يقدم الناقد السينمائي المصري هنا قراءة حصيفة لأحدث أفلام المخرج المصري المرموق داوود عبدالسيد، وهي قراءة تربط العمل بمجمل أعمال المخرج وتمد جذور الكثير من أفكاره ورؤاه في أعماله السابقة التي تكتب بشاعرية سينمائية خاصة رحلة البحث عن الحرية في الواقع المصري الموبوء بسلطة جائرة/ جاهلة.

رحلة الحرية في مواجهة السلطة

داود عبدالسيد وسحر الناس وقدراتهم غير العادية

باسل رمسيس

«صوت صارخ في البرية: أعدوا طريق الرب، اصنعوا سبله مستقيمة»

(الكتاب المقدس).

أربعة هم أبطال فيلم «قدرات غير عادية» لـ"داود عبد السيد". "يحيي" الدكتور والباحث، الرسامة "حياة"، الطفلة "فريدة"، و"عمر البنهاوي" الرجل صاحب السلطة. عبرهم وعبر غيرهم من الشخصيات التي تتأملها في "قدرات غير عادية" تخطو، كمتفرج متأمل، خطوة جديدة بصحبة المخرج والمؤلف "داود عبد السيد" في رحلته الطويلة والمثابرة لرسم عالمه الخاص. عالم يتمحور أساسا حول البحث والصراع، بحث ناسه عن الحياة وعن ذواتهم الحقيقية، واكتشافهم لها خلال رحلتهم، وخلال صراعهم مع أنواع مختلفة من السلطة في سبيل تحررهم. وأبطال داود عبد السيد هم مثله، لا يمتلكون إجابات واضحة، بل أسئلة تقود للمزيد من الأسئلة. وهم يشبهون متفرجي أفلامه، يستطيعون المغامرة في محاولة قراءتها وتفسيرها وفهمها، لكنها ليست من هذه النوعية من الأفلام ذات التفسير الوحيد والقراءة اليقينية، فلا تمنحهم أبدا الإجابة النهائية، بل تمنحهم المزيد من الأسئلة.

http://hadarat.ahram.org.eg/GetImage.aspx?url=/uploads/Articles/2015/12-2015/13-12-2015/%D9%81%D9%86%D9%88%D9%86/%D9%82%D8%AF%D8%B1%D8%A7%D8%AA%20%D8%BA%D9%8A%D8%B1%20%D8%B9%D8%A7%D8%AF%D9%8A%D8%A9/3.jpg

فهذه ليست المرة الأولي التي يختار فيها الفنان اسم "يحيي" كاسم للبطل الباحث. ففي أفلام سابقة كان هو يحيي الذي يحاول أن ينضج ويغامر ويتحرر في "رسائل البحر". ومن قبله كان هو "يحيي أبو دبورة" بطل "أرض الخوف"، الذي يخاطب السلطة، أو الإله، الذي لا يراه، ويعتقد أنه أرسله في مهمة، ويظنه بجواره ليسمعه، وهو إله غائب. أما هذه المرة .. فهو يحيي الباحث عن الحقيقة، الذي يريد أن يعرف، هو المراقب.

في أفلام أخري يمنح داود عبد السيد أبطاله أسماء أخري، فيسمي بطله الذي استيقظ صدفة، وأراد أن يستعيد الحياة، ويصل في طريقه للتمرد، بـ "يوسف"، في "البحث عن سيد مرزوق"، بعد أن همس له المخبر يوما خلال المظاهرة "إرجع بيتك يا يوسف". فيلازمه خائفا لأعوام ويخرج منه مستيقظا، ومفتتحا للتمرد، لحياة جديدة. وهو أيضا "يوسف" في "الكيت كات”، الذي يحلم بالسفر والابتعاد عن الحي، وقدماه تكادا لا تلامسان الأرض مثلما يصف أبوه خطواته. هذا الأب الذي يواجهه الابن بصلابة "أنت بيعت البيت بالحشيش يابا؟".

من هو يحيي؟ ربما يكون يحيي هو "الصوت الصارخ في البرية"، ربما يكون "يوحنا المعمدان" الذي ولد قبل المسيح بشهور قليلة كي يبشر بمجيئه، ويعمده. يتخلي عن مهمته الأساسية في التبشير، بل يصل للتشكيك في إن كان يسوع هو المسيح المنتظر، ويعيش ويصرخ في البرية رافضا "هيرودس الملك" وسلطته، مقدما رأسه المقطوع ثمنا لحريته وتمرده، وشجاعته.

يواجه "يحيي أبو دبورة" في (أرض الخوف) سلطتين، سلطة تجار المخدرات وسلطة الجهاز الأمني الذي أدخله إلي هذا العالم كعين له. هو يكلم الله الذي لا يسمعه في "البرية” .. فيصرخ نفس صرخة يحيي في "رسائل البحر" حين يبخل البحر عليه بالإجابات واليقين وقت العاصفة. هل كان يصرخ "يحيي أبو دبورة" في ساعي البريد أم في الله؟ وهل كان الثاني يصرخ للبحر أو للإله؟

http://hadarat.ahram.org.eg/GetImage.aspx?url=/uploads/Articles/2015/12-2015/13-12-2015/%D9%81%D9%86%D9%88%D9%86/%D9%82%D8%AF%D8%B1%D8%A7%D8%AA%20%D8%BA%D9%8A%D8%B1%20%D8%B9%D8%A7%D8%AF%D9%8A%D8%A9/1.jpg

لكن "يحيي" في "قدرات غير عادية" لا يصرخ، هو يبحث ويتساءل ويراقب ويتأمل الناس وقدراتهم. وفقط عبرهم، وعبر رحلته معهم، يكتشف قدرته غير العادية. ويكتشف أنه ليس حرا مثلما تصور. ويكتشف كيف تحول "كمثقف" لأداة في لعبة أكبر منه، هي لعبة السلطة التي تقرر من طرف واحد أنه يعمل لصالحها، أن كليهما – المثقف والسلطة – يشكلان فريقا واحدا ويعملان سويا، مثلما قال رجلها القوي علي لسان “عمر البنهاوي”. يحيي لا يطمح في السلطة، هو يطمح في بعض المعرفة، ويعلم أن المعرفة نسبية. يرغب فقط في الاقتراب منها واكتشاف بعض ألغازها وبعض سحرها. وهو في هذا الطموح نقيض لصاحب السلطة الذي يعترف بأن حلمه الوحيد كان دائما أن يصل للمعرفة المطلقة، أن يصل للسيطرة علي كل شيء، ويري أن هذا الهدف هو "هدف وطني سامي" بتعبيراته.

يسمي المخرج/ الكاتب بطلته "حياة"، التي يخبرها مغني الأوبرا بأنها قد أصبحت أكثر جمالا. وذلك بعد أن رأيناها تمارس الحب/ الجنس/ الحياة مع يحيي. و"حياة" هو أسم الخادمة في فيلم "مواطن ومخبر وحرامي"، هي أيضا هذه الأنثى التي تدفع بالكاتب لغمار الحياة ومغامرتها. مثلما يتحقق بتنويعة أخري في فيلم (قدرات غير عادية).

أما "فريدة”، الطفلة الساحرة التي تمتلك قدرات غير عادية، ففرادتها لا تنبع من امتلاكها لهذه القدرات، بل لأنها الأوضح في تحدي السلطة والتمرد عليها ولو بالصمت، بعد استخدامها من قبل الجهاز الأمني كوسيط لانتزاع معلومات من متهمين خلال التحقيق معهم. وهي فريدة لأنها استطاعت الانتصار عبر إصرارها، وتمسكها بحريتها، وعبر استمرارها في الاستمتاع بلعبتها الطفولية مع الحياة دون أي حسابات أو محاذير. "فريدة" هي القادرة بينهم علي التحليق وتجاوز الأسوار ورؤية ما لا يراه الآخرون.

"جبريل" هو من يحضر بشارة الميلاد، ميلاد المسيح وميلاد يوحنا المعمدان/ يحيي. وفي (قدرات غير عادية) هو مهرج السيرك الذي يبشر، بمعني ما، بفريدة. هو أول من يلتفت لقدراتها، هو من يدعوها للسيرك – للحياة بمعني ما - وهو من يمجد قدراتها، مصطحبا الجميع ليقفوا تحت نافذتها، لتظهر لهم عبرها، بملابس بيضاء ومحاطة بهالات من النور الأبيض، وكأنها العذراء، أو الملاك، أو القديسة. وهم بالأسفل يمجدونها. وهو الظهور المعجزة، الظهور الساحر، الذي يغير مجري حياة أبطال داود عبد السيد ويعقدها، ويجبرهم علي الدخول في الرحلة.

http://hadarat.ahram.org.eg/GetImage.aspx?url=/uploads/Articles/2015/12-2015/13-12-2015/%D9%81%D9%86%D9%88%D9%86/%D9%82%D8%AF%D8%B1%D8%A7%D8%AA%20%D8%BA%D9%8A%D8%B1%20%D8%B9%D8%A7%D8%AF%D9%8A%D8%A9/2.jpg

هو الظهور الذي يعاقب عليه الجميع من قبل مختلف أنواع السلطة، فرجل الجهاز الأمني يطارد فريدة وأمها لاستخدامهما. والقوي الدينية تقوم بطرد جبريل مع سيركه لأنهم يرون في السيرك/ الحياة عملا شيطانيا. أما جبريل فهو يخبر "يحيي" قبل طرده بواحدة من الجمل التي تشكل أحد مفاتيح الفيلم: "الأسد محبوس في القفص، والحمار خايف منه عشان عارف أنه في الأخر هاياكله". وينتهي المشهد برجل لا نري وجهه، ممسكا بمسدس، رجل آخر صاحب سلطة، يتقدم بثبات مرعب من الحمار، ويقتله بطلقة واحدة في رأسه.

حين يكتشف المثقف أنه أداة في يد السلطة يحاول الانسحاب والهرب، لا يقاوم وضعيته كأداة، بل ينسحب لتأمل عالم آخر، عالم الصوفية. تنتهي مغامرته القصيرة مبتورة بقرار من نفس سلطة "عمر البنهاوي" في تعاونها مع السلطة الصوفية المتمثلة في "مولانا". السلطة الأولي تحتاج يحيي لحل مشاكلها. والسلطة الثانية لا تقبله لأنه مراقب، مشاهد، متأمل، متشكك، ولا يغرق مثل الآخرين في عالم الإيمان المطلق دون أسئلة. فمولانا يبتر رحلته قائلا: "هنا شربة ماء في وسط هجير الصحراء. نحن لا نريد المتشككين بل المؤمنين. أنت جئت لتعرف لا لتستريح. إحنا مش عايزين مشاكل مع الحكومة”. جملة أخري من مفاتيح فيلم (قدرات غير عادية)، تجعلك تتذكر جيدا وفي نفس اللحظة جملة أخري، “إرجع بيتك يا يوسف” التي حكمت علي بطل "البحث عن سيد مرزوق" بـ"الموت" لأعوام طويلة، وظلت تتردد داخل رأسه وترعبه.

إن كان داود عبد السيد يدعونا لتأمل عدد من المصائر والتركيبات، وعدد من القدرات غير العادية بكل أشكالها .. سواء كانت قدرة علي ممارسة السحر أو اللعب أو الحب أو المغامرة أو الإبداع الفني، فهو أيضا يستعرض بعض أنواع السلطات .. الله، الدولة، الأجهزة الأمنية، الدينيون، المجتمع، وأيضا سلطة الموسيقى في تحديدها ملامح مشهد المجابهة بين البطلين، بين المثقف ورجل السلطة. فالبيانو هو ما يحدد إيقاع المشهد وحواره ومساره. ووجه ونظرة العازف هي ما تحدد نهايته وتختمه.

هذا عن فريدة ويحيي وجبريل وحياة ورجل الدولة، في واحدة من القراءات التي لا تنفي قراءات أخري ومختلفة لفيلم (قدرات غير عادية) ولأفلام داود عبد السيد. لكن .. ماذا عن داود عبد السيد نفسه؟ اختياره واضح، مازال في مغامرته كمثقف وسينمائي وأديب، مصرّ علي نسج عالمه الخاص بإيقاعه الخاص، وبرسم شخصياته التي تثير دهشتك، وبطريقة سرده لقصصه، وإن لم ينسجم مع بقية مفردات "السيرك" المحيط.
يشعر ربما بنفس معاناة "حياة" التي تقر بأن أصعب الأشياء أن تكون مختلفا. لكنه مازال مصرا علي تمرده علي مفردات السوق رغم وعيه البالغ بطبيعته وقوانينه. مغامرا، وكأن كل فيلم جديد هو أخر فيلم يصنعه، ومصرا أن يصنعه مثلما يريده وبالشكل الذي يرضيه، متحديا مثل فريدة ومثل الشيخ حسني كل القيود. لكنه أيضا داود عبد السيد المنسجم مع كل شخصياته، مع ناسه، في رحلتهم للتمرد والحرية، والمنسجم معهم في لحظات هزيمتهم وانتصارهم وقوتهم وضعفهم. مازال مصرا أن يشبه ناسه الذين يملأ بوشوشهم شاشة العرض، مشهرا حبه وانحيازه لهم.

أخر ما تسمعه في فيلم (قدرات غير عادية) جملة داود عبد السيد علي لسان يحيي "جايز كل دول عندهم قدرات غير عادية". بينما تحلق الكاميرا فوق البحر، فوق البيوت، فوق المدينة، وفوق السيرك.

لا يدعي أنه "الصوت الصارخ في البرية” بألف لام التعريف، وألف لام نفي الآخرين، لكنه دون أي شك صوت صارخ في البرية، مازال يبحث عمن يصرخ معه، ومن يصنع السحر معه، ويحرضنا علي مشاركته وعلي المغامرة.