بعد نشر الجزء الأول في العدد الماضي، تقدم (الكلمة) هنا الجزء الثاني والأخير من دراسة محررها عن لورين هانزبيري، التي لم يعرفها المسرح العربي، رغم أنها جديرة بأن يهتم بها كيلا تتحكم في خريطة معرفته بالمسرح في العالم اختيارات المركزية الثقافية الغربية، وتتناول فيه آخر وأهم مسرحياتها.

لورين هانزبيري: أفريقيا و«البيض» والمسرح الكلاسيكي

صبري حافظ

بعد أن قدمت (حبة عنب في الشمس) غواية الحياة المادية الأمريكية وسطوتها ليس فقط على الذين يستفيدون منها، وإنما على من تقهرهم وتستغلهم إلى أقصى حد. كرست هانزبيري العامين الأخيرين من حياتها لكتابة مسرحيتها (البيض) حيث كانت تصحبها معها في المستشفى وخارجها طوال فترات علاجها من المرض الذي انتزع حياتها وهي في شرخ الشباب. لأنها كانت تعتقد أنها ستكون أهم أعمالها قاطبة. وهي إلى حدما كذلك، لما تنطوي عليه من عمق وبنية درامية محكمة، وغنى في الشخصيات يضعها بحق مع المسرح الكلاسيكي الذي سعت لكتابته. ومع أنها تقدم عددا من الشخصيات على درجة كبيرة من العمق والدرامية، فهي ليست مسرحية عن صراع الأفراد وإنما عن صراع القوى الاجتماعية والسياسية التي تتحكم في مصير أفريقيا، وستواصل التحكم فيه لعقود بعدها.

ومسرحية (البيض) هي أول عمل أمريكي يركز على أفريقيا وعلى صراعها من أجل تحقيق الاستقلال عن المستعمر الأوروبي الأبيض، ودور أميركا الإشكالي في هذا المجال. وهي مسرحية، كما نعرف من دارسي أعمال هانزبيري في مقدمات نصها المطبوع، بدأت فكرتها الأولى لديها عام 1960 حيث كتبت ما يشبه الملخص لها في أحد دفاتر مسوداتها، وصولا إلى النهاية التي اختار فيها الأخ الأصغر إيريك جانب أخيه الأوسط تشيمنا، وحرقه لمبنى البعثة. فقد كانت لورين هانزبيري تطمح إلى كتابة عمل عن أفريقيا تستفيد فيه بمعرفتها الطويلة بتاريخ القارة، وقراءاتها الواسعة في حضاراتها القديمة، والتي وفرتها لها مكتبة عمها وليام هانزبيري؛ بشكل يجعلها واحدة من أبرز طالباته وأنجبهن.

وكان وعيها وتنامي معرفتها بمدى عراقة الحضارات الأفريقية الممتدة من جنوب القارة ووسطها، حتى الحضارة الفرعونية في شمالها، جعلها تؤمن بأنها بإزاء قارة عريقة تحتاج إلى عمل مسرحي كلاسيكي على غرار المسرح الإغريقي القديم يتسم بالدقة والتقشف والدرامية. وتسري في شرايينه رؤاها وأساطيرها واستعاراتها، كما هو الحال في المسرح الإغريقي. فالحضارة الأفريقية بالمعنى الذي تبنته، والنابع من تصور عام لوحدة القارة، وهو التصور الذي راده كوامي نيكروما في ذلك الوقت، أعرق من الحضارة اليونانية التي انجبت هذا المسرح الكلاسيكي. وهو الأمر الذي برهنت عليه دراسة مارتن برنال الضافية (أثينا السوداء) بعد مسرحيتها بعدة عقود. لذلك كانت تعتبر أن هذه المسرحية هي أهم أعمالها المسرحية، خاصة بعدما أدركت بعد تشخيص مرضها كسرطان البنكرياس بأنها ستكون آخر أعمالها.

ومعها أنها كانت تتصور أنها ستعرض في حياتها، حتى قبل مسرحيتها (الغناء في نافذة سيدني بروشتاين)، إلا أن حرصها على تجويدها جعلها تواصل العمل عليها لفترة أطول من أي من تلك التي انفقتها على مسرحياتها السابقة. لذلك ثمة مسودات كثيرة لها واصلت العمل عليها سعيا إلى الكمال والحرص على ألا تتجاوزها الأحداث الأفريقية التي تسارعت وقتها بما جرى في أفريقيا عقب الاستقلال، سواء أكانت في المستشفى أو خارجها، كانت آخرها قبل أيام من وفاتها. ونعرف الآن أن المسودة الأولى للمسرحية لم تأخذ أول أشكالها الدرامية، وتتبلور الخطوط العريضة لأحداثها وشخصياتها وبنيتها، إلا في منتصف العام التالي عندما شاهدت لورين هانزبيري مسرحية جان جينيه (1910 -1986) المعروفة باسم (السود Les Nègres) والتي تعد (البيض Les Blancs) بعنوانها الفرنسي لا الانجليزي، نوعا من الرد الدرامي عليها، أو الجدل التناصي معها، وإعادة طرح لقضيتها وتناولها لموضوع السود، والذي اعتبرته بعيدا عن متغيرات الواقع الأفريقي كما تفهمها برغم نبل مقصد جينيه وأهمية مسرحيته. فمسرحية جينيه، لا علاقة لها من حيث البناء الذي يستخدم صيغة المهرج والمسرح داخل المسرح، أو الشخصيات التي حافظ فيها جينيه على غرائبيتها وطقسيتها القناعية، وتهكم فيها على كثير من الكليشيهات التي يصف بها البيض السود بالعنف والشهوانية، ببنية مسرحية هانزبيري التي تنحو إلى الكلاسيكية بمعناها الإغريقي المعروف.

الجدل مع «السود» لجان جينيه:
والواقع أن مسرحية جينيه (السود) والتي كانت من أكثر مسرحياته نجاحا وأطولها عرضا في برودواي (أكثر من 1400 عرض) تنتمي لمنطلق مسرح جينيه التهكمي الطقسي معا في استخدامه لعناصر الفرجة المسرحية في تعرية الأوضاع السائدة إزاء الجماعات المهمشة، سواء من الناحية الاجتماعية (الخادمات والشرفة) أو التاريخية/ السياسية (البارافانات والسود). كما أن (السود) تستعرض بطريقتها الدرامية والتهكمية الخاصة الرؤية البيضاء للسود وتحيزاتهم التاريخية ضدهم، وتتوجه لجمهور مبتغى يحدده جينيه بوضوح وهو يصف مسرحيته بأنها «مسرحية كتبها كاتب أبيض لجمهور من البيض، وأنه حتى لو جرى عرضها لجمهور من السود، فلابد من البحث ولو عن مشاهد أبيض واحد تتوجه له المسرحية، ويقدم له العرض بشكل واعٍ أو قصدي يلفت منظم العرض نظر المشاهدين له». فليس من عادة جينيه أن يعظ المؤمنين كما يقول التعبير الانجليزي. لأن السود يعرفون جيدا مدى تحيز البيض ضدهم وقهرهم لهم. لكنها مسرحية تدور في نهاية الأمر بين البيض حول أنفسهم وحول تصورهم للسود وسعيهم للتحلل من عبء ما اقترفوه في حقهم، سواء بسبب إحساس بالذنب أو رغبة في التسامي الإنساني، سواء كرغبة في إدانة الذات أو كنوع من تبرئتها والتطهر من أوزارها، ولكنها ليست ما تريد

فهي مسرحية يقوم بها ممثلون سود، خمسة منهم يطلون وجوههم باللون الأبيض، ليقوموا بالأدوار البيضاء التي تمثل السلطة والمؤسسة، في تذكير واضح لنا بما كان يفعله البيض دوما (حينما يطلي أورسون ويلز أو لورانس أوليفييه وجهه باللون الأسود كي يمثل دور عطيل). ولكنه هنا ينطوي أيضا على أنه مهما كان من في السلطة، حتى ولو كان أسودا، فإنها سيرتدي في نهاية الأمر قناعها، الأبيض عادة والمترع بالوحشية والتحيز والعنف، في تذكير بعنوان كتاب فانون الشهير (جلد أسود/ أقنعة بيضاء). يتم فيها إعادة تمثيل عملية محاكمة لمتهم بجريمة بصورة تكشف عن التحيزات العنصرية ضد السود وكليشيهات الثقافة البيضاء ضدهم على مر ثلاثة قرون، في محاولة منها لسبر طبيعة هويتهم.

وما أن نعرض مسرحية هانزبيري على القراء حتى يكتشف القارئ أنه ليس ثمة علاقة بين العملين لا من حيث الموضوع أو البنية الدرامية، ولكننا لا نستطيع إغفال الجدل بين العملين والذي يتعمد العنوان لفت انتباهنا إليه. وكأنها تريدنا رغم تذكيرنا بمسرحية جينيه أن نعي مسؤولية البيض عما جرى لأفريقيا وشعورهم بالذنب تجاهها. فهذا هو هدف مسرحية جينيه التي يعتبرها حوارا بين البيض بشأن ما اقترفته أيديهم ضد السود، يطرح فيه القضايا الأساسية لما قاموا به من دمار في القارة الأفريقية. أو كأنها تقول لنا أن ما قام به جينيه ليس إلا الخطوة الأولي في طريق طويل، تريد أن تقطع مسرحيتها شوطا جديدا فيه. لأنها تعتبر أن المشكلة التي يعاني منها العالم كما قالت في إحدى مقالاتها هي «إن المشكلة التي تهدد الوجود البشري هي مشكلة اضطهاد الإنسان للإنسان الآخر، وهذا ما يتجنبه جينيه بلجوئه إلى التجريدات وما ترسخ في الوعي الأبيض من أساطير بشأن الطبيعة المغايرة لأوجاع السود وشهواتهم وقسوتهم ومطامحهم، بصورة يبقى معها الأسود آخر مغايرا، بل وغرائبيا، كي تتجنب المسرحية المشكلة الجوهرية: اضطهاد الإنسان، بصرف النظر عن لونه وعرقه ودينه، للآخر.» بل إنها تعتقد أن إدانة المسرحية للبيض وتعرية سوءاتهم، تنطوي على قدر من إراحة الضمير، ونوع من التحلل من المسؤولية عن ضرورة فعل شيء لتغيير هذا الوضع الجائر.

وهذا الأمر الجوهري بما في ذلك فعل شيء لتغيير هذا الوضع الجائر هو ما تواجهه مسرحية هانزبيري بشجاعة ووعي باكرين. حيث تطرح هذه المسرحية السؤال الذي انشغل به فرانز فانون في السنوات الأخيرة من حياته، والذي نجم عنه كتابه العلامة (المعذبون في الأرض) وهو: هل من الممكن يحقق شعب مضطَهَد ومستعمَر تحرره دون اللجوء إلى العنف؟ وإلى جانب هذا السؤال المحوري ثمة سؤال لا يقل عنه أهمية وهو ماذا سيفعل كل من السود والبيض بعد حمام الدم الذي يتحرر المستعمَر عبره من الاستعمار؟ إنها مسرحية الأسئلة الصعبة التي لا تطرح على المشاهد إجاباتها بسهولة، وإنما تشركه في معضلتها الفكرية والموقفية. ولكن دعنا أولا نتعرف على حبكة المسرحية معا قبل الإجابة على هذين السؤالين.

أحداث الفصل الأول من «البيض»:
وتدخلنا المسرحية التي تتكون ككثير من كلاسيكيات المسرح الإغريقي من فصلين يتكون كل منهما من عدة مشاهد، في مناخها قبل رفع الستار، أو بالأحرى قبل إضاءة الخشبة/ المشهد بأصوات الأحراش أو الغابة الأفريقية التي تنبعث في فضاء المسرح من الجانبين والخلف: أصوات صرير الجنادب ونقيق الضفادع ونعيق غراب وعواء/ ضحكة ضبع. أما المشهد الذي تتكشف عنه الخشبة فهو مبنى البعثة الخشبي، أو شبحها، الذي حرص مصمم المشهد في المسرح القومي الانجليزي على أن يرفعه عن أرض الخشبة قليلا، وكأنه معلق في فضاء المكان، فلا جذور له فيه. ومع إضاءة الخشبة التدريجية الخابية ترتفع أصوات الغابة، ويبلغنا قرع طبول متقطع من ناحية من المسرح، ويرد عليه قرع آخر من الناحية الأخرى. ومع سطوع الإضاءة التدريجي تظهر امرأة أفريقية طويلة في ملابس أفريقية وحول عنقها وذراعيها وساقيها أساور من الريش، وكأنها ملكة أفريقية، وتبدأ في الرقص، ثم تلتقط حربة وترفعها في يدها وكأنها تعلن الحرب مع تصاعد قرع الطبول وعواء/ ضحك الضباع. ويتكرر هذا المشهد الطقسي، بين الفصول، وتختتم به المسرحية، وكأنه علامة ترقيم أساسية أو نغمة قرار طقسية متكررة فيها.

بعد هذا التقديم الطقسي المترع بالدلالات والرموز لعالم تتناغم في فضائه الحيوانات والطيور والبشر، تتغير الإضاءة إلى وضح النهار، نسمع صوت وصول قارب، بينما يتكشف مبنى البعثة وفي ردهته نشهد الطبيبة الشقراء مارتا، في معطفها الأبيض وسماعتها الطبية، وهي تفحص صبيا أفريقيا، بينما اقتعد عدد من الأفارقة الأرض أمام الشرفة في انتظار دورهم. ويدخل بيتر، وهو عامل المبنى الأسود الحافي حاملا حقيبتين ثقيلتين، ويتبعه تشارلي موريس الصحفي الأمريكي في بدلة صيفية يحمل آلته الكاتبة، يضعها على منضدة ويعلق قبعته ثم يشكر بيتر ويمنحه بعض النقود. فقد جاء لإعداد تقرير صحفي عما يدور في هذه المنطقة الأفريقية النائية التي تحفل بالاضطرابات والإرهاب، وكأن المسرحية التي كتبت في ستينيات القرن الماضي تخاطب عالم اليوم المشغول بمحاربة الإرهاب. بينما تقول له مارتا وهي تنصت بسماعتها لصوت صدر الصبي، سأكون معك بعد لحظة. ثم تقبل عليه مرحبة به في البعثة، وهي تقدم نفسها له قائلة إننا كنا في انتظارك، وتعتذر له بأن القس/ الأب نيلسون ليس هنا في انتظاره، لأنه ذهب إلى الجانب الآخر من النهر لتعميد بعض الأفارقة وحضور جنازة هناك. ويدور الحديث حول الأب نيلسون ودوره منذ أربعين عاما في تحضير أهل المنطقة. وتواصل الحديث معه، وهي مستمرة في الكشف على بقية المرضى الأفارقة. وهكذا تتشكل علاقات التراتب في البعثة بين البيض والسود منذ بداية المشهد الأول.

ثم تتابع الأحداث. حيث يجيئ الطبيب الآخر ويلي ديكوفين الذي يبدو وصوله من البداية مختلفا، ثم يسمع صوت طلقات نار، ويعقبه صوت العقيد جورج رايس، أحد ضباط الإدارة الاستعمارية، يقول أنه يعتقد أن الأخر قد هرب. ثم يظهر رايس ويرحب بدوره بتشارلي ويلح عليه تشارلي لمعرفة سبب الطلقات، فيخبره بأنه استأصل بعض الإرهابين، ولما يسأله باستغراب بأنه لم يسمع عن وجود إرهابيين هنا، يقول له إن السلطات ترى أن من الأفضل ألا يعرف العالم الخارجي بالأمر. وعندما يدخل بعض جنوده بأحد المقبوض عليهم من الإرهابيين، الذي يشك رايس في أن البعثة تعرفه، ويعرضه على الطبيب ويلي للتعرف عليه، يزعم ويلي أنه لا يعرفه، مع أنه كان أب الصبي الذي فحصته الطبيبة قبل قليل، ويؤنبه العقيد رايس زاعما بأنه لابد أن يقتل الجميع قبل أن تنشط ذاكرة الطبيب الانتقائية.

ويطلب رايس من تشارلي أن يعرض عليه أي تقرير يكتبه قبل أن يبعث به للنشر، لأنه يفهم بالطبع حساسية الأمر في حالة الطوارئ الراهنة، فلما يجيبه بأنه لا يفهم ما يعنيه، ينصرف رايس حانقا. وكأنه يذكرنا بالمراسلين المرقّدين في حروب أميركا الحديثة، كما كان الحال إبان غزو العراق، واستخدام الإعلام كذراع أساسي لتحقيق أهدافها السياسية. عندها يسأل تشارلي الطبيب ويلي ماذا سيفعلون بالمقبوض عليه يقول له لابد أن يعرف أن ثمة حربا دائرة هنا. وأن الجميع سيقولون له أن هناك حالة من الطوارئ، أو أنها بعض إجراءات الشرطة. لابد أنك تفهم مثل تلك التعبيرات التي تموه على ما يدور من قتل وعنف. فيرد عليه تشارلي كنت أظن أن الغرب قد ثاب إلى رشده، وأنهم يتفاوضون في أوروبا مع آموس كومالو، زعيم السود بالبلاد. فيقول له ويلي إن المستوطنين البيض حانقون لأن وزارة خارجيتهم تتفاوض معه، أما السود فيعتبرون أن المفاوضات وحدها لن تحقق شيئا.

ويقطع وصول مدام ويلسون العجوز حديثهما وقد جاءت تتعكز على مارتا، ويقدمونها لتشارلي الذي تحييه وترحب به لأنه جاء يكتب عنهم، وأن هذا أمر طيب. وتقول له أنها تعرف كتاباته، وها قد حانت فرصة لها كي تعرفه شخصيا. وتطلب من الطبيبين الانصراف لعملهما، وسوف تتحدث هي مع تشارلي. ويرتفع صوت الطبول من بعيد، فيسأل تشارلي أهي طبول الحرب، ولكنها تخبره بأنها طبول تعلن موت شخص مهم في القرية. ويسألها هل تستطيعين فهم رسائل الطبول. فترد بنعم، لأنها أمضت وقتا طويلا مع نساء المنطقة، وكانت إحداهن «أكوا» زوجة «أبيوسا» الكبير، أعز صديقاتها في أفريقيا وقد علمتها لغة الطبول المعقدة، وكيف تتكلم لغة القبيلة، بينما علمتها هي بعض الانجليزية والفرنسية، وكيف كانا يستكشفان الغابة معا، ولكنها ماتت. ويعرب عن دهشته من أنها كانت تتوغل في الغابة وحدها مع امرأة أفريقية، فتقول كنا نلتقط الأعشاب العطرية والتوت ونمضي الساعات معا. لكن الأمر تغير في السنوات القليلة الماضية، وقد بدأ الأمر بامتناع «أبيوسا» الكبير عن الحضور، ثم تبعته بقية القبيلة، ولم يعد الناس يترددون على كنيسة زوجها القس نيلسون، وها هو شخص مهم يموت دون أن يأتي أحد لإخبارها، وقد مضى عليها عدة سنوات لم تدخل فيها كوخا أفريقيا بعد أن كانت تلقى الترحيب في كل أكواخ المنطقة. ثم يصل إيريك، وهو يافع أسمر، وكنا قد سمعنا قبل وصوله شيئا عن ولعه بشرب الخمر التي يسربها له الطبيب ويلي من مخزن البعثة، وتطلب منه مدام نيلسون أن يقود تشارلي لغرفة الضيوف.

وفي مواجهة مشهد البعثة تقدم المسرحية مشهد الكوخ، كوخ زعيم القبيلة الذي مات، حيث نجد ابنه الأصغر إيريك، الذي سبق أن التقيناه في البعثة، يشرب من زجاجته ويصفر لحنا أفريقيا، ثم يصل أفريقي أنيق في ثياب أوروبية ومعه حقيبته، يقترب من الكوخ ويصفر مع أيريك اللحن، فينهض إريك ليعانقه قائلا « تشيمبا! لقد وصلت أخيرا» فيسأله أين أبي؟ فيقول له إنه مات ليلة أمس. فيرد حزينا إذن لقد وصلت متأخرا ولم أودعه! فيقول له إيريك كنت أقول له طوال الشهر الماضي كل ليلة أنك ستجيء لكنه كف أمس عن تصديقي ورحل. ويتحدث الأخوان عما جرى في غياب تشيمبا لخمس سنوات قضاها في أمريكا وأوروبا، وكيف أنه تزوج من امرأة أوروبية وأنجب صبيا ولد حديثا، وحينما يسأل تشيمبا عن أخيهما الأكبر «أبيوسا» يخبره إريك أنه تخلى عنهم وانخرط في سلك الكنيسة. ويدور بين الأخوين حديث طويل عن المفاوضات التي يجريها آموس كومالو مع المستعمرين في أوروبا، ويكشف تشيمبا له عن لا جدوى مثل هذه المفاوضات لأنها تتم ضمن استراتيجية من المساومات ومحاولات البيض للاستمرار في سيطرتهم بشكل مغاير، يستخدمون فيه السود كأقنعة يواصلون من  ورائها الحكم.

ويصل أبيوسا أخيرا ويتحدث مع أخيه عما يدور في واقعهم، ونلاحظ أنه يصف المتمردين ضد الحكم الاستعماري والمستوطنين بالإرهابيين، كما يفعل البيض، بينما يراهم تشيمبا متمردين أو مقاومين، وينصح أبيوسا أخاه بأن يتخلى عن الاهتمام بما يفعله أبناء القرية من المقاومين، وأن ينصرف لمستقبله في الغرب. وكيف أن حلم أبيوسا يتركز الآن على أن يرسم قسيسا، ويغير اسمه إلى بول أوغسطس، ويتخلى عن كل ما يربطه بماضيه الأفريقي كي يصبح جزءا من المؤسسة الدينية المسيطرة، ويرسّم يوما كاردينالا في الكنيسة الكاثوليكية. نفس الكنيسة التي بارك البابا فيها قبل سنوات قليلة جنود موسوليني قبل سفرهم لغزو أثيوبيا. ويدعو أخوه للانخراط معه في صلاة مسيحية على روح أبيهما، لأنه يرفض المشاركة في طقوس دفن أبيه الأفريقية مع وعيه بأن الأب شديد الإيمان بتلك الطقوس وليس مسيحيا، كما أن مكانته في القبيلة تستلزم الحفاظ عليها، ويختلف الأخوان فيقرر تشيمبا أن يرتدي رداء قبيلته التقليدي، وأن يقوم وحده بتلك الطقوس مع بقية القبيلة وأهل القرية.

أما المشهد الأخير من الفصل الأول فإنه يعود بنا للبعثة في مساء اليوم نفسه، حيث يتحرك الحدث الدرامي بين الكوخ الذي يمثل حياة السود واهتماماتهم، والبعثة التي ترمز لواقع المستوطنين البيض ومحاولتهم لحكم البلاد، حيث لاتزال مدام نيلسون مسترخية في مقعدها بالشرفة، ويحث تشارلي الطبيبة مارتا على أن تخرج معه لأنه يحلم بأن يتمشى يوما في الغابة في ضوء القمر، ولكنها ترفض طلبه لخطورة الأمر بسبب الإرهاب المحيط بهم، لكنه يستبعد الإرهاب في ليلة مقمرة جميلة. فتخبره بأن عائلة هوكنسون قتلت مع أطفالها الثلاثة في ليلة مقمرة جميلة كهذه. ثم يصل تشيمبا للسلام على مدام نيلسون التي نعرف أنها ربته منذ أن كان طفلا، وتستنكر عودته من أوروبا، فيخبرها أنه جاء للمشاركة في جنازة أبيه، فتعرف سبب قرع طبول الصباح، وتتبادل معه بعض ذكريات الماضي، ويخبرها عن رحلاته، بما في ذلك زيارة بلدها في أوروبا ورؤيته للجبل الذي طالما حدثته عنه طفلا، والعودة لها بتذكار جميل منه.

وبينما يتحدثون عن الذكريات وتبدلات الأحوال المحيطة بهم، تصل سيارة العقيد رايس وبها بعض جنوده شاهرين أسلحتهم ليعلن أن عائلة أخرى من المستوطنين قد قتلت الليلة بأكملها بما فيها الخدم الأفارقة. ويكون أول ما يلفت نظره هو وجود رجل أسود يتوجه له جنوده على الفور، وحينما يعرفه رايس، الذي يعرفه هو الآخر مثل مدام نيلسون منذ كان صغيرا، فإنه مع ذلك يصرّ على التأكد من أنه ليس في ذراعه أثر جرح قسم الدم الأفريقي؛ الذي يعني انضمامه للمقاومين. وينتاب الجميع القلق على القس نيلسون الذي لم يعد بعد، رغم أنه اعتاد على الغياب في القرى طوال أربعين عاما قضاها في تلك المنطقة. ويستغل رايس هذا القلق ليطلب من تشيمبا معاونته في تهدئة الأفارقة القتلة، وإقناعهم بالتعامل بعقلانية مع الموقف. بينما يؤكد لتشارلي أن من الضروري أن يفهم أن هذا البلد ليس بلد الأفارقة وحدهم، ولكنه بلد المستوطنين كذلك، مكررا المقولات الاستعمارية الممجوجة من أنهم من جلب له التحضر والتطور، وأنه كان بلد الأفارقة منذ مئات السنين ولكنه لم ينهض ويتغير إلا بعد وصول البيض وتطويرهم له. وأنه جاء هذا البلد في التاسعة من عمره، وعاش فيه كل حياته، وكون به أسرة وأنجب فيه بناتا، ويريد لأسرته أن تحيا به في سلام. ويطلب من الجميع أن يتسلحوا، فتسخر من طلبه مدام نيلسون العمياء بأنها قد تطلق سلاحها عليه.

وعندما ينصرف رايس بعد أن يضع المنطقة كلها تحت حظر التجول، يدعو تشارلي تشيمبا لمشاركته كأسا والحديث. زاعما أنه يفهم مشاعره أثناء المواجهة مع رايس، وأنه من موقعه كمراقب خارجي شعر بالأسف لكليهما. فيرد عليه تشيمبا بأن موقع المراقب الخارجي كان أيضا موقعه حينما ذهب إلى أمريكا. وأن من المستحيل عليه أن يفهمه، وأن يتخلى عن التصورات المضمرة التي تحكمه هو وثقافته كلها بإزاء أفريقيا. ويدور في هذا الحديث الطويل بينهم أحد أهم حوارات المسرحية عن تاريخ القارة الأفريقية مع الاستعمار، وعن التبسيطات الأمريكية التي تريد القفز على هذا التاريخ، وتتصور أنها بإعلان الغرب عن ذنبه القديم، قادرة على أن تمسح تاريخا من العنف والقهر والهوان، عاشه السود في بلادهم وفي الغرب على السواء، وعن كليشيهات الرجل الأبيض المحفوظة حول السود وكراهيتهم للبيض، وعن عدم قدرة أمريكا على التحلل من تاريخ القمع الغربي الذي يمثل عماد ثقافتها. وينتهي هذا الحوار الطويل بظهور المرأة الأفريقية/ الملكة الأفريقية التي تمارس رقصتها الطقسية وكأنها تنادي تشيمبا للعودة لأحضانها، كما كانت تتراءى له في الماضي، وكانت تغرو مناماته وتنبثق في خيالاته حتى وهو يعيش في شوارع لندن. لأن الراقصة الأفريقية التي تدعوه دوما للرقص تمثل روحه الأفريقية التواقة للعودة إلى جذورها، بينما لا يزال يقاوم نداءاتها، ويعلن أنه تخلى عن هموم أفريقيا، وأنه يريد أن يكرس حياته لزوجته وطفله الوليد في لندن.

الفصل الثاني والصعود للذروة الدرامية:
وبعد أن رسم الفصل الأول خريطة الصراع، وقدم شخصيات المسرحية الأساسية من البيض والسود على السواء، يبدأ الفصل الثاني بعد يومين من أحداث الفصل الأول بحوار طويل بين مارتا وتشارلي، يتساءل فيه عن حياتها، وهو يساعدها في لف الأدوية في أوراق شجر الموز ووضعها تحت مبنى البعثة للحفاظ عليها من الحرارة، ويستغرب من أن هذه الطريقة البدائية كافية للحفاظ عليها دون استخدام الثلاجات أو الوسائل الحديثة. ولماذا لم توفر البعثة بعد أربعين عاما الكهرباء للعيادة. فتخبره بأن تحديث المستشفى قد يصرف السود عنها، وأنه لابد لها أن تظل بمستوى توقعاتهم. ويعرف أن أباها تركها وهي في الثانية عشرة من عمرها، وذهب للمشاركة في الحرب الأهلية الإسبانية ضد فرانكو ولم يعد، وأنها تهتم بعملها كطبيبة في هذه المنطقة دون توقع أن يعترف أي من الأفارقة بفضلها أو يقدروا تضحياتها. ويريد أن يعرف منها من هو الأب الحقيقي لإيريك، لأنه مولع بمعرفة لحظات ضعف البشر التي تعقّد الأمور، ولكنها لا تخبره، ويتشكك في أنه ربما يكون القس نيلسون، حيث يتساءل حول دوافع القس نيلسون للعمل هنا بين من يسميهم البدائيين، فتنبهه إلى مدى ما قام به من تضحيات بمجرد حياته هنا لأربعين عاما. ويخبرها عن حديثه الطويل مع تشيمبا ليلة أمس، ونقده الحاد لدور البيض هنا، ولكنها تعتبر أن مثل هذا الحديث لا قيمة له وأن تشيمبا لم يحز بعد حق انتقاد البيض، وكأن هذا الحق لا يتحقق إلا بالعنف/ بالسلاح. وأنه ليس من حقه ولا من حق تشيمبا التشكيك في موقف القس/ الأب نيلسون.

وينتقل بنا المشهد التالي إلى كوخ عائلة تشيمبا، بعد أن تمت مراسيم الدفن، حيث نجد إيريك وتشيمبا يتناقشان فيما جرى في القرية أثناء غياب تشيمبا عنها، وكيف أن إيريك شعر بالغربة فيها بعد سفره، وتخلي ابيوسا عنه. ويخبره تشيمبا بأنه سيأخذه معه إلى لندن، كي يكون عمّا لابنه الوليد. هنا يهلّ عليهما تشارلي ويطلب الدخول لأنه لم يزر كوخا إفريقيا من قبل، فيرفض تشيمبا طلبه ساخرا من رغبته، وهو يسأله هل تريديني أن أقوم بعمل سلّة كي تلتقط لي صورة تمثل السكان الأصليين! ويسأله تشارلي لماذا هذا العداء، فيكون جوابه لأن العالم عدائيا. ويدور بينهما حوارا طويلا يتسم بالتهكم والسخرية، وتكشف فيه المسرحية عن استحالة فهم الأمريكي حقا لما يدور في الواقع الأفريقي، وعن استحالة تخلص الأفريقي أيضا من عبء ما فعله فيه الماضي الاستعماري، وبالتالي استحالة وجود أرضية مشتركة بين الاثنين. ويطلب منه، تكرارا للطلب الذي سبق للعقيد رايس أن عبر عنه، أن يتوسط لدى أبناء جلدته للكف عن العنف، ومنح التفاوض السلمي فرصة للنجاح. ويلفت تشارلي نظره إلى أن العالم الخارجي يرى أن قتل حفنة صغيرة من البيض، يحمل ثقلا لا يحمله قتل المئات أو الآلاف من السود. مما يكشف عن استحالة وجود أرضية مشتركة بينهما، في ظل سيادة تلك المعايير المزدوجة.

ويؤكد له تشيمبا أنه ما أن يتوقف الأفارقة عن العنف حتى يجرد ذلك المفاوض الأفريقي من أهم أوراقه التفاوضية إزاء سلطة القهر البيضاء. وحينما يحاول تشارلي وعظه عن أهمية التسامح والسلام، يسأله أين كان حينما كان المستعمر الأبيض يقطع أيادي المئات من الشباب السود لعشيرة بأكملها، حتى يلقن بقية السود دروس القهر والبطش الأبيض.(1) فيتهمه تشارلي من جديد بأنه يكره البيض، لمجرد أنه يذكره بتاريخهم المخزي. ويتواصل الجدل بينهما ليكشف له تشيمبا عن أن مختلف تجليات القهر والعنصرية هي مجرد أدوات في علاقات إنسانية غير متوازنة. لا تقتصر على العلاقة بين البيض والسود، أو بين دين وآخر وإنما بين السلطة الاستعمارية البيضاء الحاكمة وفقراء البيض في بلادها أيضا. إنها أداة من أدوات بنية القهر التي تنطوي عليها مؤسسة السلطة الاستغلالية ذاتها. والتي يخفق تشارلي في أن يفهم ما يطرحه عليه تشيمبا بشأنها، مسلما بأنه لن يفهمه أبدا، ويخرج.

هنا يدخل بيتر مع نجاجو، وهو أفريقي آخر، ويسأله لماذا لم يلب دعوة المجلس أمس. فيستغرب تشيمبا من معرفه بيتر بأمر هذه الدعوة، فيخرج له قطعة من لحاء الشجرـ وهي نسخة أخرى من الدعوة التي تلقاها، مما يعني أن بيتر أيضا كان مدعوا لنفس الاجتماع. فيكرر سؤاله، لماذا لم تلبِّ دعوة المجلس: فأنت تعرف حقيقة ما يدور لأهلنا، فيرد عليه إنني أعرف يا بيتر، فيعترض بيتر على التسمية، ويقول له في بيت أبيك فإنني لست بيتر وإنما نتالي، وهو اسمه الأفريقي الأصلي، لأن استعادة سلطة التسمية من الرجل الأبيض، وعودة السود لأسمائهم الإفريقية هو بداية الطريق نحو استعادتهم لأنفسهم ولأرضهم. ويعود النقاش بينهما لأسباب عدم تلبيته دعوة المجلس خاصة بعدما ارتدى ملابس القبيلة وشارك في طقوس جنازة أبيه الأفريقية، بصورة كشفت لهم أنه عاد إلى نفسه. وأنه لابد أن يعرف أن أباه كان قائدا حكيما للمجلس، وأن المجلس يحتاج الآن إلى قائد مكانه يحل محل أبيه، وله فضلا عن ذلك معرفته الواسعة. لكن تشيمبا يصرّ على أنه سيعود إلى أسرته في لندن، وأن ما قام به كان مجرد طقس الوداع الأخير لأبيه. وأنه أصبح في وضع من يعرف أكثر من اللازم، وهذا ما يجعله غير صالح لقيادة المجلس. فيجيبه نتالي، وهل أنستك تلك المعرفة الواسعة امثولة «مودينجو» Modingo؟

هنا تقدم المسرحية أمثولتها الأفريقية/ أسطورتها الأساسية الدالة حيث يحكي له نتالي الأسطورة من جديد، ولكن بتقاليد الحكي الإيمائي التقليدي الإفريقية. كان مودينجو ضبعا حكيما، وكان صديقا للجانبين، وبالتالي فهم قضية كل منهما. كانت الفيلة تطالب بقسم أكبر من الأرض بسبب كبر حجمها، أما الضباع فقد عاشت طوال تاريخها في تلك الأرض فهي ملكية خالصة لها، واعتادت على الحرية التي يوفرها لها اتساع رقعتها. وقد جاءته الضباع تطلب منه المشورة في القضية، فنهض مودينجو، الذي يعني اسمه من يفكر بعناية قبل أن يتكلم، وخطب فيها: أهلي الأعزاء .. نعم كانت هذه الأرض لنا، ولكن أي أحمق يستطيع رؤية أن الفيلة أكبر منا حجما، وأنها بحاجة إلى مساحة أوسع. ولأنني ولدت وعلامة الحكمة فوق جبيني، فإنه لا يمكنني أن انضم إليكم في مطالبتكم باستعادة الأرض من الفيلة، لأن قضية الجانب الآخر تحتاج إلى تفهمها أيضا. لذلك لابد من التعقل، فدعوني أفكر بالأمر. وجلس ورأسه في يده في وضع التفكير، وأخذ يفكر ويفكر، والضباع حوله تنتظر وتنتظر. بينما استغلت الفيلة هذا الوضع واستولت على الأرض برمتها، ولم تترك منها شيئا للضباع. وذلك هو السبب في أن الضباع تضحك حتى اليوم، وأن عواءها/ ضحكتها مرّة ملتوية ورهيبة، بسبب الخديعة التي تعرضوا لها باسم التعقل.

هذه الأسطورة الأفريقية هي أداة تجذير المسرحية في ثقافتها الأفريقية الأصلية، وهي في الوقت نفسه أمثولتها الحاكمة، التي تريد من المشاهد أن يبقيها في ذهنه، وهو يواصل متابعة بقية الأحداث. لذك ما أن تنتهي حتى يقول نتالي: لقد انتظرنا أيها العزيز تشيمبا لألف موسم حتى يرحل الضيوف ويعودوا لبلادهم! إن أهلك الآن في حاجة إليك. وحينما يصرّ تشيمبا على رفضه وعلى تردده، يخبره أن أباه كان زعيمه في «جيش تحرير الأرض» وهو الأمر الذي يدهش تشيمبا إلى حد كبير. ولكنه يصر على موقفه وهو يؤكد لنتالي أنه لا يريد التورط في قتل أحد، ناهيك عن حفنة من المبشرين العواجيز وأسرهم. فيرد عليه وهو أيضا كذلك، لكنهم طليعة تلك الهيمنة وجزء أساسي منها، ولما يخبره بأن كومالو قادم للتفاوض، فيرد عليه قادم للكلام، لم يعد كومالو ممثلا للناس، وإنما المجلس! لكن تشيمبا يرد بأن هدف العنف كان إجبار المستعمِر على التفاوض، لكن نتالي يرد بأنه لا يوجد في مفاوضاتهم غير الاحتقار. فيرد تشيمبا بأن فيها خوف أيضا، وهذه بداية الطريق. وأن هذا عصر جديد، عليك أن تحافظ فيه على سلاحك وأن تبقيه على استعداد، ولكن فاوض.

ويصر نتالي على أن أوان التفاوض قد فات، فقد مات كثيرون على الجانبين. وأن التفاوض لن يؤدي لغير تبدل البيض بوجوه أفريقية تقوم بالعمل نفسه. وهو الأمر الذي يرفضه تشيمبا لأنه موقن بأن كومالو ليس دمية في أيدي البيض. ويوافقه نتالي على ذلك، ويطرح عليه أسئلته المدببة: «ولكن هل سيسمحون له بالسيطرة على الجيش؟ أو على المناجم؟ أو على الوزراء والحكومة؟ سيمنحونه سيارة حكومية بلا شك، وسكرتيرة حكومية بيضاء، كي تدفئ سريره، فمن تراه يخاف الأسد بعدما يتم اقتلاع أسنانه؟ لا ياعزيزي تشيمبا، حينما نطرد الغزاة، عندها فقط سوف نستمتع بالراحة والسلام.» لكن تشيمبا يطلب منه أن يبلغ المجلس أنه سوف يذهب للعاصمة لمقابلة كومالو، كي ينقل له حالة الناس، وأنهم لن ينتظروا أكثر من موسم واحد لتحقيق كل مطالبهم. فيرد نتالي بأنهم انتظروا لألف موسم، وأنهم يريدون حكم أنفسهم بأنفسهم بأي طريقة ممكنة، وهو الأمر الذي يؤمّن عليه نجاجو الذي كان يراقب الحوار صامتا، هنا يختم بيتر حديثه متوجها إلى تشيمبا الذي يدعوه بالهائم جواب الآفاق الذي عاد بعد التيه بلسان الرجل الأبيض، ويتمنى ألا يكون قد عاد بقلبه؟! وفجأة يختفي نجاجو، ويظهر أبيوسا من بعيد في الأفق، فيقول له نتالي سوف أخبر المجلس، ويسأله تشيمبا وهو يشير لأبيوسا: ألن تحاول تجنيده؟ فيرد إننا لا نجند البيض! وينصرف فيقبل ابيوسا ويسأل أخوه ماذا كان يفعل بيتر هنا؟ فيرد عليه جاء ليذكرنا بضرورة أن نكون أبناء أبينا!

وهكذا ينتهي المشهد على هذا الجدل الذي ستتردد أصداؤه في كتابات فرانز فانون الاستشرافية العميقة. لينتقل المشهد التالي إلى البعثة في تلك الحركة البندولية الدرامية الدالة على البنية الجدلية للمسرحية نفسها في تطوير حدثها بين الموقعين بالمعنى المكاني والفكري على السواء. حيث يتحرك الحدث الدرامي بين الكوخ والبعثة التي ترمز لواقع المستوطنين البيض ومحاولتهم لحكم البلاد، في واقع بدأت فيه مقاومة أهلها لهم ورفضهم إياهم، بعدما كانوا يرحبون بهم في أكواخهم، ورغبتهم في إدارة بلادهم والحصول على حريتهم وحقوقهم السياسية فيها.

لذلك ينفتح المشهد في البعثة على ضوضاء مرتفعة نسمع فيها صوت العقيد رايس وهو يصرخ لقد تبنينا هذه الإجراءات لأسباب وجيهة، مهرولا وراء الطبيب ويلي ديكوفن الذي يتصبب عرقا وهو يحمل طفلا أفريقيا مريضا، ورايس من ورائه يصرخ ولن أتسامح أبدا في عدم الالتزام بها! فأنا مسؤول عن كل حياة في هذه المنطقة بما فيها حياتك أنت. وما أن يصل ويلي لمقر البعثة حتى ينادي على مارتا صارخا، حالة حمى، ويطلب من بيتر المساعدة أيضا، وهو يشكر العقيد رايس كي يتخلص منه، لكن رايس يصّر: إذا لم تلتزم البعثة بتعليماتي فسوف أغلق المستشفى. فيعبر ويلي عن ضيقه به مطالبا إيه بأن يخفض صوته، لأن هذه مستشفى وليست وحدة عسكرية. بينما تحقن مارتا الطفل المحموم، ويسلمه ويلي لبيتر كي يضعه في غرفة العناية. لكن رايس مازال يواصل تشنجاته رافضا تعريض ويلي نفسه للخطر لذهابه وحده للقرية، لأنه بذلك يتحول لهدف سهل للمقاومة.

فيتدخل تشارلي الذي كان يراقب الموقف لتهدئته، ويقول له أنه لا يمكن لويلي أن يكون أكثر أمانا مثلما يكون وهو يحمل طفلا أفريقيا محموما. فيرفض هذه الحجة مؤكدا أن سلام المنطقة يعتمد على قداسة أرواح البيض فيها، وما أن يتم كسر هذه القداسة حتى يصبح ممكنا أن يجتاح ملايين الأفارقة المكان. خاصة وأنه قد تم اعتقال كومالو حينما وصل إلى المطار هذا الصباح. وهو الأمر الذي يعتبره تشارلي نوعا من الجنون، لأن الحكومة البيضاء هي التي دعته للتفاوض معه. ولا يجد رايس تبريرا له، إلا أنه تلقى هذا الخبر في الصباح، وأن هناك مؤامرة ضد الأمن في المستعمرة، دفعت الحكومة إلى اعتقال كل العناصر المخربة، كنوع من الإجراءات الاحترازية. مما يثير غضب تشارلي، ولكن مارتا تذكره بأنه ستتم محاكمته، وأن ما تقدمه محاكم المستعمرة أفضل كثيرا مما قدمته أميركا للسود. ولا يتدخل رايس في هذا الجدل، ولكنه يخبر مدام نيلسون بأنه مضطر لأن يودع بعض قواته في البعثة مما يقلقها كثيرا، فتطلب منه تأجيل الأمر حتى يعود الأب نيلسون، لكنه يصر أنه أمر لا يحتمل التأخير، فتخبره بأن الأب نيلسون لم يبن البعثة كي تصبح مقرا حربيا فيخبرها بضرورة أن تُعلِم الأب بأنه بدون القوة العسكرية فلن تكون هناك بعثة.

ويدفع هذا الحوار ويلي إلى التعليق ساخرا بأن هذا من أجل أمن المستعمرة وسلامة سكانها. ثم يواصل بعدما لا يترك لهم رايس خيارا، دعنا ننقل المجذومين مع مرضى الملاريا في جناح واحد، ونفرغ جناحا آخر للجنود، أم تريدنا أن نفرغ جناحا ثالثا لمن تنوي اعتقالهم من المخربين؟! وتغيظ مثل تلك التعليقات رايس، فيحاول أن يبرهن لتشارلي أن هناك بعض الأفارقة الذين يقبلون عن طيب خاطر بالسلطة البيضاء. فيستدعي بيتر، ويسأله عما إذا كان يعتقد أن كل الأمور هنا على ما يرام وأنه راضٍ عن كل شيء. فيجيب بيتر على كل أسئلته بطريقة مهذبة، نعم سيدي، وهي تلك التي درّب عليها السود في علاقتهم بالبيض. ولما يطلب منه تشارلي أن يكف عن تعريض بيتر لذلك القدر من الهوان، يرفض ويصر على مواصلة استعراضه، فيردد على مسامعة وبلكنة الزنجي غير المتعلم كل الخطاب الأبيض الممجوج، من أن البيض جاءوا للعيش هنا بسلام، وأنه لولاهم لانسدت الغابة على الأفارقة من جديد، ولرتعت في أحراشها ذبابة التسيتسي المدمرة من جديد، ولتحولت المياه فيها إلى رماد. والمدهش أن رايس لا يدرك ما ينطوي عليه كلامه من تهكم ومفارقة، ويطلب من تشارلي ألا ينسى أن يذكر أمثال بيتر في تقريره عما يدور هنا، ويطلب من بيتر أن يسلم له على زوجته، ثم ينصرف.

هنا يطلب تشارلي من مدام نيلسون أن تخبره بما كان سيفعله زوجها في موقف مثل هذا لو كان حاضرا. موقف تسيطر عليه غطرسة القوة وجنونها. فتقول أنها لا تعرف فيلح عليها أن تخبره بعدما عاشرته كل تلك السنين بما كان يمكن أن يفعله، فتصرّ على أنها لا تعرف، أكثر من أنه كان سيقول أنه قسيس وليس سياسيا. وأن عليه أن ينتظر حتى يعود كي يسأله بنفسه. ولكنه يتصور أن الموقف أشد حدة وخطورة من مثل تلك التعليقات، وأنه لا يحتمل الانتظار، ولابد من معرفة رأيه وسط هذا الجنون الذي يسيطر على الجميع، وأنه في حاجة إلى أن يبلغ مثل هذا الرأي للعالم الخارجي، لأنه إن كان ممكنا أن ينصت العالم الخارجي لرأي عاقل في هذا الموقف، فلن يكون إلا تورفالد نيلسون، الذي أصبح اسمه في الثقافة الغربية رديفا لأفريقيا. ولكنها تصرّ على أنها لا تستطيع أن تتحدث نيابة عنه، وأنها متعبة وتريد أن تنام، وتطلب من بيتر أن يقودها إلى غرفتها.

هنا يصل تشيمبا في ملابسه الغربية الكاملة، يبحث عن العقيد رايس، ويطلب من مدام نيلسون أن تقنعه بأن يوفر له الحماية كي يذهب للعاصمة للقاء كومالو. فيرد عليه تشارلي بأنه وصل بعد فوات الأوان، وتخبره مدام نيلسون أنهم اعتقلوا كومالو. ويردد تشيمبا غير مصدق «اعتقلوه!» بينما تلتقي عيناه بعيني بيتر فيخفضهما في اعتراف بأن هذا العجوز كان أبعد منه نظرا وأشد حكمة. ويتابع تشارلي إبلاغه بأنهم قبضوا عليه في المطار، وأن لديه اتصالاته، وسوف يعلم واشنطون بالأمر، فيرد عليه تشيمبا، بأن واشنطون تعلم بالأمر طوال الوقت. وينسحب، بينما يردد تشارلي بأنه سيفعل كل ما وسعه، فيرد عليه كل ما في وسعك؟! شكرا لك، وينسحب من المشهد.

ثم ينتقل بنا المشهد التالي إلى الكوخ حيث نسمع صوت قرع طبول من بعيد بينما نجد أبيوسا يقرأ في أنجيله. ويعبر عدد من الأفارقة بسرعة أمام الكوخ، وبينهم إريك الذي يبحث عن درع والده. وما أن يراه أبيوسا حتى يقول له أنه كان ينتظره، فيرد عليه بأنهم اعتقلوا كومالو، فيقول له وما شأنك أنت أيها الصبي؟ اجلس كي أتحدث معك عن مستقبلك! فيرد عليه بأنه يحتاجون لمحاربين، وأنه يريد أن يحمل حربة أبيه ودرعه، ويشارك في طرد المعتدين. وهنا يدخل تشيمبا، ويخبر إريك بأنه نصف أفريقي نصف أوروبي فأي نصف من نصفيه سيطرد؟ فيرد عليه لا تسخر مني تشيمبا، إنني أريد أن أصبح رجلا، وأن استجيب لنداء القبيلة إذا ما دعتني. فيرد عليه تشيمبا: وهل ستستجيب أيضا لنداء الطبيب إذا ما دعاك؟ إن الأمر يحتاج إلى أكثر من حربة ودرع كي تصبح رجلا! فيرد عليه ساخرا: هل يحتاج الأمر إذن إلى زوجة بيضاء وابن!؟ ولا يستجيب تشيمبا لاستفزازه، ولكنه يصرّ على منعه مؤكدا أنه ليس مستعدا لأن يكون محاربا بعد، لكنه يصرخ فيه دعني، فإنني أكرههم. هنا يتدخل أبيوسا سائلا لماذا تكرههم؟

فيتصدى تشيمبا للجواب موجها حديثه لأبيوسا: إنني اجدك أغرب منه، ولماذا لا يكرههم؟ هل امتلأت عيناك بالرب إلى حد منعك من رؤية ما جرى لأخيك؟ لكن أبيوسا يؤكد أنه جاء ليأخذ أخاه إلى سانت كي يتعلم ويصبح قسيسا، فيسخر تشيمبا من الأمر مؤكد له أنه لم يثق أبدا بمؤسسة الكنيسة، وبادعاءاتها أنها تمثل الرب الذي تستخدمه دوما لصالحها. ويصرّ أبيوسا على أنه سيأخذه معه، ولكن إريك يرفض مؤكدا أنه سيبقى هنا حيث ينتمي، وحيث استعاد معهم اسمه الإفريقي الذي سمته به امه: نجيدي وأنه قد أقسم أمامهم! فيسأله ابيوسا من هم: فيرد بيتر! ويدرك في اللحظة ذاتها أنه ما كان عليه أن يبوح باسمه، بعدما يتبادل نظرات دالة مع أخيه تشيمبا. لكن ابيوسا سرعان ما يتذكر أنه سمعه في الزيارة السابقة يقول إننا لا نجند الأوربيين! ويتوجه لتشيمبا سائلا: هل تعرف بالأمر؟ هل تعرف أنه يعمل ضد البيض وهم يثقون فيه! فيقول له إنه لا يفهم حقا هذا الأمر فيرد أبيوسا بأن ما يفهمه هو ضرورة إيقاف بيتر! لأن أمثاله هم الذين يجعلون الأمور صعبة بالنسبة لنا! ويسأله تشيمبا: من تقصد بهذه النحن؟

فيرد بأنهم العقلاء من أمثالنا الذين يدركون أن الأمور ستتغير بالتدريج عندما يسود العقل، وأن السود سيجلسون مع المستوطنين جنبا إلى جنب في المحاكم والكنائس والإدارات وحتى في الجيش! ويرد عليه تشيمبا ساخرا: يبدو أنك ملتزم بهم حتى النهاية! إن لدي السود الأمريكيين اسما لأمثالك، ولكنه يفتقر للثقل بالنسبة لك، لكنك تعرف بالتأكيد أن بين حواري المسيح من هو مثلك! فيرد عليه أبيوسا إنه ليس أنا من يمكن نعته بأنه يهوذا، وإنما أنت من باع نفسه للبيض كلية واختار الحياة بينهم في أوروبا، بينما بقيت أنا بين عشيرتي هنا أعمل من أجلهم. وكم صليت لأن تعمل معي وأن يهديك الرب لخدمة أهلك وعشيرتك، ولكنك لم تعد تؤمن بشيء، وقد وضعت الإنسان مكان الرب، ولم تعد تخدم لا الرب ولا الإنسان. ويستدير ليذهب، ولما يسأله أين ستذهب، يرد عليه إلى العقيد رايس، فلابد من إيقاف هؤلاء القتلة. فيطلب منه تشيمبا: لا تتدخل في هذا الأمر يا أبيوسا، فهو عجوز وقد ساعد في تربيتنا جميعا! إنهم سيقتلونه لو فعلت! ويحاول إيقافه مستعيدا معه ذكريات صباهما، ولكنه يرفض، طالبا منه أن يقتله لو أراد أن يختار العنف، لكنه اختار طريق الرب. فيتركه يذهب.

وينتقل بنا المشهد التالي للبعثة حيث نجد تشارلي يشكو من عزلته ومن لاجدوى ما يكتبه، فقد انقطعت سبل الاتصالات كلها. ويطالبه الطبيب ويلي ديكوفن بأن يتخلى عن حلمه بأن يظهر الأب نيلسون فجأة، ويتدخل للإفراج عن كومالو وتحكيم العقل. هنا يأتي تشيمبا ويسأل عن بيتر، فيخبره الطبيب أنه ذهب إلى الجانب الآخر من النهر هذا الصباح، فيستأذن في البقاء لانتظاره. وينتظر. ويواصل تشارلي حديثه مع ويلي عن ظروف حياته هنا، وكيف أنه سمعه يقول أن مجيئه للعمل في أفريقيا أنقذ حياته وأن عليه أن يحكي له تلك القصة ليكتبها. لكن ويلي يبتعد به عن الأمور الشخصية، ويحدثه عما إذا كان يعرف أنه على مبعدة مئة كيلومتر من هنا ثمة مستشفى حديثة مجهزة بأحدث الإمكانيات. أما هنا فإننا نلف الأدوية في أوراق الموز كي نحميها من أن تفسد. ألم يسأل نفسه لماذا لم تمد الكهرباء إلى هنا؟ فالأمر لا يستغرق غير عدة أسابيع، وأسابيع أخرى لتعبيد الطريق. فيرد عليه بأن مارتا أخبرته بأنه لو تم تحديث المستشفى فلن يتردد عليها الأفارقة، وهو الأمر الذي يرجعه ويلي لعدم قدرتها على التعمق في فهم الأمور، وقبول ما يُقال لها على علّاته.

ويذكره ويلي بأن أول ما تفعله الدول الأفريقية فور استقلالها هو تشييد مستشفيات حديثة في كل مكان، وكيف أنها تعاني من الازدحام لشدة الحاجة لها بين السود. إن ما تحرص عليه الإدارة الاستعمارية ليس إدخال الأفارقة في القرن العشرين كما تزعم وإنما إبقائهم بعيدا عنه بقدر الإمكان. إن ما يحرص عليه البيض ليس تعليم الأفارقة لأنهم أذكياء ولن يعملوا لمصلحتنا إذا ما تعلموا، وإنما تلقينهم الحد الأدنى الذي يتيح لنا السيطرة عليهم واستغلالهم. هذا جزء من المشكلة! وحينما يبدو على تشارلي القلق يتدخل تشيمبا، يبدو أن الحقيقة تزعجك! فيرد إن الأمر يستغرق وقتا طويلا لتعليم السود. كم منهم يستطيع القراءة: فيرد تشيمبا قراءة لغة الطبول؟ الجميع، أما قراءة الكتب فلا يستطيعها إلا حفنة قليلة. هنا يواصل ويلي حديثه: «لقد أنشئت هذه البعثة هنا منذ أربعين عاما، والأمر يحتاج إلى خمسة وعشرين عاما لتعليم جيل من البشر! لكنك إذا ما نظرت حولك فلن تجد طبيبا أفريقيا واحدا. ولن يتغير الأمر حتى يحكموا أنفسهم بأنفسهم.»

وحينما يسأله تشارلي وماذا عن الجزء الآخر من المشكلة؟ الجزء الآخر يتعلق بموت الأوهام! لقد جئت هنا منذ اثني عشر عاما وأنا أعتقد أن باستطاعتي رفع المعاناة، ولكني اكتشفت أنني أعمل في المؤسسة التي تعمل على تكريسها! فيسأله تشارلي ألم تنقذ حياة البعض، فيرد نعم العشرات وربما المئات. لكني ساهمت في تكريس عملية إبادتهم الجماعية، وتكريس طريقة للعيش تبقيهم دوما عرضة للإبادة. كم كنت ساذجا وأنا أشاهد الوفد الأول. كانو يرسلون وفودا بعرائض تنطوي على مطالبهم سواء في الأرض، أو حقوق الرعي، أو تخفيض الضرائب، وكانوا يفدون أولا للبعثة لطلب رأي الأب نيلسون ومشورته. وكان يسامرهم ويضحك معهم، وكانوا يردون على ابتساماته بابتسامات مماثلة، ولكن لا يستجيب أحد لأي من مطالبهم. بل ربما تتقلص الأرض، أو تزداد الضرائب! حتى كانت المرة الأخيرة قبل سبع سنوات. حينما جاءوا يتقدمهم زعيمهم التقليدي، «أبيوسا الكبير»، بعريضة إلى الحاكم العام تطالب بدستور جديد يسمح للأفارقة بالتمثيل في المجلس النيابي، بصورة تتناسب مع عددهم بين السكان، ويمكنهم في الوقت نفسه من حكم بلادهم.

ولن أنسى أبدا التعبير الذي اعترى وجه الأب نيلسون بعد قراءة العريضة. وكيف نهض وفرد ذراعيه وكأنه يحتويهم، وهو يقول عودوا إلى أكواخكم يا أبنائي، وحتى تلك اللحظة لم أكن قد فهمت ما يدور من حولي، إلا من نظرة الرجل الآخر: أبيوسا الكبير، هنا تند عن تشيمبا كلمة أبي!؟ الذي وقف هناك متجهما لا يبتسم والورقة التي جمع عليها عشرات التوقيعات بلغتها الركيكة، ومطالبها البليغة والمستحيلة بالحرية، في يده! ولم يعد أبدا بعد ذلك. ويعقّب ويلي سوف يقتلوننا جميعا في هذه البعثة في يوم من الأيام! ويستدير لتشيما يسأله: أليس كذلك يا تشيمبا؟! لكن تشيمبا يغادر المشهد. ويواصل ويلي تنوير تشارلي بما يدور، مؤكدا له أن شمس الحرية قد بدأت تسطع، وأن الأفارقة متشوقون لجلبها لبلادهم مهما كان الثمن، وهم على استعداد لدفع ثمن تلك الحرية المستحيلة!

أما نحن فإننا لسنا على استعداد لأن نفهمهم أو نعطيها لهم، وتلك هي مأساة تلك العلاقة المعقدة بين الجانبين. هنا يتساءل تشارلي لابد أن والد تشيمبا كان شخصا استثنائيا! يربي الولد، ولكنه يواصل علاقته مع القس نيلسون! فيستغرب ويلي متسائلا أي ولد؟ فيرد: إيريك! أليس ثمرة العلاقة المحرمة بين القس نيلسون وأم أبيوسا؟ فيتذكر ويلي الموقف، نعم لقد ماتت الأم أثناء الولادة، وتقول القبيلة أنها ماتت من العار، لكنه لم يكن القس نيلسون، وإنما جورج رايس! ويتساءل تشارلي العقيد رايس! فيرد نعم! إنه فعلا جزء من تعقيدات هذه البلاد.

هنا يدخل بيتر فيخبره ويلي بأن تشيمبا يبحث عنه، فيسارع للحاق به، لكن المسرحية بارعة في إرهاف حدة التوقع، وانتظار إماطة اللثام عما جرى وراء الستار. إذ نسمع صوت وصول سيارة، ويقفز منها رايس ويكون أول ما يفعله أن ينادي على بيتر قبل اختفائه في الغابة خلف تشيمبا، الذي يرجع للحديث معه، وأن يعلن أنه حدثت غارة على «منوبة» شنها مئتين من السود، وكان القس نيلسون بين من ذبحوا! ويطلب مشروبا، فيقدمه له بيتر، فيشكره! ويستطرد مئتي أسود إنها مجرد البداية، ولكن لا فرصة أمامهم حقا، لأننا سنبدأ غدا هجوما منسقا بالمشاة والقاذفات والمروحيات، وها هو صوت القاذفات! أتسمعه، وحينما يحاول بيتر المغادرة يأمره رايس بحزم لا تذهب! لن تستطيع أي حربة أن تسقط واحدة من تلك القاذفات! أليس كذلك يا بيتر! فيجيب نعم سيدي، فيرد شكرا نتالي! فيخرج بيتر جاريا، وفي اللحظة التالية تلاحقه طلقات الجنود ومسدس رايس! فيسقط مضرجا في دمائه تحت قدمي تشيمبا! ويوجه الجنود بنادقهم لتشيمبا! بينما يصلي أبيوسا، ويرسم رايس علامة الصليب على جسد بيتر! وسط سماع أزيز الطائرات وانفجارات القذائف!

وينتقل المشهد إلى الغابة هذه المرة، أو إلى فضاء تم استهداف كل ما كان به من أكواخ وهرب سكانه الذين استطاعوا الهرب، حيث تتناثر بقايا الجثث وآثار القصف والدمار، ويتناثر في المشهد معها بعض المحاربين السود من (جيش تحرير الأرض) وقد أخذ المشهد كله شكل الرقصة الإفريقية الإيمائية الطقسية، التي يتحرك فيها الجميع بخفوت، على وقع همسات صوت نجاجو الذي آلت له فيما يبدو قيادة الفريق، وهو يكشف للجميع عن تجليات آخر شلالات الدم التي أراقها الغزاة لألف موسم، وعن ضرورة القضاء عليهم أينما كانوا، وحيثما حلّوا كي تشرق الشمس على الأرض والحرية. ويتحول المشهد إلى نوع من الرقص الطقسي الأفريقي، وقد تمددت ظلال المحاربين في الغابة واختلطت بأشباحها. وهو مشهد تتسم فيه كلمة نجاجو بالتكرار الذي تتميز به التراتيل الطقسية.

ثم ننتقل في المشهد التالي إلى البعثة حيث يستعد تشارلي للرحيل، وقد جاء إيريك ليحمل حقائبه، بينما تجلس مدام نيلسون في الردهة بملابس الحداد، وخلفها نعش زوجها، وتحاول مارتا أن تشد أزرها، بينما يودعها تشارلي، ثم يقبل تشيمبا في كامل ملابسه الأوروبية، ويحاول تشارلي أن يودعه أيضا وهو يعرب له عن أسفه عن كل شيء فيشكره. لكن المسرحية تصرّ حتى اللحظة الأخيرة على إثبات استحالة التواصل بينهما، حيث يدور جدل أخير بينهما بشأن تصور تشيمبا للكتاب الذي سيكتبه تشارلي عن الأسبوع الذي قضاه في أفريقيا، والذي يتصور أنه سيدور حول الخطاب التقليدي عن كيف أن البعثة البيضاء حاولت تمدين الأفارقة المتخلفين بلا جدوى، وكيف أن القس الذي حاول هدايتهم للمسيح انتهى به الأمر إلى الذبح، إلى أن يكون مسيحا آخر بلا جدوى.

لكن تشارلي يغضب ويخبره أنه كان يفكر حقا في كتابة كتاب عن زيارته في بداية الأمر، ولكنه تخلى عن الفكرة بعدما غيرته تلك الزيارة، وبعدما اكتشف أن الأمور أكثر تعقيدا مما تصور. ويغضب من تشيمبا، مؤكدا أنه ليس من حقه إدانته، وإنما عليه أن ينظر إلى نفسه، وكيف أنه يهرب من الموقف، ليشاهده على التلفاز من بيته المريح في لندن. وأن عليه أن يدرك أنه ينحاز إلى جانبه وأنه سيفعل ما بوسعه أن يفعله كتشارلي الفرد، وليس كممثل للرجل الأبيض، وينصرف.

ثم يتوجه تشيمبا إلى مدام نيلسون يواسيها ويسألها عما ستفعله بعد موت زوجها، وهل ستعود إلى بلادها؟ فتؤكد له أن الإنسان عادة يعود إلى وطنه ليموت وأن هذا وطنها، لذلك ستبقى هنا كي تموت هنا. ويسألها: هل كنت تتصورين حينما جئت هنا لأول مرة أنك ستبقين هنا وستموتين هنا؟ وترد عليه بأنها أحست وقتها بأن هذا المكان هو مصيرها منذ وطأت قدماها الساحل الأفريقي. وحينما يسألها عن زوجها تورفالد، تستعيد ذكريات شبابهما الجميل معا، وكيف أنه فعل هنا الكثير من الأشياء الإيجابية. وحينما يسألها ولكن لماذا ترك أمي تموت بالشكل الذي ماتت به، تقول: «إنه بالرغم من أنه يحمل رسالة الرب كان رجلا أبيض في أفريقيا السوداء. وكان الأمر بالنسبة له واضحا، أن الطفل كان ثمرة الشر المتمثل في عبور الحاجز العرقي والديني معا، وكان لابد من تركهما كي يقرر الرب وحده مصيرهما، دون تدخل من أحد. وأنه لم يغفر لها أبدا تدخلها وإنقاذها للطفل: إيريك. عليك أن تدرك أن إيريك كان تجسيدا لكل ما عمل ضده، أو حاول أن يغيره، تجسيدا لثلاثة قرون من اغتصاب أفريقيا، ومن تبرئة الذات الغربية. كان يريد ترك الطفل كي يموت، وترك أمك كي تموت. فهل تكرهنا يا تشيمبا؟!»

لكن تشيمبا يضع ذراعيه حولها، ويؤكد لها أنه شاهد جبلها في مدينتها الأصلية، وشاهد كيف تألقت أوروبا، وتعلم منها أن الكون يتسع لأكثر من نجمة، وأن ما يريد أن يفعله هو أن يعود لبيته، ويرعى طفله، ويواصل حياة بسيطة في لندن، ويود لو كان باستطاعته أن يأخذ أخواه معه، وأن يعيد بيتر للحياة، وأنه لو كان باستطاعته أن يفتح أبواب الزنزانة التي يحتجزون فيها كومالو وأن يطلق سراحه لفعل. لكنه مجرد فرد واحد، ويعرف أنه لن يستطيع أن يعيد بيتر للحياة. ثم ينهار بين ذراعيها ويبكي، وهو يقول لها إنه يكذب على نفسه، وإنه يكذب عليها أيضا، وإنه يعرف ما يتوجب عليه عمله، فتحثه على أن يعمل ما يجب عليه عمله! وتقول له إن بلادنا تحتاج إلى محاربين، إن أفريقيا تحتاج إلى محاربين مثل أبيك! فيسألها: هل كنت تعلمين عن أبي؟ فترد الآن أكثر من أي وقت مضى! أذهب إذن واتركني مع زوجي! فينصرف!

ثم نسمع صوت عواء/ ضحكات الضباع بينما تخفت الإضاءة، وتضاء بعض الفوانيس في ردهة البعثة، ثم يدخل أبيوسا ويضع يديه على الكفن، ويحدث مدام نيلسون عن كيف كان زوجها رجلا عظيما، وكيف أنه كان سيشيد بما قمت به من أجل مجد الرب، أليس كذلك، لقد قمت بالشيء الصحيح كي أنهي العنف! فمن يريدون العنف لابد أن يواجهوا بالعنف! هنا يدخل تشيمبا من جديد، وقد ارتدى ملابس أبيه التقليدية التي استخدمها في زيارته الأخيرة للبعثة، ويحاول أبيوسا الهرب، وتسمع أصوات محاربين آخرين يقبلون تجاهه ويمنعونه من الخروج وفي مقدمتهم إيريك يحمل حربة وقنبلة يدوية، ويتقدم تشيمبا صوب أخيه، ويصوب مسدسه نحوه ويقتله، بينما يقبل عدد من الجنود يطلقون النار، وفي تبادل إطلاق النار تسقط مدام نيلسون فيهرع تشيمبا إليها يسندها ويسديها إلى جانب أخيه القتيل، فقد اختار تشيمبا قتل أخيه الذي أصبح خائنا لقضية شعبه وعميلا للبيض، وهو القتل الذي يؤدي إلى قتل أمه الاستعارية البيضاء التي رعته منذ كان طفلا. وبينما يهرب المحاربون تظهر في الأفق الراقصة الأفريقية التي ظهرت في بداية المسرحية كي ينتهي بطقسها العرض، كما بدأ به.

المسرح الكلاسيكي وطرح الأسئلة الصعبة:
لقد أسهبت في عرض أحداث المسرحية بالتفصيل لأنها في اعتقادي غير متاحة في أي ترجمة عربية. ولأنها مسرحية جميلة وعميقة على كل المستويات الدرامية والفكرية على السواء. فعلى المستوى الدرامي نحن بإزاء مسرحية محكمة البناء، تدرك أهمية تطور الحدث ودوافع الشخصيات، وتحرص على طرح عدد من الاختيارات أمام شخصياتها كي يتكون الموقف من الشخصية من خلال الحدث والاختيار. تبدأ تلك البداية الطقسية التي تقدم فيها الراقصة الأفريقية كلا من البعد الطقسي ودور الكورس في المسرح الكلاسيكي، ولكنه هنا كورس أفريقي شامل يتنطوى على وحدة الطبيعة، الإنسان والطيور والجنادب والحيوان، في القارة الأفريقية التي تتغلغل أساطيرها في حياة حيواناتها، كما هو الحال في أسطورة/ حكاية مودنجو التي تضيء لنا ببصيرتها الموقف وتستشرف مساراته في وقت واحد. وتبدأ المسرحية، بعد استهلالها الطقسي الصامت الذي يطرح لغة الطبيعة والحركة الإيمائية كأدوات مشاركة في بنية العمل، بتقديم شخصياتها في نوع من التراتب المبني على علاقات القوة في الواقع الذي تصوره وتتناول مشاكله.

ومع أنها تبدأ بالشخصيات الأساسية البيضاء مثل الأميركي تشارلي والطبيبين ويلي ومارتا، ومدام نيلسون، فإنها تحرص منذ مشهدها الأول على إظهار أن حياة هذه الشخصيات اليومية العادية تعتمد على السود، ويكون بيتر هو أول شخصيات المسرحية السوداء، يعقبه إيريك في الظهور مما يشي بوعي النص بلفت انتباه المشاهد لأهميتهما، برغم ثانوية دورهما. كما أن حرصها على إبقاء أهم شخصياتها البيضاء غائبا عن النص برغم أهميته فيه، وهو الأب/ القس تورفالد نيلسون، ينطوي هو الآخر على حصافة درامية تغيب الذراع الناعم لآليات الهيمنة البيضاء، بالمعنى الجرامشي، وتكتفي بإبراز ذراعها الباطش الفظ الذي يمثله العقيد رايس. ولا تقدم لنا بطلها الأفريقي الأساسي «تشيمبا»، والذي يمكن أن ندعوه بهاملت الأفريقي، إلا مع المشهد الثاني في الفصل الأول، وفي وسط عالمه الأفريقي، كوخ الأسرة والذي كان كوخ الأب «أبيوسا الكبير» عقب موته، ووصول ابنه كي يواصل رسالته على مستوى من مستويات الدراما في هذه المسرحية. فالمسرحية تحرص على أهمية الجدل بين الشخصيات والمكان ودلالاته.

وتواصل المسرحية بعد تقديم كل شخصياتها البيضاء منها والسوداء، عملية التفتح التدريجي للحدث بنفس المهارة. فنحن نسمع منذ المشهد الأول صوت قرع الطبول الأفريقية، ونعرف عبر مدام نيلسون القادرة على قراءة لغة الطبول أنها إعلانا عن موت شخص مهم في القبيلة، وأنه لم يعد أحد يتردد على البعثة ليخبرها من هو، إلا عندما يصل تشيمبا في المشهد الثاني ونعرف أن الشخص المهم الذي مات هو أبوه وهو الأمر الذي ستذكرنا به مدام نيلسون حينما يأتي تشيمبا لزيارتها. ويظل هذا الوعي بأهمية بث بذور التوقع ثم إشباعها بعد قليل منهج المسرحية في تطوير الحدث. لأننا ندرك من ضيق مدام نيسلون مثلا بأسئلة تشارلي المتكررة، وطلبه منها أن تخبره عما كان يمكن للقس نيلسون أن يصرح به في مثل هذا الموقف، ليس فقط أنها ترفض الحديث بالنيابة عنه، ولكن أيضا أن هذا الرفض لابد وأنه ينطوي على نوع من استهجان ما كان يمكن أن يصدر عنه. وهو الأمر الذي يتأكد لنا حينما نعرف أنه لم يغفر لها تدخلها لإنقاذ الطفل إيريك، ولمساعدة أمه «أكوا» التي كانت أعز صديقاتها في واحدة من أشد لحظات حياتها حاجة إليها، وهي لحظة وضع جنينها المرفوض، لأنه كان يريد ترك مصير الأم وجنينها في يد الرب، أي في يد الموت.

أما إذا ما انتقلنا للشخصيات فنكتشف مدى نجاح الكاتبة في خلق شخصيات درامية حيّة، تتسم بالتطور والكثافة والعمق. استطاعت عبرها الخروج من أنشوطة الثنائيات التبسيطية، حيث لا تضع البيض جميعا في سلة واحدة، فهناك بالقطع العقيد رايس الذي يجسد السلطة الاستعمارية بكل ما تمثله من عنف وفجاجة. وهناك أيضا الغائب الحاضر دوما الأب نيلسون الذي يجسد الجانب الناعم من عملية الهيمنة البيضاء المنظمة. فقد أراد، كما نعرف، أن يموت الطفل وأن تموت الأم معه، ولم يغفر لزوجته أنها ساعدت أعز صديقاتها، مع أنها لم تتمكن من إنقاذ حياتها، في ميلاد الطفل، لأنه كما تخبرنا زوجته كان واعيا بأن «آكوا» قد تخطت خط نقاء العرق الأحمر، وهو في هذا متسق مع نفاق المؤسسة التي تتهم المرأة/ الضحية بدلا من الرجل/ الجاني، ولذلك عليها أن تموت. كما أن ميلاد إيريك هو الشهادة الحية على قرون ثلاثة من الاغتصاب ونكران الذنب، وتبرئة الذات. إننا هنا بإزاء شخص يعي أهمية دوره في عملية الهيمنة الناعمة البيضاء.

ولكن هناك في الوقت نفسه شخصية تشارلي موريس Charlie Morris الصحفي الأمريكي من ولاية نبراسكا في الوسط الأمريكي التقليدي، الذي يسعى لفهم الموقف الراهن، ولعب دور الشاهد النزيه، ويريد التملص من نمط الأميركي القبيح، ولكن تاريخا كاملا من المضمرات الثقافية يحول بينه وبين ذلك، رغم أنه يطرح أسئلته الحرجة: هل تبرر سنوات العذاب والهوان والعبودية التي ارتكبها المستوطنون/ المستعمرون البيض في الماضي أن يقتل ضحايا هذا الماضي الاستعماري الأبرياء البيض من النساء والأطفال في الحاضر؟ وهو شخصية تكشف عن المزيج المعقد من الجهل والاستعلاء الأمريكي الأبيض والبحث عن إجابات سهلة وسطحية لوضع بالغ التعقيد، بصورة تتيح للمسرحية أن تدير عبر حوارات تشيمبا معه أهم قضاياها الفكرية عن العنصرية وما تطرحه من أغاليط تموه بها على حقيقة ما يدور. صحيح أنه يتسلح بنوايا طيبة، ولكن في أتون الصراع من أجل الاستقلال فإن زمن النوايا الطيبة قد ولى أو فات.

وهناك الطبيب ويلي ديكوفن الذي جاء إلى أفريقيا استجابة للخطاب الإيجابي عن دور الإنسان في تخفيف المعاناة عمن هم أقل منه حظا، واكتشف لمرارة المفارقة أنه لا يفعل أكثر من تكريس أبشع أشكال الإبادة الجماعية، بعدما انقشعت الغمامة عن عينيه، وبدأ يرى الأمور على حقيقتها ويستهجنها، ولكنه عاجز في الوقت نفسه عن تغييرها. وبين تشارلي وويلي الذي يدرك أن السياسات الاستعمارية بكل عنفها الذي يمثله رايس، هي التي دفعت السود للعنف المضاد. بعدما استنفدوا كل الوسائل السلمية في النضال دون جدوى، تطرح المسرحية بعض أهم أسئلتها المدببة. ناهيك عن أهمية دور مدام نيلسون التي ساهمت في تنشئة تشيمبا، وحاولت قدر استطاعتها أن تكون حقا مسيحية بالمعنى الديني الحقيقي، وأن تساعد صديقتها في وقت الحاجة، وليس بالمعنى المؤسسي الذي يضع مؤسسة الكنيسة في قلب مؤسسة السلطة الاستعمارية، وأحد أذرعها الفاعلة.

أما مارتا، فإنها صورة البيض الطيبين الذين يرتلون آيات الإنجيل، ويكررون ما يقال لهم دون تفكير لترسيخ الخطاب السائد، ويساهمون في علاج المرضى، وهناك أيضا أسلافهم البيض الذين اغتصبوا المنطقة ونهبوها واستعمروها ولايزالون يديرونها حتى اليوم بالحديد والنار. هل مسح المبشرون الذين يعظون الناس ويديرون مصحات علاجهم آثار خطايا الأسلاف من العبودية والاستعمار؟ هذا أحد الأسئلة المدببة التي تطرحها المسرحية، في أكثر من مشهد من مشاهدها، والتي لا تصل فيها إلى حل نهائي، بل تتركها مفتوحة للمشاهد.

أما على الجانب الآخر، فإن بيتر هو أول من يظهر من السود في المسرحية، حافيا وعاملا في البعثة، وهو في الوقت نفسه من سيحمل لواء الأب في النضال من أجل حصول السود على حقوقهم، وكيف أنها  تقدم لنا السود منذ الوهلة الأولى بصورة نكتشف معها فيما بعد أنهم متعددو الأدوار والاقنعة في المحل الأول. لكن بطل المسرحية الذي عاد من لندن إلى أفريقيا فهو تشيمبا Tshembe الذي عاد إلى بلده ليشارك في جنازة أبيه ودفنه، وسط دمدمات الصراع من أجل الاستقلال ورغبة قبيلته في أن يتولى زعامة صراعها المسلح ضد المستعمر. ويواجه تشيمبا حيرة هاملتية واضحة؛ لأنه مشدود طوال المسرحية بين خيارين أحلاهما مرّ. هل يستجيب لنداء الواجب/ القبيلة/ الأسلاف الذي عاد إلى القرية من أجل المشاركة في دفن أبيه، أقربهم إليه؟ أم يعود ليواصل حياته الهادئة في الغرب الاستعماري ذاته، والذي تزوج من إحدى نسائه وانجب منها طفلا هو أيضا في مسيس الحاجة له؟ وهي حيرة هاملتية لا تتخبط في سمادير الجنون أو ادعاءاته كما هي الحال في (هاملت)؛ ولكنها تسعى بوعي وعمق واضحين لدراسة اختياراتها وفهم دوافع أفعالها وضرورات مجتمعها. إذ تضع هانزبيري الهم الأفريقي العام، وهو في حقيقة الأمر قضية أكبر من قضية الثأر للأب المغدور في (هاملت)، مقابل الهم الفردي أو المسؤولية الشخصية عن تنشئة الابن الهجين، وهو مرآة معاكسه لأخيه إيريك، والذي تركه وراءه في لندن، وإن كان اختيار إيريك الانضمام للثوار يعد استشرافا مضمرا لمستقبله غير المنظور. وعلى العكس من (هاملت) الذي أصبح علامة على الحيرة الفردية، حرصت هانزبيري على تفنيد دوافع شخصيتها بعقلية ومنطق واضحين، يلعب فيها العنصر التاريخي والاجتماعي دورا لا يقل أهمية عن ذلك الذي يلعبه العنصر الفردي أو الشخصي. ومن هنا لا ينفصل الاجتماعي والوطني عن الفردي عندها في تعاملها الدرامي مع تلك الحيرة.

وفي مقابل تشيمبا، الشخصية الهاملتية الأكثر تعقيدا، من تجربته الواسعة بالعالمين الأفريقي والغربي القدرة على فهم الجانبين؛ لأنه استطاع أن يستوعب الميراثين الأفريقي والغربي على السواء. وهي قدرة تضعه في مواجهة مباشرة مع تاريخه الإفريقي نفسه، وهو الأمر الذي يجعل موقفه أعمق دلالة من أي من الشخصيات الأخرى. وفي مقابل تشيمبا لا تضع المسرحية شخصية الأميركي تشارلي موريس في سعيه لأن يفهم العالمين أو ادعائه القدرة على ذلك، فحسب؛ وإنما تضع شخصية أخيه الأكبر أبيوسا الذي اختار طريق الدين كخلاص يتيح نوعا من مشاركة البيض في السلطة، فقد تخلى عن طريق النضال الأفريقي، من أجل طريق الإله الكاثوليكي.

وبالتالي فإنه ضد عنف القبيلة وحربها التحررية، بل إنه يخون من يتزعمون الصراع المسلح فيها ويشي بأسمائهم للشرطة المحلية/ الاستعمارية بالطبع، وهو يعرف أن هذا الأمر سيؤدي للقتل دون أي محاكمة.

وحتى نفهم ما ينطوي عليه موقف المسرحية في هذا المجال، واختيارها لتصوير دور الدين فيها بين نيلسون وأبيوسا، علينا أن نذكر أن هانزبيري، كما تكتب في مذكراتها، لا تنسى فيلما وثائقيا من نوع الجريدة السينمائية، شاهدته في طفولتها عن الغزو الإيطالي لأثيوبيا، وعن مباركة البابا لموسوليني ولجيشه المسافر لغزوها، وكيف قالت لها أمها إن عليها ألا تنسى ما تمثله الكنيسة الكاثوليكية في هذا المضمار. لكن دعنا نعد لموضوع التوتر الدرامي العميق بين الأخين: أبيوسا وتشيمبا، وصراع كل منهما مع الآخر لكسب الجيل الثاني الذي يمثله إيريك كل لطريقه. فالمسرحية تنتهي كما رأينا بانضمام إيريك للثوار، ليس عبر تشيمبا، الذي لم يكن قد قرر بعد ذلك، وإنما بطريقته الخاصة في البحث عن نفسه، واختيار هويته. فالحيرة الهاملتية التي عانى منها تشيمبا طويلا، لم يقع فيها أخوه الأصغر. بل استطاع أن يتجاوزها بسرعة، وأن يحمل درع أبيه الثقافي لا البيولوجي وحربته.

والواقع أن التوازي مع هاملت أمر بالغ الوضوح في المسرحية، لكن هانزبيري لا تريد أن تقتصر مسرحيتها على تلك الإشارة الغربية، وإنما كانت حريصة على أن تجذر الحيرة في التراث الأفريقي نفسه، حينما يحكي نتالي لتشيمبا عن حيرة الضبع الحكيم مودينجو Modingo حينما سألته الضباع، وهي أول الكائنات التي احتلت الأدغال المجاورة عما تفعل في طلب الفيلة أن تخلي لها قسما كبيرا من الأدغال التي استمتعت بها على مر الزمن، لأنها أكبر حجما. يتأمل مودينجو، والذي يعني اسمه «الشخص الذي يفكر كثيرا قبل أن يفعل» القضية ويفهم دوافع الجانبين، ويطلب من الضباع مهلة كي يفكر ويقلب الأمر على جانبيه. هنا تضحك القبيلة على القصة ضحكا تمتزج فيه السخرية بالبكاء، لأنه بينما كان يواصل مودنجو تفكيره في الأمر، احتلت الفيلة المكان وطردت منه الضباع حتى اليوم. ومن يومها والضباع تضحك هذه الضحكة الملتوية المرة، لأن مهلة التفكير قد استخدمت ضدهم وضيّعتهم. فليس في مثل هذا الوضع مكان لترف الحيرة الهاملتية، وإنما لمزيج من الضحك المرّ والبكاء الذي ينتهي به أمر تشيمبا فيهاـ لأن كل لحظة ضيعها تشيمبا في حيرته كان لها ثمن فادح دفعه بيتر أولا، ثم ها هو يدفع بعضه بالمواجهة مع أخيه ثانيا. وهو الأمر الذي يؤدي بدوره إلى القضاء أيضا على أسطورة أن اللون لا يهم، لأن البشر متساوون برغم لون بشرتهم، بالكشف عن أن العنصرية ليست إلا أداة من أدوات القهر الذي يتذرع بالدين مرة، وباللون أخرى.

 

هوامش:
(1) هذه إشارة لواقعة تاريخية حقيقية من وقائع الاستعمار الغربي للقارة الأفريقية عثرت عليها هانزبيري في بحثها أثناء كتابة المسرحية، حينما أمر الملك ليوبولد، ملك بلجيكا، بقطع اليد اليمنى لكل شباب القبيلة التي تمرد بعض أفرادها في الكونغو كإجراء وقائي كما قال.