تقرير متوسطي

الأدب والشرعية والتاريخ

عبد السلام دخان

افتتح ملتقى المتخيل المتوسطي موسمه الثقافي لسنة 2009 ـ 2010 بتنسيق مع جمعية الشعر الإيبيرو مغربي بلقاء مع الناقد المغربي عبد الرحيم جيران، في قاعة الندوات بمكتبة عبد الله كنون بطنجة، حول كتابه "إدانة الأدب" الذي أثار ضجة كبرى في الوسط الثقافي، وذلك يوم الجمعة 30/ 10/ 2009 في الساعة الرابعة والنصف مساء. وقد افتتح اللقاء القاص والناقد د. عبد اللطيف الزكري الكاتب العام للملتقى وسط جمهور نوعي حضرته أسماء وازنة، وقد تركزت كلمة التقديم على تبيين الدور الطلائعي الذي يسعى الملتقى إلى لعبه في خدمة الثقافة المغربية بخاصة والإنسانية عامة في وقت بدأ العياء يتسرب فيه إلى المؤسسات التي تعنى بالشأن الثقافي. وانتقل بعد ذلك د. عبد اللطيف إلى الإشارة إلى أهمية استضافة ناقد متمرس عارف بإواليات القول النقدي ـ الأدبي، وإلى أهمية الكتاب محور اللقاء المتمثلة في إثارة السجال النقدي من جديد وإحيائه، بما يعنيه ذلك من تدشينه مرحلة جديدة في الفكر العربي تسعى إلى الخروج من مأزق التبعية والتعبير عن الذات بالحرص على صياغة أسئلتها من دون الارتكان إلى التصديق على كل ما يرد من الغرب. ولم يفت د. عبد اللطيف الزكري أن يشير إلى أهم محتويات الكتاب والقضايا التي يثيرها حتى يضع الجمهور الحاضر في الصورة العامة التي يكتسيها اللقاء.

وفي نهاية المداخلة التي قدمها المحاضر فتح باب النقاش الذي أغنى المداخلة في علاقتها بما ورد في كتاب "إدانة الأدب" بردود كانت أكثر قوة وتعبيرا عن وجهات نظر مختلفة بصدد مفهوم الأدب والتاريخ، وعلاقة الأدب بالتدريس وما تطرحه من معضلات معرفية وإجرائية. لكن اللافت للنظر هو أن اللقاء كان فرصة للتعبير عن تفكير نوعي متحرر من صبغة الحوار السائد الذي يرتهن بمسبقات جاهزة، بحيث ساد الانطباع بإمكان ولادة توجه جديد في السجال النقدي يقوم على أهمية الأسئلة في مطارحة الأدب وإيلاء القضايا الابستمولوجية المتعلقة به ما تستحق من العناية.

لم يكتف المحاضر فقط في تلمس العلاقة بين الشرعية والأدب والتاريخ بضبط شكلها ومحتواها بل انتقل إلى مسألة التأويل في الأدب وعلاقتها بالشرعية والتاريخ. فما كان مؤولا في الأقوال الفنية السابقة على الأدب انطلاقا مما هو جاهز آت من هناك ومقيم هنا بصفته حقيقة معطاة سلفا (إما على هيئة واجب له صلة بتماسك تاريخ الجماعة، وإما على هيئة اعتقادية) أعيد النظر في شكل تأويله في الأدب، بحيث لم يعد مرتهنا بالجاهز، بل صار مرتبطا برؤية ممكنة ذات صلة بقصد غير مكتمل يحمل في مضمونه ما يؤشر على نقصه. وبالتالي يكون التأويل في الأدب ذا علاقة صميمة بالشكل، أي بالطرق التي يفكَّر في قدرتها على منح العالم كلاًّ يصير به مفهوما لا مفسرا. ولكي يعطي المحاضر مصداقية لما ذهب إليه من أفكار في هذا الصدد عمد إلى مقارنة الأدب بغيره من المعارف، حيث ركز على الفرق بينه والتاريخ في مسألة التأويل. وقد كان هدف عبد الرحيم جيران من مطارحة التأويل معرفة مدى ارتباط الشرعية في الأدب به. فإذا كانت الهيمنة الرمزية في المجتمع النصي تستهدف ضمان الشرعية بما هي قائمة على مفهوم الصلاحية تتصارع على مستوى الشكل الأدبي وتغير من طبيعة هذا الشكل تاريخيا لكي تجعله ملائما مع تغير المضمرات السياسية والثقافية والاجتماعية، فإنها تركز خاصية تأويل العالم في هذا الشكل، ما دام هذا الأخير ليس مجرد وعاء قابل للامتلاء بمضمون ما. وهنا سيعمل المحاضر على التمييز بين نوعين من الشكل: شكل خارجي ماثل في الأوفاق الشكلية الصرف والتي تمثل في ما هو مادي وأسلوبي وتقني ولسني وشكل داخلي ماثل المعادل التجسيمي، أي في الطرق التي بواسطتها تجسم الخلفيات التجريدية في هيئة حبكات أو صور أو تمثيل حي. ويظن عبد الرحيم جيران أن الشكل الداخلي يكتسي أهمية قصوى في التأويل. وبالتالي يعد التحكم في جعل شكل ما داخلي مهيمنا في عصر ما دالا على سعي ما نحو تكريس شرعيته من خلال الدفاع عن صلاحيته.

بعد أن تحدث عبد الرحيم جيران عن الشرعية في علاقتها بالأدب والتاريخ، انتقل إلى ضبط ابستيمي الأدب وأهم عناصره التي بواسطتها يمكن الحسم في تاريخية نشوئه، وتأسيسه لنسق الشرعية فيه. وقد أربك المحاضر الجمهور بحسمه القاطع في مفهوم الأدب عن طريق القول بأنه حديث ويرتبط بالنهضة الأوروبية ابتداء من القرن السادس عشر. مما جعل السؤال حول تسمية ما أنتج قبل هذا التاريخ واردا. وكانت الغاية من الحسم في ابستيمي الأدب ماثلة بالنسبة إلى المحاضر في معرفة تغير مفهوم الشرعية تاريخيا بتغير الرؤية إلى إنتاج التخييل. وهكذا حدث تحول في مفهوم الشرعية من الحرص على ضبط التطابق مع تقاليد مرعية في الانتساب إلى سلالة منتجي الأقوال الفنية شعرا وسردا وخطابة، إلى الحرص على إعادة صياغة شروط الانتساب إلى زمرة الأدباء بمجاوزة التقاليد في الإنتاج عن طريق محاورة نصية تتضمن في صلبها حفر مسافة جمالية بين المنتَج الحيني والمنتجات السابقة عليه أو المعاصرة. ففي ما قبل الأدب كان إتقان النمودج مادةً وشكلا يعد معيارا حاسما في الانتساب وضمن شرعية القول المتخيل، بيد أنه في الأدب سيكون الخلق على غير غرار معيارا أساسا في تحقيق الانتساب وصياغة شروطه أيضا، وفي تأسيس الشرعية وإعادة النظر في محتواها.

وتناول بعد ذلك الكلمة عبد الرحيم جيران ليشير في نوع من الصراحة إلى أنه صار يشعر بالرتابة والضيق كلما استدعي إلى لقاء يطلب منه فيه الحديث عن كتابه نظرا لأنه لم يتعود أبدا الحديث عن أعماله على نحو يكرر فيه نفسه. وبعد أن طلب من الحاضرين السماح له بالحديث عن موضوع يشغله، وله صلة بالكتاب، فضل التفصيل في قضية وضع لها العنوان الآتي: "الأدب والتاريخ والشرعية". وقد كانت نقطة الوصل بين المفاهيم الثلاثة التي تشكل محور المداخلة ماثلةً في المقبولية التي تجعل إنتاجا أدبيا نوعيا ما يصير مقبولا من قبل كتلة القراء والمنتجين والنقاد في عصر ما. وهذه المقبولية ذات شروط سوسيو ـ ثقافية بالدرجة الأولى، وتعد عنوانا لكل شرعية يتسلح بها الأدب في تبرير أشكاله وأساليبه عبر العصور التاريخية المختلفة. وحين يطرح البعد السوسيو ـ ثقافي لا يقصد بذلك أبدا الارتكان إلى الحفر في ما يقع خارج النصوص لفهم سريان هذه الشرعية، بل البحث عنها في الأدب نفسه من حيث هو تجسيم رمزي لها بواسطة أدواته التي تصير حجر الزاوية في بث الهيمنة داخل المجتمع النصي. فالشرعية لا ترتبط بمصداقية قابلة للفحص في ضوء التداول حولها والوصول إلى تسوية مرضية، أو بالاستجابة إلى قوانين مسطرة سلفا تجب مراعاتها، بقدر ما ترتبط بالملاءمة التي لا تنجم في الأدب إلا عن الانسجام مع تسنين رمزي للمقبولية تصنعه التقاليد المعممة في الأشكال والأساليب في مرحلة معينة من تاريخ الإنتاج الأدبي. كما لا تتعلق هذه الشرعية في الأغلب بعظمة موهومة لكتَّابٍ من صنف نادر، بقدر ما تتعلق بصيرورة معقدة تنحفر في مجرى الإنتاج الأدبي، وتتحدد في صراع الأشكال حول تبوء الهيمنة الرمزية، وهذا الصراع لا يحسم فيه فوق أرضية خارج الأدب، بل فوق أرضيته الخاصة وبوسائله الخاصة. ومن ثمة خلص عبد الرحيم جيران إلى أن اكتساب الشرعية الأدبية يقود إلى صراع بين خطابين من دون إغفال مضمراتهما السياسية والاجتماعية والاقتصادية. ويتخذ الصراع حول الشرعية تقابلا، قد يكون صداميا أحيانا، بين الخلق الطبيعي والخلق النحوي، وبين العفوي الموجود دوما في هيئة بديهة وحدس والمبتدع بوصفه نسقا يتشكل ويمكن إعادة تشكيله وفق خاصية الملاءمة التاريخية القائمة على الإصغاء إلى نبض العصر وروحه. وهذا الصراع يتضمن في ثناياه، على نحو صريح أو ضمني، صراعا حول فهم الحرية وممارستها أثناء الخلق الأدبي. أهي حرية مطلقة غير مقيدة بالقواعد أم هي حرية في التصرف في هذه القواعد، أم هي حرية في خلق القواعد نفسها؟ فالشرعية لا تُستمد في الأدب عن طريق استدامة التقاليد كانت قواعد أم أوفاقا بقدر ما تستمد من الرؤية إليها والتي تسبك في مطهر التاريخ وصيرورته كما يُحدَّدان من قبل الفواعل المهيمنة داخل المجتمع النصي في لحظة من التاريخ. فإذا كان الأدب يفرض قراءته في ضوء استضمار تاريخ نصوصه، بما هو تاريخ قائم على التجاوز، أي تجاوزُ النصوصِ الحاضرةِ النصوصَ السابقةَ عليها أو المعاصرة لها في ضوء استعادتها عبر مغايرتها، فإن هذا التجاوز لا يعد إلا شكلا لصيرورة الأدب نحو تأسيس شرعيته، ويظل محتوى شكل الشرعية هذا ماثلا في خرقها من حيث هي تحديد للانتساب إلى سلالة الأدباء. وهذا الانتساب يتخذ في الغالب صفة الكاتب الموثوق منه، أي ما تأكد حجم الاعتراف به بوصفه ممثلا للأدبية من حيث هي صفة تاريخية تتحكم في ضبطها معايير رمزية مسننة على نحو مضمر في سموت المجنمع النصي. إن التجديل بين التطابق مع معايير الانتساب وخرقها هو ما يؤسس صيرورة الشرعية في نهاية المطاف، لأن خرقها من حيث هو دال على الخلق في حريته يتضمن بهذه الدرجة أو تلك سعيا ما نحو الهيمنة أيضا لا تلبث أن تتحول تاريخيا إلى معايير انتساب.