يرى الكاتب العراقي المرموق أن الشاعر ينشد حريته عبر نشدان حرية الأشياء، وينشيء قصيدته على أنقاض ما هو مرئي، ويحيا تمثيلاته بعد أن يقدم استاطيقا قادرة على إدراك ما يتبقى. فالحرية، في الشعر، تتحقق عبر المعنى الكلي الذي يبدو معنياً بتفاصيل الوجود، إنه يستعين بما حوله لفهم حريته وممارستها في القصيدة التي تنهض على فعل أساسه معاينة الوجود لاكتشاف ما يقع وراءه.

أكثر من سماء لحرية واحدة

قراءة في مجموعة عبد الزهرة زكي «حينما تمضي حراً»

لؤي حمزة عباس

ينشد عبد الزهرة زكي حريته عبر نشدان حرية الأشياء، وينشيء قصيدته على أنقاض ما هو مرئي، ويحيا تمثيلاته بعد أن يقدم استاطيقا قادرة على إدراك ما يتبقى. فالحرية، في الشعر، تتحقق عبر المعنى الكلي الذي يبدو معنياً بتفاصيل الوجود، إنه يستعين بما حوله لفهم حريته وممارستها في القصيدة التي تنهض على فعل أساسه معاينة الوجود لاكتشاف ما يقع وراءه، إن المراقبة التقليدية تقود في العادة لاكتشاف الحقائق الرتيبة للحياة، لكن الانشغال بتجزئة المعنى، حسب زرا باوند، يعمل على تأسيس قيم مستقلة داخل لإطار اللغوي، تعمل عبر علاقات صورية على إنتاج استعاراتها وتوجيه مجازاتها وجهة جديدة. من هنا بنيت قصائد مجموعة الشاعر الأخيرة (حينما تمضي حراً) على إصغاء طويل تجد الأشياء فيه حريتها وتقول كلامها مثلما ينبجس الماء من الصخر، بتشبيه يانيس ريتسوس. كأنما تقدّم المجموعة مساراً روحياً للشاعر وتنشئة وجدانية تقف في (حدائق الحياة اليوميّة)، الديوان الأول في هذا الكتاب المؤلَّف  أربعة دواوين، على الضد من العنوان وهي تتعدّى ما هو يومي وتتجاوز ما محدود لتنتج عبر ضدّيتها مجالاً للتأمل، فالشاعر يستعيد سيرة خواصه ويلتقط أصداء مسيرهم بين حياة وموت، جاعلاً من حديثه عنهم حديثاً عن ذاته ومناسبة لكشف بعض مناجياته، فالحديقة مرآة للبصيرة وفضاء للعشق والصمت.

يستعين الشاعر على وحدته بالكثير ممن يعرفهم وكثير سواهم، وهم يلتئمون جميعاً على مائدة "فلا يرى أحد منهم أحداً"، وحده من يبادلهم الصلة في رؤية تتجاوز الحضور الآني وتتجلى في مؤآنسة زوار لا مرئيين يخلّفون فتات كلام وخبز وبقايا نبيذ من أجل مواصلة قصيدة لن تتم، إنها القصيدة المستحيلة، قصيدة الحياة والموت التي لا اكتمال لها بغير نشدان الحضور الإنساني على مائدة الشعر حيث تتجلى المرئيات في أعلى تجريد ممكن يجعل منها أطيافاً تجول بين حدائق القصائد مواصلةً سيرة الشاعر الذي يهمس للتمثال فيصير طيراً، وتندّ عنه حسرة حزن تسقط بذرةً على التراب، "وكان للبذرة أن نمت، وأخضرّتْ، وأزهرتْ، وصارت الزهرةُ فتاةً أحبّها وأحبّته"، لكنه يحكي أيضاً صورةً للتحقق المستحيل، الأمر الذي يروى عبر التجريد مرة وعبر التجسيد أخرى، فيقيم توازناً بين أفعال الموت ومآثر الحياة تستمر بموجبه القصيدة في مراقبة مكانين ينفصلان بحكم انفصال الضمير:

"حين كان جندياً

كان يقيم هناك في جهنم الحرب

فيما هو يحيا هنا

في حديقة الخلاص".

العلاقة بين جهنم الحرب والحديقة مرتبطة بمن يقيم في كل منهما، فالمكان، في القصيدة كما هو خارجها، بالمكين، والجندي الذي يقيم هناك، في جهنم الحرب، هو الذي يقيم هنا، في حديقة الخلاص، ولكل من المكانين عناصره التي يتشكل بموجبها ويستمد هويته، القبر والبندقية في الأول، والشجيرة عنصر وحيد متكرر في الثاني، إنها دليل الحياة وديمومتها ونقيض البندقية التي تؤمّن انفصالاً بين المكانين فـ "لا الحرب تأتي معه إلى الحديقة، ولا هو يمضي بالحديقة إلى حيث الحرب"، إنها معادلة الحياة في زمن الموت التي تسمح بوجود مثل هذا الخط الفاصل بين الذات وذاتها وهي تقيم في مكانين تفقد في الأول حريتها فيغدو جهنم وتجد في الثاني حياتها فيكون حديقة خلاصها، مثلما يكون الشاعر مستوحداً في حديقة أحلامه، لحظة ينام  يستيقظ الوحش كما في لوحة غويا، يتمطى فاتحاً عينيه وينهض باحثاً عن فريسة، في الحديقة التي كان فيها وحيداً. يغدو نوم الشاعر إيذاناً بيقظة الوحش بما يحمله من جسامة وتهديد، "يتجول طليقاً في حديقة أحلامه، لا يدري متى سيجهز عليه". ثمة تهديد نابع من ذات الشاعر صانع التمثال وقد وضعه في حديقة أحلامه. إن نوم الشاعر يعني يقظة مستمرة للوحش الباحث عن فريسة، فيما تعمد القصيدة إلى تأجيل لحظة الافتراس إلى أبعد حلم ممكن وهي تعمق الصلة بين الوحش والنوم.

في الديوان الثاني (بجناح وحيد) يرصد الشاعر عبر قصائده الثلاث عشرة علاقة الطائر بفضاء حريته وهي المساحة التي يتحرك فيها طائر وحيد، مجتهداً، مع كل تحليق، في اقتناص النور من حوله في ملمح صوفي، ثمة نشيد يعلو مع خفق جناحيه هو نشيد الحرية الذي يعمل الشاعر على ترجمة رفيفه والتعبير عن لوعة صاحبه في الفضاء الفسيح، إنه يحدد اتجاهه مع عتبة الديوان التي يستهلها من البرتغالي فرناندو بيسوا وهو يفضل "طيران عصفور لا يترك أثراً، على مرور بهيمة تخلّف وسمتها على الأرض"، معلياً من شأن الحرية بأكثر صورها تجريداً حيث الطيران الذي لا أثر له يقابل فداحة الوجود البهيمي، فتبدو للحرية هنا سمة تُشتق من طبيعة الكائن وتتجلّى عبر أشكال ممارسته اليومية التي تكّبله لما هو أرضي، فتكون الحرية تعبيراً يفنى الطائر خلاله في الطبيعة ويتوحّد بعناصرها وهو يهم بالأقاصي ليشكل التصوف حضوره في مسار العلاقة وتحديد متجهاتها، فتبدو القصيدة عندئذ مركباً من صورتين تتعارضان في رؤيتهما لحرية الانسان الذي:

"كان له قلب نسر

وكان له جناحا فراشة

فلم يقو على التحليق

لكنه ظلَّ يهم بالأقاصي."

وهو وجه أول لا يكتمل بغير وجه آخر يفقد هيامه فيه حينما يصير له جناحا نسر وقلب فراشة، الوجه الذي يفقد حلمه فيه ويستكين، فالتحليق في القصيدة يظل حلماً عزيزاً يغيب بغياب الارادة حيث تنهض (الحياة قرب الأرض) على تضاد الجناح والرغبة وتبدو الأقاصي مرمى للحرية التي كان يتطلع إليها، حينما كان يملك قلب نسر وجناحي فراشة، لكنه غادرها حين صار له جناحا نسر وقلب فراشة، غادر حريته ولم يعد يحلم بالأقاصي. الحلم مجال الحرية الأمثل، إنه التصريح بالرغبة الذي لا تكتفي القصيدة بكشفها إنما تمنحها بالعبور من قصيدة إلى أخرى مساحة الحياة نفسها وهي تكبر وتتسع في علاقة عكسية مع الراهن الواقعي، تتسامى فيه وتصبح حلم الانسان الفريد كلما ازدادت كوابح انسانيته ومحدداتها ، مواثيق العاصفة التي لا تحتاج سوى لحظات، "لتأخذ اليها بالشجرة والعش وطائره".

في "الغرفة عازلة الصوت"، الديوان الثالث، تواصل الحرية نحت ملامحها والإصغاء لصوتها عبر السير في الطريق الذي اتخذه الديوانان السابقان، طريق الصمت والنسيان، فضلاً عن تجزئة مشهد القصيدة وإحالة المنظور إلى عناصره التكوينية للتعبير عن طبيعة التلازم فيه، كما في "حينما تمضي حراً" القصيدة التي تنتقي المجموعة عنوانها عنواناً لها، فهي تستعيد موضوع الوحدة، ملجأ الشاعر وغايته، وتعمل على الاكتفاء بمكونات المشهد الشعري وعناصره، لا المشهد نفسه، إنها العناصر التي تكون بعزلتها مقدمة للغياب:

"لا تتوسل طريقاً إليك

ولا تتحر أثراً

وتنشد يداً"

ليس سوى الأصغاء هادياً ومعيناً "وقد تجردت حتى من رفقة تلك الوحدة، وبعدت عن ذلك المنأى"، إنه المضي البعيد تقاربه القصيدة في أفق لا لقاء فيه، لتوطّد الشعور بما بقي، فثمة كلام ينتظر أن تتمه، هو الكلام الذي يسمو ويغتني بما تحيطه حريتك من معان في ذروة التجرّد والبعد والصمت والنسيان، فالقصيدة تعمل عبر استحالات الوحدة وتفصيلاتها على نشدان الطريق بعد أن نأت الذات حتى عن رفقة وحدتها، لتجد، بالمقابل، بهجة انشغالها بما هو عادي كما في قصيدة (كل يوم)، إذ ترعى تفاصيل يومية شديدة الألفة تقرّبها من المعاني المضمرة للحياة وهي تحتشد في "زقاق ضيق وقصير، زقاق خال"، يتحول مع إشارات الحياة إلى "زقاق رحب لا ينتهي". في مثل هذا المنعطف يمضي الشاعر وحيداً "في الهواء البارد للصباح"، مشكلاً فردوساً أرضياً ليس فيه سواه ولا يستمد فردوسيته إلا من انتظام التفاصيل الحياة في مشهده اليومي، فالكمال الذي تتوخاه القصيدة كمال المشهد اليومي، والسعادة في الذهاب أبعد فأبعد في التفاصيل، إن "الكمال لا يكمن وراءنا، بل هو أمامنا" كما يقول أوكتافيو باث، في ما نسعى لاكتشافه والاحتفال به عبر القصيدة، بما ينشيء نوعاً من المطابقة الضدية مع قصيدة (حينما تمضي حراً) التي تختار المضي في سماء أخرى للبحث عن وحدة الشاعر والتعبير عنها عبر رصد وجوده بوصفه تجربة ذهنية وممارسة لغوية تجد في ما تختزنه القصيدة مجال وجودها للإشارة إلى حياة ثالثة تتحقق وراء المرئي بشروطه اليومية:

"حياة لي في الشرفة كانت

حياة ثانية كانت لي تحت الشرفة،

في الشارع

في الساحة

قرب الصحراء.

لكن حياة أخرى

غيرهم

كانت لي"

فالحياة "في الشرفة" لا تمنع حياة ثانية "تحت الشرفة"، وهما معاً لا يحدان التعبير عن حياة ثالثة لا تتخذ من حدود الحياتين السابقتين مجالاً لها ولا تكررهما بل تتخذ من الاختلاف والتباين معياراً لها لتكون (الحياة الحقة) للشاعر مثلما يكون الرهان على (المضي حراً) لاتخاذ طريقة مثلى لمواجهة الذات وانتظار ندائها. تحيل قصيدة (وطء ثقيل) للجانب الآخر من معنى التحرر والانفلات من أسر العلاقات اليومية، عبر بناء مشهدي يعوّل على قول المكان بعد غياب أبنائه عنه:

"بعد نهار صاخب

يؤوبون..

في أول الليل

منصرفين عن الساحة

وقد خلفوا عليه الوطء الثقيل لأقدامهم"

إن غروب النهار كفيل بكشف الوحشة، فليس للمكان ـ الساحة سوى ذكريات عن البشر المارين وقد خلفوا ثقل أقدامهم، والذكريات ثقيلة كأنه تستعير من الوطء صفته لتضيق الدائرة وما سيحدث فيها بعد انقضاء نهار صاخب هو تكرار لما كان، فالساحة في الظلام هي الساحة في النور، وصورتها في الليل تشبه صورتها في النهار، فهي تحيا وحشتها في كل وقت على الرغم من الزحام الذي يثير غبارها، في الليل ليس سوى ذكرى الأقدام الصاخبة.

وفي العلاقة بين "الغرفة محكمة الإغلاق" والعالم الخارجي يدوّن الشاعر وصيته ـ لنفسه غالباً ـ في عدم التخلي عن الغرفة في الوقت الذي يكون فيه خارجها، ليكون الداخل انثناء الخارج المفترض بتعبير دولوز، "احملها معك، ولتحملك معها" إنها مأوى الذات، ملجؤها، لذلك تأتي الجملة الأخيرة مثل خلاصة زهدية "كن في غرفتك". وهي الروح التي تقدم عبر (هواء فاسد) أحكام صلتها مع الطبيعة فتغدو أشد تحريضاً على وحدة الذات بوصفها مواجهة أكثر منها خياراً:

"في الطبيعة الفاسدة

ليس إلا احكام إغلاق النوافذ إذاً"

الأمر الذي يجد مع (أخطاء لا مسوغ لها) نوعاً من الندم والاعتراف تشكّله واقعة (النباح الكثير):

"أسمع نباحاً كثيراً.

..........

لماذا أتخلى عن غرفتي عازلة الصوت؟"

لن تمثل الغرفة، بذلك، مهرباً أو ملاذاً، إنها تشكل امتداداً لفكرة (المضي) حينما تتخذ الاقامة معنى الرفض والاحتجاج، إنها نقيض الاستكانة والانصياع.

في (المشارق والمغارب)، الديوان الرابع، تُستحضر الغرفةُ، عازلةُ الصوت، ذاتها، للحديث عن نوافذ لا مرئية أكثر سعة من الجدران، ومن الغرفة ذاتها. إن تحصيل الأمل يكون بعدما تتلاشى الموجة وتنتهي الأصداء، وينتهي الصوت ويغيب، فيهب السكون كاملاً عبر القصائد القصيرة، وتتجلى دهشة الشعر في علاقة الانسان بالغرفة، دليل حصانته الفردية، وينسج الشاعر علاقته مع الجمال وعناصره، وهي تتساءل عن وجودها بغير قدرة الانسان على الخلق والابتكار.