في نص له ميزات بناء القصة في أول نشأتها يحاول القاص اليمني معالجة موضوع الفقر من خلال لوحة في معرض رسمتها طفلة مصورة عذاب الفقر وقسوة الإنسان وعدم عدالة السماء في واقعٍ يموت فيه الطفل من الفقر والمرض ويلقي قرب صناديق القمامة حينما يأتي من علاقة تحرّمها القيم والأعراف.

عرس السحاب

حامد الفقيه

ذبلت خيوط الشمس ، وسقطت غصون الضوء ، وبرد السعير ؛ فمات النهار ، وخلدت الآلام , والأحزان , والشقاء آيبة إلى جلباب الليل الأسود الذي يطوق تلك اللوحة . وحينها ارتعدت أصقاع السماء ، وتوسلت ضوء القمر أن يبزغ . بين ثنايا اللوحة ثلاثة أطفال شاحبو الوجوه ، مفطرو الأقدام , والقلوب , يجثون حول سرير السحابة البيضاء, ويتمسكون بخيوط نور توصلهم بالسماء .. في صالة العرض تساءلت :

 -  لمن هذه اللوحة ؟

تقدم نحوي مشرف المعرض :

-  هذه  اللوحة لطفلة اسمها "جارية النجار"

أجفل برموش عينيّ ؛ لتوضيح الرؤية , وأنظر في اللوحة ، ابتسامات مذبوحة تظهر على شفاههم ، يفترشون السحاب وينام بعضهم  بجوار بعض كشواهد القبور ، يمدون أياديهم إلى الأعلى , ويتناغمون بموسيقاهم التي تتجاوب لصداها أرجاء السماء ؛ فترن نداءاتهم في بلاط العرش . الوجه الأصغر فيهم يسترجع في رقاده الآمن من سعير البشر. يوم وُضِع جوار برميل النفايات ذات مساء أفل عنه شاهد السماء ( القمر ) , ويتحسس لدغ النمل وهي تهرع من بقايا الطعام البارد إلى جسده الدافئ القادم من عالم الرحم للتو . تتفتح عيناه على يومه الأول وشمس البكور ترفل قيود المساء لتدفئ جسده المتجمد ، وتدفع عنه فلول النمل المتكومة فوق جسده , وفمه المنتظر حلمة الثدي الرافض أن يتشوه تكوره , ويلين ملمسه ؛ فتكرهه قبضات العُشاق .

يصبح الناس على صراخ ضعيف بجوار برميل النفايات فيفرون ؛ لكي لا يلتصق العار بهم ، ويتلسن عليهم الناس . وقد دفنوا إنسانيتهم في صدورهم المعلبة بختم العرف والعار . لتقدم الهرة البرية التي لا تسكن البيوت وتجاور البشر ، فترى اليدين الضعيفتين تتشبثان بالهواء واللاشيء ؛  فتهرب من جوار الجسد الضعيف وهي تلعن البشر . انتصف النهار والشمس تحث خطاها نحو الغروب لأن نبضات ضوئها تكاد تتوقف لتعلن المغيب في وسط السماء ؛ كي لا تضيء أم الطفلة وهي تذهب إلى شقة أبي الطفلة الخطيئة ، أو تبحث عن فارس جديد لخطايا جدد .

 أما الطفلة فقد غادرت الحياة  قبل أن تغادر الشمس سماءها وهي تبتسم..

 وها هي خالدة على  فرش السحابة البيضاء .

على اللوحة يدا الطفل الثاني ترتفعان وقد ربح منهما قدر الشقاء نصيباً .. تتهتك لهما ستائر السماء , وتتحطم لهما أغلال وقيود ، مازالت أثار ألوان أصابع الحلوى في يده . لون وردي ، بنفسجي ، وأصفر . يوم كان يدور حول السيارات في الجولة يروج لبيعها ويُمنّي نفسه باستبدالها بأقلام تحملها أصابعه . تحركت يدٌ بورقة نقود مقابل أصابع حلوى ذلك اليوم ؛ ليقفز الطفل من الفرح بما يحمل من نقود . فتعاجله عجلات سيارة فارهة تسرق فرحة لحظته ؛ فيتجمهر الناس حول فردتي حذائه إحداهما كبيرة والأخرى ممزقة فيرمونهما في برميل النفايات وهم يسخطون عليه ، ويتأوهون لضرر السيارة الفارهة .

 ينزل صاحب السيارة الفارهة ليداعب عطره أنوف الحاضرين ، وينظر في ساعته يبدو أنه قد تأخر عن موعد مهم . اللون الأحمر الملتهب قد غطى ألوان أصابع الحلوى , ومرارة طعم الموت طغت على سكر الحلوى في فم الطفل.

التفتُّ إلى مشرف المعرض :

- وأين هي صاحبة اللوحة ؟

- أترى الوجه الطفولي الثالث على اللوحة ، هذه هي (جارية النجار).كانت تعشق اللوحة واللون , وكانت تحلم دوماً أن تكون (طبيبة) ؛ لتعالج أرواح الملائكة الصغار السقيمة المعوزة , وقبلها تطيب روحها المثقلة بالتهاب رئوي حاد . وعلّها أن تطيب روح أبيها المولعة بدخان السيجارة ، والذي وضعها يوماً (رهن ) عند صاحب البقالة مقابل علبة دخان يومه . وبعد مغيب الشفق ووأد الغسق لنجوى الضوء ، رحم صاحب البقالة صراخها وبكاءها ليعطيها علبة ألوان ؛ لتسكت . وأطلقها  تعود في طريق البيت فتلاحظ نقطة ضوء حمراء تستعر متوهجة ثم تخفت بجوار بيتها , تشم رائحة النقطة ؛ فتعرفه وتحس بظلامه يطغى على ظلام الغسق . تدخل إلى حجرتها مع أخواتها ، لتكمل لوحتها وتلون حلمها  - طبيبة - بالألوان الجديدة لكن حلمها توقف عند هذا الحد حينما نهشتها نوبة سعال حادة .

فرسمت على وجه السحاب ميزاناً أبيض تحمله أيادي الطفلين وهي ثالثتهما وفوقه عبارة " آلهة العدالة والحق لا ترحم " . لم يكتف السعال بالحد المألوف ذلك اليوم ، بل تكاثف حتى أضاق مجرى تنفسها , ليتوقف وهو يسيل اللون الأحمر الدافئ من أنفها . فسال على لوحتها ليكمل اللون الأخير خطوط لوحتها الناقصة.

 أسفل اللوحة وتحت فرش السحابة البيضاء غبار ، وأرض مضطربة ، ووجوه بلاستيكية واجمة . وعلى خيوط الغبار أحرف متناثرة وعبارات يجرفها صرير الريح , وأعين البشر تقرؤها : "حاذروا ظلام أنفسكم ؛ سيلغي الأرض .. ويمحو السماء"

21 / 5 / 2010م