها على أي حال نصحته بشدة بعدم النشر. هو ذا مقتطف من رسالته:

ذكرتُ ردة الفعل التي تلقّيتها من مسؤول مهم في وزارة الإعلام فيما يخص "مزرعة الحيوان". لا بد لي من الاعتراف أن هذا التعبير عن الرأي دفعني إلى التفكير بجدّ... أستطيع أن أرى الآن كيف يمكن اعتبار نشر هذا الكتاب في الوقت الراهن أمرًا غير حكيم للغاية. لو أن الحكاية الرمزية تناولت الطغاة عمومًا والديكتاتوريات ككل، لكان النشر مناسبًا، لكن الحكاية تتتبّع تمامًا، كما أراها الآن، تقدّم الروس السوفييت وطاغيتيهما الاثنين، بحيث يمكن تطبيقها على روسيا فقط، مع استبعاد الديكتاتوريات الأخرى. شيء آخر: سيكون الأمر أقل إزعاجًا لو لم تكن الطبقة السائدة في القصة طبقة الخنازير [*]. أعتقد أن اختيار الخنازير طبقة حاكمة سيسبّب، بلا ريب، إزعاجًا لأناس كثيرين، خاصة الحساسين منهم بعض الشيء، كما هم الروس بلا شك.

*ليس من الواضح تمامًا إذا ما كان اقتراح التعديل هذا هو فكرة السيد... نفسه، أم أن مصدرها وزارة الإعلام، ولكن يبدو أنها تحمل وقعًا رسميّا. [ملحوظة أورويل[

هذا النوع من الأمور ليس من الأعراض الجيدة. من الواضح أنه ليس أمرًا مرغوبًا أن تكون لدائرة حكومية أي سلطة رقابية (عدا الرقابة الأمنية، والتي لا أحد يعترض عليها في زمن الحرب) على الكتب التي لا تحظى برعاية رسمية. غير أن الخطر الرئيس الذي يواجه حريّة التفكير والتعبير في هذه اللحظة ليس التدخّل المباشر من وزارة الإعلام أو أي جهة رسمية أخرى. فعندما يُجهد الناشرون والمحررون أنفسهم بتجنّب نشر مواضيع بعينها، فليس  ذلك لأنهم خائفون من الملاحقة القضائية، وإنما لأنهم خائفون من الرأي العام. الجبن الثقافي في هذه البلاد أسوأ عدو يمكن أن يواجهه الكاتب أو الصحافي، وهذه الحقيقة لا تبدو لي أنها أخذت النقاش الذي تستحق.

إن أي شخص ذي خبرة صحافية يتمتع بعقل راجح سيعترف أن الرقابة الرسمية في هذه الحرب، خصوصًا، ليست مزعجة. إننا لم نُخضَع لذلك النوع من "التنسيق" الشمولي بحيث يكون من المعقول توقّعه. للصحافة بعض التظلمات المبرّرة، بيد أن الحكومة عموما تتصرّف تصرّفًا حسنًا وهي متسامحة على نحو مثير للدهشة مع آراء الأقلية. إن الحقيقة المشؤومة للرقابة الأدبية في إنجلترا أنها طوعيّة إلى حدّ كبير.

يمكن إسكات الأفكار التي لا تحظى بشعبية، وإبقاء الحقائق المزعجة في الظلام دون الحاجة إلى أي حظر رسمي. إن أي شخص عاش طويلا في بلاد أجنبية يعرف أمثلة من مواد الأخبار المثيرة، التي وفق حيثياتها تجعل العناوين العريضة غير قابلة للنشر في الصحافة البريطانية، ليس لأن الحكومة تدخّلت، ولكن لأن ثمّة اتفاقًا ضمنيًّا أنه "لا يصلح" ذكر تلك الحقيقة بالذات. وكما تذهب الصحف اليومية، من السهل فهم ذلك. الصحافة البريطانية مركزية للغاية، وجلّها يمتلكه رجال أثرياء لديهم الدوافع كلّها ليكونوا غير صادقين بشأن موضوعات هامة بعينها. لكن النوع ذاته من الرقابة المحجبة يظهر أيضا في الكتب والدوريات، وكذلك المسرحيات والأفلام والإذاعة. في أية لحظة هناك عقيدة أرثوذوكسية، مجموعة من الأفكار التي يُفترض أن يقبلها جميع الأشخاص من ذوي التفكير السليم دون سؤال. ليس محظورا تمامًا قول هذا أو ذاك، ولكن "ليس من اللائق" قوله، تمامًا كما في منتصف العهد الفكتوري حين "لم يكن من اللائق" ذكر السراويل بحضور سيّدة. إن أي شخص يتحدّى العقيدة الأرثوذوكسية السائدة يجد نفسه معرّضًا للإسكات بفعالية مثيرة للدهشة. إن الرأي غير المتفق عليه على نحو صادق لا يحظى تقريبًا بأي سماع عادل أبدًا، سواء في الصحافة الشعبية أم في الدوريات الرفيعة.

تطلب العقيدة الأرثوذوكسية السائدة في هذه اللحظة إعجابًا بِروسيا السوفييتية خاليًا من النقد. الجميع يعرف هذا، والجميع تقريبا يتصرّف على هذا النحو. أي نقد جِدّ للنظام السوفييتي، أي كشف لحقائق تفضّل الحكومة السوفييتية إبقاءها طيّ الكتمان، يكون غير قابل للنشر. وتحدث مؤامرة تملّق الحليف الواسعة النطاق هذه على مستوى الأمة، على نحو غريب بما فيه الكفاية، في خلفيّة من التسامح الفكري الصريح. وفي حين إنه غير مسموح لك بانتقاد الحكومة السوفييتية، أنت حُرّ إلى حدّ معقول على الأقل أن تنتقد حكومتك. من العسير أن يتمكّن أي شخص من نشر هجوم يشنّه على ستالين، لكنه في مأمن تمامًا إذا ما هاجم تشرشِل، في الكتب والدوريات، في أي حال. وطوال خمس سنوات من الحرب، خلال سنتين أو ثلاث منها عندما كنا نقاتل من أجل بقاء الوطن، نُشِر ما لا يُحصى من الكتب والنشرات والمقالات المؤيدة للحل السلمي الوسط من دون أي تدخل. بل وأكثر من ذلك، فقد نُشرت دون أن تثير الكثير من الرفض. ما دام ليس هناك شيء يطال هيبة الاتحاد السوفييتي، يكون التمسك بمبدأ حرية التعبير تمسكًا عقلانيّا. ثمّة موضوعات ممنوعة أخرى، وسأذكر بعضًا منها في الوقت الحالي، بيد أن الاتجاه السائد نحو الاتحاد السوفييتي هو أكثر الأعراض خطورة. إنه، إن صح التعبير، عفوي وليس ناشئا عن تصرف جماعة ضاغطة.

إن الخنوع الذي ارتضته الغالبية العظمى من الإنتلجنسيا الإنكليزية التي راحت تجترّ الدعاية الروسية منذ عام 1941 فصاعدا، سيكون صادمًا تمامًا لو أنها لم تتصرف على نحو مماثل في مناسبات عديدة سابقة. في قضايا تلو الأخرى مثيرة للجدل، كانت وجهة النظر الروسية تُقبَل دون فحص ومن ثمّ تُنشَر بتجاهل تام للحقيقة التاريخية أو الذائقة الفكرية. ولسوق مثال واحد فقط، احتفلت هيئة الإذاعة البريطانية بالذكرى الخامسة والعشرين للجيش الأحمر من دون أن تأتي على ذكر تروتسكي. كان هذا دقيقًا دقّة الاحتفال بذكرى معركة الطرف الأغرّ من دون ذكر نِلسون، غير أنه لم يُثِر أي احتجاج من الإنتلجنسيا الإنكليزية. في الصراعات الداخلية في البلدان المحتلّة المختلفة، وقفت الصحافة البريطانية تقريبًا في جميع الحالات مع الفصيل المفضّل للروس وشهّرت بالفصيل المعارض، مُخفيةً أحيانا الأدلة المادية من أجل القيام بذلك. كانت الحالة الصارخة على وجه الخصوص حالة الكولونيل ميخائيلوفتش، القائد اليوغسلافي التشتنيكي[1]، عندما اتهمه الروس بالتعاون مع الألمان، وكانوا يروْن محميهم اليوغسلافي الخاص في المارشال تيتو. تبنّت الصحافة البريطانية هذا الاتهام على الفور: لم يُمنح مؤيدو ميخائيلوفتش فرصة الرد على الاتهام، والحقائق المناقضة له حُفظت ببساطة بعيدا عن النشر. في يوليو من عام 1943 عرض الألمان مكافأة قدرها 100.000 عملة ذهبية ثمنًا للقبض على تيتو، ومكافأة أخرى مماثلة للقبض على ميخائيلوفتش. "نشرت" الصحافة البريطانية المكافأة المعروضة ثمنا للقبض على تيتو في الصفحات الأولى، لكن صحيفة واحدة فقط ذكرت (بحروف صغيرة) مكافأة القبض على ميخائيلوفتش: وتواصلت تُهم التعاون مع الألمان. حدثت أمور مشابهة جدا في أثناء الحرب الأهلية الإسبانية. حينذاك، راحت الصحافة اليسارية الإنكليزية تشهّر بالفصائل في الجانب الجمهوري التي أصرّ الروس على سحقها، ورفضت نشر أي بيان بشأن دفاع الفصائل عن نفسها، حتى على هيئة رسالة. في الوقت الحاضر، ليست وحدها الانتقادات الشديدة للاتحاد السوفييتي تُعدّ مستهجنة، بل وحتى حقيقة وجود انتقادات كهذه تبقى سريّة في بعض الحالات. على سبيل المثال، قبل فترة وجيزة من وفاته، كتب تروتسكي سيرة حياة ستالين. يجوز للمرء أن يفترض أن الكتاب لم يكن غير منحازٍ تمامًا، لكن من الواضح أنه كان قابلا للبيع. رتّب ناشر أمريكي لإصداره وخرج الكتاب للنشر- أظن أن نُسخ المراجعة كانت قد أُرسلت- عندما دخل الاتحاد السوفييتي الحرب. ثمّ سُحب الكتاب فورا. ولم تظهر كلمة واحدة عن ذلك في الصحافة البريطانية، مع أنه من الواضح أن وجود كتاب كهذا وقمعه خبرٌ جديرٌ ببضع فقرات.

من المهم التمييز بين الرقابة التي تفرضها الإنتلجنسيا الأدبية الإنكليزية طوعًا على نفسها والرقابة التي يمكن أن تفرضها في بعض الأحيان مجموعات الضغط. من المعروف أن ثمة موضوعات معينة لا يمكن مناقشتها بسبب "المصالح الشخصية". القضية الأشهر هنا هي الضجة التي أثارها الدواء المرخّص. ومرة أخرى، تتمتع الكنيسة الكاثوليكية بنفوذ كبير في الصحافة ويمكنها إسكات النقد نفسه إلى حدّ ما. إن فضيحةً تضم كاهنًا كاثوليكيًّا لا تُعلَن مطلقًا تقريبًا، بينما يتصدّر خبر تورّط كاهن أنجليكاني (على سبيل المثال: كاهن ستِفكي)[2] عناوين الصحف. من النادر جدّا أن يظهر أي شيء ذي نزعة معادية للكاثوليكية على خشبة مسرح أو في فيلم. بمقدور أي ممثل أن يخبرك أن أي مسرحية أو فيلم يهاجم الكنيسة الكاثوليكية أو يسخر منها يكون عرضة للمقاطعة في الصحافة، وعلى الأرجح يكون مصيره الفشل. لكن هذا النوع غير مؤذ، أو مفهوم على الأقل. إن أي مؤسسة كبيرة ترعى مصالحها على أفضل وجه ممكن، والدعاية العلنية ليست شيئا يُعترض عليه. لن يتوقّع المرء أن تنشر ال"ديلي وُركر" حقائق غير مستحبّة عن الاتحاد السوفييتي أكثر من توقّعه أن تدين صحيفة "كاثوليك هِرالد" البابا. لكنّ أيّ شخص يفكّر يعرف حقيقة ديلي وُركر وكاثوليك هِرالد. ما يبعث على القلق هو أنه حيث كان للاتحاد السوفييتي أو سياساته شأن فليس بمقدور المرء أن يتوقع نقدا ذكيّا أو حتى، في كثير من الحالات، صدقًا واضحًا من كتّاب وصحفيين ليبراليين ليسوا تحت أي ضغط مباشر لتزييف آرائهم. ستالين مقدّس وثمّة جوانب في سياساته يجب ألا تُناقش نقاشا جِدّا. هذه قاعدة معروفة عالميًّا تقريبًا منذ عام 1941، لكنها كانت حاضرة إلى حدّ أكبر من معرفتها في بعض الأحيان، منذ عشر سنوات قبل ذلك. طوال تلك الفترة، كان نقد النظام السوفييتي من حزب اليسار بالكاد يلقى أذنا صاغية. كان هناك نتاج ضخم من الأدبيات المعادية لروسيا، لكنّ جلّه تقريبًا كان من وجهة نظر محافظة وغير صادق على نحو جلّي، ومنتهي الصلاحية، وتحرّكه دوافع دنيئة. في الجانب الآخر، كان هناك تيار ضخم من الدعاية الموالية لروسيا وغير شريف على حد سواء، ووصل إلى حد مقاطعة أي شخص يحاول مناقشة جميع المسائل الهامة بطريقة ناضجة. يمكنك بالفعل نشر كتب معادية لروسيا، لكنك لكي تفعل ذلك عليك أن تتأكد من أن الصحافة النخبوية بأكملها تقريبًا تتجاهل كتبك أو تحرّفها. سيجري تحذيرك سرًّا وعلانية أن ذلك "غير لائق". قد يكون ما قلته صحيحًا ولكنه "في غير محلّه" وينصبّ في نطاق هذه المصلحة أو تلك. ويُدافَع عن هذا التوجّه عادة بذريعة أنّه ما يفرضه الموقف الدولي والحاجة الماسّة إلى التحالف الأنجلوروسي، لكن من الواضح أنه كان تبريرًا. لقد طوّرت الإنتلجنسيا الإنكليزية أو جزء كبير منها ولاءً وطنيًّا تجاه الاتحاد السوفييتي، وتشعر في أعماقها أن إلقاء ظلال من الشك على حكمة ستالين يُعد ضربًا من التجديف. كان ينبغي الحكم على الأحداث في روسيا وفي أماكن أخرى بمعايير مختلفة. لقد لاقت الإعدامات اللانهائية في عمليات التطهير التي امتدت من عام 1936 إلى عام 1938 استحسانًا من المعارضين -مدى الحياة- لعقوبة الإعدام، وعلى حدّ سواء، عُدّ أمرا صائبا نشر أخبار المجاعات عندما اندلعت في الهند والتستر عليها عندما حدثت في أوكرانيا. وإذا كان ذلك صحيحا قبل الحرب، فمن المؤكد أن المناخ الفكري ليس بأفضل حال الآن.

لكنْ لنعد الآن إلى كتابي هذا. ستكون ردة فعل الإنتلجنسيا الإنكليزية تجاهه بسيطة للغاية: "ما كان ينبغي نشره". وبطبيعة الحال، فإن مراجعي الكتب الذين يعرفون فن التشويه، لن يهاجموا الكتاب لدواعٍ سياسية، وإنما لدواعٍ أدبية. سيقولون إنه كتاب سخيفٌ مضجر، وهدرٌ مشين للورق. وقد يكون ذلك صحيحًا، ولكن من الواضح أن هذا ليس القصة كلها. فالمرء لا يقول إن الكتاب "ما كان ينبغي نشره" فقط لأنه كتاب سيئ. في المحصلة، تُطبَع يوميًّا فدادين من القمامة ولا أحد يبالي. ستعترض الإنتلجنسيا الإنكليزية أو السواد الأعظم منها على هذا الكتاب لأنه يشهّر بقائدها (كما تراه) ويسبّب ضررا لقضية التقدم. ولو قدّم الكتاب العكس لما قالوا شيئا ضده، حتى لو كانت عيوبه الأدبية صارخة عشرات الأضعاف. إن النجاح الذي حقّقه نادي اليسار للكتاب، على سبيل المثال، على مدى أربع أو خمس سنوات يُظهر مدى رغبة الكُتّاب في التسامح مع الكتابة البذيئة والمبتذلة شريطة أن تقول لهم ما يودون سماعه.

القضية المعنية هنا بسيطة للغاية: هل يستحق كل رأي أن يُسمع، مهما كان بغيضًا، مهما كان أحمقَ؟ لنضعها في هذه الصيغة وكل مثقف تقريبًا من مثقفي الإنتلجنسيا الإنكليزية سيشعر بأن عليه أن يجيب بـ "نعم". ولكن لنعط العبارة شكلا ملموسًا ونسأل: "ماذا عن شنّ هجوم على ستالين؟" ألا يستحق ذلك السماع؟، وستكون الإجابة في كثير من الأحيان: "لا". في هذه الحالة يحدث أن تخضع العقيدة الأروثوذكسية للتحدي، وهكذا يتراجع مبدأ حريّة التعبير. عندما يطالِب المرء بحريّة التعبير والصحافة، فهو لا يطالب بالحريّة المطلقة. يجب أن يكون هناك، أو سيكون هناك دائمًا، على أي حال، قدر من الرقابة طالما عانت منه المجتمعات المنظمة. لكن الحريّة، كما قالت روزا لوكسمبورغ[3]: "الحريّة للرفيق الآخر". ويرِد المبدأ ذاته في عبارة فولتير الشهيرة: "أمقت ما تقول، لكنني سأدافع حتى الموت عن حقّك في قوله". إذا كانت الحريّة الفكرية، التي هي دون شك علامة بارزة في الحضارة الغربية، تعني أي شيء على الإطلاق، فإنها تعني أن لكل شخص الحق في قول ونشر ما يعتقد أنه الحقيقة، بشرط ألا يسيء اعتقاده هذا لباقي أفراد المجتمع بطريقة لا لبس فيها مطلقًا. لقد اتخذت الديمقراطية الرأسمالية والنسخة الغربية من الاشتراكية هذا المبدأ حتى وقت قريب كأمر مفروغ منه. لا تزال حكومتنا، كما أشرت سابقا، تظهر بعض الاحترام لهذا المبدأ. ربما، لأنهم ليسوا مهتمين اهتمامًا كافيًا بالأفكار غير المتسامحة، ما يزال الناس العاديون في الشارع يتمسكون تمسكًا غامضًا بالقول: "أعتقد أن لكل شخص الحق في إبداء رأيه". إنها فقط أو بشكل رئيس على أي حال، الإنتلجنسيا الأدبية والعلمية، الفئة إيّاها التي ينبغي أن تكون حارسة الحريّة، هي التي بدأت تمقت هذه المقولة، نظريةً وممارسةً.

إحدى الظواهر الغريبة في زماننا هي الليبرالي المارق. إضافة إلى الدعوى الماركسية المألوفة بأن "الحريّة البرجوازية" وهم، هناك الآن توجّه واسع النطاق يجادل بأن المرء لا يستطيع الدفاع عن الديمقراطية إلا بالأساليب الشمولية. ويذهب الجدال إلى أنه إذا أحبّ المرء الديمقراطية، يجب عليه أن يسحق أعداءها بغضّ النظر عما يعنيه ذلك. ومن هم أعداؤها؟ طالما تبيّن أنهم ليسوا فقط من يهاجمونها مهاجمة مُعلنة وواعية، بل هم أيضًا أولئك الذين يعرضونها للخطر "بموضوعية"، من خلال نشر معتقدات خاطئة. بعبارة أخرى، ينطوي الدفاع عن الديمقراطية على تدمير استقلالية التفكير برمّتها. استُخدمت هذه الحجة، على سبيل المثال، لتبرير عمليات التطهير الروسية. ولا يكاد أكثر المتعاطفين المتحمسين لروسيا يصدّق أن جميع الضحايا يتحمّلون ذنب جميع الأفعال التي اتُّهموا بارتكابها، لكنهم بسبب اعتناقهم آراء مهرطقة، آذوا النظام "بموضوعية"، ومن ثمّ، كان صائبًا تمامًا، ليس فقط في ارتكاب مجزرة بحقّهم، بل وتشويه سمعتهم من خلال اتهامات باطلة. استُخدمت الحجة نفسها لتبرير الكذبة الواعية للغاية التي سرت في الصحافة اليسارية عن التروتسكيين وغيرهم من الأقليات الجمهورية في الحرب الأهلية الإسبانية. واستُخدمت مجدّدا كسبب للصراخ ضد أمر إحالة موزلي[4] للقضاء عندما أُطلق سراحه في عام 1943.

إن هؤلاء الناس لا يرون أنك إذا شجّعت الأساليب الشمولية فقد يحين الوقت الذي ستُستخدم فيه هذه الأساليب ضدك بدلا من استخدامها لصالحك. اجعل من سَجن الفاشيين دون محاكمة عادة، وقد لا تتوقف العملية عند الفاشيين. بعد فترة وجيزة من عودة "ديلي وُركر"، كنت أحاضر في كليّة للعمال في جنوب لندن. كان الجمهور من الطبقة العاملة والطبقة المثقفة الوسطى الدنيا، الجمهور نفسه الذي تعوّدت لقاءه في فروع النادي اليساري للكتاب. تطرّقت المحاضرة إلى حريّة الصحافة، وفي النهاية، وسط دهشتي، وقف العديد من السائلين وسألوني: ألا تعتقد أن رفع الحظر عن الـ"ديلي وُركر" كان خطأ فادحًا؟ وعندما سألتُ لماذا قالوا لأنها صحيفة مشكوكٌ في ولائها ولا ينبغي التسامح معها في زمن الحرب. وجدت نفسي منافحًا عن "ديلي وُركر" التي بذلت جهدها للتشهير بي أكثر من مرة. ولكن من أين تعلّم هؤلاء الناس هذه النظرة الشمولية في الأساس؟ لقد تعلّموها من الشيوعيين أنفسهم بالتأكيد! التسامح واللباقة متجذران بعمق في إنجلترا، لكنهما ليسا غير قابلين للتدمير، وينبغي إبقاؤهما حيّين، جزئيًّا، بالجهد الواعي. نتيجة الوعظ بالمذاهب الشمولية هي إضعاف الغريزة التي بواسطتها يعرف الناس الأحرار ما هو خطير وما ليس بخطير. قضية موزلي توضح ذلك. في عام 1940 كان من الصائب تمامًا اعتقال موزلي، سواء اقترف جريمة تقنية أو لا. كنا نقاتل من أجل حياتنا، ولا يمكننا السماح لخائن محتمل أن يكون طليقًا. لقد كان عارًا أن يجري إسكاته من دون محاكمة في عام 1943. كان الفشل العام في رؤية ذلك من الأعراض السيئة، مع أنه صحيح أن التحريض ضد إطلاق سراح موزلي كان بعضٌ منه متكلّفا وبعضه الآخر تبريرًا لاستياءات أخرى. ولكن كم من الممارسات في وقتنا الحاضر ينزلق تجاه الطرق الفاشية في التفكير يمكن عزوه إلى "معاداة الفاشية" في العشر سنوات الماضية وإلى انعدام المبادئ الذي تستلزمه هذه المعاداة؟  

من المهم أن ندرك أن الهوس الحالي بالرّوس ليس سوى أحد أعراض الضعف العام في التقليد الليبرالي الغربي. لو تدخلت وزارة الإعلام واعترضت اعتراضًا قاطعًا على نشر هذا الكتاب، فلن يرى السواد الأعظم من الإنتلجنسيا الإنكليزية أن في هذا ما يزعج. وقد حدث أن أصبح الولاء غير الناقد للاتحاد السوفييتي هو العقيدة الأرثوذوكسية الحالية، وعندما يتعلق الأمر بمصالح الاتحاد السوفييتي المفترضة فإن المثقفين مستعدون للتسامح ليس مع الرقابة وحسب، بل وحتى مع التزييف المتعمّد للتاريخ. ولنذكر مثالا واحدا؛ عندما توفي جون رِيد، مؤلف "عشرة أيام هزّت العالم" – الذي كان بمنزلة شهادة شاهد عيان على الأيام الأولى للثورة الروسية- وقعت حقوق تأليف الكتاب ونشره في يد الحزب الشيوعي البريطاني، وأعتقد أن رِيد ترك الكتاب إرثًا للحزب. بعد بضع سنوات، وإثر تدميرهم النسخة الأصلية من الكتاب تدميرا كاملا قدر استطاعتهم، أصدر الشيوعيون البريطانيون نسخة مشوهة ألغوا منها كل ذكر لتروتسكي وحذفوا أيضا المقدمة التي كتبها لينِن. لو كانت هذه الإنتلجنسيا المتطرّفة ما تزال موجودة في بريطانيا، لتعرّض فعل التزييف هذا للفضح والتنديد في كل صحيفة أدبية في البلاد. وكما كان الحال، فقد كان هناك القليل من الاعتراض أو لا شيء منه. وبالنسبة إلى الكثير من المثقفين الإنكليز بدا فعل ذلك أمرا طبيعيًّا. وهذا التسامح أو الخيانة الصريحة تعني أكثر بكثير من أن الإعجاب بروسيا كان سائدا في تلك اللحظة. من الممكن أن ذلك السائد ما كان ليدوم. لأنني أعرف أنه بحلول الوقت الذي سيُنشر فيه هذا الكتاب، قد يصبح رأيي في النظام السوفييتي الرأي المقبول عمومًا. ولكن ما فائدة ذلك بحدّ ذاته؟ فاستبدال عقيدة أرثوذوكسية بأخرى لا يُعدّ تقدّمًا بالضرورة. العدو هو العقل الحاكي، سواء اتفق المرء أو اختلف مع التسجيل الذي يبثّه الغراموفون في الوقت الراهن.

إنني على دراية تامة بجميع الحجج المسوقة ضد حريّة التفكير والتعبير، الحجج التي تدّعي أن هذه الحريّة لا يمكن أن توجد، والحجج التي تدّعي أنها لا ينبغي أن توجد. وأجيب أنها ببساطة لا تقنعني وأن حضارتنا التي يتجاوز عمرها الأربعمئة عام قد تأسّست على النقيض من ذلك. ذلك أنه لعشر سنوات خلت وأنا أظن أن النظام الروسي القائم هو في الأساس شرّ، وأزعم الحق في قول ذلك رغمًا عن حقيقة أننا حلفاء الاتحاد السوفييتي في حرب أودّ أن أراها تكسب. إن كان عليّ أن أختار نصًّا لتبرير قولي فسأختار عبارة لِمِلتون:

"وفقًا للقواعد المعروفة للحريّة القديمة".

تؤكّد كلمة "قديمة" حقيقة أن الحريّة الفكرية تقليد عميق الجذور من دونه سيكون وجود ثقافتنا الغربية المميزة مشكوكًا فيه. وهناك العديد من مثقفينا ممن تحوّل عن هذا التقليد تحولا واضحا. لقد قبلوا مبدأ نشر الكتاب أو قمعه، ممدوحًا كان أم مذمومًا، ليس وفق حيثياته، وإنما وفق مصالح سياسية. أما الآخرون الذين لا يعتنقون هذا الرأي فيوافقون عليه من منطلق جبن محض. ومثال على ذلك فشل الأعداد الهائلة من دعاة السلام الإنكليز في رفع أصواتهم ضد العبادة السائدة للعسكرية الروسية. وحسب دعاة السلام هؤلاء، فإن العنف بأنواعه شرّ، وقد حثّونا في كل مرحلة من مراحل الحرب على الاستسلام أو على الأقل التوصل إلى حل سلمي وسط. ولكن، كم من هؤلاء حدث وأن اقترح أن الحرب شرّ كذلك عندما يشنّها الجيش الأحمر؟ يبدو أن للروس الحق في الدفاع عن أنفسهم، في حين أن نفعل نحن ذلك يُعدّ خطيئة مُهلكة. لا يمكن للمرء أن يفسّر هذا التناقض إلا بطريقة واحدة: وهي رغبة جبانة لمحاباة السواد الأعظم من الإنتلجنسيا التي توجّه وطنيتها نحو الاتحاد السوفييتي وليس نحو بريطانيا. أعلم أن لدى الإنتلجنسيا الإنكليزية أسبابا كافية لجبنها وعدم إخلاصها، وفي الواقع أحفظ عن ظهر قلب الحجج التي تسوقها لتبرير نفسها. ولكن لا مزيد من الهراء حول الدفاع عن الحريّة ضد الفاشية. إن كانت الحريّة تعني أي شيء على الإطلاق، فهي تعني الحق في أن نقول للناس ما لا يودّون سماعه. لا يزال الناس العاديون يقبلون هذا المبدأ قبولا غامضًا ويتصرّفون وفقه. في بلادنا- والوضع ليس نفسه في جميع البلدان، لم يكن كذلك في الجمهورية الفرنسية، وهو ليس كذلك في الولايات المتحدة الأمريكية اليوم- الليبراليون هم من يخافون الحريّة والمثقفون هم من يريد أن يمارس القذارة على الفكر. ولكي أسترعي الانتباه إلى هذه الحقيقة كتبتُ هذه المقدمة.

 

[1]  التشتنيك: إحدى المنظمات الصربية المتطرّفة. [المترجمة]

[2]  يُقصَد به هارولد دافِدسون، كاهن أبرشية قرية ستِفكي -الواقعة على الساحل الشمالي لمدينة نورفولك البريطانية- الذي واجه تهمة الفسق والفجور وعُزِل من منصبه في عام 1932. [المترجمة]

[3]  منظّرة ماركسية وفيلسوفة واشتراكية ثورية (1871-1919). [المترجمة]

[4]  سير أوزوالد موزلي (1896-1980): سياسي إنجليزي وزعيم فاشي، كانت لحزبه مواجهات عنيفة مع الجماعات الشيوعية واليهودية. اعتقلته السلطات البريطانية في عام 1940. [المترجمة]