ضمن فعاليات المنتدى الرابع العاشر لجمعية الفكر التشكيلي، احتضنت العاصمة المغربية الرباط ندوة محورية حول علاقة "التشكيل بالتشريع" ضمن سلسلة برنامج المنتديات الفكرية التي تنظمها جمعية الفكر التشكيلي، هنا تقرير يضم الورقة النقدية التقديمية للندوة والتي عرفت مشاركة العديد من النقاد والباحثين لامسوا من خلال تدخلاتهم واقع الفنون الجميلة في علاقته بحق التتبع وسؤال الخبرة.

التشكيل والتشريع

واقع الفنون الجميلة بين تفعيل حق التتبع وسؤال الخبرة

ضمن برنامجها الثقافي السنوي، وامتداداً للمنتديات الثقافية والفكرية التي تنظمها حول قضايا فكرية وجمالية راهنة، نظمت جمعية الفكر التشكيلي بتعاون مع وزارة الثقافة، المنتدى الرابع العاشر موضوع: "التشكيل والتشريع - واقع الفنون الجميلة بين تفعيل حق التتبع وسؤال الخبرة" وقد ألقى الخبير الدكتور عبد الحكيم قرمان الخبير الدولي في الملكية الفكرية، ورقة في محور الندوة والتي نقدم ورقتها التقديمية:

التشكيل والتشريع

واقع الفنون الجميلة بين تفعيل حق التتبع وسؤال الخبرة

لقد أثبت تاريخ الشعوب بأن الفهم الصحيح لتطور وارتقاء الأمم لا يرتسي فقط على مخرجات الإنتاج التراكمي للآلة الاقتصادية وأنماط التدبير للشؤون العامة في مختلف مجالات العمران والتنظيم التأطير والتكوين والتطبيب والترفيه...بل يشكل ذلك كله أساس البنيات التحتية الضرورية لانعكاس ثقافي وفني للبنى الفوقية، تلكم البنيات الجمالية والرمزية العاكسة بدورها لانساق المعارف والعلوم والإبداعات الفنية والقيمية للقوى الناعمة للمجتمعات المتمدنة. وتأسيسا على ما سلف، لا تكتمل معاني التقدم المجتمعي في كل تجلياته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والبيئية إن لم تتخلله وتعكسه بجلاء حركية فكرية وإبداعية مصاحبة ودافعة باستمرار نحو أفاق استقرائية واستشرافية واستكشافية.

إن قياس تطور مستوى الإنتاج المعرفي والعلمي والإبداعي لأي مجتمع، يشكل إحدى المداخل الهامة التي من خلالها يمكن استبيان باقي مستويات التقدم المؤسساتي والإنتاجية الاقتصادية والتمدن والعمران. وتشكل الفنون الجميلة بكل أبعادها التشكيلية والبصرية والرقمية إحدى الحقول المعرفية والجمالية الاستقرائية والاستشرافية والاستكشافية المميزة في مسارات تطور البنى الفوقية للشعوب الدالة على أشكال وألوان ومضامين الذاكرة الفنية والرمزية والجمالية لهذه الشعوب. لذلك، فليس من الغريب أن يتنبه المنتظم الدولي مبكرا إلى ضرورة شمل مختلف الابتكارات العلمية والإبداعات الأدبية والفنية ومختلف المهارات والمعارف الأصيلة للشعوب بالحماية القانونية عبر صيانة كرامة وحقوق منتجيها المادية والمعنوية، وقد وضعت لذلك الأمم أنظمة تشريعية ومؤسسات للحماية وللتدبير الجماعي للحقوق المشار إليها.

ويعتبر المغرب من بين أولى الدول التي اهتمت بحماية الملكية الفكرية عموما وحماية الملكية الأدبية خصوصا حيث صدر ظهير في هذا الشأن بتاريخ 23 يونيه 1916 تركز حول حماية المؤلفات الأدبية والفنية بمنطقة الحماية الفرنسية. كما تعتبر بلادنا من أوائل الدول التي انضمت إلى المنظمة العالمية للملكية الفكرية ((OMPI التابعة لمنظمة الأمم المتحدة. وقد تطورت التشريعات الوطنية بعد ذلك حتى الآن بموازاة مع ما تعرفه التشريعات والاتفاقيات الدولية من تطور وتحديث للمفاهيم المتعلقة بهذا المجال، ارتباطا مع ما يعرفه المغرب من تحديث ودمقرطة ودسترة للحقوق الثقافية ولجرية الفكر والإبداع، وتشجيع للإبتكار، وصيانة للرأسمال اللامادي للأمة باعتباره رافعة للتنمية المجتمعية المستدامة.

لكن واقع الفنون الجميلة ببلادنا، وبالرغم مما راكمه المغرب من تجارب وتراكمات كمية ونوعية في حقل التشكيل والجماليات، لازال، من ناحية، لم يدرج بعد ضمن خانة أنتاج القيمة في نطاق الحماية القانونية للملكية الفكرية بكل مستلزماتها المعمول وفقا للمعايير الدولية، كما أن القطاع بما له من مؤهلات اقتصادية وانتاجية كمية ونوعية، يظل رهينا لإكراهكما ضاغطة، لعل أهمها عدم تفعيل القوانين وسوء انتظام السوق الفنية وغياب تنظيم الوساطة والتتبع والخبرة من جهة ثانية. كل ذلك، يبين أهمية وملحاحية مباشرة الجهات الوصية ومختلف الشركاء والمهنيين في جال الفنون التشكيلية ببلادنا لورش التداول في شأن أمثل سبل المعالجة والإصلاح لهذا القطاع الفني المنتج للقيمة الاقتصادية وللقيم الجمالية على حد سواء.

ولعل أهم باب يمكن من خلاله ولوج الإصلاح،  التفكير في وضع قانون لسوق الفنون التشكيلية والبصرية والرقمية، يكون قاعدة ومنطلقا لتنظيم المجال وتحديد المفاهيم والحلقات والمعايير المعتمدة وكذا حوكمة الممارسات عبر إرساء ميثاق للأدبيات والأخلاقيات المرجعية للقطاع،  لاسيما ربط السوق الفنية  الوطنية للمزادات بنظيراتها العالمية. وهو الأمر الذي يدعو إلى أهمية اتخاذ التدابير المناسبة من أجل تنظيمها وفقا للمعايير الدولية  الشيء الذي سيساهم في إرساء إحدى الأسس القوية للصناعات الثقافية الخلاقة ببلادنا، كما سينشط الحركية الإبداعية الوطنية عبر تكريس الحماية القانونية حماية الملكية الفكرية بمختلف مستوياتها وطنيا ودوليا.

إن اهتمامنا ومواكبتنا سنينا عديدة لكل هذه القضايا والرهانات المتصلة بثنائية التشكيل والتشريع ببلادنا، يدفعنا اليوم لاقتراح مسالك متجددة للتفكير وفقا لمقاربة استقرائية واستشرافية للقطاع، آملين أن تفضي هذه المحاولة إلى إثارة انتباه من يهمهم الأمر  للتحرك في تجاه مباشرة الإجراءات الواجب اتخاذها للرقي بهذا الخصوص. وهي دعوة صادقة أيضا لفتح الباب واسعًا أمام رجال القانون والفن معًا لتطوير التشريعات الخاصة بحقوق الفنانين التشكيليين، وسد الثغرات الموجودة في النصوص القانونية في تشريعات حماية حقوق المؤلف والحقوق المجاورة، حيث لا زالت بصيغتها المعتمدة، تتناول الفنانين التشكيليين بطريقة موجزة ومختصرة وعلى هامش التفكير بل خارج الأجرأة والإنفاذ حتى.

 فهل سنشهد استنهاضا لنقاشٍ قانوني جاد حول قانون حق المؤلف وسوق الأعمال الفنية.