يكشف الدبلوماسي الليبي السابق في هذه المقالة عن طبيعة الحرب المستعرة الآن بين الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا، وعن كيف أنها أشد ضراوة من الحرب الباردة، وأقل تكلفة بالنسبة لأميركا من الحرب التقليدية، ولكنها تستأدي روسيا ثمنا باهظا أشد كثيرا مما دفعته في الحرب الباردة.

الاستراتيجية الامريكية ضد روسيا

العقوبات الاقتصادية والمالية

عبد السلام الرقيعي

غني عن القول ان برنامج السيد "باراك اوباما" الذي طرحه في الانتخابات الرئاسية، كان يرتكز على نقطة محورية هي سحب جنود قوات المشاة او غيرهم من العسكر الاميركيين الذين يقاتلون على الارض، من ميادين القتال اينما كانت سواء في العراق او افغانستان او غيرهما، والعمل على عدم اقحامهم مستقبلاً في اية عمليات عسكرية ارضية واسعة النطاق. حتى انه ترآى للمراقبين ان هذا البرنامج يبدو نشازاً في سلسلة استراتيجيات اميركا بعد ان خرجت من عزلتها وتقوقعها، وطفقت بالولوج الفعلي في القضايا والنزاعات العالمية، حيث امست الحروب منذ ذلك الوقت علامة فارقة في الاستراتيجيات الاميركية، وبطبيعة الحال في سياساتها الخارجية، التي ما انفكت تعتمد سياسة - العصا والجزرة - حتى يومنا هذا، بل ان الحرب صارت ديدن لكل من يسكن البيت الابيض، وبات لكل من رؤساء امريكا حربه الخاصة التي ينبغي ان تدون في خانة انجازاته.

وكان يبدو ظاهرياً لأول وهلة، ان السيد "اوباما" ببرنامجه هذا وكانه قد عاد بالاستراتيجيات الاميركية الى سياسة التقوقع والعزلة الاميركية عن مشاكل العالم. ولعله يكون هذا الظن قد زاد اثر تحول الاهتمام الاستراتيجي الاميركي من الشرق الاوسط والخليج العربي، الى الشرق الاقصى حيث تقبع هنالك الصين ذلك "التنين الاصفر"، وهناك ايضاً تظهر ملامح نشوء قوة عالمية جديدة هي الهند، وكانها "فيل" استشعر لتوه قوته وشرع يدس خرطومه في الشأن العالمي، كما تربض هناك اليابان وكوريا الجنوبية والفلبين واندونيسيا وماليزيا وتايوان وفيتنام تلك الدول الحليفة او الصديقة لأميركا، هناك تمتد كذلك مرابض "الدب" الروسي.

ومن هناك فقط يتسنى "للنسر" الامريكي كبح جماح "التنين" الذي يبني الجزر الاصطناعية في البحر الاصفر، ليرهب الدول المطلة عليه، وليهدد الطرق البحرية للتجارة الدولية غير معير اي اهتمام لنصوص القانون البحري التي تحدد المياه الاقليمية. ومن هناك يتمكن "النسر" كذلك من استعراض القوة التي ستحد من عربدة كوريا الشمالية، التي تزعج دول المنطقة وتقلق امريكا نفسها بنجاحاتها النووية. والاهم من كل هذا ان "النسر" يكون قريباً من الخاصرة الرخوة "للدب" الروسي حيث يعتقد الاستراتيجيون الاميركيون ان تخوم روسيا الشرقية هي الجبهة التي كانت تاريخياً البوابة الاهم لهزيمة الروس.

اذاً "النسر" الاميركي ما طار من الشرق الاوسط ليقفل راجعاً الى وكره في الغرب ليتقوقع وينعزل، انما طار بعيداً هناك الى اقصى الشرق ليناكف "التنين" الصيني، و"الدب" الروسي، وايضاً "الفيل" الهندي. من جهة اخرى، ذهب عدد من المحللين مذهباً اخر اعتبروا فيه ان "باراك اوباما" تنكب منهجاً جديداً مبني على ما يعرف ب «القوة الناعمة»، والتي نظّر لها الاميركي "جوزيف ناي"، الذي يرفض الحرب، اذ يقول :- «لقد اضحى من الصعب في العالم المعاصر استخدام العصا «القوة العسكرية»، على الرغم من ضرورتها كسياسة ردع واكراه، فهي اصبحت صعبة جداً، ومكلفة كثيراً من الناحية المادية، ناهيك عن المناهضة المتزايدة للحروب والنفور المتنامي من استخدام القوة، او محاصرة الدول والشعوب.

ولعله من دواعي قبول نظرية "القوة الناعمة"، في الاوساط الاميركية الفاعلة، ما خلفته حرب فيتنام من شروخ في نفسيات الاميركيين، سواء بسبب الاعداد المهولة للصناديق الخشبية القادمة من فيتنام التي كانت محشوة بجثث القتلى من الجنود الاميركيين، او بما تسببت فيه تلك الحرب من امراض نفسية عصية على الشفاء لايزال يعاني منها جنود حاربوا هناك. وكان ان ازداد اتساع ذلك الشرخ في النفسية الاميركية، حيث ان حروب اميركا لم تتوقف، فما انفك قادتها يوماً عن الولوج في حروب متوالية، والتي حتماً لن تكون اخرها حرب "بوش الابن" في افغانستان والعراق.

ورغم ان التقدم العلمي والتقني الاميركي ادى الى تطور باهر في الصناعة الحربية الاميركية التي تمكنت من انتاج اسلحة فتاكة ذات كفاءة عالية الاداء، من شانها ليس تحقيق اكبر الضرر في صفوف الاعداء فحسب، بل انها قلصت كذلك من كم الخسائر البشرية في صفوف الجيش الاميركي. الا ان ذلك لم يكن من شانه تخفيف حدة قلق وتبرم وتوتر الراي العام الامريكي، المسكون بعقدة موت جنود اميركا في حروب وراء البحار، كلما عرضت الشاشات التلفزيونية صوراً لاستقبال صناديق الجنود القتلى الاتية من جبهات القتال.

ولايفوت هنا التذكير بان التكاليف المالية الباهظة للحروب هي محل نظر دون شك، غير انه يجدر ان نلاحظ ان اكثر المبالغ التي تجنيها خزينة الحكومة في دولة كالولايات المتحدة، تأتي من المستحقات الضريبية على شركات تصنيع الاسلحة، تلك الشركات التي سوقها الاساسي يتمثل في الجيوش الاميركية بكل صنوفها، لذلك لابد من ان تخوض تلك الجيوش حروباً لكي تستهلك ما تنتجه مصانع تلك الشركات من الاسلحة.

لذلك، وللمواءمة بين تبرم الراي العام الاميركي من موت الجنود في حروب وراء البحار، من جهة، ومصلحة الشركات الاميركية المصنعة للأسلحة في اندلاع حروب لتسويق انتاجها، من جهة اخرى، اعتمد فريق "اوباما" لدي توليه الادارة الاميركية حلاً وسطاً، يحقق مقاربةً لما يتطلع اليه الراي العام الاميركي، ولما ترنو اليه شركات تصنيع الاسلحة، ويتوافق في نفس الوقت مع الوعود الانتخابية التي طرحها "باراك اوباما". تتمظهر هذه المقاربة في انه عند الضرورة ستخوض الجيوش الاميركية الحرب عن بعد، دون ان ينزل الجنود على الارض . وهذا ما تم اثناء تدخل اميركا في الحرب في ليبيا وفي سوريا.

ولعله يكون التطبيق شبه المتكامل لنظرية "القوة الناعمة"، قد تم حتى الان في تطبيق الاستراتيجية الاميركية تجاه روسيا، ابتداءً من توريطها في حروب استنزافية جانبية، كالحرب في اوكرانيا والحرب في سوريا وما سيتم توريطها فيه من حروب اخرى . مروراً بالحرب الاقتصادية والمالية، والتي كانت على النحو التالي:-

العقوبات المالية والاقتصادية ضد روسيا :-
إن الحروب الاستنزافية التي ورطت فيها روسيا، هي نفسها ذات عواقب جسيمة على الاقتصاد الروسي، بما تكلف الخزينة من اموال. لكنها ايضاً كانت سبباً استندت اليه، كل من اميركا ومعها اوروبا وكندا واستراليا واليابان في اصدار عقوبات مالية واقتصادية ضد روسيا، بعد ان احتلت الاخيرة شبه جزيرة القرم. وذلك على النحو التالي :-

١ - اصدرت عقوبات ضد بنوك ومؤسسات مالية روسية.

٢ - اصدرت عقوبات ضد اشخاص طبيعيين واعتباريين روس.

٣ - دفعت دول الاتحاد الاوربي ودول حليفة اخرى مثل اليابان وكندا واستراليا الى اتخاذ عقوبات مماثلة ضد روسيا .

٤- دفعت دول نفطية معروفة الى اغراق السوق بكميات كبيرة من النفط، ما أدى الى هبوط حاد في الاسعار، كان من شانه انهاك الاقتصاد الروسي الريعي المعتمد على تصدير النفط والغاز، انهاكاً غير مسبوق.

٥- دفع دول مثل السعودية الى منافسة روسيا في الاسواق التي كانت حكراً عليها، اذ شرعت السعودية في تسويق نفطها في دول اوروبا الشرقية باسعار مخفضة بنسبة ٥٠٪ من اسعار السوق. حيث تعاقدت مع بولندا على تزويدها بالنفط السعودي. وهكذا يتضاعف الضرر الروسي بتخفيض الاسعار من جهة، وبتقليص مبيعاتها من جهة اخرى.

٦ - العمل على دفع اوروبا الى الاستغناء على الغاز الروسي، والاستعاضة عنه بالغاز القطري عبر خط انابيب قد يعبر سوريا الى تركيا، وكذلك الاعتماد على الغاز والنفط الاذربيجاني الذي سيصل تركيا عبر خط انابيب «نابوكوم» الذي ربما سيربط به انتاج ايران من الغاز والنفط بعد عودتها الى الاسرة الدولية اثر توقيعها للاتفاق النووي . اضافة الى استيراد اوروبا المعتاد للنفط والغاز من الجزائر وليبيا . ناهيك عن الانتاج الواعد للغاز المكتشف في كل من مصر والكيان الصهيوني ولبنان وقبرص .

٧ - التلويح بقدرة الولايات المتحدة على تزويد اوروبا بالنفط والغاز المنتج من الصخور النفطية في الولايات المتحدة.

٨ - حث الدول التي وقعت مع روسيا اتفاقات بشان عبور انابيب «السيل الشمالي» و«السيل الجنوبي» لنقل الغاز الروسي الى شرق وغرب اوروبا، على الغاء تلك الاتفاقيات وقد بادرت بلغاريا الى الغاء اتفاقيتها في الخصوص مع روسيا، وربما ستليها اوكرانيا وبولندا وتركيا. ويلاحظ ان روسيا سارعت الى مواجهة ذلك بتوقيع اتفاقيات مع الصين لتزويدها بالغاز لمدة خمسين سنة. غير ان ذلك في اغلب الظن لايعدو كونه مزايدة اعلامية للتقليل من الاثار المعنوية لهذه المقاطعة الاقتصادية من قبل الدول الاوروبية.

٩- حرصت الولايات المتحدة على ان تقوم اوروبا بمقاطعة اقتصادية لروسيا تشمل حظر الاستيراد منها والتصدير اليها، وقد اثرت تلك المقاطعة ليست على روسيا فحسب، بل انها اثرت ايضاً على اوروبا، حيث بينت البحوث والدراسات ان تلك المقاطعة كلفت روسيا حوالي خمسة وعشرين مليون دولار فيما كلفت اوروبا ١٠٠ مليون دولار. وذلك ماتهدف اليه اميركا لكي تضرب عصفورين بحجر واحد.

١٠ - عملت امريكا على افساد اسواق الاسلحة الروسية، حيث ان صناعة الاسلحة في روسيا تعد المصدر الثاني لدخل روسيا، بل سعت اميركا الى الغاء اتفاقات لبيع اسلحة اوروبية الصنع الى روسيا، مثل الاتفاقية الفرنسية الروسية لتزويد الاخيرة بحاملة طيارات تم تصنيعها في فرنسا، ثم اعيد بيعها الى مصر! . كما تم الغاء اتفاقيات اخرى لتزويد روسيا بمحركات تستخدمها روسيا في صناعتها العسكرية، واتفاقيات لتزويد روسيا بتقنية متقدمة في مجال الكومبيوتر تستخدم في مجال التصنيع الحربي .

حرب ضروس تشن على روسيا، لا بارود فيها ولا دوي قنابل ولا ازيز رصاص، لا نار فيها ولا دخان، لا دماء ولا جرحى، لكنها حرباً اشد فتكاً من غيرها من الحروب، انها قبضة حديدية تحت قفاز مخملي، مظهرها ناعم وتأثيرها موجع، اضرارها المادية كبيرة على الخصم، فيما تكاليفها اقل كثيراً من التكاليف المالية للحروب التقليدية، انها حرب ليست ناعمة وليست خشنة ليست باردة وليست ساخنة انها كل ذلك دفعة واحدة. واذا كانت الحرب الباردة قد ادت بعد قرابة اربعة عقود الى انهيار الاتحاد السوفييتي، وتفكك حلف وارسو ومنظومة دول شرق اوروبا، فإلى ماذا ستؤدي هذه الحرب بعد ان تبلغ نهاية المضمار. «ان غداً لناظره قريب».

 

دبلوماسي ليبي