يصور القاص المصري في مجموعته القصصية حياة يومية بتفاصيلها وهموم بشرها وشخصياتها الشعبية وهي تمارس حياتها وعملها لكسب العيش والعناية بأسرها وتربية الأولاد ساردا أحداث يومية عادية أو غريبة ومشاعر صافية بعيني طفلٍ حساس يكتشف الحياة قليلا.. قليلا.

عم فتحي وقصص أخري

محـسـن صـالح

الإهداء إلي الأستاذة / كرم يوسف

التي لولا حدبها ورعايتها ماكان هذا الكتاب

فتحية لها ولكل من يقوم علي صرح الثقافة (كتب خان )

 و.... إلي الدكتور صبري حافظ

المفكر

كان هناك بشكله البسيط وبأصابعه الصغيرة وضحكته الماكرة ، يجلس علي الكرسي المتحرك . الكل طوع بنانه إنه العقل المفكر لكل أفراد هذه الأسرة ، لقد كتبت عنه مجلة أجنبية في الخارج حينما حاول أن يحل إحدى المشكلات بنموذج رياضي متقدم طوره من قراءاته واطلاعاته علي النت و استطاع أن يستخدمه لحل مشكلات عادية في بادئ الأمر، ثم أخذ في إستخدامه في حل المشكلات المعقدة بعد ذلك مرات عديده ثبت نجاحها ، بل وخلقت له سلسلة من العلاقات الوطيدة مع العديد من الشخصيات وبخاصة طلاب كلية الهندسة حيث درس و تفوق ولكن أقعده مرضه عن مواصلة العمل في مجال تخصصه الدقيق "الحاسب الألي". صوته هادئ النبرات يستمع إليك و هو يضحك و يبتسم وحينما يجد أحدا متأكدا جدا من حل المشكلة ، يقطب بين عينيه و يحول كل كلام هذا الشخص إلي رموز رياضية و يطبق النموذج الرياضي الذي ابتكره و يظهر الحل الذي يبهر الجميع و يأخذ بالألباب .

ذات مرة جاء مدير قريب لنا من بعيد يمتلك إحدى المصانع و كان في زيارة لوالدي و حكى لنا عن المشكلات التي تواجهه في مصنعه و كيف لا يستطيعون حلها . ساعتها أعددت عزيزي نموذجا رياضيا وجلست معه لتطبقه في حل مشكلتين من أشهر المشكلات عنده ، وكانت النتيجة رائعة و كانت المعادلات الرياضية والإحتمالات لانهائية ولكنها من الدقة للدرجة التي ألهبت حماس هذا القريب وجعلت زياراته لنا لا تنقطع و هداياه كذلك ، بل إنه تبرع وأرسلك في دورة تدريبية متقدمة في لندن لمدة أسبوعين ، لم نسمع منك خلالها أية مكالمة هاتفية وإزدادت –بعد عودتك من هناك - ساعاتك أمام الحاسب الألي ومكالماتك باللغة الإنجليزية وساعات شرودك و التي كانت تمتد ليلة كاملة وورقك الذي كان يملأ حجرتك ونحن نداعبك من آن لأخر.

واصلت كفاحك و كنت تحصل على الألاف كل شهر و أنت علي حاسبك الشخصي ترنو إلي المعادلات الكثيرة و تحلها في تؤدة وصبر عجيبين . كنا كلنا نحسدك و نغار منك و مما تفعل حتي جاء ذلك اليوم الذي شاهدناك فيه تسقط من علي مقعدك المتحرك وتذهب في غيبوبة كهربت الجو و المكان .

نقلناك إلي المستشفي القريبة و مرت الأيام تلو الأخرى و أنت تتلوي و لا أحد يقدر أن يقول شيئا .

عرضنا حالتك علي دكاترة عديدين و كانت نفس الإجابة القاسية التي كنا نريد من أحد الدكاترة أن يغيرها. كان الداء في المخ وكنا لا نريد أن نحكي لك ولكنك بفطنتك الكبيرة كنت قد عرفت إحتمالات الحياة وحددت أيام عمرك القادمة و تمنيت من الله الشفاء والمدد حتي تكمل ورقتك البحثية التي كنت تصفها بورقة القرن والتي ستجمع فيها بين شتات علوم الرياضيات التطبيقية و البحته ونماذج الحاسب الإحصائية والرياضية في نموذج علي الحاسب الألي لحل مشكلات الحياة اليومية و المشكلات الفنية الصغرى ، بل إن به مراحل متقدمة لحل أعقد المشكلات في الطبيعة و الكيمياء والأحياء وغيرها.

في صباح هذا اليوم و أمامنا جميعا غبت عن الوعي و عبثا حاولنا أن نعيدك ، عبثا حاولنا أن نحضرك ثانية لعالمنا المرئي . لقد آثرت البقاء هناك في هذا العلم الإثيري الذي طالما حدثتني عنه وكنت تضحك وأنت تقول هل سيكون بإمكاني إستخدام هذا النموذج الرياضي هناك ؟

كنا نضحك سويا و نستمر في الضحك ، حتى تقطعه بجدك المعهود و أنت تنظر إلي بريدك الألكتروني وتقلب فيه و قد أخذ الإهتمام منك مجراه.

جهاز اللاب توب "الحاسب الألي المتنقل" لايزال في مكانه و نحن لا نعرف عنه شيئا . جهازك الذي نراه فنبكي ونظل نبكي و نحن نريد أن نراك و لو في الحلم و نعرف كيف حالك.

فهل يا تري ستأتي إلينا في أحلامنا عزيزي بوجهك الطفلي الشقي البريء والذي كنا نحبه و نخشاه لذكائه المفرط . هل ياتري ستأتي إلينا محملا بكل فكرة جديدة تعن لك أم قد طواك الغيب هناك ووجدت في الخلود نموذجك الرياضي المتقدم الذي تنشده وابتعدت به عنا ؟

لايزال هذا السؤال يتردد صداه داخلنا حتي بعد أن لحقت بك أمنا بأشهر قليلة كمدا و حزنا عليك أيها "العبقري الصغير" كما كنا نناديك أخونا الأصغر وحبيبنا الشقي العبقري والمشاكس الجميل خلقا وعلما .

 

كيس الورق البني

كان يأتي دائما إلي منزلنا كل مساء يده باردة خشنة قوية وعطوفة في الوقت نفسه ، إنه خالي الأكبر"عبد الغفار" أحب يده أقبلها دائما وأحس لها رائحة الأرض وأحس في تشققاتها النمو و الطزاجة ، كان دائما يجلس أمام موقد الكيروسين يضحك فتملأ ضحكته المكان وهو يقص علينا دائما حكاياته مع الثعابين و كيف يمسكهم بيده الخشنة و ينزع أسنانهم ثم يقتلهم بعد أن يمل من اللعب معهم . كانت له سكتات غريبة دائما فلا تعرف إن كان يفكر في شيء أو إن كان غاضبا أو نسي ماكان يتكلم فيه ويحاول تذكره ، كانت فترات توقف محيرة لي ومربكة ، كنا ننظر إلي عينيه وإلي إبتسامته العفوية التي كانت تملأ المكان كله دفئا وحيوية ، كانت ضحكته وفمه الخالي من الأسنان لا تنسي في غرابتها ووداعتها ومباشرتها للقلب ، نشعر في صدره الصغير وفي كتفيه القويتين وفي الصديري الذي يرتديه بالدنيا كلها ، كنا نقبله و نحن نهتف :

  • خالو خالو

كنا نصرخ و نحن صغارا في إنفعال تلقائي و طفولي مباشر :

-خالي جه ، خالي جه ، خالي جه

في كل ثلاثاء و في كل خميس كنا نراه دائما في تمام الساعة الثامنة مساء يأتي وفي يده الكيس الورقي البني المميز برائحته والمصنوع من الشكاير و الذي نذوق فيه الفاكهة قبل أن نلمسها ، كنا نجد الكيس مرة مملوءا بالعنب و تارة بالجوافة و ثالثة بالخوخ كانت تتعدد الفاكهة و تتنوع حسب الموسم مما لذ وطاب.

كنا نخطف كيس الفاكهة من خالي ونحن نري في عينيه رضا و سرور ، كنا نقبله ونحن نأكل الفاكهة التي أحضرها لنا ونستحسنها و نثني عليه وندعو الله أن يديم عليه الصحة وأن يباركه ، فنري آثار هذه الدعوات علي وجهه الطفل الذي أحببناه .

كانت أمي تنظر إلينا متوعدة ولكن حبنا للفاكهة كان يخرجنا عن مراقبة تعليماتها لنا بالتزام الهدوء وعدم الإندفاع حال حضور أي ضيف إلينا سواء كان قريبا أو بعيدا وسرعان ما يتبخر توعدها لنا في دفء ترحابها بخالي وتقبيلها ليديه ودعاؤها له بالشفاء وأنه ما كان عليه أن يكلف نفسه و يحضر شيئا فالمهم هو حضوره .

كان أبي يقبل خالي ويجله ويضعه في مكانة عالية وكان دائما ما يستشيره في أموره المختلفة مثل زواج أخواتي البنات وزواج أقاربه هو ، كنت أري المحبة والوصال بين أبي وخالي دائمة صداقة ممتدة نشأت قبل زواج أبي بأمي وامتدت قرابة عشرات السنين .

حدث في ذلك اليوم كأنه يوم القيامة ، أن جاءت الأنباء عاجلة حيث حضرت إحدى بنات خالي الأكبر وقالت بأن أولاد رمضان اعتدوا علي خالي الأكبر وأن الدماء سالت من رأسه ، لم أر أبي و أمي في انزعاج قدر هذا اليوم ، لحظات ولم أرهم فقد طاروا إلي منزل خالي وأبي قد أخذ معه مسدسه غير المرخص صارخا في أمي .

 تملأ حالة الغليان المكان وفجأة أخذتنا أختي الكبري إلي هناك ، نحن في الانتظار ، لاندري ماذا يحدث وما الذي حدث ولماذا حدث ،فقط نري الاضطراب علي وجوه أولاد خالي و بناته اللائي يبكين من الخوف عليه .

لم أدر بشيء إلا بأمي وهي تقول بأنها ستستدعي أقاربنا من الفيوم لتأديب أولاد رمضان الذين أخذهم الكبرياء و الصلف لمضايقة من حولهم و منهم خالي . ظلت تصرخ بأعلي صوتها وأبي يهدئ من روعها علي خلاف ما كنت أراه بينهما ،حيث كان أبي دائما الغاضب وأمي التي تخفف من غضبه .

مر أسبوعان كأنهما الدهر لم نر خالي فيهما ، وأخيرا جاء إلي منزلنا وعلي وجهه نفس الابتسامة ، ولكنها هذه المرة شاحبة وإحساس الألم في رأسه يلوح في عينيه . لم تتغير طيبته التي عهدناها فيه ، ذلك الشخص المسالم المحب للآخرين و الذي لا يتوانى عن خدمتهم ، ولا يغضب إلا بعد وقت كبير وأذي ثقيل ودائم . كان غضبه من القلة بحيث يكاد أن يخفيه عن الأخرين.

لا أزال أراه كما هو رغم رأسه المصاب ، نفس اليد الخشنة برائحة الأرض و نفس الابتسامة التي أخذ الشحوب يأخذ قليلا من بريقها . نفس الكيس الورقي البني بين يديه فيه ما لذ وطاب من الفاكهة التي نحبها و نجلها ، فاكهة الشتاء وفاكهة الصيف ، كنا نراهما علي مدار العام يومي الثلاثاء و الخميس .

 

فرح أختي

الجو عصرا يملأ القطن الحجرة الصغيرة المطلة علي الحارة ، حجرة غير معرشة بشيء ، لا تزال علي الطوب الأحمر الذي ملأه تراب السنين الطوال ، الشباك المطل علي الحارة مغطي بقطعة قماش قديمة مزقت حوافها ، التراب يعلو كل شيء والقلق كذلك تشم رائحته مع الغبار ورائحة الطعام الذي يعد . قطن التنجيد مليء بالتراب الخانق الحاد الذي يدخل إلي الصدر فلا يتركنا إلا ونحن نسعل ثم نسعل ثم نسعل حتى تحمر وجوهنا وعيوننا ، تصرخ أمي فينا :

  • تعالوا يا كلاب القطن مليان تراب وصدوركم لا تستحمل

نقترب من أمي نضحك و نقبلها من خدها فتنتشي مسرورة بعد أن كانت غاضبة و تتركنا وهي تطبطب علينا بكلماتها الحنونة العذبة :

-أنا خايفة عليكم حبايبي

نقول لها و نحن نطوي المكان في جري دائم وتنطيط فرح :

  • ماتخافيش يا ماما

نجري إلي الحجرة المجاورة و الشمس متقدة كأنها الموقد الذي تقف أمي أمامه لعمل الطعام ، نرسم جبالا من القطن ننظر لبعضنا من خلفها ، نجهز جيوشنا و نبدأ المناوشات الخفيفة علي مناطق النفوذ التي نحددها بقطع القطن ثم لا يلبث أن يندلع القتال شديدا حادا عنيفا ، نتقاذف خلاله بالقطن في سجال يملأ الدنيا غبارا و ضبابا وكل منا قد تخيل نفسه قائد المعركة التي ستحسم لصالحه وسيتغلب علي الخصم لا محالة في ذلك .

تمتلئ وجوهنا و شعرنا و ملابسنا بالقطن و التراب و الغبار ،ونظل نضحك حتي نسمع نحنحة أبي من علي السلم فنختفي كالفئران في الجحور التي صنعناها تحت تلال القطن و علي جوهنا العرق الكثيف و الإبتسامة المراوغة ، وصدورنا تعلو وتهبط من الإنفعال بعد المعركة و من الخوف الشديد لإحساسنا بدخول أبينا علينا.

تناولنا العشاء في المساء ، نظرنا إلي حجرة القطن وجدناها مظلمة كـأنها أشباح رجال ونساء وأطفال صغار إفترشوا الأرض، أخذنا نعيد حكايات الأشباح علي أنفسنا نحن الثلاثة أنا وأخي الأكبر وأختي الصغري حتي أخذ النعاس يداعب جفوننا .

استيقظنا صباح اليوم التالي في الساعة الثامنة صباحا ،وعراك كبير بين أبي وزوج أختي الكبري مشتعلا ، أختي التي يعدون لها جهازها بما في ذلك قطن التنجيد ، أبي في يديه عصا غليظة وزوج أختي الكبري يقبض علي جلبابه ، فيترنح أبي علي أحد جوانبه غير مستقر ، أحسست أن أبي سيقع حتما تحت تأثير قبضة زوج أختي ، فما كان مني إلا أن أخذت غطا الحلة النحاسي وضربت بأقصي ما أستطيع علي ذراع زوج أختي من الخلف لعله يترك أبي ، فجأة رنت صرخه في المكان وتراخت القبضة من علي جلباب أبي ، وأخذ اللون الأحمر يغطي الذراع تبدلت المشاعر في لحظة خاطفة من العراك إلي الجزع ، فوجدت أبي يتجمد للحظات ويصرخ في أمي أن تحضر البن لوقف النزيف ولكبس مكان الخبطة .

بالطبع لم أحضر الفرح في الأيام القليلة التي تلت هذه الحادثة ولم أمكث في المنزل بتاتا ، فقد كنت خائفا من أبي لدرجة مرعبة ، ظللت عند خالي الأكبر لمدة أسبوع في منزله في كفر غطاطي .

بعد انقضاء أسبوع عدت إلي منزلنا ،نظر أبي إلي ولم يتكلم و تركني في حالي و من ساعتها لم أجده يمد يديه علي أو يضربني ‘ بل كان يوكلني بأداء بعض الأعمال الصغيرة نيابة عنه وهو في غيابه أو سفره.

 

فض اشتباك

 أيقظتني الأصوات المرتفعة من نومي و أنا في الطابق الخامس . تصر علي أن تخرجني من حلمي ، وتختلط ببعضها البعض ككر ة الثلج التي يتعاظم حجمها بمرور الوقت لتضغط علي كل شيء ، أسمع فلا أستطيع أن أميز من يكلم من ؟ وماذا يقول ؟ وما السبب في هذ الضجيج كله ؟

بدأت دورة السب و الشتم و تبادل الكلمات الجارحة الخارجة في العلو مغلفة بالتهديد والوعيد من طرف للطرف الأخر . تأخذ نبرة التوتر في الإرتفاع التدريجي وكأن كل من الفريقين يختبر قاموس كلماته وأثارها علي الخصم و في نفس الوقت يقيس رد فعل الطرف الأخر وصبره على الخوض حتى نهاية المضمار .

كان الحشد ، أجل الحشد ، وكما هي العادة في المنطقة التي أسكن فيها فما من جدال أو نقاش عال إلآ وتجد بعد دقائق تجمع الأفراد من البنايات المجاورة وكأنهم علي موعد باللقاء. فقد تجمع عشرات الأفراد حول العربة الصغيرة الكائنة أسفل العمارة التي أسكن فيها ، فمنهم من هبط على نحو سريع ليهدئ الأجواء التي أخذت في الإحتقان التدريجي ، و منهم من اكتفي بمشاهدة الأحداث من الشرفة مثلي تماما ، و منهم من دخل مباشرة إلى لب الصراع وحلبته يهدئ من هذا ويشير إلى ذاك .

كان "عم عبده" ،صاحب عربة المأكولات الصغيرة أسفل العمارة ،عار الرأس و هذه أول مرة أراه علي هذه الحال منذ مجيئي إلي هذه المنطقة منذ أوائل التسعينات قادما من إمبابة حيث منزل والدي هناك وبداية نشأتي . كان يحوطه أولاده الخمسة من كل جانب و في يد كل منهم إما عصا غليظة أو قضيب حديدي صدئ . إشارات أيديهم تتجه إلى أناس أخرين يعبرون الطريق و على سيماهم إمارات التحفز و التوجس بالشر .

أعاد المشهد إلي ذهني ماسبق و رأيته منذ شهر في منزل والدي . لكن أصوات إرتطام العصي أفاقني فجأة من شرودي المؤقت لأجدني أرى الأعداد تتكاثر وأبناء "عم عبده" يصرخون صوب خصومهم وكلهم تحفز.

و فجأة تعالت صرخة إمرأة من بين الحشد و اكتشفت بعد برهة أنها زوجة بواب العمارة ، حيث تعرض زوجها و هو يحاول فض العراك لضربة طائشة جعلت الدماء تندفع من رأسه بغزارة في تدفق حار. تجمد المشهد و أخذت الأصوات في الخفوت بعدما تعالت صرخات زوجة البواب لتغطي علي اللغط في المكان وفجأة تحول الحشد إلي إتجاه واحد ألا وهو إنقاذ البواب المصاب . تتسارع الأيادي إلي مكان الضربة علي الرأس لتوقف تدفق الدماء . بدأ البواب بعد فترة وجيزة يترنح مع صراخ بناته و زوجته ، ذلك الصراخ الذي كان يعوي في الشارع و في المكان و عند مدخل العمارة و في داخل رأسي .

تتداخل الأصوات لإنقاذ البواب المضرج في دمائه مع اندفاع عربة عم حمزة لنقله إلي المستوصف الخيري القريب لعمل الإسعافات اللازمة و أصوات المارة تدعو له بالنجاة من أجل أسرته.

ظللت أتابع المشهد..وأتساءل عن السبب الأول في العراك، ماذا تراه يكون؟

لكن هذا ما يحدث عادة، تبدأ الأشياء من نقطة ما، وتنتهي عند نقطة أخرى. ..يبدو أن الحياة كلها تمضي في هذا المسار،سأعود للنوم..ربما أواصل حلما جديدا، أواصل ما انقطع من أفكار كانت تملأ رأسي قبل نومي

 

مني وندم

الساعة السادسة و النصف صباحا. دقات جرس المنبة حادة مزعجة كأنها وخز إبر حادة السن . تتحرك"مني" في السرير ذي الأعمدة المتهالك ببطء , شعرها الأسود الفاحم يغطي الوسادة التي تنام عليها كأنها الطاووس في مجده وخيلائه . بمجرد أن سمعت رنين جرس المنبه الحاد أخذت تزوم في غضب مكتوم لا يستبين منه شيء. تسمع الأصوات في الردهة الخارجية للمنزل في الدور الأول من منزلهم حيث يقطنون ويعيشون و يأكلون و ينامون ويحلمون ويفعلون كل شيء.

يترامى إليها صوت أمها من الردهة بالخارج ، تلك الصالة التي تمتد بطول المنزل بجوار حجرتين مربعتين هما كل ما في المنزل. الحجرة الأولي تطل علي الحارة يعيش فيها أخواها الصبيان أما الحجرة الداخلية فتعيش هي فيها و أختها و أمها. ،"العيشه صعبه " زي ما بتقول أمها دائما و تشتكي إلي القاصي و الداني.

يترامى صوت أمها و هي تنادي عليها تحثها علي دفع النوم و اليقظة المتعجلة :

-اصحي "مني" .. اصحي حبيبتي علشان المواصلات و تفطري براحتك حبيبتي

يعلو صوت" مني" وهي تتحرك تحت الغطاء ، صوتها يعلو و يهبط و نهداها كذلك . تحين منها إلتفاتة إلي إنعكاس صورتها علي مرآة التسريحة القديمة المتهالكة و التي تواجه سرير نومها ، فلا تعجبها ملامحها في المرآة هذا الصباح ونفسها مملوءة بشيء ثقيل لا تعلم له سببا ، فتغضب أكثر و تعلو نبرة صوتها في ردها علي أمها و إعرابها عن تبرمها وضيقها الشديد الذي تحسه منذ فتحت عينيها .

لم تكد تتحرك من تحت الغطاء ، حتي سمعت صوت تمزق عال ، فإذا بها تجد أن بنطال منامتها قد أخذ في التمزق من شدة القدم و من شدة ضيقه علي جسدها . ، فإذا وجهها يعلوه "غضب السنين" كما كانت تقول لمن يغضب أمامها وهي في حالة إنبساط ، وفجأة أمسكت نفسها و هي تكز علي أسنانها من الغيظ .

لم تكد تهبط من علي السرير في عجالة حتى ارتطمت احدي قدميها في الطوبة الحمراء القديمة التي تسند إحدى أعمدة السرير الذي كانت تنام عليه . هنا وصل بها الغضب منتهاه ووجدت نفسها تصرخ في وجه أمها وتقذف بالوسادة التي كانت تحت رأسها علي أخر ذراعها لترتطم بأكواب الشاي علي الأرض و تقلب كل شيء معد للإفطار وهي تتمتم :

-دي مش عيشة ، الحياه زفت ، النومه زفت و اللبس زفت و كمان صحيان زفت

 الكلمات خرجت من فم "مني" كأنها الرصاصات الحية التي تصمي ولا تنزل عن الموت بديلا. انكمشت الأم التي ألجمها الموقف و حمدت الله أن أبنائها الصبيان ليسا في المنزل وإلا كانت هناك كارثة بحق . صمتت الأم و لملمت جلبابها علي جسدها و كأنها تتقي به وقع الكلمات من فم ابنتها ، أو كالدرع تتقي به الضربات و الطعنات.

أسرعت "مني" وارتدت ملابسها علي عجل واتجهت إلي باب المنزل وبسرعة حانت منها إلتفاتة إلي أمها فوجدتها تمسح خديها من دمعات تجري عليهما.

أسرعت إلي الباب الخارجي وأغلقته واتجهت إلي الجامعة و لم تكد تذهب إلي الكلية ، حتي وجدت صديقتها الأنتيم (أي المقربة إليها)المعززة إلي قلبها "سعاد" جالسة واجمة علي الدرجات التي تسبق مدخل مبني الكلية ، ساهمة لا تنظر إلي شيء محدد. اتجهت "مني"إلي جوارها و اتخذت مكانها و هي تغلي مما استيقظت عليه هذا الصباح دونما سبب واضح لذلك.

قالت "سعاد" : كيف الحال مالك ؟

قالت "مني" : العيشة زفت في زفت ، مش عارفه اعمل إيه ؟

أجابت "سعاد" : إحمدي ربنا... أنا من امبارح مع أمي وحالنا اتقلب في لحظات رأسا علي عقب ، عناية مركزة ، إشتباه جلطة في جذع المخ ، و و و دوامات دوامات... يارب أسترها . أمي حبيبتي ، أمي حبيبتي

صرخت " مني" : إزاي ده حصل ؟

أسرعت "مني " واحتضنت "سعاد" التي أجهشت بالبكاء و النحيب لدرجة استوقفت كل من كان يصعد درجات الكلية أو يهبط منها . انفعلت "مني" من رد فعل "سعاد" وتأثرت جدا و وجدت دموعها تجري علي خديها ، ساعتها أحست بالراحة مما كان يعتمل في صدرها من الصباح الباكر.

لم تمر الساعتان التاليتان علي "مني " بخير ، فهي تارة ترنو إلي "سعاد" التي إحمرت عيناها من الحزن و البكاء علي أمها . و تارة أخري إلي المحاضر الذي لاتفهم منه شيئا . بقت علي هذه الحال ، حتي انتهت المحاضرة الأولي فمالت علي "سعاد " وقالت لها الأفضل أن تذهب إلي أمها الأن لأنها لن تركز في المحاضرة في حالتها هذه.

قفزت "مني" في أقرب سيارة ميكروباص تقودها إلي منزلها .

لم تدر إلا وهي تدلف إلي الحارة حيث رائحة الطعام الذي تطبخه أمها و المشهورة به في الحارة . دقت علي الباب دقات متسارعة و هي تنادي :

 - ماما ... ماما

انفتح الباب بسرعة لتجد أمها و قد غطي وجهها العرق وقد علاها الإضطراب و تقول :

 - فيه حاجه حصلت "مني " طمنيني

أشارت"مني " بلا وخرت علي الأرض تقبل قدمي أمها و هي تقول بصوت تخنقه الدموع و يعلوه النشيج :

 -سامحيني ماما أرجوكِ سامحيني

كان مشهدا بحق ، فدموع الابنة قد اختلطت بدموع الأم التي بكت لا لشيء الإ لبكاء ابنتها خوفا وجزعا عليها وأصرت "مني" أن تنام طوال الليل تحت قدمي أمها و لا تنهض من نومها إلا و تقبل قدمي أمها و أمها تدعو لها بالخير في سرها .

وفاة جدي و العفريت

المساء يدق علي الأبواب مبكرا . إنه الشتاء . إنها بدايته ، الشهر الأول من الشتاء عندنا في المنزل نسميه" بابه" و نسمي بقية شهور السنة باسمائها القبطية ، حيث أن لكل منها معني أو عبارة تعبر عن حالة الجو خلال هذا الشهر أو ذلك . وفي شهرنا هذا "بابه" يقال "إقفل البوابة " كناية عن انتهاء حصيرة الصيف و بدء البرودة و ضرورة الاحتراز و غلق منافذ الهواء و الإنكماش طلبا للدفء . أبي يقول " بابه " و هو يضحك :

 -بابه ياولاد اقفل البوابه

كان يقولها و هو يضمنا في حضنه كالفرخة التي ترقد علي البيض و لا تتركه . كان يضمنا و يلفنا بالغطاء ونحن بجواره علي السرير الحديدي ذي الأعمدة و ينادي علينا ويحكي لنا الحكايات التي لا تنتهي أبدا ، ففي كل مرة حكاية و في كل حكاية جزء مخيف يبعث في النفس الاحساس بالرعب والانكماش وعدم الحركة إلا لضرورة.

حكي لنا حكايات عن الطالبية زمان و عن المعارك التي نشبت بين العائلات فيها و كيف أن جدي لأبي كان له دور في حل هذه الخلافات و جعل المياه تعود لمجاريها .كان يتذكر و يعود برأسه إلي الوراء و هو يقول:

-رحمة الله علي جدكو كان سبع تحمل الكثير لقد قتله العفريت

لم نكن و نحن صغار نسمع هذه الكلمة " العفريت " أو البعبع " - أي الشيء المخيف - وإلا حضرت أمام أعيننا كل معاني الخوف و الرعب و الموت و الظلمة و السقوط و الصراخ الحاد. و كنا ننكمش علي بعضنا كأننا قنافذ لا يبين منا شيئا سوي رؤوسنا السوداء و عيوننا السوداء كذلك .

أشعل والدي السيجارة الثالثة أو الرابعة و نفخ دخانها وأمي ترنو إلي وجهه الأسمر ولا تتكلم وكأنها تعلم كل ما سيحكيه مقدما ، المهم أطلق أبي من صدره سحابة من الدخان الأبيض التي غشت سماء الحجرة و علت كسحابة صغيرة في سماء السرير الذي انكمشنا عليه و تلاصقنا ببعضنا البعض خوفا وانتظارا .

كان جدكم يعمل غفيرا لدي إحدي الخواجات مالكي القصور علي شارع الهرم و كان يدعي "جرين" كان يعمل غفيرا و يعمل في الوقت ذاته علي الاشراف علي أعمال الزراعة حول القصر الكبير والاعمال الاخري التي يقوم بها الانفار مقابل أجر يومي . كان أسمر اللون عريض الكتفين فارع الطول حينما تراه تهابه لبسطة جسمه وهيبته و لكنك ما إن تكلمه حتي تأنس جواره و تجلس علي أي شيء بجواره لتواصل الاستماع إلي حكاياته.

كان يقوم بحراسة القصر و حدائقه الممتدة من شارع الهرم و حتي منتصف شارع عثمان محرم الحالي والذي يعد بمثابة شارع الطالبية الرئيسي ، كانت عادة جدي حينما يمر علي الأماكن بالمساء في أثناء حراسته لها ووجد ظلمة شديدة ، كان يشعل عودا من الثقاب للتثبت من أنه لا يوجد ما يقلق في المكان و يمضي . و في مكان ما عند نهاية الحديقة من المكان المناظر لشركة "سيد" لصناعة الأدوية الأن ، وجد ظلمة شديدة وكعادته أشعل الثقاب وإذ به يلقي شبحا ضخما أسمر اللون لا يستبين منه شيء و هو يقول له :

  • كل مرة تولع الكبريت ، كل مرة كده يا أخي

قال هذه الكلمات و أمسكه من ذراعه و اضعا يده علي صدره و مجلسا إياه علي إحدي الاحجار التي تنتشر في المكان . شعر جدي ساعتها بالنار في ذراعه و صدره و رجع إلي ستي في مكان المبيت و هو يتمتم بكلمات مبهمة ،و في صباح اليوم التالي كانت آثار أيدي العفريت كأنها حرق النيران في صدره و يده . أصابه الشلل من جراء هذه الحادثة و لم يكن يستطع الكلام و لم يمر عليه سوي شهرين و مات .

وجدت الصمت يعلو المكان وأبي يحرك رأسه يمنة و يسره و هو يقول :

-اللهم ارحمه و أكرم مثواه

قلنا جميعا و نحن نرتعب من الخوف "آمين" "آمين" قالتها أمي بصوت خافت ، فحدجها أبي بنظرة نارية رفعت من صوتها معنا .

لم استطع النوم في هذه الليلة ولا أخي الذي يكبرني بعام واحد و رفضنا رفضا باتا إغلاق نور الحجرة كما كنا نفعل عادة قبل أن نأوي إلي النوم ، بل كنا نصرخ :

 -خايفين م العفريت ، خايفين م العفريت

صمت أبي و ضمنا إلي صدره الأسمر وهو يقرأ سورة الفاتحة و سورتي العلق و الناس . لم ننم إلا بعد أن أخذ النوم بجفوننا وغاص بنا إلي عالم الأحلام ، نحلق معها ومع الأفكار الصغيرة أملا في يوم جديد و شمس جديدة تملأ الساحة التي أمام منزلنا وبدون عفاريت.

 

هالة بيضاء

أشعة الشمس تخترق زجاج الغرفة ، أشعة عادية غير حادة كهدهدة الأم علي طفلها. أشعة تحب أن تجلس فيها و أن تتذكر كل الأيام التي قضيتها علي شاطيء البحر في العين السخنة حيث الهواء العليل للصباح مع نسمات الجو الجميلة و تسلل الشمس في إختلاس بداية النهار حتي تفاجيء الكل بزمهريها في ساعة الظهيرة ، إنها الحياة تعطينا المثل و القدوة في النماء والتطور بل في العجزو الكبر.

الساعة السابعة و النصف صباحا ، ضوضاء شارع الطالبية الرئيسي تختلط بالضوضاء الناشبة مخالبها داخلي لا أدري لها سببا ، المهم حانت مني التفاتة إلي المرآة أمامي وأنا أتأمل الأيات القرآنية التي لصقتها في إطارها علي مراحل زمنية متعاقبة عكست كل سني حياتي والتي أراها أمامي كانها شريط سينمائي يمر ليقف عند بعض اللحظات و يقفز علي بعضها في حركات عجيبة للنفس البشرية . أخذت أحملق في وجهي في المرآة أمامي و أنا أري خطوط الرجولة قد توطدت معالمها ومعها بداية الاحساس بالحياة ومشكلاتها الصغيرة ، ندت من صدري آهة صغيرة كتمتها حتي لايسمعها أحد ممن في المكان معي .

فجأة توقفت عيناي علي شعرة بيضاء في رأسي ، إنتفضت من مكاني ، فأنا بعد لم أكمل سني الجامعة و لم أبدأ حياتي العملية بعد و كل مالدي طموحات علي الورق أمامي أحيانا أشعر بالشفقة علي نفسي من تحقيقها تسربت الانقباضة إلي نفسي و صدري ووجدتني أفيق علي معالم المكان الصوتية وكأنني أستجدي منها العون و المدد حتي أخرج مما أنا فيه . فهاهي ذي دقات ساعة الحائط تملأ أذني بحركة عقارب الثواني وكأنها تذكرني بمصيري المحتوم القادم بعد فترة أو فترات طالت أم قصرت .

وجدتني أقول لنفسي بصوت أكاد أسمعه :

  • ده يوم أجازة و مفيش داعي للمنغصات ع الصبح

لم تهدأ نفسي لمجرد هذه الكلمات مع النفس بل جاء القلق الحركي و الذي عادة مايصاحب القلق النفسي وكأن الجسم يسعي بحركاته إلي مساعدة النفس علي الخروج من تأثير مايعتمل فيها ، فإذا بي أجد نفسي تتوجه إلي خارج حجرتي ووجدتني أبحث عن أبي ، توجهت إلي غرفته في نهاية الممر الطويل هناك علي الطرف الأخر من الشقة فلم أجده . توجهت إلي غرفة الطعام ، فوجدته هناك تعلو رأسه هالة بيضاء كأنها الثلج أو التاج الملوكي الذي تراه في الأفلام و يملأ المكان كله بالاحترام و الوقار ، كانت في يده جريدة الصباح و فنجان القهوة و هناك في منفضة السجائر أمامه بقايا سيجارته الوحيدة " سيجارة الصباح " لايزيد عليها .

وجدتني أضحك في نفسي من القلق الذي انتابني منذ برهة لوجود الشعرة البيضاء و التي لم أنزعها ، حيث سمعت أن من ينزع شعرة بيضاء تطلع له عشرة مكانها ، فسكت أملا في ألا تزيد. زايلني التوتر و إحساس القلق وملت علي يد والدي أقبلها وأنا أتحرك إلي المطبخ لإعداد فنجان القهوة مثله وفي رأسي ما قررته بالأمس من زيارة قبر والدتي في مدافن أبي الهول و التي أصبح البيت من بعدها مهجورا ومؤلما ، طيب الله ثراها.

 

إيمان الكاتبة الصغيرة

الساعة السادسة مساء ، الرأس الصغير مستدير و يتحرك حركات غير عادية علي ترابيزة السفرة . السن تجاوز السنة العاشرة بقليل و السنة الدراسية الصف السادس الإبتدائي في إحدي المدارس الخاصة الكائنة بشارع عثمان محرم إحدي الشوارع الرئيسية بمدينة الطالبية . ضوضاء الشارع تغطي علي كل شيء تراها في المطبخ و تلمحها علي شاشة التلفاز و تراها بين الكتب بل و تراها هناك تتعلق بالستائر التي تملأ جنبات الشقة علي كبرها و تغطي شبابيكها وتفصل بين جنباتها ، بل إنها نفس الضوضاء التي تتغلغل في أحلامك في المساء فتنهض بعد نومك و قد خامرتك الألأم ونخرت في عظامك فتتلوي وأنت تستيقظ من الألم بدلا من أن تنتشي من الراحة : إنها الطالبية فلا تتعجب . يتحدث الكل عن مزايا السكن علي الشارع الرئيسي و أنا أراه لعنة من اللعنات التي تسري كالسم البطيء في الشرايين والأوردة و الخلايا و تصيب بكل أمراض الكآبة و يعلم الله بالأمراض العضوية المستترة .

"إيمان " تحرك رأسها الصغير علي كتفين صغيرين و بعينين ضيقتين هادئتين فيهما إصرار الكاتبة الصغيرة تتفحص الأوراق الملونة التي أمامها و تكتب عبارة مختصرة لا أدري كيف واتت عقلها الصغير و خامرته : أنا كاتبة . حينما حانت مني إلتفاتة إلي أوراقها وجدتها تحاول أن تخبيء ماتفعله فضحكت منها و تركتها حتي تكمل مشروعها الصغير و أنا أمسح علي ظهرها و أقبل رأسها الصغير المفكر .

بعد ساعتين دلفت " إيمان " إلي غرفتي و في يديها بضعة أوراق ملونة و تلوح علي وجهها إمارات الجدية و قالت :

 -بابا عايزة أوريك حاجة

إعتدلت في جلستي وهي تأخذ مكانها أمامي تعرض لي فكرة قصة صغيرة شبيهه بتلك القصص التي قرأتها معي ولكنها تريد أن تصف الغابة و الأشجار و لاتعرف كيف تفعل ذلك ، ثم أنها تريد من بطلتها الصغيرة أن تكون قاسية حبتين علي أبطالها من الحيوانات التي معها في المغامرة وإلا هجم الدب الشرس عليهم جميعهم وأكلهم في بطنه الكبير، وجدتها تمزج من الأفلام الحربية التي تشاهدها معي فكرة الحراسة الليلية علي مكان البطلة في القصة وذلك دفعا للخطر و استعدادا له ، ضحكت كثيرا للفكرة و قبلتها علي رأسها و أنا أشاهدها تعدد أنواع الأسلحة التي سيستخدمها أبطال القصة ضد الدب المتوحش و أصدقائه الوحشين و منها سلاح الليزر الذي تم استخدامه في فيلم هجوم المريخيين.

تركتني "إيمان " وأنا أقلب في جريدة يوم الجمعة وأفتش عن الأحداث الفنية وأخبار الأدب و أبتعد عن الأخبار السياسة المحلية و العالمية طلبا للنجاة و راحة البال كما يقولون .

مرت عدة ساعات و إذا بي بعد عودتي من الخارج أجد مظروفا ملونا و عليه توقيع "إيمان " و يحتوي علي قصة ملونة عن "الدب الشرس و الأصدقاء الخمسة" ، تصفحت القصة و أنا أطير من الفرح من الجمال في التنسيق والأسلوب الجميل الحلو اللهم إلا من بعض الهنات البسيطة ووجدتني أندفع أسال علي "إيمي " – إسم الدلع لإيمان – ووجدتها هناك تجلس مع عرائسها تتكلم معهم عن قصتها و تحكي لهم جانبا منها ، فسكنت في موضعي و لم أرد أن أعكر عليها صفو حكاياتها

اندفعت إلي خارج المنزل وأنا أسارع الخطي لأقرب مكتبة لأحضر هدية تليق بكاتبتنا الصغيرة و بمكتبها الصغير وبعقلها الصغير المفكر ، عدت إلي المنزل ووجدتها هناك بين عرائسها و قد نامت و علي وجهها ظل ابتسامة بريئة فيها كل براءة هذا العالم ، انزعجت من المشهد وحملتها إلي سريرها و أنا أقبلها علي رأسها وأدعو الله سبحانه و تعالي أن يحفظها و يبارك لها في أيامها القادمة .

 

القط مشمش

نراه دائما هناك علي الطرف القصي من الشرفة المطلة علي شارع حلمي عبد الرحمن مع شارع عثمان محرم في الطالبية ، هذا الشارع الأخير مزدحم عن أخره في كل ساعات النهار وشطر كبير من الليل ، العربات تختلط بالمارة بسيارات النقل الصغيرة بالباعة الصغار و التي تفترش بضاعتهم الصغيرة أرضية الشارع . الكل يمتزج بالكل في تشكل غريب و عجيب كأنه يوم الحشر ورغم ذلك تجد الكل راض و صامت و يهرول لحال سبيله غير عابس أو ثرثار بل كاتم لسره في نفسه كما يقولون

أقول تراه هناك علي الشرفة في هذا المنزل ، الشرفة مغلقة الأبواب و الشقة لا يوجد فيها أحد منذ فترة ليست بالقصيرة ،لقد دلف إلي هذه الشرفة من صعوده علي واجهة محل الفطاطري الكائن أسفلها ، ساعدته في هذا الزخارف البارزة والزينة التي أضيفت إلي واجهة المحل بعد أخر تجديد له منذ ما يربو علي العام . تراه هناك جالسا علي سور الشرفة في مهاراته المعتادة غير آبه للفراغ الذي يوجد تحته و ما إن يرانا حتى يتحرك بسرعة كأنه يريدنا أن نصعد إليه أو نلتقطه بأيدينا و نأخذه في أحضاننا كما كنا نفعل معه في الماضي ، و كلما نراه نشير إليه و ننادي عليه بأصواتنا و التي ما إن يسمعها حتى نجد المواء الحاد يملأ المكان كله و يصك أذن المتطفلين الذين يسيرون في الطريق فيرفعون رؤوسهم عاليا ليرونه ثم يحولونها إلينا و كأن لسان حالهم يقول ما هؤلاء المجانين .

كنا ننادي عليه بصوتنا العالي المسموع :

-"مشمش" ، "مشمش" ،"مشمش"

صاحب محل الكبدة الصغير المواجه للمنزل الذي به الشرفة و تجذب ساندوتشاته أهل المنطقة جميعهم من الشباب والرجال و الصبية والأطفال " عم جاد" كان هو وابنه مثال الطيبة و الحنان و رقة القلب و الحدب علي الآخرين .كان حينما يضحك تشعر بالراحة لضحكته و دائما يختم كلامه بالصلاة علي النبي (صلي الله عليه وسلم) و علي آله في كلمات عفوية بسيطة و مباشرة و مرددا :

 -ربنا يجعله خير ، ربنا يجعله خير

عرفنا منه أنه يرعي مشمش و يلقي إليه ببقايا الأشياء التي يقليها بالزيت أمامه . و لهذا إتخذ"مشمش" اللئيم من الشرفة المواجهة لمحل الكبده ركنا ركينا لا يبارحه ، كنا كلما نراه نحار في أمره ، هل مواؤه لأنه يفتقدنا نحن الذين إلتقتناه من الحارة صغيرا و كاد أن يهلكه الصغار رميا بالأحجار و جعلناه يافعا حتي خرج و تعددت خروجاته و طالت إلي أن إختفي وشاهدناه مصادفة علي الشرفة أم أن مواؤه هو إعتراف لنا بجميلنا عليه وكأنه يلقي علينا التحية فقط من باب رد الجميل كنا لا نراه إلا وننادي عليه و بخاصة أختي الصغري "مني " التي كانت أقربنا إليه و كانت هي التي يستجيب أكثر لأوامرها ونواهيها وكان يتفاعل مع مداعابتها بكل شقاوة و عنف أحيانا .

مرت الأيام و لانمر إلا و نراه في الغالب ، حتي جاء ذلك اليوم الذي لم نره فيه و سألنا " عم جاد" صاحب مطعم الكفته ، فصمت ثم أضاف بعد أن أعدنا علي السؤال :

 - منه لله الفطاطري لقد سمه

كانت هذه هي عادة الفطاطري في سم الحيوانات التي تركن في ظل محله بعد حادثة عضة الكلب القديمة له في حارتنا

قال لنا "عم جاد " هذا و الدموع تكاد تقفز من عينيه حيث أنه حمل "مشمش" بيديه وهو في النزع الأخير ووضعه بالقرب من صندوق القمامة ليواجه لحظاته الأخيرة و السم يفتك بأوصاله ، كان يقول لنا بأنه لم يكن يدري ماذا يفعل وما بيده حيلة ، يقول هذه الكلمات و هو يحسبن علي الفطاطري و يدعو عليه .

قال لنا بأنها كانت مشاجرة مع الفطاطري لهذه الحادثة و بعدها حدثت القطيعة بينهما .

بكينا بين يدي "عم جاد" و بكينا بعد أن غادرناه بعد أن علمنا بموضع "مشمش" لنلقي عليه نظرة الوداع الأخيرة ونلمسه أخر لمسة و نواسيه في نزعه الأخير، قال لنا بأنه وضعه بالقرب من صندوق القمامة بالأمس و لم يذهب هناك ثانية .

انطلقنا نعدو نسابق أنفسنا حتي نري "مشمش" ، ولكننا لم نجد صندوق القمامة و لم نجد "مشمش" .

لم ننم أنا وأخوتي طيلة هذه الليلة و نحن ننظر إلي صور "مشمش" التي تملأ موبايل كل واحد منا ، بل نقلب صور الكليبات "المقطوعات الفيلمية القصيرة" نراها و نعيدها ثم نعيدها ثانية و ثالثة حتي تطفر الدموع في مآقينا و قد هدنا البكاء و كأننا بهذا البكاء نريد أن نعيده إلي عالمنا الأرضي ثانية .

بعد يومين و في الصباح و نحن نسير إلي المدرسة وجدنا جلبة أمام محل الفطاطري ووجدنا الشرطة وأصوات عالية وأخري حازمة تملأ سماء المكان ، نظرنا إلي أبي و هو يدفعنا أمامه برفق حتي لا نتأخر و نحن نقول :

  •  ده حق مشمش ربنا انتقم له

أخذنا نسرع الخطي إلي المدرسة و قد دخلت إلي قلوبنا راحة قليلة لانتقام السماء من الفطاطري و رأيناه بشكله الذي صرنا نكرهه و الشرطة تقبض عليه هو وابنه و تقوده أمامنا،سرنا و قد داخل نفوسنا سكون ما وكأن لسان حالنا يقول :

-ربنا خد بتارك يا"مشمش" الحبيب ، ربنا خد بتارك

 

عم فتحي

دقات عربات القطار علي القضبان الحديدية لقطار الصوامع ،حيث يسمونه باسم المكان الذي سيصل إليه في نهاية المطاف "صومعة إمبابة للقمح" ، عالية تصم الأذان و الجلد و الهواء و تكتم حتي الانفاس ، أصوات عجلات القطار كأنها دقات خيول التتار في إجتياحها للبلاد و العباد . الكل هنا يتملكه الرعب علي الجانبين ، المنازل التي ترتج من زلزلة القطار لها ، الأطفال الذين يلوذون بأي مكان خوفا من غضبته التي تقصف الأعمار و تخطف الأرواح ، حتي الحيوانات الأليفة التي تتوسد القضبان في انتشاء الاستمتاع بشمس الصباح تهرب مولية في انزعاج شديد.

عندما يتوقف القطار و يطمئن الجميع لسكونه و رقاده يقتربون منه علي حذر و يتسلق الأطفال العربات كالشياطين قبل أن تدلف إلي الصومعة الكبري التي تتوسد مكانا ما مطلا علي النيل . النساء كالجراد يتحلقن حول العربات بحذر من أجل جمع ما سقط منها من القمح . المشاهد كلها تتري أمام عيني "عم فتحي"وهو يري ما حوله و يعجب من حال الناس و تكالبهم علي أي شيء بلا نظر إلي حلال أم حرام . تسمع منه و كأنك تري الطيبة كلها قد تجمعت في كائن واحد تعلو محياه ابتسامه يشوبها الاحساس بالألم أحيانا و لكنه لا يصرح بما يحسه إلا لخاصة خاصته و من هم ملتصقين به من أهله و أصدقاءه .

 "عم فتحي " في الخمسين من عمره ضحكته مجلجلة تري فيها أسنانه الصغيرة المتراصة كأنها أسنان طفل رضيع لا يزال يخطو في بدايات حياته ببراءة الطفولة واندهاشات الارتياد و التعرف علي أي شيئ و كل شيئ . حينما يغضب "عم فتحي " يسكت و يترك المكان . لم أره غاضبا في حياتي طوال العشرين عاما التي قضيتها بجواره إلا مرات قليلة تعد علي أصابع اليد الواحدة . أولاده البنات يملأن المنزل بهجة و سرورا . لا تري إلا خلية نحل في المنزل و لا تسمع في الصباح إلا صوت إذاعة القرآن الكريم ، إن ضحكن تأتي ضحكاتهن علي استحياء و في خفر.

"عم فتحي " حينما تنتابه نوبة الضغط المرتفع تنقلب حاله ويربد وجهه و يكسوه اللون الأحمر الداكن . لا يستطيع أن يقاوم الملح في الطعام و ضغطه المرتفع يكاد أن ينفجر . تراه جالسا أمام باب المنزل يحملق في اللاشيئ و هو في وعكة ضغطه العالي حتي تنتهي النوبة و يعود لحالته التي كان عليها . الكل يعرفه و يقدر له "جدعنته " و مساندته للجميع في أفراحهم وأتراحهم .تنتهي النوبة و تسمع ضحكاته و قفشاته تملأ المكان و تنتقل عبر الشارع إلي المنازل المواجهة متخطية شريط السكة الحديد .

ذات مرة سجد "عم فتحي " في صلاة العصر و لم يرفع رأسه ، لقد أصابته جلطة في المخ من جراء ضغط الدم المرتفع ، كل الشارع سهر حتي الصباح أمام المستشفي القريب لايريدون الابتعاد عن " عم فتحي " و الدموع في عيونهم وقلقهم عليه لا يتوقف. الكل سهر علي منزله و أولاده و قدم لهم ما يريدون ، اختلطت دموع الجيران بابتساماتهم حينما عاد "عم فتحي " مستندا علي عصاه و قد تخدل نصفه من أثر الوعكة التي ألمت به.

مرت الشهور و إذا بضحكات "عم فتحي " تحلق ثانية في سماء المكان وتتغلغل في ذراته التي تنتشي و تبدأ قفشاته مع "عم شعبان" الترزي من جديد و التي في نهايتها يلتهم هذا الأخير طبق الطعام المعتبر، بعدها يمسح شاربه وينفث دخان سيجارته في سماء المحل و صوت ماكينة الخياطة يطرقع في الأذان .

بنات "عم فتحي " يضحكن حين تراهن و يتكلمن بأدب جم و تشعر حيالهن بالقلق عليهن من عالمنا هذا الذي تبدل فيه كل شيئ . خلقهن العالي مثار الاعجاب بهن في الشارع و لا يتكلم أحد عليهن إلا و ينهي عبارته بكلمة

 - نعم التربية والأدب و البراءة

المعاش لا يكفي هذه الأسرة و دائما تري "عم فتحي " مبتسما لا يترك كلمة " الحمد لله " من كلماته و يردد في اليسر والعسر العبارة الشهيرة له

 -مستوره و الحمد لله

تمر الساعات به بين الجلوس أمام المنزل أو الاستماع إلي إذاعة القرآن الكريم أو الحديث لبناته و نصحهن و شراء ما يريدون من السوق أو أي من محلات البقالة القريبة .

جاءت الوعكة الثانية في أعقاب ثلاثة أعوام من الوعكة الأولي وفيها سقط الجواد وكبا ووقع و لم يستطع النهوض ، لبس الشارع السواد أربعين يوما حدادا عليه لم يذق الشارع طعم الفرح لمدة عام كامل . لا يمر يوم وبخاصة ساعة المساء إلا و تسمع نهنهة البكاء لرجل من رجال الشارع الذين كان يجالسهم " عم فتحي "و هو يصرخ :

 -عم فتحي حبيبي ، إنت فين ؟

الماء كالعلقم ، الأكل كأشواك الصبار و الهواء كزفير الصحراء وهجيرها ، حتي الأطفال صاروا بعد موته تتملكهم الكآبة وعيونهم شاردة حزينة .لقد مات " عم فتحي " و تلاشت ضحكاته و قفشاته إلي الأبد. صار الأطفال كبارا قبل الأوان وكأن لسان حالهم سؤال يتردد بلا إجابة : ما العمل مع هذه الحياة و ضرباتها التي تقسم الظهر و تفرق القريب وتدمي القلوب؟

 

 

مدفن جديد

السور الخرساني السميك يحوط الترب كلها ، سور طويل ثقيل كئيب كأنه الجبال في طولها و صلادتها و ثقلها علي النفس و العين معا . تلوح الأهرامات منه إذا ما صعدت في المناطق المرتفعة من داخل منطقة المدافن المحوطة بهذا السور . تراها علي مبعدة هناك وكأن المدافن الحالية تتوازي مع المدافن العتيقة للفراعين في تجاور و تناظر. السور ملتف كأنه ثعبان من ثعابين المقابر السوداء الشرسة ذي الأنياب الحادة و التي تأخذ الميت المسيء إلي أعماق الأرض في عذاب مقيم لا ينتهي أبدا و لدغات لا تحتمل و فوق كل الوصف.

سور ليس له باب قريب ، بل بابه هناك علي الطرف القصي من الجبانة حيث تصدمك روائح مراتع الخيل و الحمير المخصصة للسائحين لأهالي نزلة السمان في كلاحة في وجههم كأنها كلاحة الموت و غضبته و نفوره ممن يأخذهم بسطوته و كبريائه وجبروته الذي أودع فيه . تذكرك الرائحة برائحة القبور و ما يحدث فيها من تحلل و عودة إلي عناصر الأرض ثانية . كل شيء كالح هنا الأشياء ، المباني ، الأشخاص ، حتي الخيول والحمير .

التربي ( الشخص المسئول عن المقابر و الدفن) علي رأس المدفن الجديد و الذي تم بناؤه في الجزء المجاور لتربتنا القديمة " تربة العائلة" ، التربي تمسح عيناه المكان في دربة و خبرة و كل حواسه عبارة عن مغرفة للمال ، حينما يطأطأ رأسه تجده يطلب مالا بلا كلام و حينما يميل عليك كذلك ، بل و حينما يرد عليك السلام من بعيد ، كتلة من المطلب الشره للمال .

أشار إلي المدفن الجديد و أكد علي المجهودات الكثيرة التي تمت حتي ينتهي علي هذا الشكل الذي هو عليه و أكد علي أن طوله مناسب و هو الأمر الذي طلبت التحقق منه في المرة الفائتة ، أخبرته عن محاولتي أن أجرب الطول بنفسي بالتمدد في هذا المدفن الجديد ، فقال لي :

  • لا يا أستاذ واحد عمل كده و مات بعد أسبوع

انقبضت لهذا الكلام و تراجعت عن الولوج إلي المدفن ، فما كان من ابني "هشام" إلا أن اندفع إلي أعماق القبر يقيسه بطريقته ألا وهي اتساع القدمين ، خفت علي ابني البكري من دخوله وطفقت أدعو الله سبحانه و تعالي أن يحسن خاتمتنا و أن يغفر ذنوبنا و يحفظنا من كل سوء دنيا وأخره .

لم أكن أشعر بغرابة المكان فها هي ذي أمي ترقد و أختي الكبري بجوارها و زوجة خالي الأكبر إلي جوارهما أو بينهما . و في مدفن الرجال الملاصق يرقد أبي وإبن خالي الأكبر وأخيه الأصغر و خالي الأكبر نفسه ، الكل صامتون و لا أعرف عنهم شيئا رغم ما كان بيننا في الحياة الدنيا من حب و مودة و عناق و قبلات وجلسات وحكايات ، ما الذي حدث لقد غلفهم صمت سميك.آه يا ربي عونك ومددك.

أخذت الكلمات تلفني ووجدتني أقول في نفسي ، يا ربي لماذا الذين في الناحية الأخري يزداد عددهم و نحن ننقص هنا في عالمنا ، تملكتني رعدة و قشعريرة فيها من خوفي الكثير علي نفسي وأولادي و زوجتي و أخي الأكبر و من هم حوالينا . أراهم وأحس بإنقباضة كأن الموت سيفاجئنا كأسد متوحش يخبط الباب و يندفع و يأخذ أحدنا علي حين غرة و نحن ننظر ولا نصدق .

أخذت ابني هشام إلي الخارج بعدما حاسبت التربي علي أخر دفعة لزوم بناء المدفن الجديد ،وأنا أنظر إلي المدفن الجديد وأقول له يا تري من سيدخلك و سيفتتح الدخول بك و دمعات صغيرات أخذن في التكون في مقلتي لتذكري لأبي وأمي اللذين ترقد عظامهما في قعر "تربة العائلة".

أخذت أحث الخطي إلي خارج المدافن وأنا أدعوا بالرحمة علي كل من فيها وأحس كأنهم يرونني و لايقدرون علي الحديث إلي صامتون رغما عنهم و ليس برغبتهم. ووجدت الآية القرآنية الكريمة في جزء منها تتردد في داخلي "كما يئس الكفار من أصحاب القبور" لتأخذني بشدة وعلمت أن اليأس هناك وأنه توجد حياة من نوع أخر لا أراها ودعوت الله سبحانه و تعالي أن يرحم والدي وأنا أضم ابني "هشام" إلي جانبي في حنو بالغ وكأنني أريده ألا يبتعد وأن يكون دائما إلي جواري و نحن نركب سيارتنا و هي تخترق الطريق بجوار الأهرامات في طريق عودتنا إلي منزلنا و ظلال معاني الآية القرآنية السابقة تدور في رأسي و في خلاياي.

الآية من سورة الممتحنة عجز الآية (13)

 

وفاة سامي

إنه في مثل سني في الصف السادس الابتدائي ، جسده نحيف ، زائغ العينين مرتعش الحركات أحيانا . تصيبه من آن لأخر أعراض اصفرار الوجه و زرقة الشفتين . لا يترك لعب الكرة في الحارة . نراه هناك دائما في الحارة أمام منزلنا ساعة الظهيرة . يتصادف في أغلب الأحوال لعبه مع قيلولة أبي. كانت الكرة كأنها المطارق الحديدية علي رأسنا جميعا و بخاصة إذا غضب ممن يلعب معهم و ركل الكرة بعنف و غضب حتي أنك تحس بها ككائن يصرخ معه و يلبي كل أمنياته.

تخرج في العادة أمي من جحر البيت الذي نعيش فيه و المطبق علينا كالجبل الراسخ و تستأذنه في أن يوقف اللعب قليلا " في ناس نايمه" و لكن ما من مجيب. تصرخ فيه و لا يرد و يعاود اللعب كأنما لا يوجد أحد أمامه. المشهد أمام عيني سخيف فأجدني أجري وأخطف الكرة من أمامه و أنطلق بها إلي الشارع العريض بالطالبية ، شارع عثمان محرم ، فأجده يجري خلفي وهو يسبني بأقذع السباب و أنا أعمل نفسي غير ملتفت لما يقول .

تفلح هذه الحيلة في تسعين في المائة من الحالات ، حيث تهدأ ثائرته و نظل نلعب في قطعة الأرض البور خلق مصنع الثلج في السوق حتي يأتي العصر و يكدنا التعب و ينشب فينا أنيابه وحي أتأكد من أن أبي قضي قيلولته و سيعود للعمل ثانية .ولكنني كنت أفشل في العشرة في المائة من الحالات حيث كان يعود "سامي" إلي ذات المكان أمام دارنا وفي مثل هذه المواقف كان صراخ والده ينهي المسألة و الموقف برمته.

كانت أمي تدعو عليه بأشد الدعوات و أقواها و هي تعلم بمرضه بداء القلب و لكنها أمي حينما تغضب و تشتد في الدعاء و تلح فيه .

حدث أن اختفي "سامي" لمدة شهرين خيم فيهما الهدوء علي حارتنا و لم نر شياطين الكره تدق بابنا و حيطان منزلنا بالكرة الغبية . مر شهران كانت خلالها السكينة ترفرف و الراحة تعشش في جنبات الحارة حتي جاء صباح أحد الأيام فإذا بنا نري العويل و البكاء المكتوم يدق جنبات دارهم التي تواجه دارنا و نري "ستي نجية" تأتي لرؤية أمي و تخبرها :

 -سامي مات و هو بيعمل عملية ف قلبه

غضبت أمي لوفاته . وجدت ساعتها ثقلا في صدري فقد كنت أراه ضعيفا رغم شيطنته و لكنه كان يقسو علي نفسه باللعب ولا يحترم مرضه. بكيت حزنا علي ضعفه . بكت أمي لأنها رأته في ووجدتها تحتضني و هي تدعو لي بدوام العمر و الصحة من بين دموعها. ذهبت أمي لمواساة أم سامي و جلست معها .

بعد هذه الحادثة ، صرت أخشي أمي و دعواتها وأنا أردد في نفسي هل حقا دعوات الأم أو المظلومين كما يقول شيخ الجامع القريب مستجابة. كانت هذه الكلمات تتردد في داخلي و أنا أشاهد جنازة سامي الشيطان الصغير كما كنا ندعوه في سرنا تمر خارجة من الحارة إلي حيث مدافن أسرته و هم يبكون و نحن لا نصدق ما نراه أنا وأخي الصغير.

 

جحر الثعبان

الساعة الثانية عشرة ظهرا. السماء صافية بعد هطول الأمطار هذا الصباح . الأمطار الشديدة و التي خلنا فيها السماء كبحر دافق لن يتوقف أبدا وأصابنا الهلع و كدنا نموت فزعا نحن الصغار . الإحساس بالنداوة في داخلي مع رائحة المطر علي الطوب الأحمر إحساس جميل كحبات الماء المتكثفة علي كوب ماء بارد تحس تجاهه بالشوق والارتياح لقتل عطش شديد وملح.

النداوة في دمي رطبة علي أعضائي تهدهد نفسي و تمدني بالإحساس بالتناغم و الألفة تجاه كل من حولي ، إحساس بالتسامح و العفو عن الجميع و المغفرة لكل زلاتهم صغيرها و كبيرها .

فجأة لاح أمام عيني علي السور الحجري هناك والذي يفصل بين منزلنا و منزل "ست بهية" حيث تتواجد الشقوق بين الأحجار القديمة . كنا نلهو و نلعب بهذه الشقوق و نتخيلها ممرات لعوالم مجهولة حتي نسمع صرخات أمي و حثها لنا بالابتعاد حتى لا تؤذينا حشرة ضارة كامنة هناك . لمحت رأسه خارجة من الشق الكامن فوق عشة الفراخ المبنية بالطين ،خرج حتي ثلثي جسده فأخذت أصرخ بشدة فجفل من صراخي و دخل ثانية . صرخاتي حادة و عالية كأنها طائر في النزع الأخير تحت أسنان حيوان مفترس هزمه الجوع .

لحظات كأنها الدهر وإذ بأبي و أمي إلي جواري و معهما أختي "أسمهان" . عيونهم كلها أسئلة و استفسارات عما يحدث فقط أصابعي تشير إلي مكان خروج الثعبان و قد علا جسمي الارتعاش و لا تخرج الكلمات من فمي و كأنني أصبت بالخرس المؤقت إلا من كلمة واحدة تنتفض علي لساني كما ينتفض جسمي :

 -تعبان ..... تعبان

لاحظت ارتباكا في حركات أمي و تردد من والدي الذي ألجمته المفاجأة . اندفعت أختي الكبري الفتية " أسمهان" إلي مكان شق الثعبان تدس فيه الورق الذي تجده أمامها و تحشو المكان بالحصيات التي تراها دافعة كل هذا إلي قلب الشق بقعة من الخشب. كانت أمي قد فهمت ما يدور في رأس أختي فأحضرت الجبس و عجنته بسرعة لنسد الفوهة الحجرية و ننتظر لحظات حتي يشك و يتماسك ، بعدها أحضرت الأسمنت الأسود ووضعته علي ذات المكان بعد خلطه بالماء .

المشاهد تتري أمام عيني وإحساس الصدمة يزايلني بعد أن اطمأنت نفسي لإغلاق الجحر تماما علي هذا الذي أرعبني . أبي ينظر إلي أختي الكبري ويشكرها بكلمة"طاطا" اسم الدلع الذي كان يطلقه عليها وهو يطبطب علي ظهرها بيده . انتشت أختي الكبري من ثناء أبي و هرولت إلي الدور الأول لترد علي دقات الباب . لم أنم في هذه الليلة وأمي ترقيني من الكوابيس التي اجتاحتني كهطول المطر ، فمرة الثعبان حول قدمي و أخري فوق بطني و آخرها كان هناك يحاول أن يدخل فمي قبل أن يعضني . لم أنم جيدا إلا حينما حل الفجر و أبي يحتضنني بشدة قبل ذهابه إلي العمل و هو يبتسم قليلا و يمسح رأسي بيده السمراء الكبيرة الخشنة من آثار العمل و التعب كما كانت تقول أمي .

 

إحساسات كاتبة

أول مرة أشاهدها فيها كانت من عام بالتمام و الكمال . كنا في حفل توقيع مجموعة قصصية بمكتبة كتب خان بالمعادي . كان المكان ممتلئ عن أخره بالمدعوين و كانت صاحبة المكان "مدام كرم "تنيره و تحنو علي الضيوف كحنو الطائر علي أفراخه فنعم الكرم . المكان جميل فتجد فيه طيور الوداعة تحلق بجوار الأضواء التي أخذت بكل شيء . الفرحة هي عنوان المكان و عنوان تدفق الإحساسات الحلوة بين الضيوف .

نظرت إلي . تبادلنا البسمات الخفيفة . اقتربنا علي تعمد واضح من بعضنا البعض كجس نبض . جلست لأجدها تجلس إلي جواري و نجد أن حفل التوقيع يكاد يبدأ لأجدها تخبرني و بلغة مباشرة و صريحة مملوءة بالصدق و مفعمة بالتواصل البريء الذي لا تشوبه شائبة كأنه ماء المطر الرائق بعد تهطال يوم طويل فرحت فيه كل النباتات و الحيوانات و البشر في الصحراء التي اشتاقت إلي كل قطرة الماء ، وجدتها تقول بأنها تكتب و ليس عندها الشجاعة لعرض أعمالها " وعايزه تاخد رأي حد ينصحها تعمل إيه" ، ضحكت لكلماتها و قلت باختصار " أنا ف نفس المشكلة " تلاقت ضحكاتنا الخافتة فلقد بدأت حفلة التوقيع بالفعل أو كادت و إذ بها تقترب بمقعدها من مقعدي و نحس بألفة تجمعنا.

بعد حفل التوقيع ، كانت دعوتي لها لتناول فنجان القهوة ثم كان ميعادنا في صباح اليوم التالي لنقرأ علي بعضنا البعض ما نكتب و نتبادل خبراتنا في هذا المجال و خاصة و كل منا حضر ورشة في كتابة القصة القصيرة و تمرن علي كتابتها و لكن لا تزال هناك الثقة في النشر و الجرأة علي العرض . كان ميعادنا في الساعة الثانية عشرة ظهرا و ظللنا لمدة ست ساعات متواصلة نتكلم و نتبادل الآراء ونشرب و نأكل أكلا خفيفا حتي وجدتني وكأنني أعرفها منذ أمد بعيد . خرجنا من المكتبة في نهاية اليوم و غبش المغرب يغطي علي كل شيء . دعوتها للركوب في سيارتي لإيصالها إلي أقرب نقطة من مسكنها في المعادي حيث تقيم مع أمها و أختها فأبوها يعمل في الإمارات منذ عشرة أعوام . كنا صامتين فقط عيوننا هي التي تتكلم و لفاتتنا التي تأخذنا إلي حسن الظن ببعض و توقع التلاقي الروحي و التواصل النفسي. كانت النشوة تأخذني للحصول علي رفيق يقدر الأدب و الفكر و الكتابة و يحاول أن ينقل ما في نفسه و العالم المحيط به علي الورق . كلماتها المنطوقة أرق من كلماتها المكتوبة و الإحساس في ألفاظها يدق علي قلب من يقرأ كتابتها.

تركتها عند مدخل عمارتها و أنا ألوح لها بالتحية و رائحة الشاي لا تزال هناك في حلقي بطعم النعناع المحبب إلي نفسي و لا تزال هناك بقايا إحساسات حلوة من لمسات أصابعها ليدي بقصد أو بدون و نحن نتبادل أوراقنا التي نكتب عليها قصصنا في شبه ورشة عمل مصغرة مفعمة بالتفاعل و الإبداع . تتواشج آثار لقاءنا الأول في عقلي و أنا انطلق بسيارتي إلي طريق عودتي لمنزلي في الهرم متفاديا الرصيف عند مطلع طريق الأتوستراد " الطريق السريع ". دقات قلبي تتجاوب مع أغنية أم كلثوم المحببة إلي قلبي و الكائنة علي فلاشة حمراء اللون أحسها تنبض بالطاقة و الإحساسات كنبض قلبي. تلوح مني نظرة إلي الملزمة الصغيرة والتي تضم قصصها القصيرة بخط منمنم صغير و ترقد علي المقعد الخلفي لسيارتي في سكينة و جمال . أنطلق بسيارتي لأجدني أجاوز سرعة المائة كيلومترا لكي أصل إلي منزلي وأذوب بين خطوط كتابتها و أنا أسترجع ملمس يديها و هفهفات شعرها أمامي وهي توقفني لتعبر عن إحساسات الأنثى التي تمتلئ بها قصصها حتى الحافة في زمن ندر أن تجد فيه حكايات و قصص علي مثل هذه الشاكلة من الصراحة والتركيب البديع .

 

قصص بالإنجليزي

الساعة الخامسة صباحا .آذان صلاة الفجر كاد أن ينتهي وعيناي معلقتان بالسماء و الدموع تنزل منهما مختلطة بالدعوات الملحات طلبا لرحمة والدي و تحديدا أمي بالذات التي تركتني منذ عامين . صورتها لا تزال في مخيلتي كانعكاسات الظلال الوارفة علي بحيرات جميلات بحدائق ذات بهجة وشجر . دموعي يلفحها هواء الفجر فتبرد علي خدي و تشعرني بالقشعريرة التي تنتابني حال أن يتملكني الهم و ما أكثرها من حالات .

أخذت اللحظات الفائتة تمر أمام عيني و أنا أسترجعها قطرة.. قطرة كأنني أستعذبها و أستمتع بها . إنها الرسالة الإلكترونية من لندن تزف إلي بشري قبول مجموعتي القصصية الأولي من إحدي دور النشر التي تنشر لكتاب من العالم الثالث و الذين يكتبون بالإنجليزية مثال باكستان و الهند و غيرهما . الرسالة قصيرة و مختصرة " لقد قبلت مجموعتكم القصصية للنشر و هناك توضيحات ثقافية مطلوبة في خمسة مواضع " كدت أصرخ من الفرحة و أنا أري مجهود عام كامل أمامي عام من السهر أمام النص الذي أكتبه أحلق فيه و في ثناياه و أطلع علي القواميس و كتب اللغة محاولا أن أصل للتعبيرات المناسبة و السليمة من حيث التركيب اللغوي الإنجليزي . حينما قرأت الرسالة سجدت علي الأرض شكرا لله سبحانه و تعالي و بكيت فرحا . وهاتفت في الحال "كاثرين" التي ساعدتني علي تحسين كتابتي الإبداعية باللغة الإنجليزية علي مدار ستة أشهر مكثفة بالتمام و الكمال كنا نظل معا فيها حتى منتصف الليل .

لم أدر ماذا أفعل و أنا أحاول أن أدفع الوقت دفعا للمرور حتى تتحرك ماكينات اليوم و تبدأ عجلاته في الدوران لأنطلق إلي أقرب جهاز للصرف الآلي وأسحب منه مبلغا ضخما من المال لأوزعها علي أفراد أسرتي كما وعدتهم فلكل منهم ألف جنيه بالتمام . فرح الجميع و بعد ساعتين وجدت دقات علي الباب لأجد مندوبا يحضر إلي الشقة و معه كيسا صغيرا تلقته زوجتي و أخذت الكيس و صمتت .

في احتفالنا في المساء كان القلم الحبر الغالي هدية من أسرتي لي بهذه المناسبة . عمنا الفرح و قضينا ليلة لم أر مثلها . كانت أحداث اليوم كشريط سينمائي أسترجعها غير مصدق لها و كأنني في حلم شفيف جميل لا أريد أن أفيق منه. كانت هذه الذكري تعشش في رأسي وأنا ادفعها قليلا إلي الوراء و أنا أدق علي جهاز الكمبيوتر خاصتي لأضع مخططا لقصتي عن كنز بإحدى المنازل في شارع الهرم و البيوت القريبة من أبي الهول ، إنها نوفيلا ستمتلئ عن أخرها بالوصف لهذا العالم الغريب الساحر عالم الفراعنة عالم السحر و الجمال و الجلال . أكتب بأسلوبي الإنجليزي المنمق الذي تأثرت فيه بتشارلز ديكنز نجيب محفوظ الرواية الإنجليزية . لاحت نظرة مني إلي صورة أمي الأخيرة و التي التقطتها بهاتفي الجوال لأجدها في لقطتي تنظر إلي ما ورائي وكأنها في هذه اللقطة تحادث أحدا خلفي و تكلمه . طفرت دمعة من عيني كادت أن تسقط علي مفاتيح الكتابة و تبللها . ترامت إلي أذني دعواتها لي بالنجاح و التوفيق في الحياة و في تحقيق ما أريد . أغلقت جهاز الكمبيوتر المحمول "اللاب توب " و أنا أجتر ذكريات أمي و دعواتها لي و أعد عدتي للسفر إلي لندن في رحلة أسبوعين مع كاثرين في رحلتها الصيفية لزيارة أسرتها في لندن.

 

هديل الاختيار

كنا نناديها هدير و نضحك وكانت تلوح علي وجهها إمارات الغضب كأنها زعابيب الشتاء و تعيد كلامها علينا للمرة الألف بأن اسمها هديل باللام وليس بالراء وتختم تعليقها بقولها "ياربي ارحمني "

كنا بعد قليل نتمادي في إغاظتها و نحن نقول : هديرررررررر و في هذه المرة و أمام إصرارنا كانت تنظر إلينا شزرا و تمر كأن لم ترنا أو تعرفنا و تدخل إلي أعماق حجرات شقتهم في الدور الثالث حيث تواجه حجرتهم حجرتنا في منزلين متواجهين بشارع حلمي عبد الرحمن و علي مسافة ثلاثة منازل من شارع عثمان محرم حيث تجد كل شيء يمتزج بكل شيء . ففي هذا الشارع ،عثمان محرم، تجد الشركات تقبع كأفيال الغابة تسد الطريق و تخنق الهواء و السماء ، فهناك شركة البيبسي كولا ، و هناك شركة سيد للأدوية و بعد ذلك بقليل و علي تخوم شركة البيبسي كولا يوجد سوق عظيم تري فيه كل شيء لدرجة أنك تجد فيه مصنعين قائمين ، أحدهما لصنع الثلج والأخر لصنع الغراء حيث تلقاك الرائحة النفاذة هناك حينما تمر بجوار هذا الأخير .

شارع عثمان محرم مكدس فتجد كل شيء قد جار علي كل شيء ولا تجد هناك سوي الأصوات العالية التي تلسع وجهك قبل أذنيك يساعد علي هذا طنين جيوش الذباب كأنه طائرات حربية حطت علي المكان ودكته دكا . "هديل" تخرج من باب حجرة الشرفة المواجهة لشقتنا و تخبرني أن أشاهد الفيلم في التلفاز و تخبرني في حياء باسمه "حبيبي دائما" . أشير إليها بالفهم و أضحك و أنا ألقي عليها تحية الوداع .

"هديل " صوتها صامت كأنه صوت الحمام و حركاتها صامتة محسوبة كذلك ، تحس كأنها لا تريد لخبطة ترتيب الأشياء من حولها . الكل يلمح فيها هذه الرقة و هذا الإحساس الرقي و المرهف و يريد في نفسه الارتباط بها ، ولكن والدها يقول دائما بأنه لا يزوج ابنته و هي في الثانوية وكان يصرخ فيمن حوله "بلاش جهل خلينا نحافظ علي بناتنا و نخليهم يكملوا تعليمهم ، سلاحهم ضد الدنيا دي "

كان والدها يخصني بمعزة خاصة و كان يلقي علي تحية الصباح حال أن أفتح شباك حجرتي وكان دائما يخبرني أن أعلمه بسعر الدولار من آن لأخر . لا أنسي المرة الوحيدة التي دخلت فيها إلي منزله وكانت لترجمة خطاب جاء من إحدى الشركات في دولة خليجية ردا علي تقدمه لوظيفة فيها و كان الرد باللغة الإنجليزية التي لم تفلح "هديل" في فك طلاسمها له . شربت الشاي و شاهدت عيني "هديل" الواسعتين عن قرب و لمست في سرعة أناملها و نعومتها في سلام خاطف لأتخذ بعد ذلك قرارا واحدا ألا و هو الزواج منها مهما كانت الظروف و أنها ستكون نصفي الثاني بإذن الله و رفيقي في الحياة و هجيرها واختناقات الزمن و عوادي الدهر و دقاته علي رأسي ، همست لأمي بهذه الأمنية فباركت هذه الأمنية و أثنت علي "هديل " وتربيتها و خلقها و ضحكت و هي تقبلني من خدي و تقول :

 - والله وكبرت يا حازم و بقيت راجل

مر عامان علي تخرجي و الفرح كان مهيبا في إحدى قاعات نادي الطالبية في شهر يوليو ، الزغاريد تدق جنبات القاعة و المنازل المحيطة لمكان الفرح كأنها عصافير تحوط المكان و تنطلق في جنان منبسطة ومملوءة بالورود و الرياحين و الأغاني الهادئة التي تتغلغل إلي ذرات و خلايا الجسد فتنمو صحته و تزيد فرص عمره واستمراره في الوجود في هذه الحياة

"هديل" ترفل في فستان الفرح كالملكة المتوجة وأنا أرنو إليها وقلبي يدق في صدري ، لقد جاءت مليكة قلبي و جاءت أطيار النعيم في زخات الفرح الذي يرطب القلب . هانحن نعبر بوابات الماضي لعتبات المستقبل القادم و ضياء الشمس ، شمس الحياة يلفنا في طقوس قدسية تهدهد كياننا و تظلل عشنا الأخضر وارف الظلال بمائه السلبيل و كوثره الدائم .

 

عضة كهربا

لا أزال أذكر هذا المشهد بكل تفصيلاته المختلفة كأنه قائم أمامي وأحس بصورته تعود إلي مخيلتي بل و أشعر بقدرتي على التحكم في هذه الصورة ووضوحها فأزيد شدة سطوعها في مكان ما و أخفضها في أخر وأعمق الاحساسات في ركن وأخفضها في ركن أخر ، فالأمر أمامي كأنه شريط سينمائي يتم استرجاعه بسرعات ما علي الآلة المخصصة لذلك .

الساعة الثانية و النصف ظهرا، الصيف القائظ في كل مكان كأنه فرن قد انفتح علي كل شيء فالجميع يتأففون منه ، أحمل في يدي الطبق الألمونيوم و القرش أو القرشين لزوم شراء الفول لأبي من "عم عبد الخالق" بتاع الفول . أمر علي الكابلات الكهربائية البارزة في المنزل الراقد علي أول شارع حلمي عبد الرحمن كأنه تنين يبث ناره هناك . علب الكهرباء الكائنة بسور هذا المنزل تفتح فمها كأنها أفعي تقذف بسمها ولونها الأرقط الجذاب علي كل من يمر . المصهرات تلوح داخل لوحة الكهرباء المفتوحة كأنها لمبات بيضاء من الصيني في شكل يغري بلمسها . كلما شاهدتها كنت أسال نفسي ماذا يا تري تفعل هذه الأشياء و كانت هذه الأسئلة تسيطر علي في ذهابي و عودتي كل يوم حتى وجدتني أقترب في ظهيرة إحدى الأيام من إحدى هذه المصهرات و ألمسها بيدي لأجدها تقذفني إلي الجانب الأخر من الطريق بكل جسدي الصغير ، لحظات مرت علي وإذا بكل شارع حلمي عبد الرحمن حوالي يقلبون في و أنا مندهش من التفافهم حولي . لحظات وكان أبي وأمي في المكان وباد عليهما الانزعاج الشديد والوصفات تتهاوي علي رأسي فمن يناولني مشروبا غريبا و يصر علي أن أشربه ، و منهم من يدلك لي صدري الصغير و يسألني عما إذا كنت أشعر فيه بالألم كل هذا في مكان الحادث ، حتى خطفني أبي و حملني إلي المنزل وأمي تبكي و تمسح رأسي . لم أنم طوال هذه الليلة من بكاء أمي و أبي الذي وضعني في حجره و ظل يقرأ القرآن الكريم علي رأسي و بخاصة السور القصار ، بل تعدي الأمر إلي البخور و التعاويذ حتى نمت نوما عميقا لأنهض في الصباح وأجد أكثر من هدية إلي جواري . لا تزال ذكري اندفاعي بعرض الشارع من جراء نطرة الكهرباء لي في ذاكرتي حتى الآن .

أخذني أبي وأمي في اليوم التالي إلي الجيزة و مروا بي علي محلات الحلوى و كانوا يقبلونني و لا يكفون عن ذرف الدموع وكأنهم يعوضونني عما حدث لي بالأمس ، عدنا إلي المنزل و لم أخرج ثانية منه لمدة شهر بعدها عدت إلي الخروج لشراء ما يريدونه من أشياء صغيرة و في كل مرة كنت أتخذ الطرف الأخر من الطريق بعيدا عن عفاريت الكهربا التي دفعتني و في كل مرة أقرأ الدعوات في سري احتياطا من الكهربا و لسعها و شرها .