القاصة المغربية الزهرة رميج، قاصة ومترجمة توجت هـذه السنة بجائزة "ثقافة بلا حدود" للقصة القصيرة جدا"، في قصتها "الغريب" التي تنشرها "الكلمة" نتعرف على جزء من ملامح تجربتها القصصية .

الغريب

الزهرة رميج

ككل صيف، ها هي نوبة الجنون تنقض عليه. يشرع باب مسكنه الصغير، فيتمكن السكان ككل مرة في السنة، من إطفاء بعض عطش حب الاستطلاع.

"مقطوع من شجرة !". هكذا ينعتونه. صديقه الوحيد الصمت. خليلته الوحيدة العزلة.

استيقظ سكان زنقة السوق ذات يوم  قائض، على باب الدكان الذي ظل مغلقا زمنا طويلا، يُفتح و يخرج منه شاب وسيم، أنيق أناقة مثيرة في هذه الزنقة التي تعج بالغبار المتطاير من دكاكين النجارين ومن روث الحمير والبغال التي تمر عبرها إلى السوق المطل من أعلى الهضبة التي تتلاشى الزنقة تحت أقدامها. رأوه يمرق كالجن، كما قال احميدة السمسار ـ أو"البركاك" كما يسميه سكان الحي في غيبته ـ، ينبعث كأحد أهل الكهف كما قال فقيه الجامع. رأوه يخرج من الدكان. و لكن، لا أحد منهم رآه يدخل إليه مثلما لا أحد رأى صاحب الدكان يغادره. استيقظوا على باب الدكان مفتوحا مثلما استيقظوا عليه ذات يوم، مغلقا. متى جاء؟ كيف؟ ومن أين؟...  أسئلة لم يجد لها السكان أجوبة حتى عند احميدة البركاك الذي لا تفوته حركة في هذه الزنقة رغم اكتظاظها الخانق وحركتها الدؤوبة، والذي "يسمع دبة النمل وسط ضجيج المناشير والمطارق والعفاريت التي لا تهمد في هذه الزنقة" كما يقول مفتخرا أو مهددا. لقد طرح حضور المفاجئ نفس الأسئلة المحيرة التي طرحها الغياب المفاجئ لصاحب الدكان قبل سنوات.

ككل نوبة جنون، ها الغريب يرمي بملابسه الأنيقة و بأثاث منزله في عرض الزنقة. يخرج عاريا كما ولدته أمه. يجيل النظر حوله بكل جرأة، دون أن ترمش عينه بذلك الخجل الذي يكسبه نوعا ما احترام السكان وإن كان احتراما مشوبا بالحيطة والحذر. يطلق لسانه من عقاله، فينطلق كالسيل الهادر. كأنما يريد في لحظة وجيزة، أن ينتقم من زمن كامل سادته حكمة الصمت. يخرج عاريا كما ولدته أمه. غير أن لا أحد من الرجال أو النساء أو الصبايا يغض الطرف حياء.

يوم جنونه، يوم مشهود. يوم حزن للبسطاء الطيبين المتعاطفين. ويوم تشفّي للحاسدين والحاقدين وعلى رأسهم احميدة البركاك الذي لم يتمكن، رغم محاولاته العديدة، من التقرب منه ومعرفة أصله من فصله. وهذا ما عرضّه ـ و لأول مرة في حياته ـ لسخرية السكان و حرمه من متعة التلذذ بذلك الإحساس الفريد بنشوة السلطة وهو يرى الخوف الرهيب يطل من أعينهم المنكسرة.

يوم جنونه، يوم فرجة غريبة بالنسبة للفتيات اللواتي يشاهدن لأول مرة في حياتهن، رجلا في كامل عريه، بل و حتى للنساء المتزوجات. ذلك أنهن فيما بعد، يستمتعن في جلساتهن الخاصة بالمقارنة بين عضوه التناسلي وأعضاء أزواجهن المختلفة الأشكال والأحجام. وبما أن جسده فارع الطول متناسق التضاريس، فقد اتخذن منه المقياس النموذجي أثناء المقارنة.

يوم جنونه، يوم عيد بالنسبة للأطفال الذين حرمهم قدومه من متعة اللعب وقت القيلولة، أمام دكانه الملتصق شمالا، بدكان مصلح الدراجات و مكتريها للأطفال، و من الاستمرار في جعل باب دكانه نقطة انطلاق السباق و نهايته.

يوم جنونه، يوم سعد بالنسبة لبعض السكان الذين يهرعون إلى الاستيلاء على أثاثه المتناثر، خاصة  أنه لا يسأل عنه بعد عودته من المستشفى و لا أحد يتجرأ أمامه على الحديث عن جنونه.

عندما أصابته نوبة الجنون لأول مرة، تحلق السكان حوله دون أن يستطيعوا الاقتراب منه. كان يسب و يلعن دون أن يعرفوا لمن يوجه شتائمه. كلام بذئ يطال الجميع ولا أحد في نفس الوقت. خطا احميدة البركاك خطوة نحوه، فإذا بسعاره يشتد، فيرفع كرسيا بجانبه و يقذف به، بكل ما أوتي من قوة الجنون، في اتجاهه. تراجع المتجمهرون إلى الوراء خائفين هلعين. هرع أحد السكان إلى مركز الشرطة الذي يقع غير بعيد، ليخبر المسؤولين بحالة الغريب الخطيرة كي يحضروا بسرعة لإيداعه المستشفى قبل أن يستبد به العنف و تقع الكارثة. لم تمض سوى دقائق حتى عاد الرجل، ليعلن للجميع رفض رجال الأمن الحضور إلى عين المكان، بدعوى أن هذه المهمة لا تدخل في نطاق اختصاصهم، وأن أهل المجنون وحدهم من يحق لهم ذلك. وفي حالة عدم استطاعتهم التغلب عليه واقتياده إلى المستشفى يتوجب عليهم، آنذاك، اللجوء إلى السيد وكيل جلالة الملك ليعطيهم الإذن بطلب مساعدة الأمن الوطني. ورغم تأكيده لهم أنه مقطوع من شجرة، إلا أنهم أصروا على موقفهم.

ما إن انتهى الرجل من حكايته، حتى طلب عمور صاحب البيت المقابل لدكان الغريب، من زوجته أن تحضر إزارا ومن صاحب التاكسي الكبير أن يحضر سيارته. تقدم بخطوات هادئة نحو الغريب قائلا:  تعال يا بني.غط جسدك العاري لتقيه حرارة الشمس الحارقة وهذا الغبار المتطاير". أمام استغراب السكان، توقف الغريب عن السب و الشتم. أسلم جسده طواعية لعمور وراحت نظراته الزائغة تتابع حركات يديه وهو يلف جسده المرتعش بالإزار. لم يبد أية مقاومة وعمور يقوده إلى السيارة ويجلسه في الكرسي الخلفي إلى جانبه. ظلت الأفواه فاغرة والعيون مندهشة تتابع السيارة البيضاء التي انطلقت مثيرة الغبار وراءها، إلى أن غابت عن الأنظار ...

سيعرف السكان فيما بعد، أن عمورا أخذه إلى المستشفى المحلي، غير أنهم هناك رفضوا استقباله لخطورة حالته. قالوا: "عليك أن تأخذه على وجه السرعة، إلى مستشفى المجانين بمدينة برشيد". آنذاك، قرر عمور تحمل المسؤولية الجسيمة.

في مستشفى الأمراض العقلية، ادعى أنه خال المجنون وقريبه الوحيد. ظل يطمئن عليه  يزود الممرضين باحتياجاته طيلة الشهر الذي أقام فيه بالمستشفى، إلى أن استرجع قواه العقلية.

بعد عودته، حاول السكان التقرب منه أكثر ... لكنه عاد إلى صمته ووحدته. أمام هذا الجدار الذي عاد يقيمه بينه وبين  السكان، اتجه احميدة البركاك إلى عمور ليشفي غليل تساؤلاته. وكم كان وقع المفاجأة عليه قويا، عندما أكد له عمور أنه لا يعرف عنه شيئا. لكنه سأله مستغربا:

ـ أ بعد كل ما فعلته من أجله، لم يخبرك من يكون و ما قصته؟

ـ هذا هو الواقع. و أنا لا يهمني أن أعرف من يكون. ما قمت به كان لوجه الله وليس من أجل معرفة أسراره. رد عمور بلهجة مستاءة.

انشغل سكان زنقة السوق لمدة طويلة بما حدث. هذا الغريب يبدو رزينا و متخلقا ولا شيء في طبعه يجمع بينه وبين عمور صاحب النكتة الدائمة والضحكة المجلجلة التي تخترق عن بعد، جدران البيوت المحيطة. فما الذي يجعله يأنس إليه ويسمع كلامه ويسمح له بالاقتراب منه وحده دون غيره من السكان؟ فسر البعض الأمر بكون الجنون وحده من دعاه إلى ذلك. رأى البعض الآخر أن السبب يكمن في تلك النظافة التي يتميزان بها معا في هذه الزنقة المتسخة. وأن البياض الدائم لعمامة عمور وجلبابه رغم الغبار المتطاير الذي لا يرحم أحدا، هو  ما شد المجنون إليه.

أرجع أحدهم  السبب إلى احتمال وجود علاقة قرابة بين هذا الغريب وعادل صاحب الدكان  الذي كان يستلطف عمورا ويتقرب منه أكثر مما يفعله معهم. استبعد آخر هذا الأمر مؤكدا أن عادلا كان يتفاهم معهم أكثر من تفاهمه مع عمور أو الحاجة زهوة. فقد كانت وضعيته كوضعيتهم بعيدة كل البعد عن وضعية عمور و الحاجة الميسورين الوحيدين في هذه الزنقة و إن كانت درجة يسر عمور أقل منها بكثير.

لكن استغرابهم ازداد بعد رجوعه من المستشفى عندما قبل الغريب صينية الطعام التي بعث بها عمور إليه مع أحد أبنائه، بينما رفض رفضا قاطعا الصينية التي بعثت بها إليه الحاجة زهوة مع خادمتها الصغيرة. ذلك أن الحاجة زهوة معروفة بفعل الخير. فقد حجت سبع مرات ناهيك عن العمرة التي تقوم بها كل سنة. مذ عادت من إيطاليا بعد غياب عشرين سنة، و هي تترحم كل شهر، على روح زوجها الثري الذي تعرفت عليه ـ حسب روايتها ـ عند مشغلتها الإيطالية وتزوجت به بعدما أسلم ـ طبعا ـ  على يد إمام المسجد وقام بعملية الختان. لم تنجب منه أولادا. لذا، أوصى لها بثروته كلها وطلب منها أن تحج بالنيابة عنه وأن تترحم على روحه مرة في الشهر، بإقامة مأدبة فخمة تليق بمكانته الرفيعة؛ مأدبة ينتظرها سكان زنقة السوق بشوق رغم أنهم لا يحضرونها ولا يعرفون أصحاب السيارات السوداء التي تصطف أمام بيتها بعد صلاة العشاء. تبعث إلى كل منهم قصعة كسكس "معتبرة" مليئة بلحم الغنم اللذيذ المتوج بالبصل المعسّل المرصع بحبات الحمص والزبيب الشهية.

أن يرفض طعام الحاجة زهوة المتميز الذي يثير لعاب الجميع، و يقبل بطعام عمور الذي لا يختلف كثيرا عن طعامهم، أمر ظل يحيرهم، خاصة عندما علموا من صاحب الطاكسي أن الغريب لا يعرف شيئا عما فعله عمور من أجله. فقد طلب هذا الأخير من الأطباء والممرضين أن يظل الأمر سرا بينهم. إضافة إلى أن باب دكانه يكاد يلتصق بباب الحاجة زهوة من جهة اليمين بينما بيت عمور يقع على الرصيف المقابل. فهي بذلك تكون الجار الأقرب و الأولى.

ها هي نوبة الجنون تنقض عليه مرة أخرى. كالعادة، خرج عاريا  كما ولدته أمه يجيل نظراته الزائغة ويطلق عقال لسانه ويصب جام غضبه وقد تجمهر السكان حوله ... كالعادة، يتوارى احميدة البركاك عن الأنظار وحمو بائع الماحيا و الجيلالي بائع الكيف و اغضيفة القوادة ... لكنه هذه المرة، بدل أن يبقى أمام دكانه قاذفا حمم غضبه، إلى أن يستسلم في النهاية إلى عمور، أخذ كرسيا  وضعه وسط الطريق وصعد فوقه متخذا هيئة شرطي المرور. بدأ  يقوم بنفس الإشارات وكأنه يوجّه مواكب السيارات المزدحمة التي لا يراها سواه.

يشير إلى بيت عمور صائحا:
"هنا الجنة ! هيا يا أصحاب الجنة، تقدموا... ادخلوا !
ثم يشير إلى بيت الحاجة زهوة التي كانت تطل من الطابق الثالث:
"هنا جهنم ! هيا يا أصحاب جهنم، تقدموا... ادخلوا !

كان لا يزال يكرر نفس الحركات و يردد نفس العبارات،عندما رأى عمورا يتقدم نحوه. صاح كالطفل:
"أبي، أبي ! أين غبت عني كل هذه السنين؟ انظر يا أبي، ها قد انتقمت لك منهم. ها هم يكتوون بنار جهنم. هل شممت رائحة أشلائهم يا أبي؟ انظر إليهم يتفحمون داخل سياراتهم السوداء ... ضمه عمور إلى صدره. لف جسده بالإزار الأبيض. أدخله سيارة الطاكسي وجلس بجانبه في المقعد الخلفي. انطلقت السيارة مثيرة وراءها ذلك المزيج من التراب والروث وبقايا النجارة. أما أنظار السكان، فلم تتابعها هذه المرة، بل بقيت مشدودة إلى الشرفة المظلمة للطابق الثالث من بيت الحاجة زهوة الذي يهيمن على بيوتهم الواطئة