يبحث الروائي العراقي سليم مطر في روايته أسطورة الخلق بموروثها الديني مقلباً في فصول وحكايات مستقلة متصلة علّة الوجود، الشر والخير، رغبة القتل، الشهوة، المكبوتات، القمع السياسي والاجتماعي، والهرب من أوطان جحيمة. هنا العراق والدكتاتورية والضياع في المنافي في نص ينهيه برسالة إلى الدكتاتور الذي اجهز على أحلام السارد.

تاريخ روحي

رواية بقصص

سليم مطر

جذور حكايات روحي

كان يا ما كان في سالف الزمان، عندما كان الكبار كبارا والصغار صغارا،

كان كوكبنا من أحلام وبيتنا من همسات،

وأنا طفل أحبوا في أحضان أمي الأرض،

وفي رعاية أبي السماء، ومع إخوة من جبال وغيمات.

ترضعنا الأنهار وتهدهدنا الريح.

ونحن فقراء نعتاش مثل الآخرين على ما تجود به العواصف وتجلبه الطوَفانات.

زادنا لا يتعدى أشعاراً نَسلقها بنيران الملذات،

أما شرابنا فأنوار قلوب تنبض بالأغنيات.

في النهار يجول أبي الأكوان يصطاد النجوم والأقمار،

وفي الليل يأتينا ومن جعبته تهطل الأمطار.

نعم، كان ذلك في زمان سالف بعيد،

عندما كان الكبار دائماً كبارا والصغار دائماً صغارا.
ـ1ـ

ماضي روحـي

عندما كنّا في الأعالي لم يكن هناك سماء،
وفي الأسفل لم يكن هناك أرض...
قبل أن تخلق المراعي وأدغال القصب
قبل أن يظهر باقي الآلهة
قبل أن تمنح لهم أسماءهم وترسم أقدارهم.......

قال الإله مردوخ:
سأخلق دماءً وعظاماً
منها سأشكل (لالو) وسيكون اسمه إنساناً
نعم، سأخلق لالو الإنسان

ليخدم الآلهة فيرتاحوا

((من أسطورة الخلق البابلية))

 

الميـلاد

الأرض ــ ما قبل الإنسان

هنا صورة رقم 1

في البدء كان الوجود لا وجود.. كينونة في عدم.. حركة في ثبات.. روح في جماد.. خلود في زوال.. نور في ظلام..

وكان الإله في رحم دُرة وهو يخلق الدُرة.. وكانت روحي في روح الدرة الإلهية.

بعد أن أكمل الإله خلق الدرة، ولد منها، وكانت صرخة ميلاده:

كُنْ...!

ويرجع الصدى:

فيَكُنْ...!

فكان الكون.

الإنفجار الإلهي الأعظم، عدد هائل من الأجرام والأكوان والأفلاك، أشلاء وحمم جبارة واحتفالات نارية بحركة أزلية وبرائق خلابة... انفجارات لا تنتهي.

خلال أزمان وأزمان وأزمان من تيهان روحي في أنحاء الكون، وجدتني على كوكب الأرض.

أمضيت أزماناً وأزماناً وأزماناً في تنقلات لا تحصى من الجمادات حتى النباتات إلى الحيوانات.

مرة أخرى ثارت الأرض بانفجارات متعاقبة: براكين وزلازل وعواصف وطوفانات جبارة تمحق الحياة وتلونها بدماء.

بالتدريج يخبو الغضب وتخفت الانفجارات وتهدأ العواصف وتنقشع العتمة الحمراء. تعود البحار إلى أحواضها والأنهار إلى مجاريها. تسكب الشمس أشعة لاهبة على أديم الارض المعجون بالدم.. فكان آدم!

وجدت روحي تنبجس من بين الأطيان مع ذوات أمثالي. كنا كالفطر ننمو ونكتمل تحت الشمس. صنعنا الرب من انفجـار حاجته إلى لذة أبدية لا تنضب.. من توقه إلى جَمال أمثل وانسجام مطلق.

أنا الإنسان، ذروة الإبداع الإلهي. أنظم ما في العبث وأعقل ما في الجنون.. مخلوق على صورته، نموذج باهر لتكوينه. يميزني عن جميع كائناته. يضع فيَّ أبدع ما في خصاله:

 "الخيال".. ملكة التفكير بما فوق المرئي والمحسوس، تذَّكر الماضي واكتساب الحاضر وتكهّن المستقبل.

والأهم من هذا، أني أدرك ذاتي جزءاً من ذات الخالق الأعظم، وحينما أقدسه فإني أقدس ذاتي معه. أشيّد له المعابد، وأقدّم له القرابين، وأؤلف عنه أسراراً وأساطير.

بي أنا الإنسان أكمل الإله خلقته، وأبصر وجوده، وبلساني أصبح قادراً على سرد حكاياته.

باسم الإله أنشر الحب والإخوة، وأقدس العدل والحق، وباسمه كذلك أعلن الحرب وأنشر الخراب وأسفك الدماء وأمارس الطغيان.  إلهي هو رمز الخير عندما أصنع خيراً، وهو أيضاً رمز الخير عندما أقترف شراً. لذته جنتي، وسأمه جهنمي، ونزواته شيطاني.

بي أنا الإنسان اكتشف الرب إنسانيته، يحمل جوعاً أبدياً إلى المعرفة وتعرية المستور وإضاءة المُعتم. تجول روحي بين جواب وسؤال، يقين وشك، تقارب وتناء. بالشك والسؤال أخاف وأبتعد، وباليقين والجواب أثق وأندمج. جوابٌ يقودني إلى سؤال، وسؤالٌ يقودني إلى جواب. هي لذة المعرفة وحركتها السرمدية.

تتعاظم قدرات خيالي وتتنوع عوالمي. أمضي شغوفاً في المساهمة بلعبة الحياة والتاريخ، ولادة وموت، دول وشعوب وأديان. انتصارات وهجرات وثورات واكتشافات... جميعها خيال بخيال في رأس الرب. جموع البشر لا تدرك أبداً حقيقة كونها شعوباً من الخلايا، تعيش نزوات الخالق، سأمها من سأمه ولذتها من لذته، تحيا وتموت وتتجدد في مخيلته.

أنا الإنسان، الرب هو خالقي، ولكني أنا أيضاً خالقه؛ لأنه بمعرفتي يكتشف ذاته. إذ جعلني عقل الوجود وكينونته العليا ومركز خياله وأسمى مراحل الانسجام والتناغم بين المتضادات: ذكورة وأنوثة، فاعل ومنفعل، حكمة ومشاعر.

أنا الإنسان، لذّة الوجود القصوى. بالارتعاشة تتحد بذرتا ذكورتي وأنوثتي، وبالارتعاشة تنمو حياتي.

أنا الحياة: شهوة الجسد للحركة والانطلاق في رحاب الطبيعة الأم.

أنا الموت: شهوة الروح للتحرر من قيود الجسد والانطلاق في رحاب الوجود الأسمى.

أنا الحُب: شهوة شهوات واتحاد الملذات وأمل الروح بتحقيق حريتها في حركة الحياة وحرارتها.

وجودي في انسجام حيرتي، في تضادي المتناغم بين إنسانيتي الفانية وكينونتي الخالدة. بين بدني الزائل وروحي السرمدية.

أنا معبر بين الحيوان والملاك.. بين البدن والروح.. بين المادة والمطلق..

جهنمي في دنيوتي، وجنتي في سماوتي

*   *   *

أزمان وأزمان وقبائل روحي وشعوبها تنطلق في أرجاء كوني، تجتاز غابات وصحارى وأنهاراً وبحاراً. آلاف من حالات ولادة وموت. تستقر وتتناسل وتبني السدود وتحفر السواقي وتشيّد المدن والمعابد والأبراج.. تزرع وتصنع وتحكي وتكتب وتخـوض الحروب، وبالطين الأحمر تصنع تاريخها. تعيش طوفانات وطواعين واجتياحات جيوش غزاة.. ترحل شمالاً وجنوباً إلى أنهار وصحارى وبحار وأهوار وجبال. تولد روحي مرات ومرات، وتموت روحي مرات ومرات.

في البدء كان الحـلم!

الأرض ــ ما قبل الوعي

هنا صورة رقم 2

أنــــــــــــــــا

 

كون، وأفلاكي اسراري

صحراء، وواحاتي أحبائي

بركان، وحممي كلماتي

سماء، ونجومي أفكاري
بحر، وأمواجي أشواقي

حرب، وجيوشي أجزائي

غابة، ووحوشي أمراضي

بلاد، وشعبي أحلامي

سفّاح، وضحاياي شهواتي

معتوه، وجنوني ابداعي
غريب، وضياعي ذكرياتي
رجل، وانوثتي حناني

ماضي، ومستقبلي حاضري

نعم.. أنا.. أنا..

أنـــا الانســــــــــــــان

 

 

 

*   *   *

وعيت نفسي.. أين أنا؟ من أنا؟! من أين أتيت؟

انتبه لنفسي عند فجر، جالس عند نخلة مطلة على شاطئ نهر. في الضفة المقابلة بساتين ومزارع وبواد تسبح في أنوار نحاسية تخترق غيوماً بيضاء. مع تصاعد الأنوار تتلألأ المياه بتوهجات شفق فجري يتمايل مع ريح شمالية ناعسة تبث انتعاشة في بدني وتغرقني في استرخاء وخدر. المشهد ضبابي هلامي مثل حلم.

ـ آدم. اصح يا آدم.. الفجر يهّل والصباح قريب.. اصح يا آدم..

أأسمي آدم؟!

أسمعه يتردد في وجود خال من بشر، بينما أفواج سنونو تشق عباب سماء متجهة جنوباً. غيوم مفعمة بثمالة ليل تترنح في السماء. بجعات بيض ساحرات تطفوا بين مويجات. بطات مع فراخها تستريح على صخور..

أحلام أحلام أحلام.. لا أتذكر من وجودي سوى أحلام. كل كوني أحلام. أحلام تمضي وأحلام تأتي، وأحلام تنتظر بأحلام. من جديد الصوت يصدح في فضاء:

ـ آدم.. آدم.. ما بك يا آدم؟ تعال يا عزيزي تعال.. نكمل سوية ما تبقى من زمان.. سأحكي لك حياتك وتحكي لي حياتي.. تعال يا آدم تعال..

دون أن أفتح عينيي أرى امرأة تنبثق من ماء بجسد حنطي مبلول وشعر حني منثور وقامة باسقة مثل نخلة في صحراء. ترفرف حولها أسراب بجع وبط وسنونو. مياه فضية تجري سواقياً على نهدين وحلمتين نديتين خلف ثوب شفاف بألوان قزحية. من جديد شعَّ صوتها مع أنوار فجر:

ـ انهض يا آدم.. هيا، انفض عنك نوماً ولوماً.. تعال نغتسل بمياه فجر وحياة.. نهار آت وربيع في انتظار.. تعال يا عزيزي تعال..

دون أن أفتح عينَي أراها تقترب وترتسم عليها ابتسامة مفعمة بحنان. أجهل هوية هذه المرأة. هكذا انبثقت فجأة مثل حورية غامضة. لكن وجهها مألوف كأني أعرفها منذ زمان!

ـ من أنت أيتها الكائنة؟

تنفرج شفتيها بكلمات تذوب في زقزقة عصافير تمرق خاطفة. من خلف السراب بدأت تطل أشعة شمس متبرجة مبرقعة بالغيوم. كانت تسطع بخطوط ذهبية نحاسية تخترق النهر وتلتحم بقدمي الغارقتين. فتغور كفي في أطيان ورمال وحصى . أحس بخدر ولا مبالاة:

ـ إني لا أعرفك أيتها الكائنة.. لكني أشعر كأني أنتظرك منذ زمن طويل.. كما ترين فإني متعب حزين أبحث عمن يعينني في غربتي..

بتدرج متصاعد تتثائب الطبيعة من حولي بأغنية فجر ربيعي يعزف ريحاً وإيقاع مويجات وزقزقة عصافير ونقيق بط وضفادع مع ترانيم خافتة بعيدة.

تبتسم الكائنة الأليفة بحنان وقطرات دافئة تنساب من جسدها على وجهي:

ـ انهض وتيقظ يا عزيزي آدم.. انتهى موسم غيابك في عوالم النسيان.. ها هو ربيع ماض يهّل وتتفتح براعم ذكريات..

استغرب كلامها. أتكون ثملة قد هدَّها عالم ليل، فأتت لتمارس معي نزوات عابثة؟

ـ اسمعي يا كائنة، أنا كائن بلا ذكريات. لو كان لي ماض، فقد صار نسياناً.

ـ أنا أعرف حقيقة عذاباتك يا حبيبي.. نيرانك، حطبها ذكريات ودخانها أشواق... تعال يا عزيزي وجرب الترحال في عوالم ماض ما انتهى، إذ لا زال هنا في أعماقي أنا.. وأنت فيه..

راح يثقل عليَّ كلامها العابث الواثق. تخاطبني كأنها حقاً مالكة مصيري:

ـ أيتها المتعالية، إني أجهل مبتغاك.. إن كنت تودين حقاً مساعدتي فاطردي عني أشباح ماضي وخلصيني من غربتي وامنحيني الأمان.

اقتربت مني وفاحت منها رائحة قرنفل وهي تمّسد شعري بحنو وتهكم:

ـ اسمع يا آدم، ليس هنالك فائدة من إصرارك على النسيان.. هل تنكر بأنك أنت نفسك ليس أكثر من ذكريات؟

*   *   *

كم كنت أود حينها أن أنتفض ضد هذه العابثة. لكني رغماً عني كنت مرتخياً ثملاً فاقداً لقواي. لذتُ بالصمت. لم أفهم مقصدها. أستغرب عدم غضبي من عبثها وكأني سبق وأن تعودت عليها وألفت كلامها.

- لا أفهم لغتك الساخرة.. لا أعرفك ولا أقبل تدخلك.. ماضيّ أنا انتهى..  دعيني عن حكاياتك، فأنا تعبان..

لم تدعني أكمل. قاطعتني بصوت هامس يشوبه ضجر:

ـ كفاك عناداً يا آدم.. أنت تؤذي نفسك هكذا وتؤذيني معك. ألم تتعود حتى الآن على فكرة أنك مجبر على الرحيل معي؟ هل عليَّ في كل مرة أن أذكرك بأنك بلا حرية اختيار؛ لأنك بكل بساطة لا تمتلك خياراً آخر غير ما أقرره أنا لك؟ انظر حولك ياعزيزي، انتبه لنفسك ولا تغرق في أحلام...

أردتُ أن أعترض وأحتج.. لكنها ضغطت بكفها الرقيق على فمي وهي تقول:

ـ اعرف يا عزيزي، إني لا أسخر منك أبداً.. اسمع مني الحقيقة التي سبق وأن سمعتها مني مراراً ومراراً.. أعيدها عليك الآن بصراحة واختصار: أنت ياعزيزي غير موجود إلاّ هنا في أعماقي.. ماضيك وحاضرك ومستقبلك وأحلامك كلها محفوظة هنا معي في عالمي.. حياتك حياتي وترحالك ترحالي.. أوَ فهمت؟

رغم أن كلامها بدا مضحكاً وبلا معنى، إلاّ أني في أعماقي أحسسته جاداً وحقيقياً حتى بدت كتلة من دخان تتكوم في صدري. غرقنا بصمت وأنا أفكر بأن أعثر على أي موضوع مهما كان.. فلتتوقف عن مهزلتها.

ـ تذَّكر يا آدم، تذَّكر وإياك أن تنسى.. أنت نفسك ذكرى..

يا إلهي، لماذا ينتابني هذا الإحساس بالرعب؟ كيف تسنى لها أن تؤثر في؟! يكفيني أن أبادلها السخرية أو أتجاهلها حتى ينتهي الأمر. بدأت أشك بأن ما يجرحني في كلامها هو إحساسي بأنه يحتوي على بعض من الحقيقة، أو ربما كل الحقيقة... مستحيل!

أنا على يقين بأني كائن.. وأني موجود هنا.. في هذه الأطيان والأشجار والمياه والسماء والفجر البازغ، فكيف تريد هذه الكائنة أن تقنعني بأني هكذا مجرد أحلام وذكريات؟!

ـ أرجوك كفي عن مزاحك.. ألا ترين كيف أنا حائر وتعبان.. أخبريني، من أنت؟

ـ أوه يا إلهي، متى أتخلص من هذه المشكلة التي مللت تكرارها معك منذ الأزل. اسمع يا آدم.. يا رجلي ويا سيدي، أنت لا يمكنك أن تحيا أو تبقى في أي مكان أو زمان من دوني أنا. حكاية وجودك محض أحلام تستمد حياتها من أحلامي أنا.. أنت رجل أحلامي، وعندما أنام أنا تستيقظ أنت في روحي..

أكررها عليك: أنت بكل بساطة يا عزيزي غير موجود.. نعم غير موجود إلاّ كحلم وتاريخ مخزون هنا في رأسي..انظر حولك.. يا حبيبي.. يا سيدي.. انظر أين أنت..

لاحت قطرات تتوهج في مقلتيها، بينما أصابعها تمَّسد شعري وتهمس في أذني بأغنية عن زمن يمضي وأسراب طيور لن تعود.

فقط في تلك اللحظة، انتبهت إلى غرابة الكون المحيط بنا!

بدا محيط الوجود دائرياً والسماء قبة مقعرة!. ثم شَرَعَتْ كفي مرتعشة تحفر الارض وتكوّر كتل ممزوجة برمل وطين وحصاء وإثل، وعندما وضعت رأسي على صدرها فاح منها عبق أرض وامتلأ فمي بطعم طين. دون أن أفتح عيني وجدت نفسي أهمس لها:

ـ أوه يا حوائي.. يا سيدة وجودي ومالكة روحي.. اعذريني عن النسيان، أعترف لك الآن.. أنت بيتي.. أنت وطني.. أنت حلمي.. أنت ماضيّ وحاضري.. أنت روح حيواتي السابقة واللاحقة.. أنت سر وجودي وخلودي وأحلامي..

رحماك يا سيدتي أعينيني فأنا تعبان ونار حنين تحرق حناياي وما عاد في روحي صبر. أنا سفينة بلا ربّان وسط أمواج عاصفة وغيوم كالحة. يا جليلة، أحلّفك بهذا الوجود، بسماء ونهر ونخيل وفجر ساطع، بعشق مجبول بأعوام، أنيري لي دربي، دلّيني على بر الأمان.. أنا تعبان..

أحس باختلال وزن كأني أعوم على جسدها. الأرض تميد بي كحبات هواء وماء منساب. قوة غامضة تشدني إلى جميع الأنحاء تكاد أن تمزقني إلى أشلاء مثل مركب تعصف به ريح.

حينها وأنا في لجة الضياع أدرك أن الفعل الوحيد الذي يمكنني القيام به؛ لإنقاذ نفسي، أن أفتح عيني.. قررت من دون تردد أن أفتح عينَّي لأشاهد الحقيقة كما هي.. كما هي حتى لو كانت وهماً وحلماً..

عندما فتحتهما لم أرَ، بل عشت كما لم أعش من قبل:

وجدت نفسي أطوف في حوائي. هي المياه الفياضة والكون المتفجر.. كيانها مرسوم بخطوط من أنوار وألوان وانفجارات بركانية.. شعرها شموس ووجهها سماوات ونهديها جبال وجسدها أمواج فضية. من عينيها ينبثق وهج ساطع يغمر الكون فتهتز الارض وتتهشم السماء كمرايا. يفيض النهر بأمواج تمتزج بشظايا أنوار تنتثر في أعالي سماوات. يستحيل الكون إلى احتفالات أسطورية من شلالات بيضاء زرقاء خضراء ذهبية لأنوار ومياه وثلوج وغابات جبلية.

في اللحظات الأخيرة، بينما أنا أغرق وأذوب كثلج في أحضان كونها، وتتفكك أعضائي بإرهاصاتها المتفجرة، وتتبخر أنفاسي بشهقاتها الملتهبة، وتبدو كل حياتي مجرد أحلام بأحلام، ولا شيء فيها غير وهم وخيال.. رغم ذلك، هنالك في أعماقي يقين ما بعده يقين، إنَّ لي ماضٍ من دم وطين، وتاريخ أحمق طويل، ومستقبل سيولد بكل يقين.

             

مناجاة قابيل: رحماك يا رب.. قتلت أخي!

 

الأرض ـ فجر الإنسان

إلى أرواح جميع إخوتي في الوطن وفي الأرض جمعاء،

الذين قتلهم إخوتي في الوطن وفي الأرض جمعاء!

 

هنا صورة رقم 3

أوه يا لخطيئتي التي ما بعدها خطيئة.. لقد قتلت أخي، بيدي الآثمتين هاتين.. نعم أنا قابيل ابن آدم، قد قتلت أخي وحبيبي هابيل. وا ويلتاه ها أنت يا حبيبي، بدن بلا حياة..، فمك لا ينطق وعيناك نائمتان..

لا أدري منذ كم من أزمان وأزمان وأنا أحملك على ظهري هائماً في البراري حائراً، أستغيث بالله وأمي وأبي لتعود إليَّ كما كنت دائماً. أنت جامد بلا حياة، أداعبك فلا تضحك.. أمنحك الطعام فلا تأكل.. أناديك، أستغيث بك، فلا تسمعني... يا أخي، اهمس لي ولو بشهقة، أشفق عليَّ ولو بنظرة..

يا الله يا خالق الأكوان هب الحياة من جديد إلى توأمي هابيل.. أنت الذي َزَيَّنَّت السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْتها رُجُوماً للِّشَّيَاطِين. أنت الذي يَعْلَم غيب السماوات والأرض وما نبدي وما نكتم.. أنت الذي شئت أن تجعل في الأرض خليفة وتخلق بشراً من طين. رغم احتجاجات ملائكتك الذين قالوا:

ـ إنك ستجعل فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ؟

نعم إنك يا ربي خلقت أبي آدم من تراب، كالفخار، وخاطبته: كن فيكون..

ثم أمرت ملائكتك: اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ.

وبعد أن خلقت أمي حواء من ضلع أبي، خاطبته: يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ.

لكن شهوة التمرد وملاكك إبليس الثائر ضدك انتقم وأزلَّهما عن طريقك وأخرجهما من نعيمك.

فاهتزت صرختك الغاضبة يا ربي هادرة في أقاصي الكون:

ـ اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ.

وعندما شرع أبي وأمي بالبكاء وطلب الغفران، خاطبتهما أنت التواب الرحيم:

ـ اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ. وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ.

*   *   *

كيف يا إلهي تركتني أقتل شقيق عمري وعضيدي وخليلي.. كيف أعيش من بعده.. كيف أبقى في هذه الدنيا وأنا قاتله وهو توأمي، هو ذاتي أنا.. آه من الغيرة، كم هي جبّارة طاغية لا ترحم. كنت راعياً وأخي مزارعاً، نعيش بمحبة وتعاون. وعندما طلبت يا ربي قرباناً لك، قدم أخي حملاً سميناً وقدمت أنا ثماراً، لكن نيرانك الهابطة من السماء أكلت حمل هابيل وأبَتْ ثماري. وعندما صرختُ أنا به دون تفكير (لأَقْتُلَنَّكَ)، إذا به يرد عليَّ بهدوء:

ـ إنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ من الْمُتَّقِينَ. لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِي إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ. إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ..

حينها اجتاحني غضب أرعن فحملت حجراً أسود ورميته به. أنا يا ربي أردت فقط أن أوذيه وأبكيه، لا لأقتله، لكنه أطلق صرخة وجع لم أسمع لها مثيلاً ما زال صداها يلهب أعماقي، وسقط أرضاً وسوائل حمراء حارة تنزف من رأسه مثل حمم براكين. وإذا بصوتك الجليل يا إلهي يهز الوجود صارخاً:

ـ ماذا فعلت يا قابيل يا ابن آدم؟ هاهو دم أخيك يعول شاكياً في أنحاء الأرض، لتحل عليك اللعنة من ذات الأرض التي فتحت فيهها لتشرب دم أخيك من يدك. مهما كافحت فلن تمنحك ثمارها، ستظل إلى الأبد تائهاً هارباً في البراري والقفار.

*   *   *

ايه يا وحوش الغاب والبراري تعالي ابكي معي، اندبي هابيل، انهشيني عذبيني، خذي مني روحي كما أخذت أنا روح أخي.. وأنت يا حجر، آه نعم أنت يا حجر من أين أتتك تلك القدرة العجيبة لتسلب مني روح مَن لا روح عندي من بعده؟ كيف أذوق الطعام يا حبيبي وأنت جائع.. كيف أنام وأنت في نومتك الأبدية.. سأظل أحملك على ظهري حتى يستجيب الله لدعائي ويعيد الحياة إليك.

وأنتم يا أبي وأمي وإخوتي، لا تسامحوني أبداً على خطيئتي، ولن أعود إليكم إلاّ وأخي يسير أمامي حياً مثلما كان.. أنت يا حواء يا أمي وسيدتي ومانحتي الحب والحياة، كيف لي أن أعود إليك وقد قتلت ابنك وحبيبك هابيل.

وأنت يا شقيقتي يا توأمتي ومعبودتي، اهجريني امقتيني؛ فأنا لا أستحق منك غير الصد والهجران؛ لأن حبي لك وغيرتي عليك هي التي زرعت الضغينة في قلبي ضد أخي وسوَّلت لي قتله كي تظلين أنت توأمي  لي وحدي..

تعالي يا طيور احملينا أنا وأخي إلى أقاصي الأكوان، إلى سابع السموات، هنالك في عرش الخالق العظيم، أريد أن أطلب الرحمة، أبكي وأستغيث وأستجير بالقادر الجبار أن يأخذ روحي ويمنحها لأخي كي يعود حياً وأنا أرحل إلى عوالم الغياب.

آه تباً للحب الذي يخلق الحقد.. كيف لشتلات النور أن تثمر الظلام.. ولأغاني الفرح أن تبكي العيون؟!

عشـق الابطـال

سواحل البحر المتوسط ــ قبل الميلاد

هنا صورة رقم 4

1ــ فارس الاكوان

يا مهرة الخلود، يا طريدة الاكوان، تعالي. منذ أزمان وأزمان وأنا أجول بحثاً عنك، هائماً في براري السماوات.

تخليت عن مملكتي وشتَّت شعبي وسرَّحت جيوشي وأغرَقت مراكبي، لكي نظل هكذا في متاهات الوجود وحيدين أنا وأنت.

لو تعرفي يا مهرتي كم أنا تواق لعواصف جموحك ورعود صهيلك، فأنا متعب حزين وقد أضناني الغياب. فتعالي ياحبيبتي لأضمك الى صدري، العقك جراح عمري وأبث فيك رعشات حلمي..

أو نسيتي؟! أنا فارسك الأول، بكياني هذا علَّمتك الانقياد لنداءات الميلاد، والانطلاق عبر شهوات الحياة. كم مارسنا لعبتنا الوحشية بالغور في الاسرار، تثورين ترفسين تنفرين وأنا متمسك بك وأسناني تقبض على عرفك، جسدي يشرق في جسدك، وروحي تغرب في روحك...

يا مهرتي، هبي أنك لا تخافين، ويحك ألا تشتاقين؟ أنا فارسك الذي جال معك في سوح الغواية، معا احتسينا خمرة الايمان وعاشرنا متسكعي الخلاص. معاً حاربنا جحافل اليأس واقتنصنا غزلان الأمل، ثم اطلقنا العنان ثمالاً طائشين في رياح الحرية، مبللين بأمطار الفرح، منشدين حكايات أسلافنا العشاق!

أعاهدك يا مهرتي هذه المرة سأظل معك الى أبد الآبدين، لنبني وطناً جديداً:

 أطفاله نجوم، مدنه شموس، وبحاره أقمار!

*   *   *

2 ــ المحـارب القرطاجـي

ألقى (هانيبعل) آخر نظرات الوداع نحو مدينته المحترقة..

بينما سفينة الغزاة ترحل به الى منفاه المجهول، اشتدت حرائق روحه وهو يشاهد من بعيد أميرته الحبيبة ونبلاء قرطاجة يستقبلون الغزاة بكل خنوع وذل.

رغماً عنه راحت عيناه تذرفان الدموع وهو يناجي أمواج البحر أن توصل صوته المفعم بالغضب والشوق الى أميرته وبلاده الخؤونة:

ها أنا منكسر وحيد أمضي نهاراتي في لعنتك

وفي ليالي أتوسد نيران حنيني اليك

كم أبغضك، ألعنك، أرفضك..

هنا صورة رقم 5

يا أميرتي.. يا بلادي.. يا معبودتي!

أيتها الغدارة الحقودة الخوؤنة..

أيتها الخلابة الرقيقة الحنونة

لأدعون جميع الآلهة وأمنا المقدسة عوليس

أن تمسح عن أرض قرطاجة كل دروبك

لتبقى وحدها دروب شفاهك على صدري

أن ترسل عفاريت البوادي تقبض روحك

لأدفنك هنا في لب قلبي

أن تعصف رياح العمر تسلبك شبابك

لأمنحك كل ما تبقى من عمري

رحماك يا ثلج جزعي ولهيب جبروتي..

اني امقتك، فابعدي.. ارحلي.. تبددي هناك في البحار..

اني اعبدك، فتعالي.. اقتربي.. طوفي هنا في رحابي..

ويحك..

كم انت ابليسة يا ملاكي

كم انت ملوثة يا قديستي

كم انت آفة يا طفلتي

قولي ماذا تريدي؟

قلبي، عمري، أمجادي الغابرة

خذي ما تشائي وارحلي..

بل خذيني أنا كلي معك..

 

أنا يوسـفك يا زليختـي،

ويحك أما تهب على قلبك أنسـام حنين!

الشرق ـ قبل الميلاد

هنا صورة رقم 6

ايه .. يا جليلة قلبي وشعلة ذاكرتي.

أعوام وأعوام قد مضت حتى غدت حكايتنا أسطورة ترددها الأديان..

لكنهم أبداً لم يعرفوا حقيقة ما جرى، فكل الذي قالوه كان بعضاً مما خفي.

نعم، كان أبي يعقوب يحبني، لكنه ما كان رحيماً بي؛ إذ يعذبني بلهيب أسلاف عتاة ظلَّ مشتعلاً في روحه.

نعم، كان أبي يعشق أمي؛ ولهذا أيضاً كان يجلدها بسياط جبروته وغيرته.

نعم، كان إخوتي يغارون مني، لكنهم ما غدروا بي، بل أنا الذي غدرت بنفسي وأويت إلى قعر بئر معتم مهجور هرباً من حياة ظلم ورعب ومهانة.

وما كذب إخوتي عندما أتوا أبي بثوبي المدمى بأنياب ومخالب ذئب معتوه؛ فالذئب كان ذئب ثورتي أنا ومخالب ضنكي وأنياب نقمتي التي نهشتني عن طفولة ضياع ومذلة.

*   *   *

كنت فتى عندما هرعت لأبي أسأله عن معاني حلمي؛ إذ رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ِكانا لي سَاجِدِينَ!

لكني كذبت على أبي، لم أبح له بالحقيقة كاملة، لقد أخفيت عنه النصف الأول من حلمي، كان كابوساً يخنق أنفاسي ويحيل حياتي إلى براكين مكبوتة. أشاهد روحي برار بلا منتهى تجول فيها ذئاب عطشى جائعة لفريسة تنقذها من الموت. تطاردني في نومي ليلاً، وفي النهار أسمع عويها ولهاثها يرج جدار صدري. هدني الجزع فقررت أن أكف عن هربي وأسلّم نفسي لتلك الذئاب. توقفت والتفت إليها صارخاً بتحد يائس: تعالي أيتها الوحوش الكاسرة، رحماك التهميني، خذيني في أحشائك، عسى أن ألتهمك أنا من داخلك!

لكنها وقفت شاحبة واجمة أمامي من هول المفاجئة.

ثمة طاقة حياة راحت تنبعث في كياني وتحيل جزعي إلى قوة وتنهضني من خضوعي وتتوهج روحي مشَّعة ظلمات البرية فتحيلها إلى كون من الأنوار والأنهار. الذئاب راحت تنسلخ عنها جلودها مثل شمع ذائب لتكشف عن أجرام ساطعة. مشهد حلمي باهر انفرج أمامي مثل زهرة تتفتح. وهدر صوتي بنشيد الوجد: أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ِكانا لي سَاجِدِينَ!

*   *   *

ها هي الأعوام تمر وأنا هنا سجين بئرك يا زليختي. بئر إخوتي صار أرحم، فهو ذكرى منسية في قعر روحي. أما بئرك يا حبيبتي فأنا الذي في قعره منذ أعوام. أمضي الأيام والساعات واللحظات وأنا أحبو وأحبو وأحبو، وما أن أبلغ الفرج حتى يدفعني حراس جفاك، فأسقط من جديد في غياهب جب الأمل والانتظار.

أعترف الآن يا زليخة، أنا الذي ورطتك في الغوايا. آه لو تعرفي يا معبودتي كم حاولت أن أقاوم وأقاوم سحرك حتى قبل أن تلحظيني. رغماً عني كنت أفتعل الأسباب لكي أمر صدفة بقربك وأجعل مخدوميك يحتاجون حضوري في قصرك.

أو تتذكري فراشات كانت تنساب مع أنسام الصباح عبر نافذتك؟ أنا الذي كنت أبعثها بعد أن أعطرها بنفحات ولع مجنون بك.

أو تتذكري وعولاً كانت تتهادى عبر دروب نزهتك؟ أنا الذي كنت أطلق حريتها بعد أن أرتل لها أشعار مديح حسنك.

كنت يا مليكتي، أراك في النجوم ليلاً وفي البساتين والأنهار نهاراً، وعندما تمرقين أمامي، كنت أحس الإثم والحزن؛ لأني أدرك حينها أن الغواية قد ملكتني.

أعترف الآن أني أنا الذي ابتغيت في أعماقي أن أعيش تجربة السجن؛ لكي أتطهر من آثام متخيلة حفرتها الأزمان في تلافيف روحي. وكان حبي لك أعظم تلك الآثام.

*   *   *

ايه يا زليخة، أنا يوسف، أهكذا تفرقنا الأزمان؟ الأعوام تمر يا معبودتي، لكن بئر غدرك ونكرانك ما زال يقبع في أعماقي أنا بعد أن أخرجتني الحياة من بئر طفوتي.

حتى الآن ما زالت آثار أنيابك وأنت تنهشين بروحي وكرامتي وأحلام برائتي. أحوم مجنوناً في قيعان بئرك، أعوي مستغيثاً: الرحمة الرحمة الرحمة يا سيدة مصيري، يا أمي وأمتي وأختي وابنتي ومعشوقة كوني. يا رائعة يا طاغية يا وفية. يا قاتلتي وظالمتي وواهبتي نسغ الحياة. أمضي العمر، أحبو وأحبو وأحبو، وما أن أبلغ حافة أنوارك، حتى يدفعني حراسك لأسقط من جديد في غياهب بئرك..

يا حنونة... يا خؤونة...

*   *   *

نعم أنا أخاطبك يا زليختي، ليس لأني محتاج إليك، بل لأني أعرف بأنك محتاجة لي؛ فأنا الآن قد تصالحت مع ذئبي وتحررت من غياهب بئري، فدعيني أكون معك لكي تتصالحي مع ذئبك وتتحري من غياهب بئرك.

فتعالي.. تعالي يا معبودتي يا جذوتي وجذوري، فها أنا أتطهر من آثام أسلافي وأسمو إلى أنوار ذاتي وفي طريقي لأبلغ ملكوت خالقي..

تعالي تعالي يا زليختي.. أنا يوسفك.. ويحك أما تهب على قلبك أنسامُ حنين!

لغـز سـلالتي!

بلاد النهرين ـ لوحة فخارية بكتابات مسمارية وآرامية وعربية

هنا صورة رقم 7

الفقرة الأولى: أنا (غودي) الملك المغدور

ها هي الأعوام تمر وأنا هنا وحيد في عزلتي. بحر المجاهيل يحيطني من كل ناحية، ولا أعرف أي شيء عن هذه الجزيرة النائية. لا إنسان ولا حيوان، سوى نباتات شوكية متناثرة في الانحاء كأنها مزروعة في روحي، تخدشني كلما نسيت. غرباء قساة رموني هنا، لكي أحفر بأظافري كهفي في باطن الارض أستجير به من لهيب الشمس. بين حين وآخر، يأتوني بقاربهم، مدججين بسلاح وصمت، يذلوني ويتشفون بتعذيبي ثم يرمون لي بضعة أرغفة يابسة متعفنة وكمية مياه في حفرة، لكي أبقى حياً وأنا أقضمها معفرة بطين ووجع.

ها أنا الملك المخلوع، بعد أن غدر بي الزمان، أعيش وحيداً منبوذاً وسط ريح هوجاء وصخور صماء وأرض جرداء وسماء كالحة رعداء. حتى السحالي تهابني والأسماك تنآني، والطيور ظلالها يخشاني..

لقد تخلى عني أقرب أتباعي، تحالفوا سراً مع أعداء الوطن، وفي ليلة ليلاء غاب عنها البدر والنجوم وعبقت في الفضاء رائحة الخيانة وأنفاس (أرشيكال) آلهة الموت، قاموا بانقلابهم الغادر وفتحوا أبواب (بابل) الحصينة لجيوش الغزاة، فتكوا بحاشيتي وأبنائي ونسائي وحرقوا قصري وأجبروني على التنازل عن عرش أسلافي، ووضعوني في قفص معتم، وجالوا بي الأراضي والبحار خلال أزمان وأزمان، حتى وجدت نفسي مرمياً هنا وحيداً مهجوراً.

                                     

الفقرة الثانية: أنا (سرجون) ضابط الحرّاس

لقد قرأت ماكتبه أعلاه ذلك السجين الأحمق المرقم (953410)، كما يبدو واضحاً أن حالته العقلية قد بلغت ذروة انحطاطها، وصارت روحه مرتعاً للشياطين. يدَّعي أنه كان ملكاً وقد تآمر أتباعه ضده مع أعداء الوطن. إن هذا محظ خيال جامح ليس له أي أساس من الصحة، هاكم انظروا، فليس هو في جزيرة وليس هنالك أي بحر، إنه في سجن منيع حيث يعيش مثل المئات من السجناء، آمناً في زنزانته تحت الأرض. نرمي له الطعام والماء من فتحة في باب، لا أعرف ما هي جريمته، لكنه يقيناً لم يكن ملكاً مخلوعاً، بل آثماً لعيناً استحق غضب مَلِكَنا الجليل.

تراه يشكو العزلة والإذلال وهو محاط بكل أولئك السفلة من أمثاله، يمضون حياتهم في أمان وخدر في سراديب عتمة. آه لو يدرك حقيقة ما أعيشه أنا؛ كيف أمضي كل ساعة من يومي في عذاب ما بعده عذاب؟ من يراني من الخارج يقول عني: ما أسعدني، وأنا أمير من عشيرة الملك، مسؤول سجن يضم مئات الأشرار. لا أحد ينافسني في سلطتي المطلقة على حياة سجنائي، مثل إله جبار، بقرار سريع أميت جوعاً من أشاء، وأمنح الحرية لمن أشاء. لكني، يا للهول، أنا أعاني وأعاني وأعاني، بل إن شدة معاناتي متأتية من جهلي بما أعاني. لا أدري أي جني أحمق يقطن في روحي، ويجعلني ليل نهار قلقاً متهيجاً، أحوم مثل ذئب جريح في زنازين عزلتي. آه لكم، أود بصدق أن أتعرى عن كل ثيابي وسلطتي وألقابي وتاريخي ومحارمي، لأركض حراً آمناً بين سهول وبساتين وشطآن، مثل طفل من أبناء أولئك الهمج الذين يعيشون في البوادي والجبال.

ايه، يا عشتار، يا آلهتي الحنونة الجبارة.. أشفقي بي يا أمي وحاميتي، فأنا ما عدت سجّان سجن الأشرار، بل سجّان سجن روحي.

 

الفقرة الثالثة: أنا (يوحنا يشوع) راهب الدير

عجيب أمر هؤلاء عبدة الأوثان المجانين؟! أحدهم يدَّعي أنه ملك مخلوع، وثان يكذبه ويدَّعي أنه أمير سجن. صحيح ما يقال إن الجنون فنون. الحقيقة كما ترون إن هذا منزل للحمقى والمعتوهين ملحق بدير نتعبد به لربنا وسيدنا المسيح. لقد قرر أسقف بابل الأكبر عزلهم فيه؛ لكي ينأى عن الناس شرور العفاريت التي تملكَّتهم؛ لأن نفوسهم لم تتطهر من أدران عقيدة الأوثان السابقة.

ها أنا أمضي وقتي مسؤولاً عن سلامة هؤلاء المساكين الذين نبذتهم أرواحهم قبل أن ينبذهم أهلهم وأناسهم. بالصلوات والتراتيل والتعاويذ والقرابين، أحاول أن أخلصهم من شياطينهم.

لكن يا إلهي إني أتعذب بصمت، رغم كل صلواتي الصادقة واغتسالي اليومي بمياه الفرات، إلاّ أني أخشى أن شياطين الشر قد خدعت حراس ضميري، وتمكنت من اختراق جدار إيماني، وتسللت إلى أقبية روحي.

أحس يوماً بعد يوم أني أشارك أتباعي حمقهم. لكم أود أن أضحك ملء شدقي مثل مخبول، أن أرقص مثل عربيد سكّير، أجول في دروب وحارات، إنساناً بسيطاً أمارس نزواتي وأطلق عنان طيشي وأصرخ حتى يتناثر زبدي، بلا وقار رهبان واستعلاء عقلاء.

رحماك يا سيدتي مريم العذراء. ليشعل الله بساتين النهرين لك شموعاً، وينثر نجوم سمائها حولك درراً، ويجعل نطفات رجالنا في أرحام نسائنا نسلاً طاهراً مكرساً لمجدك. يا أم عيسى المنير، أدركي حالي واسمعي صلواتي وتقبَّلي دعائي وخلصيني من حيرتي وعذابي، فأنا ما عدت كاهن منزل المعتوهين، بل كاهن منزل شكي وضياعي.

الفقرة الرابعة: أنا (ابن الكوفي) رئيس الكتبة

سبحان الله، حقاً غريب أمر هؤلاء؛ كل منهم يكذب الآخر، بينما هم جميعاً يقولون الحقيقة: الملك كان حقاً ملكاً، وكان فعلاً سجيناً يعيش في جزيرة نائية حتى فقد عقله. وعطفاً عليه، أمر الملك الجديد أن تحَّول الجزيرة إلى سجن؛ ليخفف عنه المعتقلون وحدته.

مدير السجن كان فعلاً مديراً للسجن، لكنه لم يكن يعرف أن تلك الجزيرة كانت فيما مضى منفى، وأن المعتوه كان ملكاً سابقاً. ضجر السجّان قاده للتمرد على سيده الملك؛ فألقوه في ذات السجن.

أما الكاهن فكان حقاً كاهناً، لكنه لم يكن يعرف أن منزل المعتوهين ودير الرهبان كان في السابق سجناً، وأن أغلب نزلائه كانوا سجناء، ومن بينهم الملك المخلوع ومدير السجن السابق. وحينما قرأ الكاهن تلك الفقرات لم يكن يتصور أنهم كانوا صادقين.

أنا هنا رئيس كتبة مكتبة في هذا القصر الشامخ الذي كان ديراً، وصار مكاناً للدراسة والتأمل لخليفة بغداد العباسي.. منذ أعوام طفولتي وأنا أشرف على حفظ لوحات ورقع وكتب الأسلاف ورعايتها وترتيبها حسب مضامين نصوصها. لا يطلّع عليها إلاّ الخليفة وأبناؤه والمقربون من حاشيته. ورثت أبي لأعيش وسط هذه المكتبة العظيمة أتلذذ بمّس أطيانها ورقاعها مثل أم حنون أحافظ عليها وأقلق على سلامتها حتى إني أحس بنصوصها كائنات تعيش في دواخلي ورفوفها تتشكل منها أضلاعي وكل كلمة منها قطرة من دمي.

لكني لا أدري يا إلهي، منذ حقبة راح ينتابني إحساس مقلق غريب. لا أدري أهيَ الدنيا حقاً راحت تنمسخ من حولي أم أنا الذي انحدر نحو قعران كياني؟ كأن السماوات من حولي تستحيل حيطاناً وسقوفاً، وأنهار الأرض وسهولها وجبالها ممرات وزوايا. صارت الدنيا بيتي، شمالها باب ميلادي، وجنوبها شباك رحيلي.

هاهي دنياي تستحيل مكتبة وها أنا أقبع فيها كتاب على رف. أوراقها بدني وحروفها مشاعري ودارسيها أسيادي.

أدركني يا رب الكون، أنا تعب من تعبي، أنر قلبي وصومعة تعبدي، فأنا توّاق لأذوب كلمة بلورية ناصعة في أثير وجودك، حلم حكيم وطهارة ناسك وكلمة سلطان...

                   

الفقرة الخامسة: أنا (نامق باشا) والي بغداد

لقد نجح (ابن الكوفي) ذلك الكاتب الحيّال أن يختلق تلك اللعبة الشيطانية. في الحقيقة إن كل الفقرات السابقة كانت من تأليفه هو، فلا هنالك ملك مغدور ولا سجّان ولا كاهن ولا مكتبي، بل هم محض خيال خرج من رأس ذلك الكاتب الكوفي العابث. لقد اختلق لي هذه اللوحة ليسليني بلعبة من الحكايا.

كلهم يكذبون، إلاّ أنا السلطان الأكبر على أنحاء بلاد العراق، فأنا الخالع والمخلوع، أنا السجّان والمسجون، أنا العابد والمعبود، أنا الكاتب والمكتوب...... أنا الدنيا والآخرة، أنا الراحل والآتي، وأنا الخالد والفاني، أنا الصادق والواهم، أنا ألباني والهادم، أنا الأزل والزائل....أنا كل شيء واللاّ شيء... أنا أنا!

*   *   *

كما ترون يا إخوتي، اللوح مكسور،

والنص لم ينتهِ، والخاتمة أتركها لكم

مخـاض بـغداد

بغداد ـ القرن الحادي عشر

هنا صورة رقم 8

ها أنا ما أزال أزحف وأزحف في هذا النفق المعتم الذي أجهل نهايته. أنا (الأمير التواب) ابن (الخليفة القادر)، هارب من الموت، تائه في أحشاء الأرض. يفتشون عني لأني وريث العرش الوحيد، بعد أن اغتالوا أبي وأبادوا عائلتي وحطموا قصري واستولوا على أملاكي. 

لا أدري كم من الزمن مرَّ وأنا أجول تائها في أحشاء الأرض في هذا النفق السري في أطراف بغداد. ظلمة حالكة وصمت مطبق لا يتخلله غير صجيج أنفاسي. عندما أنهض لأتحسس ما حولي، يصطدم رأسي بسقف. في كل حركة أتوقع أن يبتلعني وحش رابض أو أسقط في هاوية بلا قرار.

الذين اغتالوا أبي لم يعلموا أني منذ أعوام لم أعد وريثه فقد أوصى بإبعادي عن سلطانه، باعتباري مارقاً زنديقاً من أتباع العقيدة المعتزلية. وأنا في الحقيقة كنت أكثر من ذلك، أميل إلى التصوف وأنبذ حياة الترف والبذخ وأعاشر زهاد بغداد والبصرة وأحاور أهل الفكر والبرهان. 

تصير أرض النفق أكثر طينية كلما أتوغل، حتى يستحيل الدرب إلى شبه مستنقع من أطيان وبرك مياه تعبق بعتق. لقد أنهكني تعب وجوع وعطش. من دون وعي أحني رأسي على الأرض وأشرع باللعق من برك المياه مثل حيوان. إنه ماء عذب فأشرب حتى أرتوي. أستلقي بظهري على الأرض الطينية وأتمرغ بالأوحال متلذذاً باكتشاف جسدي الذي بدأت تسري فيه دماءُ الحياة. أمضغُ بفمي الأطيان والطحالب. أطلقُ أصوات شبع وانتشاء. صرخاتي تنطلق صامتة في أعماقي ويهتز لها كياني من دون أي ضجيج.

كم نصحت أبي أن يحذر من حاشيته الفاسدة، ويقرب أهل الخير والعلم؛ فأخبار الظلم والقسوة صارت كثيرة الانتشار في بغداد وأنحاء بلدان الخلافة، والصراعات بين المتنافسين والطامعين قد استفحلت، والثوار والمتمردون زاد انصارهم.

حينما تصاب الحضارة بالتخمة يستشري الطمع والتبلد في النفوس.. يبتعد الناس عن رب الخير والمحبة ويتقربون من شيطان الشر والانحطاط الذي يغويهم بالمطامع والتحاسد ضد بعضهم البعض. يعم الظلم وتنطلق طاحونة الحقد الجهنمية بدوارنها فيفرض الانحطاط سلطانه ويعّم الدنيا الخراب. يبلغ الفساد والتناحر ذروتهما حتى يشرع الناس بالاستعانة بالغرباء للانتقام من بعضهم البعض. تكثر الفتن والحروب وتخرب السدود ويتفجر الطوفان الأعظم وتغرب الشمس عن البلاد وتغدو الحياة خربة تعيث فيها طواعين وجحافل غزاة.

أشعر بالأفكار في رأسي خارجة عن المألوف؛ تارة تبدوا مجسمة تطير وتزحف حولي حتى أكاد أن أمسكها في الهواء والأطيان، وتارة تبدوا مثل أصوات تصدح حولي. تختلط عليّ الأمور وتمتزج الأحاسيس. لا أدري هل أنا أفكر أم أرى أم أسمع؟ من حولي وفي أعماقي تتردد أفكار وأصوات تقول:

الإنسان من الأرض يولد وينمو ويكبر وإليها يعود. مهما تحضر وتجبر فإنه يظل في أعماقه بعضاً من تاريخه البدائي المنسي. يظل ميراثه الحيواني المخزون يطوف في مجاهل البدن. ما يولد ويستمر بالتناسل إلاّ من أجل أن يسمو على ماضيه الحيواني الفاني، ليستحيل إلى ملاك خالد. الإنسان ما هو إلاّ معبر بين الحيوان والملاك.. بين البدن والروح.. بين المادة والمطلق.. إن جهنم الإنسان تكمن في حيوانيته، وجنته تكمن في روحانيته..

وداعا يا بغداد، يا أرض جذوري ومأوى حبي ومدينة ذكرياتي وأحلامي وأمجادي. يا ترى أأعود إليك ذات يوم؟

*   *   *

بعد زمن مجهول أصحو من إغفاءة فأرى العتمة قد خفتت. أمامي ممر نفق طويل يكفي لمرور انسان. في النهاية البعيدة تظهر هالة أشعة مثل ضوء نهار يتسلل عبر منفذ بعيد.

أركض وأركض متجهاً نحو النهاية، أملُّ وأتعب بعد ساعات وأنا أرى الضوء البعيد يختفي بالتدريج ومازال بعيداً، أعرف أن الليل يحل فأترك نفسي تغرق في نوم، أظل على هذه الحال زمناً لم أحسبه. أركض وأركض من دون أن أبلغ مصدر الضوء. أركض في النهار وأنام في الليل وغذائي الوحيد مياه النفق والطحالب والأعشاب. ثيابي تتمزق ولا يتبقى منها على بدني غير أسمال وأطيان تعفر كل بدني. أصير بأجمعي من طين. الطحالب والأعشاب تنمو فوقي وأصبح جزءاً من الأرض.       

رغم التعب والضنك فإني أظل في أعماقي مؤمناً بقرب خلاصي؛ لأني أريد فعلاً الخلاص ومقتنع بكل جوارحي بأني لا بد أن أبلغه.. لا بد من ذلك. عذابات النفق ضرورية للارتقاء من كينونة سفلى إلى كينونة عليا، أدرك جيداً أني سأظل حياً ما دمتُ متشبثًا برؤية النهاية المضيئة، حتى عندما يحل الليل فإني أرى الضوء في دواخلي.

فجأة يهتز صمت النفق بانفجارات وبروق، ويمتلئ المكان بدخان وغبار يخنقني، وأحس بنفسي أنهار وأتدحرج في منحدر جبار يبتلعني في أعماق مجهولة.. أظل أتدحرج وأتدحرج.. رغم فقداني السيطرة على كياني إلاّ إني أرى دائماً بصيص نور وفي داخلي نداء يجلجل: حي.. حي.. حي.

*   *   *

أجد نفسي في حمرة شفق، تائه بين بوادي ومرتفعات صخرية. الأرض جسد امرأة  ينتظر خصباً. بعد زمن أجهله وأنا هائم في البوادي أعتاش على بعض النباتات البرية، تظهر فجأة من بعيد مجموعة ذئاب متجهة نحوي ببطء وهي تحدق بي، كأنها تتفحص وضعي للتأكد من أني وحيد. أتجمد في مكاني مرتعباً، وأتلَّفت حولي عسى أن أعثر على ما ينقذني. لا ألمح إلاّ ربوات هنا وهناك لا تشكل أي حماية، بسرعة لا أتوقعها أراها تفترق عن بعضها وتشكل دائرة حولي، وهي تقترب بشكل متناسق كأنها تطبق خطة، تزمجر وترمقني باشتهاء كأنها تحاول أن تختار القطعة الأفضل مني، لا أحس بالرعب من الموت، بل من المهانة والذل أن أترك بدني تعبث به هذه الحيوانات.

مع صرخاتي الهوجاء التي تصدح في البرية وتشق عباب السماء ألوح بعصاي وأشهر خنجري، فتتراجع الذئاب قليلاً، لكنها كعادتها تعود وتهاجمني وبوثبة واحدة تصيرت فوقي، لا تنفع معها ضربات عصاي ونهش خنجري؛ إذ أسقطُ أرضاً وتشتد ضراوة صرخاتي متخذة طابع عتب وملامة للإله، وأنا أنخوه وأناجيه وكأني أراه شيخاً محارباً واقفاً يشاهدني بلا حراك:

ـ يا الله وينك؟ يا الله .. خلصني .. وينك يالله؟!

معركة ضارية لم أشعر خلالها بوجع الأنياب والمخالب وهي تمزق لحمي؛ فثمة رغبة جياشة واحدة تفور في دمي: أن أستنفذ آخر ما تبقى لي من لحظات الحياة؛ كي أمارس حقي بالانتقام وتفريغ حقدي الانتحاري ضد هذه الكائنات التي تغتصب مني حياتي. قناعة مطلقة بأن هذه الذئاب هي مختصر كلي لجميع السفلة الذين استغلوا طيبتي وسببوا لي الأذى في حياتي. أرى وجوه جميع الأصحاب الذين غدروا بي وأذاقوني سم الخيانة في ذلك الذئب الذي أطبق على عنقه بقبضتي وأنهش لحمه بأسناني.

*   *   *

أثناء لحظات الغيبوبة الأخيرة، أحس بأنياب صلبة مثلجة تخترق لحمي، تذوب في دمي الساخن وهو يفور ويفيض، ثم يفيض ليصير بحراً تعصف فيه ريح تسمو بموجاته إلى الأعالي والأعالي ليصير روحاً تطوف في كون من نور.

أصير كائناً من أثير، أحلق في الأعالي وتحتي قطيع ذئاب تنهش ببدني المهجور، عاصفة غبراء تحيطني ولا تعميني، البادية تمتد تحتي حتى حدود الأرض، في كل أرجاء الكوكب أرى قطعان ذئاب تنهش بأبدان تهجرها أرواح تحلّق في أعالي الكون. كم أشعر بالشفقة نحو عالم الذئاب والضحايا الذي أخلفه ورائي.

السماء كلها تستحيل إلى نفق من نور، أغور فيه وأغور، كما لو أن روحي مدفوعة بشوق وحنين إلى حب قديم، تتناسخ في عوالم أليفة بأبدان سالفة سبق أن عشت فيها: نطفة في لجة طوفان.. جنين يطوف بين أمواج.. وليد يحبو على ضفاف.. طفل يتقافز في غابة.. شاب يعيش في مغارة.. ثم رجل يشيّد مدناً ويخوض حروباً وحروباً لا تنتهي ضد جحافل غزاة مدججين بجوع وطواعين تدمر المدن وتفتك بالبشر وتطلق على النهرين وحوش طوفان؛ لتبيد الإنسان وتغسل عن الوطن نسله الفاسق.

تجول روحي في كل الأوطان وتتقمص أبدان من جميع الأقوام: نساء ورجال، فقراء وأغنياء، مؤمنون وجاحدون، ملوك وأنبياء ومجرمون وثوار وخونة.

خلال حقب وحقب وروحي الجوالة تعيد دورتها من جديد: نطفة تنبثق من طوفان تصير جنيناً ثم إنساناً تنهشه حروب ويغرق من جديد في طوفان يتصاعد ويتصاعد حتى يصير روحاً من نور تهيم في الأعالي نحو حشود من نور.

بعد أن تمحق النفوس الفاسدة وتتطهر الأرض بحروب ومجاعات وطواعين وطوفانات يمل البشر من الخضوع للغواية الشيطانية ويتعبون من الحقد والتحاسد، عندها  تبدأ براعم الأخوة والحب تنبثق بسرية في النفوس وتنصت الاسماع إلى كلام الحق الذي ينطق به الأنبياء والمصلحون ويسري الإيمان بطيئاً في القلوب، وتتراجع طاحونة الحقد والتحاسد أمام تقدم فلك الحب والتآلف، فتستقر الأوضاع ويسود الحب والوئام وتعود الحضارة من جديد من أجل تكرار دورتها الأزلية.

*   *   *

بعد حقب وحقب من التناسخ والتجوال بين حيوات لا تحصى، أجدُ نفسي في كون فضي خلاب أطوف فوق مياه متوهجة بزرقة وحولي خضرة وزهور وفراشات وعصافير. أناس من مختلف الأعمار والأجناس والأشكال يطوفون بثياب بيضاء يتضاحكون ويتصافحون ويتراقصون. فوق عرش شمس دافئة يجلس شيخ جبار وقور تمتد يداه خطوط ذهبية تتلقفني وتحملني نحو شجرة عملاقة بلا منتهى، متوهجة بخضرة فضية جذعها أطيان وأغصانها غيوم وأوراقها نجوم وثمارها أقمار.

أمضي حياتي الأبدية مع إخوتي البشر، أيادينا متشابكة نرقص ونغني حول أمنا شجرتنا الطيبة نتغذى من ثمارها، ونتسلق أغصانها الخضراء الحمراء الزرقاء الليلكية، وأبي شمس يحمينا ويداعبنا بأيادي من أشعة ذهبية.                

ـ 2 ـ

حاضر روحي

*   *   *

حياتي.. حياة..

حياتي ليست جنة.. حياتي ليست جهنم..

حياتي.. حياة..

فيها جنان وفيها نيران..

فيها ألحان وفيها أشجان..

فيها أخيار وفيها أشرار

جنتي في محبتي، وجهنمي في نقمتي

سعادتي في تفائلي، وتعاستي في تشاؤمي

مرضي في انغلاقي، وصحتي في انفتاحي

الأخيار نسائم كرمي ونفحات تسامحي..

الأشرار حرائق طمعي ومخالب شهوتي

نعم حياتي مثل كل حياة،

أمواج كلمات ونغمات،

قد أحيلها إلى:

مرثية وداع،

أو أنشودة ميلاد.

حبيبتـي والكلـب

بغداد 1970

هنا صورة رقم 9

أنت بحر وأنا ملاّحك وعشقي مركبي..
أنت دنيا وأنا آدمك وضميري حضارتي

أنت وطن وأنا شعبك ووفائي دولتي

أنت دين وأنا نبيك وصمتي رسالتي

فتعالي ياحارسة بوابة قلبي

هاكِ مفتاح ايماني.

*   *   *

تسلقت جدار قصر (القادر)، ووثبت إلى الحديقة. اختبأت بين سيقان أشجار الليمون وأغصان الزهور الشوكية؛ من أجل أن أشاهد (حواء). كانت الساعة قد تخطت العاشرة ليلاً والظلام قد نشر ذراته السوداء في فضاء بغداد. رغم إنها ليلة اكتمال القمر إلاّ أن سحب الخريف قد دثرته وحجبت ضياءه. من بين كتل الظلام قدحت عيناي تتلصلصان كعيني ذئب متحفز للانقضاض على فريسة. ترقبان نوافذ القصر بحثاً عن نافذة مضاءة. كنت أبذل الجهد من أجل السيطرة على وجيب قلبي وارتجافات تركزت بين ساقيّ وأسناني. بدأت تجتاحني مشاعر بركانية تمتزج فيها حمم رعب من فضيحة ورغبة مستعرة لمشاهدة (حواء).

قبل تلك الليلة ببضعة أشهر، بعد أن بلغتُ عمر الرابعة عشرة، دأبت على ممارسة هذه العادة الليلية الخطيرة. وكم كنت أعاني من مشاعر الاثم؛ لأني بسبب حاجتي الجنونية لرؤية معبودتي، اضطررت إلى التعود على مراقبتها مساءً عبر النافذة. الحقيقة أن الأمرَ حدث صدفة، عندما شاهدتُ ذات مساء عبر النافذة تلك الشابة الغاوية المغناجة وهي تخلع ثيابها. منذ وعيت حبي لـ (حواء)، انتبهت أيضاً لانجذابي الشبقي لخادمتهم (خانزاد). كم أحسست بالخزي كلما أدركت الشهوات التي تستثار في جسدي على مرآها أو حتى خيالي. كنت في كل مرة أناجي طيف (حواء) وأعتذر لها؛ لأن خيال (خانزاد) قد لوث حبي وشغلته لذّة الجسد عن مشاعر الروح.

إن شغفي برؤية (حواء) يعود إلى زمن الطفولة. منذ أن بدأ عملي في حانوت أبي. قبل بلوغ عمر السابعة قالت لي أمي أني أصبحت رجلاً وجلبتني كي أساعد أبي.

كان الحانوت يجاور دائرة الأمن العامة في محلة السعدون وسط (بغداد)، التي تتميز بسكانها الأغنياء من تجار وموظفين كبار ودبلوماسيين. أما دائرة الأمن فإنها كانت تزدحم برجال شرطة مدنيين وعسكريين، بالإضافة إلى معتقلين بمختلف أصنافهم، كادحين ومثقفين ووزراء وقادة أحزاب وحكومات متساقطة. مع الأعوام وتنامي العنف والاستبداد راحت تتوسع هذه الدائرة بلا كلل كالسرطان في داخل المحلة، تزحف نحو البيوت المجاورة وتهدد بابتلاع قصر التاجر الموصلي المعروف (القادر).

*   *   *

رغم الحاجز الأمني المحيط بالقصر إلاّ أنه لم يكن سبباً كافياً لكبت رغبتي بالقفز ليلاً إلى الحديقة والتلصلص عبر النافذة بحثاً عن (حواء). كنت أدرك جيداً خطورة مغامراتي الليلية وهول الفضيحة والعار الذي قد تجلبه. في كل مرة كنت ألوم نفسي بحرقة وقسوة وأحلف أغلظ الأيمان أني لن أعود لتكرارها أبداً. لكن المساء عندما يشرع ويعّم السكون الموحش دروب المحلة وتتسرب من المآذن البعيدة نداءات (الله أكبر) حزينة جارحة كأنها كلمات وداع للدنيا، تتفاقم عتمة الوجود في صدري وأحس بعزلة كونية كأنها الموت. حينها تستحيل روحي إلى وقود أسود يشتعل برغبة نارية لرؤية (حوائي).

في تلك الليلة الخريفية بدا القصر شاحباً يثقل عليه سكون تتخلله همهمات تتناهى من بعيد مع نقيق ضفادع وهفيف ريح تداعب الأغصان وتذوب في أنفاسي المكتومة وهمهماتي الخائفة. كانت نوافذ الطابق الأرضي كلها منطفئة عدا واحدة، كنت أعرف أنها نافذة غرفة التلفزيون. سَرَتْ في بدني قشعريرة أشبه بلذة وأنا أفكر بأن هنالك أملاً كبيراً برؤية معبودتي وهي تشاهد فيلم السهرة كعادتها في معظم الأماسي. من دون تردد اتجهت نحو النافذة متخبطاً بين شجيرات الزهور الشوكية غير مبال بالخدوش العميقة التي أحدثتها في وجهي وذراعي. فجأة تجمدت في مكاني وتكورت بسرعة بين الشجيرات بعد أن اجتاح المكان ضجيج جامح وخطفت أنوار كالبرق. تبين أنها قادمة من إحدى سيارات الأمن التي توقفت محاذاة السياج. تناهى إلى سمعي من خلف السياج، خليط من ضجة أبواب تنغلق وقعقعة أسلحة وصفعات وأوامر وشتائم:

ـ شيوعي كلب حقير...

ثم أجابتها كلمات متأوهة:

ـ أرجوك يا أخي، مو كسرت ضلوعي.. إنگطع نفسي ياجماعة.. الله يخليكم، صدگوني آني بريء، والله بريء...

ـ اسمع الكلب يحلف بالله، الكافر ابن الكافر يحلف بالله..

راحت الأصوات تتلاشى بالتدريج، وعمّ السكون من جديد. حينها أحسست بقواي تنهار فارتميت فوق الزهور والأطيان متفجراً ببكاء حارق ونحيب مخنوق بينما كفاي تغوران في التربة وتنهشان لحم الأرض. شرعت الكلمات تخرج مني كهذيان:

ـ بريء والله بريء.. صدگوني بريء.

كان نحيبي مفعماً بعتاب وغضب. لم أكن أخاطب (حواء) بل الله وأبي ورجال الأمن. قبل أشهر اندلع في روحي حريق الشك، عندما أعادت لي (حواء) رسالتي التي أمضيت أياماً ولياليَ لأكتبها على ورقة زرقاء مزينة بفراشة ووردة ومضمخة بعطر اختلسته من أختي. لن أنسى أبداً تلك الساعة الرمضاء من أوائل الصيف الماضي عندما نادتني (حواء) وكان وجهها شاحباً بحمرة نارية كشمس بغداد وقد غطتها عواصف الصحراء الرملية. امتدت كفها من خلف قضبان الحديقة، تعيد لي رسالتي وهي تخاطبني بصوت طفولي بريء رغم الغضب والارتعاش:

ـ خذ هذه رسالتك، قرأتها أمي وراح تحكي لأبوك....

*   *   *

في تلك الليلة الليلاء كنت في قصر (حواء)، أنهض من أطياني وأحبو كذئب نحو النافذة التي ما زالت مضاءة. لا أشتهي شيئاً في الدنيا غير مشاهدة (حواء). يا إلهي، شهور الصيف كلها لم ألمحها حتى لمرة واحدة. اللعنة على السفر وعلى من اخترع السفر. لماذا هكذا يا أوربا، تتعاضدين مع أعدائي وتخطفين مني معبودتي؟ لتذهب إلى الجحيم باريسك ولندنك وجنيفك، وليعّم الخراب مدنك ومطاراتك وشواطئك التي تحرمني كل صيف من إيماني وآلهتي.

وقفت تحت النافذة المرتفعة عن الأرض بثلاثة أمتار. أتنصت إلى الأصوات القادمة من التلفزيون. كان فيلماً مصرياً (الخطايا) أحد أفلام عبد الحليم. صوت صفعة وتوبيخ الأب (عماد حمدي) لابنه على مروقه. بعد قليل انطلق (عبد الحليم) بصوت دافىء حزين:

"لست أدري أين ضحكي وبكائي وأنا طفل صغير... لست أدري أين جهلي ومراحي وأنا غض غرير... لست أدري أين أحلامي وكانت كيفما سرت تسير... كلها ضاعت ولكن كيف ضاعت لست أدري".

أصابني الخدر وسرت نشوة في بدني وعمَّ السلام روحي. اتكأت على جذع السنديانة، وعلى أضواء المصابيح المتسللة من دائرة الأمن عبر الأغصان رحت أنظر إلى نفسي وقد غطاني الطين وتيبس الدم على خدوشي. فكرت بإخوتي وأصحابي ماذا سيقولون عنّي لو عرفوا بمغامراتي هذه، فكرت بالفضيحة والعار، وكيف انحدر بي الحب إلى هذا الحال.

رحت ألعن الليل ووحشة الليل التي جعلتني هكذا بوحدتي وعزلتي ألجأ لمثل هذه المغامرات المقرفة لكي أشاهد حبيبتي، بسببها اكتشفت هذه العادة الخطيرة. منذ أن تعودت النوم في حانوت أبي معظم أيام الأسبوع، والعودة من مدرستي المسائية لأن دارنا كانت بعيدة شمال بغداد ـ الكاظمية. كنت أنام وحيداً على قنفة عتيقة تحت سقف حانوتنا المتداعي، يحيطني ظلام وحفيف حشرات لم تأو بعد إلى جحورها المنتشرة في أنحاء الجدران والسقف. كنت أفكربـ (حواء).. أريد أن أراها.. أكلّمها وأبكي على صدرها.. أتكَّور بين أحضانها.

*   *   *

عشقي لـ (حواء) علمني عشق أوربا والاغتراب. عندما كانت تعود من غيابها في الصيف، كانت تتحدث عن مدن بعيدة، بعيدة جداً وكأنها في عوالم أخرى: باريس ولندن وجنيف وأمستردام. في كل مرة كنت أشاهد هذه المدن في عيونها الخضراء حتى استحالت أوربا مع الزمن إلى جنان خضراء تقيم في عيون (حواء).. كل شي في أوربا كان أخضر: مدنها ومزارعها ومصانعها، حتى بحارها وسماءها كانت خضراء.. حتى شموسها كانت خضراء، لا تحرق مثل شمس العراق الرمضاء.

هذا الصباح علمت بعودة العائلة من أوربا. بذلت جهدي طيلة اليوم متقرباً من الخادمات والسائق لأسترق الأخبار عن (حواء): كيف أمضت أيامها ومن رافقت في أمسياتها؟ سمعت أنهم جلبوا حاجيات وهدايا لا تقدر بثمن. الطباخة العجوز (جوليت) همست في أذني وهي تقسم بالصليب أنها شاهدت حيواناً عجيباً جلبته (حواء) معها من أوربا. لم أفقه لماذا شعرتُ بالقلق من هذا الخبر، وتوجست النحس منه؟ رغم أني ألححت بالسؤال على العجوز إلاّ أني فشلت في معرفة هوية ذلك الحيوان العجيب.

تشبثت بتعرجات الحائط ورحت أتسلقه حتى أمسكت بماكينة التبريد المرتفعة أكثر من ثلاثة أمتار. ألصقت وجهي بمشبك النافذة، وحدقت عبر فتحات الستارة: كانت هي نفسها.. (حواء) بعيونها الخضر تشاهد التلفزيون. (حواء) وشعرها الذهبي ينير المكان ويضفي عليه وهجاً شمسياً.. مستلقية على الأريكة وثوبها مرفوع متكور بين فخذيها الورديين.. وحيدة تشاهد فلم (الخطايا) وتدمدم بأغنية (عبد الحليم حافظ)، محركة أصابعها مع النغمات. تمنيتُ لو أمضي عمري هكذا أنظر إليها.. تمنيتُ لو تحدث معجزة وأتحول أنا إلى تلفزيون تجلس أمامي لتشاهدني وأشاهدها.. تمنيت لو أني كنت واحداً من إخوتها، خادمها، حارسها، ملاكها، إلهها الذي ليس له من المخلوقات إلاّ هي.

تمنيت وتمنيت.. لكن فجأة قطعتُ سلسلة تمنياتي ضجة قادمة من الأسفل. اقشعرَّ بدني وتيبست دمائي وأنا أسمع صوتاً قادماً أشبه بزئير. التفتُّ بسرعة نحو الأسفل فرأيت تحتي على الأرض كائناً غامضاً. للحظات ظننته وهماً أو بشراً متنكراً. حدّقت وحدّقت وأنا أتمنى في أعماقي أن أكتشف تفاهة الأمر. لكني كنت أراه بوضوح أكثر.. أسمع زمجرته، وأتيقن من وجوده: كائناً وحشياً متحفزاً للوثوب وعيناه جمرتان تقدحان بحقد وشهوة افتراس.

في حياتي كلها لم أشاهد مثل هذا الكلب. فأنا عشت سنوات طفولتي وصباي أصارع كلاباً سائبة في أزقة بغداد. كم من المرات في الليالي وعند ساعات الفجر وحيداً في دروب محلة السعدون، خضت حروباً حقيقية من الكر والفر ضد مجاميع كلاب سائبة تسّد عليَّ الطريق. لم يكن سلاحي غير الحجارة والصراخ. لشدَّ ما مقتّ أيام الخصب في الربيع؛ إذ تتفاقم وحشية الكلاب. تستحيل دروب المحلة وخرائبها إلى سوح مضاجعات جماعية وفجور كلبي. الكلبة عندما تنجب تصبح أماً متوحشة؛ لأنها تعتبر كل من يمر في الدرب عدواً قادماً لاختطاف جرائها. من تلك التجارب المريرة تعلمت درساً واحداً لا أشك أبداً بصحته: أن لا أنهزم أمام الكلب.. مهما كان الكلب جباناً فإنه سيستحيل إلى ذئب يلاحقك حتى ينهش لحمك. مهما كان عدد الكلاب وشراستها، فإن الخلاص الوحيد أن لا تدير لها ظهرك.. واجهها بصراخ وتهديد.. وارم عليها حجارة.. إن لم يكن في الأرض حجارة لترمِ عليها تراباً أو حتى هواءً. تمَّسك بالكرِّ والفرِّ، وعندما تضطر للتراجع ابق بمواجهتها وعيناك في عيونها.. المهم إياك والهزيمة.

لكن يا إلهي ما هذا الحيوان بكلب مثل بقية الكلاب، أهو هذا الحيوان العجيب الذي جلبته (حواء)؟ في حياتي كلها لم أشاهد مثله: ضخم كأنه ذئب يحوم فاتحاً شدقيه مزمجراً ورافعاً قامته مستعداً للوثوب. اللعنة على أوربا، حتى كلابها أعظم من كلابنا.. أشبه بذئاب ليس من أمل بمواجهتها.. سياسة الكر والفر لا تنفع معها.

مكثت عيناي تنطّان بين النافذة والأرض: هنا (حواء) والفضيحة.. هناك الكلب والموت! ياله من مصير ما له مثيل. إن هبطت فليس بانتظاري سوى تلك الأشداق الذئبية ومخالب الموت. إن بقيت، فإن (حواء) وأهل القصر ورجال الأمن قادمون لا محال على نباح الكلب وعوائه. يا للفضيحة.. ماذا ستقول عني إيمان وأهل إيمان.. ماذا سيقول عني أهلي وأصحابي وسكنة السعدون.. ثم رجال الأمن، يا إلهي رجال الأمن ماذا سيفعلون بي، هل سيعذبونني ويرمونني مع المعتقلين؟

زمجرة الكلب تشتد وتتصاعد، يقيناً أن النباح سيوقظ الجميع، في كل الأحوال الموت بانتظاري، إما بين أشداق الكلب أو بين أشداق المجتمع. الفضيحة أمام (حواء) والناس تعني لي أكثر من الموت، ولو انتحرت فإن عار الفضيحة سيطاردني حتى في الآخرة. أحس بكياني مدينة تحاصرها جيوش مدججة بموت وعار. أفكار مرتعبة تمتزج بمشاعر هائجة صانعة دوامات نارية تعصف بدماء تجري فوّارة كحمم في العروق، عيناي لا تشاهدان من الوجود غير عينيّ الكلب. أنفاسي تضج بهمهمات وحمحمات تفور في أعماق صدري. كل شهقة وزفرة تنتظم مع ترددات زمجرة الكلب وتتصاعد منمسخة إلى أصوات وحشية.. أشهق وأزفر.. أشهق وأزفر.. أششـ.. أزز...

أزأر وأزمجر ويبزغ من بدني شعر شوكي..

فمي يتضخم وتنبثق أنياب في فكي ولعاب ينزف كثيفاً وأظافري تستحيل مخالباً و..و..

وإذا بي أنفجر فجأة بصرخة معتوهة تشق الظلام وعصف صداها في الفضاء مخترقاً جدران القصور والسجون؛ لينفذ إلى مسامع الناس والحراس والسجناء. في نفس اللحظة وجدتُ نفسي مرتمياً فوق الكلب ممتطياً إياه وخامطاً رأسه بين مخالبي وغارزاً أنيابي في لحمه. حشرجات وجع مختنق كانت تصعد من صدري بعويل شاك معذب وأنا أتهاوى على الأرض صريعاً.

حينها لم أكن مرتعباً أو غاضباً، بل كنت أحس بطوفانات من اللذة تسري بكياني. حشرجات الكلب بدت تشبه تأوهات شهوة، وطعم السائل الحار في فمي كان حلواً كلعاب قبلات. في لحظات النزع الأخير جحظت عينا الكلب وصار لونهما أخضر أخضر أخضر.. يشع بشبق وحنان.

مع تصاعد الشعور باللذة كانت صرخاتي تستحيل إلى عواء ذئب يتفجر من أشداق ملوثة بشعر ودم. لذتي تتصاعد إلى الذروة، بينما الكلب يستحيل كله إلى أخضر.. كل الوجود يصير أخضرَ: الجدران والنوافذ وذرات الظلام والأنوار.. أما عوائي فإنه ظل يتصاعد ويعلو في فضاء محلة السعدون ويشق جدار البيوت والمكاتب والسجون ويصبغها كلها بلون أخضر مثل عيون حواء.

زعيـم ثـورتـي

دمشق 1979

هنا صورة رقم 10

أًفزّ من نومي على أصوات انفجارات هزت كياني وتزعزع الوجود من حولي. أفتح عينيّ مرتعباً وأنا أتلَّمس من دون شعور رأسي وباقي بدني؛ لأتأكد من سلامتي. الظلمة التي تحيطني تتلون بين حين وآخر بتوهجات بروق وضجيج حروب. ما زالت عالقة في ذهني صور كابوس خنّاق رأيت فيه نفسي وحيداً في خندق بين أشلاء الرفاق وامرأة تشبه أمي ملفعة بسواد تريد الانقضاض عليَّ وأنا أحاول دون جدوى الركض والصراخ، لكن رعباً أسودَ يجمد حركتي ويكتم صوتي.

وسط الظلام تمتد يدي باحثة عن بندقيتي، لكني اتحسس شيئاً لم أتوقعه.. بلاطات أرض صقيلة باردة. كأني في غرفة وليس في خندق. أتجمد في نومتي محاولاً تفسير الأمر. وسط عتمة وضجيج موحش يثب أمامي سؤال أشبه بثعبان مستنفر:

ـ وين آني.. بأي خندق وأية حرب؟.

 أشبه بثمل مخبول أسترجع في ذهني خنادق حروب لا أدري أين عشتها؟ منذ أن وعيت الحياة وأنا بانتظار (آخري)، حتى تاهت عليَّ الأعوام وتراكمت الأحداث ولم أعد أتذكر من حياتي غير حروبي التي لا تنتهي مع ذاتي الممزقة بين ذاتي والآخر المنتظر. حبيبتي التي عشقتها لسنوات تناستني وتزوجت.. حزبي الذي نذرت عمري من أجله قد مات، ورفاقي وأصحابي قد تشتتوا في أصقاع الأرض ومعهم تشتت آمال الثورة والمجتمع الفاضل.. أوربا التي كنت أحلم بغزو مدنها وقلوب نسائها قد باتت من المستحيلات.. وطني تائه وشعبه حائر، ولم يتبق لي غير اسمي (آدم) وحفنة من الآمال البعيدة بالنجاة والحرية لن أتخلى عنها؛ لأني بها أعيش وأتمسك بآخر توهجات الحياة.

ها أنا (آدم) الطريد، حمّال النسيان والانكسارات، وحيداً أقبع وسط البرد والظلام وضجيج الانفجارات، أفتش في أعماقي عن ماضيِّ وحاضري، بينما كفَّي تجوسان بلاطات الارض والبدن؛ بحثاً عما يعيد إليَّ ذاكرتي ويجيبني على نداءاتي المتصاعدة:

ـ يا رفاق يا أصحاب، أين أنتم؟ الوحشة تخنقني.

من بعيد بدأ يتناهى إليَّ صوت رجل جريح يستغيث بألم وغضب. من بين صخب مطر ورعد أمَّيز ذلك الصوت الرجالي يصرخ من مكان بعيد. انه صوت مألوف مفعم بيقين، نبراته تعلو وتنخفض بموجات تنبض بفاجعة. مع الصوت المألوف ذكريات تنبجس. إنه صوت (الأستاذ).. نعم إنه صوت (الأستاذ) لا غيره. حينها تتضح أمامي الحقيقة كاملة. أحس ببعض الراحة وأنا أتذكر أني لست في خندق ولا حرب، بل أنا حتى خارج الوطن بأكمله. منذ أسابيع وأنا أعيش في (دمشق) التي تمكنت بعد جهود عجيبة أن أهرب إليها أملاً في بلوغ أوربا. أعيش في بيت (الأستاذ) في مخيم فلسطين عند أطراف العاصمة بانتظار الحصول على جواز مزور وتأشيرة سفر إلى أوربا.

أفكر بالأستاذ، يقيناً إنه يتحدث الآن مع رفاقه أعضاء المنظمة الثورية العراقية التي يقول أنه أنشأها قبل أعوام. منذ أن سكنت في بيت (الأستاذ) وهو لم يكف عن عرضه لي بالانتماء إلى منظمته التي يقول إن خلاياها تنتشر في أنحاء الوطن، وتعد العدة من أجل تفجير ثورة شاملة تمحق عن البلاد ظلامها وتعيد النور إلى ربوعها. هكذا يردد الأستاذ دائماً، حتى إنني أحسست بالعار من مشروع الرحيل إلى أوربا، ووافقت على مشروع (الأستاذ) بأن أتدرب على السلاح في إحدى معسكرات المقاومة الفلسطينية؛ لكي أعود فيما بعد إلى بغداد لأشارك الرفاق ثورتهم القريبة.  

ظلام الغرفة يتبدد بين حين وآخر بوهج بروق وصواعق يخترق زجاج النافذة العارية من ستارتها. تستفحل آلام البرد، فأقرر أن أتحرك لأجد غطاءً يمنحني الدفء. ما إن أتقدم بضعة خطوات بحثاً عن زر كهرباء حتى اصطدم بطاولة صغيرة تسقط مع قناني مشروبات تتكسر وتحدث ضجيجاً مقرفاً حاداً. أتجمد في وقفتي حائراً محرجاً مفكراً بـ (الأستاذ) ورفاقه الذين سيهرعون لأستكشاف فعلتي.

لا أفقه كم من الزمن يمرٌّ عليَّ وأنا متجمد في ظلمة بانتظار رفاق لا يأتوا. يبدو أن الجميع مشغولون بالإصغاء إلى خطاب الأستاذ. على قَدح سماء وبخطوات حافية حذرة أتقدم محاولاً بصعوبة تجنب نثار زجاج. ما أن تلمس أصابعي الزر حتى أضغطه، مرة وثانية وثالثة، لكن دون جدوى، الكهرباء كعادتها منقطعة وسط ريح هوجاء ومطر لعين.

أفكر أن أستعين بالأستاذ، أطلب منه العون للعثور على غطاء وشمعة. إنه صاحب البيت، أليس كذلك؟ أشعر ببعض الارتياح لهذه الفكرة. إنها ستكون فرصة مناسبة للالتقاء بالأعضاء القياديين للمنظمة. حتى الآن لم أشاهد أياً منهم رغم وجودي في الدار منذ أسابيع. خلال العديد من الليالي بقيت أستمع من غرفتي المنعزلة إلى (الأستاذ) يلقي خطبه الثورية على الرفاق، ويملي عليهم وصاياه وتعاليمه للتحضير للكفاح والثورة. وكان (الأستاذ) يستيقظ ظهراً محمر العينان شاحب الوجه يرتدي ثيابه مسرعاً وهو يتمتم بأنه على موعد هام مع رجال المعارضة العراقية والقيادات الحزبية السورية والفلسطينية واللبنانية من أجل التنسيق والتحضير للثورة القادمة.

أقترب ببطء وتعثر من باب غرفة الاجتماع. أتلمس طريقي على وهج بروق وصواعق تحيل ظلال جسمي على الجدار إلى صورة وحش جريح يزحف على هدى كلمات ترتج بصدى جبلي ممتزج برعود وعصف ريح. رغم برد وتعثر ونعاس أشعر في أعماقي ببعض البهجة؛ لأنني أخيراً سألتقي الرفاق القياديين. يقيناً إني سأتعرف على بعضهم من رفاقي القدماء، ألم يكن (الأستاذ) مسؤولي الحزبي في بغداد، قبل أن يقرر الانشقاق في الخارج ويؤسس منظمته الثورية الجديدة. منذ صغري تعودت أن ألقبه بـ (الأستاذ)؛ لأنه حقاً كان أستاذي في المدرسة. حتى بعد أن أصبح مسؤولي في الحزب كنت كثيراً ما أسهو وأناديه بالأستاذ بدل رفيق. كان (الأستاذ) مناضلاً حقيقياً ومثقفاً تعَّود منذ صباه سجون وتشرد، وهو يمضي وقته بالكتابة وتعليم الناس حب التمرد والتعلق بحلم العدالة والمساواة. بالإضافة إلى عشقه للشعر وقدرته الفائقة على إلقاء القصائد التي كان يحفظ الكثير منها عن ظهر قلب.

ألاحظ أن الباب لم يكن مغلقاً تماماً، بل أرتعش مع ريح تهبّ  من الغرفة؛ فثمة شق يتسلل منه ضوء أحمر شاحب ممتزجاً بضجيج رعد وصوت (الأستاذ). ما أن أضع أصبعي كي أطرقه يندفع الباب وينفتح تلقائياً ويتكشف أمام ناظري هكذا كل ما كان في الغرفة!

أتجمد في وقفتي وأظل مبهوتاً حائراً غير قادر على تصديق ما أرى!

أصمت مبهوراً مرتجفاً من برد وخيبة وأنا أحدق بذلك المشهد الكابوسي العجيب:

الغرفة خالية إلاّ من (الأستاذ) وحيداً عارياً بين عصف ريح وضوء شاحب لفانوس عتيق، جالساً على ركبتيه في أرض غرفة عارية، مطبقاً كفيه أمامه بخشوع، رافعاً رأسه إلى السماء عبر نافذة مفتوحة على مصراعيها، بينما رذاذ مطر ينساب على جسده وريح تتلاعب بخصلات شعره القليلة المبللة. يبدو أشبه بتمثال مهشم لكاهن أسطوري في معبد مهجور، وهو يخاطب السماء بصوت صارخ مفجوع:

((آه ربي، صوتهم يصرخ في قبري تعال

كيف لا أنفض عن صدري الجلاميد الثقال

كيف لا أصرع أوجاعي وموتي

كيف لا أضرع في ذل وصمت

ردني ربي أعدني للحياة

وليكن ما كان، ما عانيت من محنة الصلب وأعياد الطغاة..))(*)

أظلّ مبهوتاً لا أدري ما أفعل و(الأستاذ) مستمرٌ بإلقاء أشعاره بصوت صارخ مفعم بأسى. يا لها من خيبة ما بعدها خيبة. ايه يا أستاذي العزيز، أين هم الرفاق وأين هي أحلامك ووعودك عن ثورتنا العصماء؟ أهكذا غدر بك الزمان وألقى بك دون رحمة في دهاليز الوهم والنسيان؟ آخر ما تبقى لي من أمل أنت يا أستاذ، وها أنت تستحيل إلى واهم مجنون. رحماك يارب، لقد غدر بنا الجميع، الآباء والسادة والصحاب، وتكالبت علينا الخيبات... الأمل.. يارب.. الأمل..

بعد تردد اتجه إلى النافذة لأغلقها وأحمي (الأستاذ) من الريح والمطر. ما أن اقترب منها وأمسك مصراعيها حتى تنطلق صرخة احتجاج مخنوقة من حنجرة (الأستاذ) وتمتد قبضته مرتجفة وتشد على ذراعي وهو يخاطبني بلغة بليغة أقرب إلى شعر ودعاء:

ــ ابتعد أيها الغريب.. أراك أتيت لتفسد عليَّ ساعات توحدي مع قوى الثورة والعنفوان.. ابتعد أيها الغريب.. ارحل عني يا رسول البؤس وذكريات الظلام..

أردد مرتبكاً راجياً:

ــ يا أستاذ.. اشبيك؟ أنا رفيقك وتلميذك آدم.. أرجوك خليني أغلقها.. البرد راح يمرضك يا أستاذ.. أرجوك..

لكن قبضة الأستاذ يزداد عنفها، بينما تمتد فجأة يده الأخرى بمسدس وضع فوهته على قلبي ويخاطبني بصوت حازم:

ــ دع النافذة مفتوحة؛ لأنك عبرها ستعود من حيث أتيت.. عد إلى آلهة الهزيمة والنسيان.. رصاصة واحدة تكفي لتفجير قلبك المعبأ بأنفاس الخيبة.. ارحل.. عد أيها البائس الغريب، وإلاّ أطلقت..

تحت تهديد المسدس وصرخات (الأستاذ) وإصرار عينيه المتوهجتين ببريق الانتقام، اضطرّ للخضوع والهبوط من النافذة. أسقط من علو أربعة أمتار على أرض مخيم فلسطين الطينية. لا أدري كم من الزمن يمّر عليَّ وأنا جالس بين وحل أأن من آلام  قدمي الملتوية وجروح حارقة ارتسمت كصليب على وجهي. المطر لا يكف عن التفاقم وكأن السماء أرادت أن تفرغ في تلك الليلة الليلاء كل مياه الكون على أرض دمشق، وريح ما برح عصفها يشتد ممتزجة بانفجارات رعود وقدح بروق حتى بدت الغيوم أشبه بوحوش سماوية تود ابتلاع البيوت.

أمسح السوائل عن وجهي ولا أنتبه الى انها مزيج من مطر ودم ودموع، لكني متيقن من شيء واحد: إني لا ولن أبكي؛ لأني أحس بأن كل طاقة السماء بأنوارها وانفجاراتها تتسرب إلى كياني وتشيع في شراييني قوة مخبولة هوجاء مفعمة بغضب وثورة، فأنهض من سقطتي مكافحاً بإصرار لم أعرفه من قبل آلام جسدي التي تحاول أن تجبرني على أن أحبو وأعرج.

مثل كائن خرافي ينبثق من أوحال الخيبة ودم الكوارث، أنهض ملطخاً بأطيان محنتي ونزيف جراحي، مستجمعاً في روحي كل انكسارات عمري وهزائم حروبي التي تتكور وتتكور حتى تتفجر بصرخة هوجاء تحتشد فيها أسماء أرباب وآباء وقادة وأساتذة منحتهم ثقتي منذ ميلادي وحتى هذه اللحظة:

لا... لا...لا يارب لا....

فتجلجل الـ (لا...) عبر بيوت مخيم فلسطين وحارات دمشق وتتصاعد أصداؤها إلى عباب السماء بالغة أقاصي الكون.

 

صديـقي الذي غـدرت بـه!

بيـروت 1980

هنا صورة رقم 11

نعم يا صديقي، إني أتذكرك جيداً، فما زالت دموعك تذرف من عيني ونحيبك يعلو في صدري. أراك في ذلك المشهد الذي غيَّر حياتي كلها. تلك الأمسية الربيعية، كنّا أربعة عراقيين جالسين على الأرض في غرفة معتمة صغيرة. أنا وأنت ورفيقان كنّا نتداول الأحاديث التي توقفت قليلاً بعد سماعنا أصوات انفجارات بعيدة. لقد تعوَّدنا ضجيج الحرب في هذه المدينة (بيروت)، منذ أن التجأنا إليها هرباً من الوطن. كنّا جزءاً من آلاف العراقيين الذين هربوا من شبح موت إلى بلاد تعيش موت وسط حرب أهلية لا ترحم ولا تميز بين البشر.

عبر نافذة مطلة على (حارة الفاكهاني) كانت تأتينا أصوات الناس ممزوجة بقعقعة السلاح. بينما أنت مسترسل بحديث طريف عن نكات جديدة قادمة من الوطن. طيبتك الطفولية لم تجعلك تنتبه إلينا، نحن رفاقك الثلاثة، كيف كنّا نفتعل ضحكات صفراء ونتبادل نظرات سرية متآمرة.

قام أحدنا بغلق الستارة وأشعل ثلاثة شموع أضفَت على المكان جواً من الرهبة وعلى وجوهنا ملامحَ نارية، كموتى في جهنم.

يا صديقي، حينها لم تنتبه أيضاً بأننا جلسنا بوضعية بحيث تكون أنت أمامنا مستنداً على الحائط ونحن بمواجهتك مستندين على الحائط المقابل. لم تستوعب معنى نظراتنا التي راحت فجأة تصوب نحوك مفعمة بشك وإدانة. أراك الآن بكل وضوح كيف بدأت بالتدريج تموت ابتسامتك المتألقة على محياك لترتسم محلها ملامح دهشة واستغراب وأنت ترى أحد الرفاق يحدق بك بصرامة ويكلمك بصوت حازم يشوبه ارتباك:

- اسمع رفيق.. هناك أمر خطير نريد أن نكاشفك بيه.. الحقيقة إحنا ترددنا كثير لكن المسألة ما عاد من الممكن السكوت عنها. أنت باختصار يا رفيق متهم بالخيانة. نعم أنت متهم بالخيانة وما نطلب منك غير الاعتراف وتعويض ما اقترفت من خيانة وتجسس بحق القضية والمنظمة. نعاهدك بالشرف إذا اعترفت وتعاونت معنا راح نعفو عنك، وإلا فحكم الإعدام ينفذ بحقك هذه الليلة بالذات.. و.. و..

وانقطع صوت الرفيق بانقطاع الكهرباء وساد الغرفة ظلام وصمت ممتزج بزخات مضادات الطائرات المنتشرة فوق عمارات الفاكهاني، وضجيج صرخات الناس:

ـ ((بصو الطائرات الإسرائيلية.. شوفو الطائرات..)). ومن خلف باب الشقة تسرب إلينا بكاء طفلة تستغيث بأمها.

لم يصدر أي صوت منك يا صديقي.

من بين ضياء الشموع رأيتك باهتاً وابتسامتك تومض وتنطفئ مع تموجات اللهب. أدركت جيداً مشاعرك يا صاحبي. كنت تجاهد كي لا تصدق ما قاله الرفيق. أعرف أنك قلت لنفسك:

ـ ((هاهي لعبة أخرى يختبرني عبرها الرفاق)). حاولت أن تقنع نفسك بأنها مثل اللعبة السابقة التي عشناها سوية قبل أسابيع.

*   *   *

أتتذكر ذلك المعسكر الفلسطيني شمال دمشق والمحاذي لقرية معلولا التاريخية. كيف أمضينا الأسابيع نتدرب مع الفلسطينيين على حرب العصابات، كي نعد أنفسنا للثورة التي سوف نطلقها في الوطن.

ذات ليلة حالكة مثلجة كنا غارقين في النوم في المهجع متدثرين بالبطانيات العسكرية وأحلام الثورة والاستشهاد، وإذا بنا نفزّ فزعين على أصوات انفجارات وصرخات استغاثة:

ـ ((ياجماعة.. يارفاق.. هجوم إسرائيلي.. آخ.. آخ.. يابا الحگني الحگني..))

كانت استغاثات وجع وموت تذوب في زخات رصاص وصرخات تهديد باللغتين العربية والعبرية:

ـ ((القوا سلاحكم واستسلموا يا جبناء.. يا إرهابيون.. اقتله.. قلت لك اقتله هيك اللي ما يستسلم..)). ولعلعت زخات الرصاص ومعها صرخات الموت!

وسط ظلام ورعب وارتباك قفزنا من أفرشتنا وارتمينا على بنادقنا. لكن المفاجأة أننا عندما بدأنا الإطلاق على ظلال الجنود الذين دخلوا مهجعنا اكتشفنا أن بنادقنا كانت فارغة. قبل أن يتاح لنا أي وقت للتفكير كانت الأشباح الإسرائيلية فوق رؤوسنا وبنادقهم انغرزت في صدورنا مصحوبة بشتائم عربية وعبرية وأوامر حازمة بالاستسلام أو الموت!

لا أدري إن كان من سوء حظك يا صاحبي أو هو قدرك، أن الجميع لاذ بالصمت بانتظار المجهول، لكنك أنت الوحيد الذي انفجر ببكاء مر وعويل دام باغتنا جميعاً:

ـ ((يا يمىّ تعاليلي.. يا يمىّ خلصيني.. يا جماعة آني بريء.. آني ما أريد أموت.. والله العظيم ما كنت راغب لا بالحرب ولا بالسلاح.. آني إنسان أحب أمي واختي والكتب.. آني بريء يا إخواني آني بريء..)).

وسط صمت الكارثة ونحيبك ورجائك للجنود الإسرائيليين، انطلق فجأة صوت رفيق آخر، صارخاً بغضب:

ـ ((اسكت يا جبان.. اسكت خزّيتنا  يا مَرَه.. يا تافه.. عاشت الثورة ولتسقط الإمبريالية والصهيونية.. الحرية أو الموت..)).

وقبل أن يحدث هذا الأمر أي رد فعل من قبلنا، إذا بالضحك ينطلق من الأشباح الإسرائيلية وهي تنطق بأصوات رفاقنا الفلسطينيين:

ـ ((خلص يا رفاق التمرين انتهى.. كانت تجربة من شان إعدادكم على أسوء الحالات.. خلص يا رفاق نحنا رفاقكم ومش صهاينة.. يلّله اعلق الضوء يا رفيق.. التجربة انتهت يا جماعة..)).

هكذا إذن، فهمنا أن الهجوم كان وهمياً تنتهي به عادة الدورات التدريبية الفلسطينية.

*   *   *

منذ تلك الليلة الليلاء بدأت أوضاعك يا أخي تتدهور. موقفك الانهزامي ونحيبك الطفولي جعل كل الأنظار تتجه نحوك. لم تشفع لك محاولتي أنا وبعض الرفاق بأن نبرر موقفك هذا بأنه حالة إنسانية وصدمة نفسية يمكن أن يمر بها أي من الرفاق، ولا يمكن اتخاذها دليلاً للحكم عليك؛ لأني صاحبك منذ الطفولة وحدثتهم عن حياتك وطفولتك، وعن تلك الليلة التي قتُل فيها أبوك الشيوعي أمامك على يد رجال الأمن، وكيف أنك أمضيت عمرك مع أمك وأختك وكابوس الأب القتيل وصرخات احتضاره الممتزجة بلعلعة رصاص تلاحقكم  في ليالي الوحشة.

أخبرت الرفاق عن ثقتي الكاملة بك وإيماني بصدقك واستعدادك الحقيقي للتضحية. لكن كلماتي كانت أضعف من أن تواجه تلك الرغبة السرية العارمة التي كانت تدفع الجميع للتمسك بحكمهم القاسي:

ـ ((جبان أعلن استسلامه وباع القضية عند أول امتحان))!

بصورة لا شعورية، اتفق معظم الرفاق على أن تكون أنت (كبش الفداء) المطلوب. بما أن الجلاد لن يحقق غايته دون الحد الأدنى من تواطئ الضحية، فإنك يا صاحبي رحت، مدفوعاً بمشاعر العار والهزيمة، تنزلق أكثر فأكثر نحو الهاوية، وتساهم من دون قصد في إثارة روح الشك والافتراس لدى الرفاق.

أعرف جيداً أنك في تلك الأيام كنت تعاني من مشاعر تأنيب الضمير بسبب هجرك لأمك وأختك. اضطررت لهجر العراق مثل الكثيرين؛ لأنك رفضت التوقيع على التخلي عن فكرك وضميرك. لكنك بنفس الوقت كنت تعيش الخيبة من حزبك والتردد في العودة أو البقاء. في أعماقك الدفينة كنت تود معاقبة نفسك على هجرك لأمك وأختك، فتجلَّت رغبتك بجلد الذات من خلال تآمرك اللاّشعوري في إثارة شكوك الرفاق ضدك.

تراك منذ تلك الليلة المشؤومة أخذت تميل إلى العزلة والابتعاد عن الجميع. بعد أن عدنا إلى مقر التنظيم في مخيم فلسطين في دمشق بدأت على غير عادتك تخرج وحدك صباحاً ولا تعود إلاّ في الليل. ادعىّ البعض بأنهم شاهدوك مرات عديدة تأكل في مطاعم فاخرة وبصحبة أناس غرباء.

ثم تفاقمت الشكوك عندما ذكروا بأنهم شاهدوك بصحبة أحد سواق الباصات العراقية العاملة بين دمشق وبغداد. أنت تعرف جيداً تلك الفكرة الشائعة عن هؤلاء السواق بأن لهم علاقات مع المخابرات العراقية. عندها اضطررت أن أسألك مباشرة عن هذه المسألة، أخبرتني بأن هذا الرجل قريبك ونقل إليك رسالة من أمك وأختك، وهو الذي كان يدعوك إلى المطعم.

الحقيقة أني صدقتك، لكن الرفاق لم يصدقوا وأصرّوا على التمادي بشكوكهم واتهاماتهم. الآن أدرك أنّ الكثير من الرفاق المصرّين على إدانتك كانوا مدفوعين أساساً بالغيرة من علاقتي الحميمة بك.

مع الأيام راحت الشكوك تتفاقم وأخبار علاقاتك المشبوهة تتكاثر ومطالب الرفاق بمحاكمتك صارت من القوة بحيث إني اضطررت بأن أوافق على قرار الأغلبية. قمت أنا شخصياً بإقناعك بالسفر معنا إلى بيروت، لكي تسهل محاكمتك وتنفيذ حكم الإعدام بك في حالة ثبوت إدانتك.

*   *   *

لكن يا عزيزي في ذلك المساء الكئيب وأنت جالس أمامنا في تلك الغرفة المعتمة في مدينة (بيروت) الجريحة، ومن بين ضوء الشموع المتماوج بدوت لي منهكاً مثل نخلة عطشة. رفعت عينيك نحوي وسألتني بصوت خافت مبحوح:

ـ وأنت يا رفيقي يا (آدم) ما رأيك؟

في الحقيقة فقد باغتَّني بسؤالك، ولم أدرِ كيف أجيبك. خرجت مني الكلمات كأنها آتية من بعيد:

- اسمع يا رفيق أنت صاحبي وأعرفك من الطفولة، وآني اللي أقنعتك بالانتماء للتنظيم.. آني واثق منك، لكن يا رفيق الأغلبية صوَّتوا على هذا القرار.. صدقني آني أبقى صاحبك وأتمنى أن تقنع الرفاق ببرائتك و...

لكنك قاطعتني صارخاً بصوت يرتجف بالغضب رغم بحة الحزن:

- كافي يا رفاق ماعدت أتحمَّل.. يا جماعة اشلون أخونكم.. أنتم إخوتي أنتم أهلي أنتم أبويَ المرحوم اللي ما أنساه حتى نهاية عمري.. شلون أخونكم شلون.. لو تدرون إشگد أحبكم.. لو تريدون أثبتلكم إخلاصي ونزاهتي آني مستعد أن أقوم بأي عملية انتحارية تقترحونها عليَّ.. أفجر نفسي بهاي اللحظة إذا ردتم.. يا رفاق.. يا إخوان، الله أكبر .. الله أكبر .. معقولة أخونكم؟!

وكانت عبارتك الأخيرة مصحوبة ببكاء مر وأنت تضع وجهك بين كفيك وتجهش بنحيب وتضرب على رأسك.

ولكي أقاوم رغبتي الجيّاشة بمشاركتك غضبك وخيبتك نهضت إلى المطبخ وفي رأسي تجلجل كلماتك عن العملية الانتحارية. لمعت في ذهني فجأة فكرة شيطانية، وجدت فيها حلاً حاسماً لهذه المشكلة.

لا أدري كيف أني كنت متيقناً بصورة أقرب إلى الإيمان المطلق بأنك ستنجح بهذا الامتحان وستثبت لهؤلاء العطشى للدماء أنك فعلاً بريء وأنهم هم التعساء الهاربون من موتهم الداخلي بدفعك أنت نحو الموت.

أخرجت مسدسي من حزامي وأفرغت منه جميع رصاصاته ثم عدت إليكم. قبل أن ينطق أحد، خاطبتك أنا بصوت جاد حازم:

- اسمع يا رفيق، اقتراحك القيام بعملية انتحارية هو حل رائع لإثبات إخلاصك. موتك هو الدليل المعقول على برائتك. لكن المشكلة أن الرفاق بحاجة إلى دليل من دون انتظار.

توقفت للحظات وأنا أرمق رفاقي المستغربين من كلامي، ثم أكملت:

- آني متأكد يا رفيق إحنا كلنا بحاجة إلى موتك.. منظمتنا بحاجة إلى شهداء، ولا بأس أن تكون أنت أول الشهداء. لا يهم إن كنت خائناً أم مخلصاً، المهم أن تكون شهيداً.. خذ هذا المسدس وانتحر أمامنا الآن، خذ يا صاحبي خذ.

ووضعت أمامك المسدس على الأرض.

حينئذ، رأيتك ترمقني بنظرات يمتزج فيها الحب والحزن. بصوت جريح طلبت مني ورقة وقلم. ثم بيدك المرتعشة كتبت:

ـ ((أيها الرفاق تذكَّروني.. أموت وأنا أحبكم وأتمنى لكم الخير.. النصر لثورتنا.. تذكَّروني عند العودة المظفرة إلى الوطن.. الحرية أو الموت.. الوداع أيها الرفاق إني معكم إلى الأبد.. رفيقكم المخلص حتى الموت)).

ثم نهضت من جلستك وعانقت الرفيقين أولاً.

أتذكَّر الآن جيداً، رغم قرارك أن تموت بشجاعة، إلاّ أنك عندما واجهتني رأيت دموعاً تتلألأ في مقلتيك. عانقتني وخاطبتني بصوت حنون هامس:

- الوداع يا رفيقي (آدم).. أنت أخي رغم كل شيء.. سلامي لجميع الأصدقاء.. أرجوك لا تخبر أبداً أمي وأختي بحقيقة موتي.. قل لهن: سافر إلى أوربا وانقطعت أخباره.

عندما شاهدك الرفاق تتناول فعلاً المسدس من على الأرض، ارتسم القلق على وجوههم. واتجهت أنظارهم نحوي بحثاً عن تفسير يهدئ من قلقهم من أن توجه أنت المسدس نحونا وتطلق علينا النار، لكنك عندما وضعت فوهة المسدس على صدغك هدأ القلق وعمَّ الصمت والترقب، حتى في الخارج عمَّ الصمت.

هكذا فجأة عمَّ الصمت حارة الفاكهاني، بل بيروت كلها، وربما العالم بأجمعه تجمَّد مترقباً لحظة انفجار الرصاصة في رأسك يا صاحبي لتصبح شهيداً تسقي بدمك شجرة الحرية التي يتبول عليها الأحياء.

فجأة سمعت (طاق) خفيفة! سحبت نظري من النافذة والتفت بسرعة نحوك، وجدتك مغمض العينين والمسدس ما زال على صدغك، ومن دون انتظار ضغطت أصابعك مرة ثانية على الزناد.. طاق! وهذه المرة أيضاً لم تنطلق الرصاصة. عاودت بسرعة مرة ثالثة ولكن النتيجة نفسها. فتحت عينيك وفغرت فمك مندهشاً حائراً. ليست أنظارك وحدها التي اتجهت نحوي بل أنظار الرفاق كذلك، متسائلين مستفسرين عن سر ما يحدث.

أمام هذا الأمر وجدتُ نفسي أنطلق بضحكة هوجاء، كانت مزيجاً من الفرح بنجاحك بإثبات برائتك، وكذلك تغطية لشعوري العميق بالعار؛ لأني اضطررت أن أساهم بهذه المهزلة التافهة.

حينها رأيتك تدع المسدس يسقط من يدك ورحت تجهش بنحيب معاتب:

ـ ليش يا رفاق تعملون وياي هيك.. ليش تعذبوني.. هاي الاخوّة والعشرة يا إخوان.. ليش ليش؟

*   *   *

صحيح أنك لم تمت يا أخي، لكن خضوعك لقرار الموت وخوضك للتجربة جعلك تموت رمزياً بالنسبة لباقي الرفاق. بعد تلك الحادثة وشيوع تفاصيلها اجتاحت المنظمة كلها حالة من الخدر والانحلال وكأننا تخلصنا جميعنا من تلك الحاجة الملحة للانتقام والقتل. بصورة خفية أصابنا نوع من الخمود والاحباط أشبه بذلك الذي يحسَّه الرجال بعد الانتهاء من فعل اللذة.

بعد رحيلك المفاجئ إلى المجهول بأيام قليلة تفجرت فجأة الخلافات بين رفاق القيادة العليا. هكذا فجأة هبطوا إلى الحضيض وراح كل واحد منهم يكشف أوراق الآخرين: كل واحد منهم تبين أنه تابع لإحدى أجهزة المخابرات العربية. بل إن أحدهم، الذي كان أكثرهم إصراراً على اتهامك بالخيانة وتنفيذ الإعدام بك، تبين أنه مرتبط بالمخابرات العراقية وهرب إلى العراق بعد افتضاح أمره. الطريف أن هذا الرفيق بالذات كان مسؤولاً عن إعداد الجوازات المزورة التي سنعود بها إلى الوطن للقيام بحرب المدن!

متاهـات رومـا!

رومـا 1981

 

هنا صورة رقم 12

أنتبه إلى نفسي أرتجف من قشعريرة برد وأنا جالس في مكان معتم أفترش بلاطات ملساء كالجليد. هل أنا ما زلت في الشرق الأوسط.. أين بالضبط: سوريا، لبنان، تركيا؟ يخالجني شعور بأن ثمة أشياء قد اختلفت وعتقت. كأني لم أنم ليلة واحدة بل أشهر أو أعوام! أتذكر قصة أهل الكهف وأضحك لأخفف من هول الصدمة. أجد فوقي معطفاً جلدياً مهترئاً وثيابي رثة عتيقة رغم نظافتها. وعندما أضع كفي على وجهي ألامس لحيتي وكأني لم أحلق منذ فترة طويلة!

المكان يهيمن عليه صمت مدوي يتخلله ضجيج بعيد. أتقدم بضعة خطوات فأرى أمامي نفقاً طويلاً شبه معتم ومن نهايته البعيدة تأتي أضواء وأصوات بشرية وضجيج مكائن. أترك نفسي مجذوباً بقوة غامضة نحو أعماق.

أهبط سلالم تقودني إلى نفق آخر مزدحم بعابرين. أحاول قدر إمكاني وأنا أتمعن بالوجوه أن أقتنع بأني أعيش فعلاً في الحياة. شبه مخدر بالكاد أسير محشوراً وسط جموع من أناس مستعجلين بعضهم يدفعني من أمام وبعضهم من وراء. تبدو أقدامي كأنها تعرف طريقها وهي تقودني عبر ممرات أنفاق بأضواء شاحبة فأجد نفسي في باحة واسعة محاطة بأعمدة وجدران من بقايا آثار الرومان.

في زاوية معتمة أرى مجموعة من الشبان من ألوان وجنسيات مختلفة يفترشون بلاطات ويحتسون من فوهة قنينة نبيذ أحمر تدور عليهم من دون كلام. أجلس بينهم وأتناول القنينة عندما يأتى دوري وأحتسي. أنا عطشان عطشان فأشعر بالنبيذ الأحمر عبقاً دافئاً يسري في شراييني دماً جديداً ويبعث في بدني حياة، فانطلق أشاركهم الضحك والغناء. قناني النبيذ تدور وتدور ولا تنضب.

أخيراً أعرف منهم أننا هنا في نفق المترو تحت محطة روما!

لا أحاول أن أفكر كثيراً ولا أتعمق بالبحث عن تفسير معقول لكيفية وجودي هنا. لكني في أعماقي أشعر بأني هنا من أجل هدف واحد وحيد:

ـ أن أعثر على الآخر..

ولكن أي آخر.. لا أعرف!

مع استمرار قناني نبيذ تدور، أغرق تماماً في ثمالتي. آخر مشهد أتذكره أني أضع رأسي على صدر فتاة تقبلني من أذني فتسري فيّ قشعريرة لذة وخدر. أظن للحظات أنها شابة شرقية لعلي كنت أعرفها، لكنها شقراء شعثاء بوجه شاحب وعينين رغم خضرة طفولية إلاّ أن حمرة إدمان قد أذبلتهما. تهمس لي بكلمات أجنبية أفهمها.. نعم، أفهم الكلمات رغم جهلي بماهية هذه اللغة. وأغرق في إغفاءة.

 

*   *   *

أصحو على ارتجافات برد وأنا مستلق على بلاطات مثلجة. وحيد في نفق يدوي بصمت وغضب جاثم على أحجار الرومان. تفرَّق الصحاب ولم يتبق منهم غير بعض منبطحين في زوايا معتمة.

أسير بين أنفاق بحثاً عن منفذ إلى فضاء. جائعً عطشان وليس في جيبي غير قطع نقدية لا تكفي حتى لشرب شاي. هكذا لا أدري كيف، أجد حالي تائهاً مفلساً.. حتى ذاكرتي بدت كأنها قد تعرضت أيضاً للسلب، مشوشة أشبه بشاشة تزدحم عليها عدة أفلام في آن واحد. تختلط عليَّ التواريخ والمشاهد والأحداث والأسماء. لكن الذي يهمني الآن العثور على شيء آكله وبعض الدفء؛ لأني مع الجوع أحس بالإنهاك وقشعريرة حمى في بدني. تصيبني الهيبة والوجل وأنا أرى الناس يتراكضون في الأنفاق نحو أعمالهم الصباحية. هم قطعان وحشية وأنا صيّاد مخذول يبحث عن طريدة بائسة يسّد بها رَمَقَهُ.

لا أدري كم من السلالم أهبط وأصعد الى أن وجدت بانتظاري، فاتحاً صدره وذراعيه، ضوء حياة يسطع في شارع قبال المحطة، حيث حطت شمس ربيع روما دافئة حنونة على أبنية وشوارع وحافلات ووجوه بشر. أقدامي تقودني لأسير بمواجهة شمسي وأنا أستنشق ضياءها لزجاً، فأفتح فمي وألوك النور بأسناني فيسري في كياني دفء حميم.

انتبه إلى نفسي وترام مارق يكاد يدهسني. لا أدري كم من أرصفة أتخطى وكم من شوراع أعبر وأنا أسير من دون تفكير، منساب مع أعماق تغوص بي في دياجير مجهول، حتى تتوقف أقدامي أمام باب خشبي كبير لبناء تقليدي إيطالي ضخم. من دون تردد أدفع الباب وأسحب ستارة جلدية، وإذا بي في قاعة كبيرة ملأى بأنوار وبشر! انها كنيسة تصدح في أرجائها تراتيل شرقية مصحوبة بناي وعود. بينما أنا مبهوت متجمد وإذا بصوت يناديني باسمي: (آدم)، فأنتبه إلى مجموعة مشردين بينهم بعض من جماعة نفق المحطة. محتشدون صامتون في زاوية عند الجدار. يبدو أن الجميع يعرفونني.. هل حقا اسمي (آدم)؟ ربما هم يخلطوني مع الآخر!

المصلون أمامنا ينشدون تراتيل لإله وبتول وابن مصلوب. تحوم ألحان طيورا تعلو محلّقة بين أنوار ثريات وجنان مرسومة على سقف تتخللها وجوه ملائكة وقديسين لا يكفّون عن رحيل نحو سماوات يعلوها إله جبار وسط عرش من غيوم بيضاء فضية. من بين أعماق تراتيل أسمع استغاثات مجهولة، لكن آلام جوعي وعطشي تمنعني من الإصغاء.

تتوقف الصلوات والناس يتحركون ويستعدون للرحيل. بينما أنا حائر في مكاني تأتيني فتاة ترتدي ثياب راهبات، تنظر إليَّ وتبتسم كأنها تعرفني، ورفاقي ينادونها (أخت حواء EVA). تقدم لي (حواء) طاسة حليب وقطعة خبز تعبق بكلمات هامسة:

ـ اشرب وكل يا آدم من أجل الرب.

لا أندهش وهي تناديني باسمي! أتناول الطاسة وأشرب. مذاق الحليب يتسرَّب إلى فمي وأحشائي حلواً حاراً كأن يداً حنونة تمسد دواخلي. أفتح عيناي عبر مويجات بخار الحليب فتلتقي عياني بعيني (حواء). لا أشاهد من الوجود غير عيون عسلية صافية معطائة كنبع ماء ونور.. أشربها حياة وخصب.. أسبح فيها وأغوص في أعماقها وأتيه وأتيه..

وإذا بصوت يوقظني من غيبوتي:

ـ قف هناك يا أخي يا آدم..

انه صوتها هي! رغم حنانه إلاّ أنه آمر، وهي تشير لي برأسها نحو باب الكنيسة؛ حيث يصطف أصحابي المشرَّدون يستلمون عطايا المحسنين. أفهم أن أذهب معهم. أنظر إليها وأنظر إلى نفسي. لا أنبس بكلمة لأني اختنق بصرخة مكتومة تتكوَّر جلموداً حارقاً في صدري. أنهار نحو الباب وأخرج.. أركض في الشوارع ودموع تفور في عيني. لا أرى من الوجود إلاّ عينَي راهبتي وهي تشير لي ناحية أصحابي. أركض وأزفر بصرخات في كون من حليب وعينيها.

*   *   *

أفتح عيني أمام بناية واسعة. سينما جنسية مفتوحة الأبواب. من دون تفكير أدخلها راكضاً ولا أهتم بنداءات بائعة تذاكر. أتعثر في قاعة مظلمة وأرتمي على أول كرسي فارغ. إنهاك وجوع وقشعريرة برد تسري ببدني ويشتعل وجهي بحمى. لا أنظر إلى الشاشة، بل أغمض عيني وأشاهد على شاشة خيالي وجه (حواء) يسبّح بتراتيل وأنغام عود وناي في سماء من نور. بالتدريج ثمة أصوات لهاث شبقي تتصاعد في الفضاء وتمتزج بتراتيل وأنغام. أحس بأصابع (حواء) تداعب وجهي وعنقي.. تفتح أزرار قميصي وتسرح على صدري.. تهبط إلى أسفل بطني وتضغط ثم تضغط، وهي تلهث فوق وجهي ويملأ فحيحها أذني. لكني فجأة أجفل لملمس خشن على خدي كأبر حارة وعبق ذكوري من تبغ وكولونيا، وكلمات شبقة مبحوحة هامسة مرتجفة خائفة:

ـ أوه أيها الشاب.. جسدك نار أيها الشاب.. أرجوك تعال معي هناك، وخذ مني ما تشاء، جسدي وروحي ومالي وأشياء أخرى تشتهيها.. تعال واحرقني بلهيبك أيها الشرقي الرائع..

أفتح عيني مفزوعاً! فوقي وجه رجل يكسوه ظلام ولا تظهر منه غير نظارة طبية وأسنان متكسرة ولهاث تعبق منه رائحة خمرة وشهوة معتقة. حينها أشاهد خلفه على الشاشة مجموعة نساء ورجال عراة يتضاجعون بجنون فوق رمال صحراء يكسوها شفق أحمر وسماء صافية زرقاء. في الافق قافلة جمال تتوغل في شمس مصحوبة بناي حزين ونحيب نساء يمتزج بفحيح.

تجتاح بدني قشعريرة تقزز وتتقطع أنفاسي وتصعد نيران من معدتي الى حلقي. رأسي يتهاوى ويهبط إلى معدتي فأمسكه في آخر لحظة وأقفز مذعوراً وأنا أصرخ بما لا أدري. حليب راهبتي وقود مشتعل، ويصعد حامض كبريت إلى فمي، وأتقيأه فوق رجل يصرخ بخوف وغضب. وقبل أن يستعيد عاشقي توازنه، أدفعه بكل ما تبقى لي من قواي وأنقذف لاهثاً إلى نهار وشمس وأركض وأركض وأركض في دروب روما...

*   *   *

أطوف (روما) في أزقة وشوارع أليفة بحثاً عن ذاكرة مفقودة. في الليل أجد نفسي أركب باص رقم (64) حتى آخر موقف. أهبط في حي فخم بفيلات فيها حدائق وأسوار وصمت ليل يصدح بنباحات وهمسات.

بعد تجوال بين دروب معتمة أتوقف أمام قصر فخم محاط بصمت وظلمة، له سياج مهدم من جانب باب حديدي مربوط بسلسلة وقفل ضخم. على ضوء قمر اجتاز سياج وبعده حديقة موحشة أشبه بأدغال لكثافة حشائش ونباتات برية. أصعد درجات تقودني إلى مدخل قصر مفتوح ومظلم. كلما أتوغل في أعماق ممرات كلما أعود إلى مشاعر ألفة لا أدرك كنهها إلاّ بعد بحث وتفكير. أعرف هذا القصر المهجور، لكني أجهل متى وكيف. تأتيني من بعيد ذكريات عن مستشفى قديم هجروه؛ لأن مرضاه لا يخرجون إلاّ وهم محمولون على توابيت، يقولون إنها لعنة (موسوليني)؛ لأنه كان من أملاكه واغتصبوه من ورثته بعد إعدامه.

لا تفارقني مشاعر ألفة وتعوّد على المكان، بل تتزايد وأنا أشق طريقي بدراية بين أشجار على ضوء قمر شاحب. قبل أن أشرع بصعود الدرجات والولوج في المدخل المعتم، أشعل قداحتي وأهيئ سكّينَتي في يدي، وأصعد بخطوات بطيئة حذرة متعثرة. أدوس أنواع الأقذار المنتشرة على الأرض: نثار قناني ومناديل ورقية وصحف وقطع خشب وأحجار وأدوات مختلفة عتيقة مهملة. كلما أتوغل في الممرات كلما يبدو الظلام والعفونة والصمت المريب مألوفا لديَّ. أصعد إلى الطابق الثاني وأنا أتنصت إلى أصوات متقطعة قادمة من غرف موصدة بأبواب متكسرة: همسات ضحكات لهثات وأنين وشخير وغناء وصلوات مسيحية وإسلامية وبوذية.

على ضوء القداحة أتفحص أبواب بحثاً عن أي أسم قد يبدوا على علاقة بتاريخي. ما زالت ظاهرة حتى الآن كتابات ورسوم كنّا نلطخ بها الجدار. أتوقف مشدوهاً أمام رسم كاريكاتير لوجه شخص أعرفه جيداً، بل بدا واضحاً أن أسلوب الرسم هو أسلوبي أنا!

اعتصر ذهني فتأتيني من بعيد مثل حلم عتيق ذكريات عن صاحب الوجه: صديق حميم يسمونه (عادل طلقة)! ولد كلداني عابث اختارني أن أكون أخ أكبر. حصل على لقب (طلقة) لأنه سريع الهرب أمام طلقات البوليس. لا يكف عن سرد ما عاشه من مغامرات عجيبة: في عمر المراهقة هجر العراق هرباً من طفولة قاسية أمضاها عاملاً في كراج سيارات وسط مكائن وزيوت. رحل بحثًاً عن أخت هاجرت إلى اليونان. راح يتنقل عبر مغامرات تقوده إلى مغامرات، كأنه عاش عمر عشرات الرجال. اجتاز جبال الشمال إلى تركيا، وبعد ضياع في (أسطنبول) و(سجون)، تمكن أن يعبر البحر سراً إلى اليونان في قارب قديم مع عائلة عراقية لديها ثلاثة أطفال. في عرض البحر فاجأتهم عاصفة وتحطم القارب وغرق الجميع إلاّ (عادل) مع طفل يبلغ خمسة أعوام تمسكا بخشبة الى ان مرَّت عليهما بعد ساعات باخرة أنقذتهما. لكنه هناك في اليونان لم يجد أخته؛ لأنها هاجرت إلى أمريكا. اشتغل في بواخر وجال بحار وبحار. بعد أن جمع ما يكفيه من مال أتى إلى روما ليحصل على فيزا إلى أمريكا ويلتحق بأخته. لكن أحد (القطاعين) في القطار خدعه وَنَوَّمَهُ وسرق حقيبته وكل نقوده. لهذا امتهن (عادل) بدوره طريقة القطع من أجل أن ينتقم ويستعيد نقوده المسروقة.

ها انا أصعد سلَّماً آخر، وأتوغل في ممرات أخرى حتى أجد نفسي أخرج إلى باحة سطح يسطع بضوء قمر ونجوم. هناك أرى أمامي غرفة وحيدة ترقد بأمان. فوق باب مكسور متكئ على مدخل الغرفة أسم: ((آدم)) مكتوب بحروف عربية ولاتينية! دون أن أطرق أزيح الباب بهدوء وألج الغرفة ومعي ضوء القمر. بقداحتي أشعل شمعة كبيرة موضوعة في صحن مكسور، فيصدح صوت انثوي حنون معاتب بلغة إيطالية:

ـ أوه هذا أنت يا آدم أتعبتني في انتظارك.. غيابك أقلقني، ياعزيزي تعال..

حينها انتبه إلى فتاة متمددة عند زاوية معتمة. على ضوء شمعة أجهد ان أتعرف عليها. لعلها نفس الفتاة التي سكرت معها في نفق المحطة في الليلة الماضية. يبدو صوتها مبحوحاً خشناً أشبه بصوت صبي مريض، لكن كفها الممتدة إلى كفي أنثوية ناعمة تبعث في بدني خدر ودفء. تفتح لي غطاءها وَتدَثَّرني بأحضانها.

أفكر ببعض القلق بأن تلك الفتاة قد تكون متوهمة وتخلطني مع (الآخر). لعله سيفاجأني الآن بدخوله. لكن جسدها أنثوي حار يبث فيَّ قشعريرة لذة منسية.

عندما التصق بها أكثر لأقنعها بمشاركتي اللذة، أجدها تغفو. أتذكر بأني منذ فترة طويلة لم أتذوق أية امرأة. بعد تردد وتفكير اكتفي بأحضان الفتاة الحنونة الدافئة، تغلبني وتجعلني أغرق في إغفاءة عميقة وأنا أردد مع نفسي بأني سأفهم كل الحقيقة غداً.. لا بد أن أفهمها غداً.. نعم غداً وغداً وغداً..

لكن الغد يأتيني بهيئة لا أنتظرها. قبيل الفجر استيقظ على أصوات استغاثات وضجيج انفجارات وبريق أضواء وغازات حارقة. من دون أن أدرك التفاصيل أرى فتاتي تهرب من الغرفة وهي تصرخ بي:

ـ الحق الحق بسرعة.. البوليس يهاجمنا.. انتبه للغازات.. أغلق تنفسك.. أسرع..

أركض وراءها وأنا شبه غائب عن الوعي في كابوس مباغت. من دون تفكير اتبعها وهي تهبط سياج السطح كقطة متشبثة بأنابيب وأغصان أشجار. أما أنا فلسوء حظي لست واعياً بما يكفي لكي أتقن الهبوط؛ فأسقط على رأس أحد رجال البوليس في الحديقة. يتكالبون عليَّ بعصي كمجانين وهم يمطرونني بشتائم إيطالية أصيلة. لا يكتفوا بذلك، بل يحصرونا مع باقي المشردين في غرفة ويهدّوا علينا ثلاثة كلاب تنهش بلحمنا، ونحن نتصارخ برعب وسط غازات مسيلة للدموع تفقدنا قوانا.

بينما أنا أتمرغ في الأرض وأسعل مختنقاً وسط غازات وصرخات وشتائم شرطة ونباح كلاب، أحّس بيد تمتد إليَّ وتمسكني من ذراعي وتسحبني، وصوتاً مألوفاً:

ـ يالله استعجل يا أخي يا آدم..  تعالَ نهرب.. يالله..

لكن كلب يهجم عليَّ ويعضّ ذراعي. بينما أنا أصرخ ألمح (الآخر) يندفع بسرعة جنونية نحو البوليس بصورة لا يتوقعوها، وينجح بخفة شيطانية أن يهرب منهم ومن إطلاقات مسدساتهم. رغم الضجة الطاغية تمكنت أن أسمع آخر نداءاته:

ـ آدم لا تنساني أنا بانتظارك يا أخي..

*   *   *

أجد نفسي مرمياً في أحد المصحات المغلقة الخاصة بالمعتوهين، يبعد عن روما أكثر من ستين كيلومتراً، وسط واد عميق تحيطه جبال خضراء من كل ناحية. أفكر، لعلها فرصة لكي أستريح من متاهات مدينة وأهجر بحث متعب عن (الآخر). مادام طعام وأمان متوفران فإن حياة جنون تصبح محتملة. أسمعهم يتحدثون عن حملات بوليسية شعواء لمطاردة الأجانب بحثاً عن الأجنبي الذي حاول اغتيال البابا.

أمضي أوقاتي بنوم وتيه في عوالم من خيال. مثل غريق يَأَسَ من حياة سطح فيترك جسمه يغور في أعماق ظلمة بحثاً عن نور قديم. عندما يأتيني طيف الآخر أو أسمع استغاثاته، أضع الوسادة على وجهي وأشرع بالصراخ حتى أنجح بطرده من رأسي. لا أكلم أحداً ولا أفتح فمي إلاّ لتناول الطعام والتنفس. حتى الأطباء لا أتجاوب معهم وأتركهم يعاملوني مثل طفل تائه.

ذات صباح وأنا واقف في دورة المياه أنصت إلى أقوال روحي، أنتبه إلى صوت أليف مبهم يتناهى من بعيد.  ليس مهم إنه صوت بشري، بل يا إلهي إنه صوت أليف أليف ولا أفهم سر إلفَتَهُ! أتخيلهُ أول الأمر جزءاً من أصوات روحي، لكني أدرك أنه لا يأتيني من داخلي بل من الخارج نعم من الخارج. أرفع رأسي فأكتشف أن هنالك نافذة صغيرة في أعلى الجدار. من دون تفكير أتسلق الحائط وأتمعن: وجه ملاك.. وجه أنثى.. وجه فتاة! أشاهدها جالسة أمام نافذة مفتوحة تغني بصوت إيطالي شجي حزين. عندما تلمحني تتوقف عن الغناء وتحملق مندهشة.

بعد حوارات إشارية وصوتية مرتبكة ومتقطعة خلال أيام، فهمت حقيقة الأمر: إن مَصَحّنْا مقسَّم إلى قسمين، أحدهما للرجال والثاني للنساء. أستثمر أية فرصة تحين لي لكي أغافل الآخرين وأختلي بفتاتي عبر نافذة دورة المياه. اسمها (باتريسيا) وأصلها من جزيرة صقليا. لا تخبرني بسبب احتجازها هنا. لا يهمّني. لكن حضورها بدأ يخرجني من عزلتي وأنهض من أعماق بحري نحو الأعالي حيث سطح الحياة. وجهها بملامح ساذجة ووحشية. ممتلئة الجسد وكل شيء في شكلها وصوتها يتوهج بغضب. بعد إلحاح وتردد نقتنع أن نلتقي ليلاً في الحديقة.

هكذا تمت المسألة بسرعة دون حساب وتفكير. بعد أن ينام الجميع أتسلق سياج الحديقة الفاصل بيننا وأجدها تنتظرني في الظلمة بين الأشجار. لا ننطق لا أنا ولا هي حتى بكلمة واحدة. لا تصدر منّا غير همهمات خجولة متوترة مثارة وأنا أحتضنها وهي تفتعل التمنع وتتمايل وتدور محتجة مصدرة أصواتاً غامضة غاضبة..

ذلك اللقاء الوحشي لا يتكرر، لأن (باتريسا) تختفي ولا أراها من النافذة. عرفت إنها كانت منذ أسابيع مصابة بانهيار عصبي بسبب تعرضها لحالة اغتصاب. كادت تقتل مغتصبها بضربة قنينة على رأسه. كانت حالتها مزمنة وميؤوس منها بسبب فقدانها القدرة على النوم ومعاناتها من هلوسات مرعبة. لكن الأطباء استغربوا ذلك النهار (بعد لقائنا الغريب العابر) أنهم وجدوها لأول مرة تغفوا في فراشها، حتى ظنوها ميتة. هكذا فجأة أصبحت طبيعية وهادئة وقد عادت إليها الحياة بحيث إنها طلبت بنفسها أن تترك المصح وتعود إلى أهلها.

في نفس اليوم أقرر أنا الهرب مهما كانت المخاطر. أنتظر حتى قبيل الفجر بعد نوم الجميع، أتسلل إلى الحديقة بنفس الطريقة التي اكتشفتها بفضل باتريسيا، ومن هناك أتسلق بيأس ومخاطرة جدار مرتفع عدة أمتار ينتهي بمشبك من رماح حديدية. أرمي بنفسي وأركض في واد دغلي تحت زخات مطر، بعيداً عن بلدات وشوارع تجنباً لأعين وشاة.. وفي ذهني رغبة واحدة وحيدة:

ـ أن أعثر على الآخر في متاهات روما..

السـيدة الاوربية وحـرّاس المطار

جنيـف 1982

هنا صورة رقم 13

هبطت في مطار (جنيف) قادماً من الشرق الأوسط. لم يخطر في بالي أبداً أني سأعيش هذه المغامرة الخارقة للمعقول. بالحقيقة أنا ما أتيت للسياحة أو للأعمال بل من أجل الحصول على اللجوء. كنت واقفاً في الصف الطويل بانتظار تجاوز نقطة التفتيش، وأنا أدخن بشراهة لأداري مشاعر القلق التي تعتمل في دواخلي خوفاً من انكشاف جوازي المزور. كنتُ أهدئ نفسي بفكرة أني في كل الأحوال، حتى لو اكتشفوا جوازي سأقول الحقيقة وأطلب اللجوء.

كنت أتمنى أن أنجح باجتياز الحدود لأن عملية تقديم اللجوء في داخل (جنيف) ستكون أسهل وأضمن، ثم هنالك صديقي الأردني الذي تعهَّدَ باستقبالي ومتابعة معاملة لجوئي. انتبهت إلى وضعي عندما لَمَحْتُ شرطياً يتمشى على مقربة مني. اصطنعت هيئة وقار وأطفأت السيجارة في المطفئة واتخذت وقفة ثابتة وغصبت نفسي على الهمس بأغنية أليفة عسى أن تمنحني بعض الطمأنينة.

لم أكن أملك غير حقيبة واحدة جمعت فيها كل ما تبقى لي من رحلة انعتاق من الشرق دامت أعوام، بل ربما العمر كله. منذ صباي في بلدي العراق، وأنا أحلم بالهجرة إلى أوربا من أجل الحرية والأمجاد. أعوام فُتُوَّتي في السبعينات أمضيتها وأنا أنتظر بلهفة وحسرة قدوم عمر الشباب كي يتاح لي الحصول على الجواز والمال. لكن الشباب أتى جالباً معه النكسات والحروب والضياع في أنفاق اللاّجدوى. بعد زمن من الضياع في متاهات وطن يحتضر وجدت نفسي أتسكع في دروب الشرق الاوسط بحثاً عن أمل ومستقر. أخيراً حصلت على جواز مزور باسم (آدم) ورثته من صديق مات من المرض والخيبة. ها أنا الآن أحاول اقتحام أوربا التي بقيت أحلم ببلوغها منذ أعوام وأعوام، آملاً أن تكون الحياة الجديدة حقبة استقرار وانعتاق.

لم أدرِ كم مضى من الوقت عندما وجدت نفسي أمام حاجز من حراس وكلاب وآلات كشف المخدرات والأسلحة والمتفجرات. قبل أن أبادر بوضع حقيبتي على البساط الدوار، هكذا فجأة ومن دون أية مقدمات، إذا بالحاجز يتحول بسرعة خاطفة إلى أشبه بجبهة حرب عابثة: سطعت أضواء حمراء صفراء وتفجَّر زعيق صفارات وضجيج آلات ومعه صراخ الحراس ونباح كلاب هبت لتنهش لحمي، وشهر الحراس أسلحتهم بسرعة خاطفة صارخين بي أن أرفع يديَّ، ونظراتهم تنطق بشراسة مسعورة متحفزة. من دون حتى لحظة للتفكير والاستيعاب، كما لو أنني استحلت إلى طير بين مخالب نسور، تكالبت عليَّ الأيادي وانغرزت البنادق في جسمي. بطحوني أرضاً وكبَّلوا معصميَّ ثم جروني ركضاً نحو غرفة التحقيق.

كانوا على يقين بأني أحمل كمية خطيرة من الممنوعات، وإلاَّ لما هاجت هكذا الكلاب والآلات؟!

من دون مقدمات شرعوا بتفتيشي قطعة قطعة، نثروا على الأرض ثيابي وأوراقي وكتبي وأغراضي البائسة. بقروا بطن حقيبتي وفتشوا قعرها وحشاياها. قاموا بتعريتي وتفتيشي بعناية وتقنية فائقتين، بل أجروا بسرعة كشفاً طبياً على أحشائي وحللوا حتى دمي وبولي...

انقضت ساعات الليل ثم النهار وأنا أتهادى كرضيع بين أحضان محققين وخبراء ومختصين. استجوبوني، هددوني، حتى أعترفت لهم بجوازي المزور ومشروع طلبي اللجوء. اقتادوني عدة مرات أخرى وجرّبوني أمام حاجز التفتيش، وكانت في كل مرة تتكرر نفس ردود الفعل المستنفرة: تسطع الأضواء وتزعق الصفارات وتنبح الكلاب ويهيج الحراس!!

استنفذوا جميع الإمكانات للعثور على تفسير واحد لهذه الحالة العجائبية، ولم يجدوا أي جواب علمي مقنع، لأنهم بكل بساطة لم يجدوا أي شيء، ولا حتى ذرة ممنوعة واحدة، لا في جسمي ولا في حقيبتي. تصاعدت حمى القلق والفضول لدى المحققين. أمضوا ساعات النهار كلها بمداولات واجتماعات وتقصيات واتصالات عالمية مع المختصين الغربيين ومخابرات الدول الصديقة، عبر الهاتف وأجهزة الإنترنت. بحثوا في أضابير الإنتربول عن أية إشارة تتعلق بتاريخي، وإن كانت لي علاقة بالمنظمات الإرهابية أو بالنظام العراقي. بل جعلوني أتحاور في الهاتف مع شخص يتكلم اللهجة العراقية لكي يتأكدوا من صحة ادعائي. اتصلوا بسفاراتهم في الشرق الأوسط، إن كان لديها معلومات عن شخص يحمل اسم (آدم) أو شبيهاً به. أخيراً اضطروا أن يقتنعوا تقريباً بفرضية طرحها الأمريكي (جيرارد ماكسويل) أحد أبرز المختصين بعلم الإجرام والإرهاب الشرق أوسطي، من الذين يتمتعون بمكانة لايرقى لها الشك:

ـ هذا الشاب بما أنه عاش كل هذه السنوات في حروب وتسكع بين مدن وجبهات الشرق الاوسط الملوثة بالمواد الحربية والمكونات الكيمياوية السرية والممنوعة، بالإضافة إلى المخدرات.. لهذا، يمكن الاعتقاد بأن جسمه قد تشبع بذرات مجهولة لا يمكن تحديد طبيعتها بالضبط، تبعث إشعاعات تؤثر على حساسية الكلاب والآلات مثل تأثير الممنوعات..

ثم أردف مبتسماً بعد وهلة من الصمت:

ـ في كل الأحوال، إني أقترح عليكم عدم ترك هذا العربي يغادر بلدكم، لأنه حالة مختبرية نادرة تستحق المتابعة والتقصي، فربما يمكنكم اكتشاف نتائج علمية غير متوقعة..

بالحقيقة إن بعض المسؤولين تقبلُّوا فرضية الأستاذ الأمريكي بهزة رأس وهمهمة، واضطروا للقبول بها بسبب عدم امتلاكهم بديلاً مقنعاً. لكن هؤلاء المتشككين لا بد أنهم قد أحسّوا بالنصر والانتشاء في اليوم التالي بعد أن تبين للجميع أن السبب ليس له أية علاقة بذرات متفجرات أو مخدرات، بل هو سبب آخر لم يخطر على بال أحد أبداً!!

*   *   *

استغرق هذا التحقيق والتقصي ساعات الليل والنهار كلها، وفي المساء كان التعب واليأس قد هدَّ الجميع. اعتذروا لي عما حصل، وأعلنوا لي موافقتهم على دخولي إلى (جنيف) وتقديم طلب اللجوء.  وضعوني في غرفة نظيفة لأنتظر حتى حلول الصباح حيث سيتم نقلي إلى دائرة اللجوء في المدينة.

فقط  عندما تركوني وحيداً، انتبهت أن يومين كاملين قد انقضيا وها هو المساء قد خيَّم. بينما أنا جالس وحدي أنظر بتردد إلى مائدة الطعام العامرة التي وضعوها أمامي، دَخَلَت عليَّ فجأة امرأة بهيئة تختلف تماماً عن الهيئة الرسمية الجادة والمستنفرة التي كانت تطغي على كل الذين التقيتهم منذ الأمس. أول ما جلب انتباهي في هذه المرأة هي ابتسامتها الرقيقة وهيئتها الأمومية التي تشع إنسانية ورحمة. سلمت عليَّ أولاً بالفرنسية، ثم انتقلت إلى الإنكليزية بعد أن أجبتها متلعثماً. صافحتني بحرارة امرأة قوية واثقة وقدمت نفسها على أنها مبعوثة منظمة إنسانية لرعاية طالبي اللجوء وضمان حقوقهم. قالت إنها أتت لكي تضمن سلامة وضعي وتسهيل معاملة لجوئي.

حاولت تجنب النظر للمرأة. جلست قبالتي تواسيني على تجربتي القاسية وتشرح لي تفاصيل الوضع، وتنتقد تصرفات البوليس وقسوتهم. بدا الأمر أشبه بحلم ساخر، هذه الانتقالة العجائبية من جهنم إلى الجنة! منذ ساعة فقط كنت في حالة إنسان مشرَّد متهم أجُرُّ ورائي عمراً من هزائم وخيبات، تطاردني آلات وكلاب وحرّاس، ويعبث ببدني وأحشائي ودمي محققون وخبراء عالميون، مثلما عبثت الحياة بروحي وعمري. ها أنا الآن فجأة أصبح ضيفاً عزيزاً مكرماً يعتذر منه رجال الدولة وترعاه بكل رأفة امرأة طيبة ستفتح له أبواب الرحمة في مدينة حلمه (جنيف)!

أحسست بدفقات خدر وطمأنينة تسري في عروقي وأنا أستمع إليها تتكلم بألفاظ واضحة وصوت حنون ينبض بأسف صادق. دون أن أدري رحت أنظر إلى كفيها الرقيقتين وأصابعها البيضاء النحيفة التي ذكرتني بأصابع أحد أصدقاء الطفولة. سرحت عيناي على ذراعين نحاسيين ثم زند بض، واستقرت على صدرها الكريم المختبئ تحت قميصها الأبيض، فعبقت منها نكهة طفولية تفوح بورد وحليب. كانت تبدو في نهاية الثلاثينات، نصف شقراء تشع بنضج امرأة قوية حنونة، بملامح وقورة مقبولة مثل الكثير من النساء، لكنها في تلك الساعة بدت لـي كائناً اسطورياً مزيجاً من أنوثة وأمومة.

في البدء فكرت أن أبدي نوعاً من الدلال فألجأ إلى الصمت وأرفض الطعام احتجاجاً على معاملتي بتلك القسوة، لكنني تراجعت بسبب إحساسي بالتعب والانكسار. بالحقيقة إن رغبة واحدة وحيدة كانت تعتمل في أعماقي: أن أترك نفسي تنهار في حفرة معتمة بعيداً عن العالم وصخبه.. أن أتكوَّر على الأرض تحت سرير أو طاولة كطفل تعب محروم من حضن دافئ أليف. أنا الآن وبعد كل أعوام الحروب والتشرد لا أريد من الدنيا غير زاوية آمنة. كنت أشتهي بكل أعماقي أن أقول للمرأة أنا لا أريد منها غير أن تقنع الأرباب والمسؤولين أن يتركوني أعيش، ليس أكثر.. أن يتركوا لي بضعة أمتار من هذه الأرض أجد فيها بعض الأمان.. أردت فقط أن أهمس لها برغبتي أن أنام لأني تعبان.. لكني تخليت عن أفكاري عندما انتبهت للمرأة تنظر إليَّ بأخوة وحنان بينما راحت أناملها تلامس كفي المخدوشة، وتسألني بصوت أليف كأنها تواسي طفلاً تعرض لحماقة:

ـ أوه.. انظر ماذا فعل بك أولئك الملاعين..

ثم أردفت وهي تداويني:

ـ  طيب يا سيد (آدم).. حدثني الآن عن تجربتك وسبب رغبتك بطلب اللجوء في بلادنا؟

صحيح إن لمسات المرأة كانت طبيعية وصوتها هو نفسه الذي تحدث به كل الناس، لكني أحسست لمستها وصوتها يسريان في بدني كطوفان في أرض عطشى. أردت بكل إرادتي أن أقاوم قشعريرة غامضة اجتاحت سدود كبريائي مندفعة كحمم نحو قلبي، فتوترت نبضاتي وتيبست حنجرتي وأحرق عيني دمع محتبس. حينها أردت فقط أن أهز رأسي مبيناً لها عدم استعدادي للكلام، عسى أن أحافظ على آخر سدود الكرامة أمام اجتياح سيول الحزن والغضب المخزونة منذ حقب منسية. أحسست بالاختناق، وعندما فتحت فمي لكي أستنشق الهواء، رغماً عني تفجر صوتي مبحوحاً بحشرجات محروقة جعلت كلماتي تنتثر أشلاء، مثل بركان يتفجر بعد أعوام وأعوام من الكتمان....

حدثتها عن عمر لم يعرف طفولة ولا شباب.. عن أمي الغائبة وأبي القاسي.. عن وطني الجاحد وحروبه الخاسرة وضياعي في الصحاري والسجن والذل والجوع في متاهات المنفى والبحث عن مستقر.. حدثتها عن حبي الفاشل وعشقي الممنوع وحرماني الوحشي من دفء الأنوثة وحنانها....

أحدثها وأحدثها ولم أنتبه لبكائي وأنا أحكي. لكنها هي أيضاً لم تنتبه وهي تقف قربي وتضع يدها على وجهي لتواسيني. هذه المرة الأولى في حياتي هكذا أطلق العنان لروحي تذرف الدمع مثل طفل. وهذه المرة الاولى أيضاً تشهد هذه السيدة رجلاً يبكي هكذا بين يديها. تجهد أن تحافظ على طيبة امرأة ووقار موظفة. ما واجهت في حياتها كلها، مثل هذا الموقف. حتى عندما كانت طفلة لم يبكِ هكذا طفل بين يديها. عَرَفَت الكثير من الرجال لكن أحداً لم يبكِ بين يديها. حتى زوجها الذي عاشت معه تسع سنوات ورغم كل الأزمات التي مرَّ بها فإنه لم يبكِ هكذا بين يديها. حتى في اليوم الذي أعلنت له رغبتها بالانفصال عنه، حزن وصمت، وعندما كادت عيناه أن تدمعا صفق الباب وخرج.

لم تدرِ كيف يمكنها الآن أن تواجه مثل هذا الوضع المحرج؟ للحظات فكرت أن تستعين بالحراس، لكنها قررت أن تتركني وتهرب بسرعة من الغرفة. في اللحظة التي أبعدت كفيها عن رأسي، رأتني أرفع عيني نحوها، وقبل أن أغمضهما خجلاً، لمحت فيها نظرات رجل جريح ينزف كبرياءً.. نظرات رجل يقاوم الانتكاس والسقوط منذ أعوام وأعوام.. نظرات رجل تكثفت فيها خيبات البشرية جمعاء في زمن لا يرحم. كيف يا إلهي يمكنها أن تخيب أمل هذا الرجل ونظراته التي استحوذت عليها؟ بدل أن تبتعد وجدت نفسها تسحب كرسيها وتجلس جنبي. تضع كفيها بين كفي وتأخذ بالتربيت عليهما بحنان، وهي تغالب مشاعرها...

إنها المرة الأولى في حياتها هكذا تواسي رجلاً منتكساً بين يديها. إنها تصارع شموخها حتى آخر لحظة، لكن كلماتي الناطقة بخلاصة عمر خائب تتسرب عنيفة إلى دمها لتلتهم خلايا الممنوع. هاهو سياج الوقار ينهار وتنطلق قطعان الرغبات الحبيسة. تحس بكيانها يتهاوى في أعماق واقع حقيقي تلتغي فيه محرمات الحضارة وتمايز الأجناس وآداب العذاب صمتاً..

كم ترغب في هذه الساعة أن تشاركني البكاء، أن تشكو لي عذاباتها المكبوتة في أعماقها منذ أعوام وأعوام ولم تجد أي إنسان يمكنه أن يستمع اليها. حتى زوجها الذي عشقته بكل جوارحها وكانت على استعداد أن تضحي بحياتها من أجله، ظل كتوماً متصلباً وراء كبرياء أحمق يغطي به ضعفه ويأسه من هذه الدنيا. كم عانت من أجل مواساته بعد خسارة مشروعه التجاري، لكن النكسة كانت أشد من أن يحتملها. استولى عليه الحزن وفارقه النوم وراح يمضي الليالي وهو يهذي عن عالم جاحد تتحكم به ذئاب ترتدي بدلات ملونة وتنطق بحداثة وتقدم.

رغم إيمانها الصادق بمبادىء النسوية والمساواة مع الرجال، إلاّ أنها الآن تكتشف كم ظلت في أعماقها تشتهي في الرجل فحولة الجسد وأنوثة الروح.. أن يصير لها أباً كبيراً وإبناً وفياً، فتصير له عشيقة معطاءة وأم رؤوفة. تحس في كل شهقة من شكواه بكف جبارة تفتح خبايا كيانها وتنساب حارة لذيذة في دمها. ها هي روحها تهذي بأسف ولعنة على سويعات الليل تمضيها وحيدة بلا رجل يمنحها الأمان ولا طفل تمنحه الحنان.. تعود من عملها إلى الدار لتصارع بالصبر أعوام الثلاثينات تركض هاجرة وراءها محطات العشق والامومة، وعزاؤها الوحيد أنها تحاول في كل يوم أن تساعد أناس ظلمتهم الحكومات ونبذتهم الأوطان.

لكنها الآن أمامي أنا الأجنبي الغريب تضطر أن تتمسك بالصمت وهي تكابد مشاعر هوجاء تعصف في صدرها. تكاد أن تصرخ بي لأصمت لكنها عندما رأتني أنكس رأسي لأغطي على دموعي، وجدت نفسها تحتضنني وهي تصارع نوازع ورغبات تهزها كشجرة في عصف ريح.. كأرض عطشى تتندى بأولى قطرات الغيث. طيلة تجاربها ما التقت بهكذا رجل ينزف على صدرها غرور الفحولة وكبريائها الثقيل، ليعود طفلاً عظيماً شامخاً بضعف إنسان مجرد من أوهام القوة وأكاذيب التفوق.

كم تحس الآن بالحنين إلى زوجها الذي غابت أخباره منذ أعوام. لقد رحل بعد أن فشلت كل جهودها بأن ترد له إيمانه بالحياة. فكرت أن تهدده بالطلاق عسى أن يتنازل قليلاً عن كبريائه الصامت، لكنه بدل ذلك صفق الباب وهجرها، ثم هجر سويسرا وأوربا كلها إلى أقاصي الشرق، إلى جنوب الهند، ليعتكف هناك في معبد منسي. ها هي منذ أربعة أعوام تعيش وحيدة منقطعة عن الرجال وفي أعماقها بصيص أمل أن يعود إليها زوجها ذات يوم..

ها هي الآن أمامي أنا الرجل الجريح الهارب من جهنم الشرق، تستعيد كل أعوام الحرمان والانتظار. لا زالت تقاوم الرغبة أن تقول لي إني أفهمك لأني مثلك، عانيت الكثير، لكن ليس من الفقر بل من الصمت، ليس من الحرب بل من الخيبة، ليس من التشرد بل من اللاّ جدوى.. إني مثلك لأني افتقدت الفرح منذ أن افتقدته أنت. كم أحسدك لأنك تؤمن بحقك أن تحس بأنك مظلوم، بينما أنا محرومة حتى من هذا الحق، لأن وطني وحضارتي أكبر وأعظم من هذه الأحاسيس. إن كانت أمك لم تجد الوقت لتمنحك حنان الأمومة لأنها غائبة بين الفقر وقطيع الأبناء، فإن أمي كانت غائبة في خلافها الصامت مع أبي الذي ظلت علاقته الوحيدة بنا، أنا وأخي الأصغر، الصمت والعزلة. كأنه قرر أن يفرغ أحزان سنوات عمره في قلوبنا البريئة.

آه لو أحكي لك عن أعوام الشباب قضيتها وأنا أفتش في كل رجل عن أبي الضائع، أبي الصامت.. يا إلهي كم اكتشفت بأني أحب أبي، وكم أسفت على أعوام طفولتي أمضيتها بأوهام حقد أمي الساذج. أدركت متأخرة كم هو طيب ونبيل. بعد أن كبرت صار صديقي وفتح لي صدره وراح يكشف لي شخصيته الحقيقية التي لم تنجح أمي باكتشافها، لأنها كانت حبيسة أنانيتها. عرفت إن صمت أبي المتكبر لم يكن يخفي إلاّ ضعف وقلق إزاء حياة ضنك حيث أمضى طفولته في كساد وعطالة والتسكع في جبهات الحرب العالمية في بلجيكا. بعدها تلقفته سوح العمل والكفاح والعيش مع امرأة، أدرك متأخراً أنهما لم يخلقا لبعضهما. إن كنت أنت عشت الحرب ودماراتها وخيباتها، فأنا عشت آثار الحرب والخيبة في أبي وأمي.

لو تعرف أيها الغريب كم أشعر الآن بنقمة وأسف على أزمان الصمت.. كم أرغب بتحطيم جدار الكبرياء لأترك قطعان الكلمات المحبوسة تجول جامحة في سهول الحنان والصداقة برفقة رجل كسير..

لكنها ظلت صامتة.. وكما لو كنت طفلها، ألقتني فوق أحضانها وتركتني أتوه في حناياها مثل وليد يستنشق الحياة من ينابيع أنوثة خالدة.

*   *   *

عند الفجر، أتى الحراس والمختصون بصحبة رجال يحملون كاميرات فيديو. رجوني قبل السماح لي بالنزول إلى (جنيف)، أن أعيد للمرة الأخيرة تجربة عبور حاجز التفتيش. قالوا إنهم بحاجة إلى تصوير حالتي والاحتفاظ بها كوثيقة علمية.

اصطحبوني مع حقيبتي إلى الحاجز، والمساعدة الإنسانية ورائي. كان الجميع يتبادلون الهمسات والبسمات. كان المصورون يحيطون بي من بعيد من كل النواحي. لكني  لم أكن أهتم بما حولي، لأني في تلك الساعة كنت أعيش أولى ساعات الهدنة والتصالح مع ذاتي والوجود بعد أن انعتقت روحي من دهاليز الندم. كانت أقدامي تنساب بهدوء مع انسياب أنسام ذكرى البارحة، ولم أكف عن الالتفات إلى تلك المرأة بشغف لأسترجع من عينيها ذكريات ليلة أعادتني من جديد إلى دفء وأمان الرحم المفقود. إنها حقاً لسيدة جليلة معطاءة فتحت لي بوابة الأسرار، قلعة الرجال والنساء، فدخلتها منتشياً مثل فاتح طيب نبيل يجهل كم من ملذات ومشقات تترصد له الأعوام والدروب.

عندما اقتربت من الكلاب وحاجز التفتيش انقطعت الأنفاس وعمَّ الصمت. جميع العيون والكامرات راحت تحدق فيَّ بتوجس وحذر. لكن الكلاب ظلت هادئة جداً، بل إنها راحت تهمهم بعطف وتلعق الهواء!؟ الصفارات كذلك لم تصرخ والأضواء ظلت مطفئة.. بل حتى الحراس ما اهتاجوا وعمَّ السلام قلوبهم.. مضت لحظات خيَّم خلالها على القاعة صمت مطبق إلاّ من ضجيج كامرات وطائرات وأنفاس لاهثة.

بسكون وبراءة وجدتُ نفسي ألتفت إلى المرأة. اتجهت معي جميع العيون وحطت كذلك على المرأة‍‍.. التقت أنظار الجميع في عيني وعينيها، فضحكت هي أولاً، وضحكت أنا.. ثم فجأة، انفجرت أفواه القاعة كلها بضحكات الحراس والموظفين والمصورين، بل بدا لي، حتى الكلاب استلقت على قفاها من الضحك، والطائرات أيضاً راحت تتمايل في السماء من الضحك!

انتشرت القهقهات عبر الجبال والبحار والغابات والأوطان راحلة نحو الشرق الاوسط البعيد، لِيَرْتَّجْ العالم بأكمله بضحك لا ينتهي..... ها ها ها ها هي هي هي هي هو هو هو هو..

أنا وآخَـري

يوغسلافيا 1997

 

هنا صورة رقم 14

أجواء الحرب مخيمة في شرق أوربا وبالذات في يوغسلافيا حيث حرائق التمردات الانفصالية تنشر دخانها في النفوس والفضاء. في محطة (ميلانو- شمال ايطاليا) أهبط بسرعة من القطار القادم من (جنيف) لاحقاً بالقطار الراحل الى يوغسلافيا، قبل لحظات من غلق أبوابه. في أقرب مقصورة أحشر حقيبتي فوق رف وأنا فحطان أنفخ من تعب وحر. أفتح نافذة وأترك ريح تداعب بدني وتعبث بروحي.

ها أنا أخيراً أبدأ بحثي الغريب عن ذلك الآخر الذي ما يكف عن مضايقتي منذ أشهر. في عز خراب يستفحل في بلادي بسبب حصار وحشي وقصف أمريكي دائم وقمع داخلي لا يرحم، يشرع بأجتياحي كل ليلة كابوس غريب يستصرخ فيَّ عبر الهاتف بصوت يشبه صوتي يدَّعي بأنه (آخري) ويحثني أن أنقذه من موت محَّتم في متاهات اوربا المثلجة.

القطار يسير محاذاة بحيرة بمياه فضية تقدح بألوان قزحية تنعكس فيها توهجات شمس وزرقة سماء وخضرة جبال. أغلق النافذة وارتمي على مقعد وأتأمل لأول مرة ما حولي: على يساري في طرف من المقعد أرى فتاة شقراء مغمورة بشعاع شمس متسرب عبر النوافذ. كل شيء فيها يبدو أبيض يسطع بوهج ذهبي، كأنها واحدة من تلك الجبال الثلجية التي تحيط بنا : ثيابها، بشرتها، نظارتها، كتاب مفتوح بين كفيها، بل شعرها المتماوج مع الريح يبدو كنهيرات تنساب تحت شمس.

أخلع سترتي وأمسح بقايا عرق عن وجهي. أفتش في ذهني عن أية حجة لطيفة لفتح حديث معها:

ـ أيزعجك أن أفتح النافذة؟ أعتقد أنك تحبين الشمس؟ أنا أيضاً أحب الشمس لكن مشكلتي أني لا أتحمل سخونتها وأتعرق كثيراً رغم ان بلدي الأصلي معروف بقسوة حرارته، لذا أنا أكره حر الشمس وأعشق نورها.. أنا أسمي (آدم)، وأنت؟

لكني في اللحظة التي أفتح فيها فمي لأكلِّمها، يلجمني صمت. وتجفل روحي وتتجمد أصوات حنجرتي وتتصاعد نبضات قلبي ويشرع الدم بطيئاً بطيئاً يتصاعد حاراً هائجاً إلى رأسي. تجحظ عيناي وأنا أحدق أمامي بجثة ذلك الرجل الموشح بالسواد!

كيف فاتني أن أراه.. لم أنتبه لوجوده إذ شغلني البياض المتوهج لتلك المرأة عن رؤية جثته السوداء. هل من المعقول أن يكون هو (الآخر) ؟!

إنه أمامي فوق المقعد المقابل مستلقياً على جانبه ويغط بنوم قلق. لا أعتقد بأني أتوهم به. من خلال هيكله وملامح وجهه، أجزم بأنه هو.. نعم هو، وكل تلك الأعوام الطوال التي مرت لم تغير منه إلاّ القليل. منذ أزمان وأزمان وأنا انتظرك يا أخي..

تجتاحني كآبة عنكبوتية تقبض على روحي وتجعلني أفقد قدرة الحركة. أضع كفي على وجهي وأغمض عيني محاولاً حماية رأسي من طوفان ذكريات تأتي جيّاشة من أعماق ماضيَّ. لا أقاوم. أفتح عيني وأحدَّق به بلهفة، وأنا أهمس بصوت مكتوم:

ـ ها أنت هنا أمامي أخيراً!

التَفَتُ إلى المرأة وكأني أستجير بها لتجيب على سيل أسئلة تتدفق، لكني أراها مستغرقة بكتابها الذي أفشل بمعرفة عنوانه. غلافه جلدي أبيض بلا كلمة واحدة. بينما أصابعها تدق عليه بإيقاعات خفيفة تشبه أنغام شرقية مألوفة.

أتركها وأعود إلى آخري. إنه أمامي بوجهه أليف يسبح بألوان متسربة عبر النافذة : حقول وغابات خضراء صفراء حمراء مع زرقة سماء وبحيرة فضية وشعاع شمس ذهبية.. كلها  تتراقص على قامته السوداء كقوس قزح في سماء ليلية. أرى وجهه يستحيل بالتدريج إلى شاشة تعرض فلماً ملوناً من ذكريات ومشاهد متقطعة لا أعرف متى وكيف عشتها، لكنها هنا في ذاكرتي منذ الابد..

*   *   *

رغم قراري بالتناسي والانقطاع عن ماضيّ، إلاّ أني خلال جميع الأعوام السابقة بقيت رغماً عني أحاول أن أتقصى أخبارك والعثور على عنوانك. أحدهم قال لي إنه شاهدك في بغداد عسكرياً قادماً من جبهة حرب مع إيران. وفي التسعينات بدا لي أني شاهدتك في صورة صحفية مع الأسرى العراقيين في مخيم الرفحا في صحراء السعودية. لكن هنالك من قال بأنك تعيش في شمال أوربا.

تنوعت أخبار الناس عن المناطق التي شاهدوك فيها: أمريكا أستراليا كندا إفريقيا، بل إن أحد رفاقنا القدامى كان متيقناً بأنه شاهدك في التلفزيون بين مجموعة اللاجئين العراقيين الذين تم العثور عليهم في قارب مطاطي تائهين وسط المحيط الهندي بحثاً عن أرض تقبل أن تأويهم.

لو تعرف كم أفكر بك.. كم أشتاق لرؤياك ومعرفة أخبارك والاعتذار لك عن خطايا اقترفتها ضدك رغم إني لا أعرف ماهي.. آه لو تدري كم أنا بحاجة إليك. لا أدري كيف أشرح لك.. لا أدري كيف. كم أود الآن أن أيقظك.. أقبّلك.. أسألك وأفتح قلبي لشكواك.. أعلن لك صداقتي الأبدية.. و.. و..

لكني أروح غارقاً في إغفاءة، من تعب وحزن وخيبة..

أجد نفسي وسط بساتين نخل وبرتقال وحقول قمح تطل على نهر دجلة بمياه مخضبة بأطيان حمراء. أراك مستلقياً على عشب شاطئ وعيونك السود تسطع بزرقة سماء. قوارب محمّلة بناس تنحدر قوافلاً على طول النهر. أرى امرأة متوهجة ببياض تقترب منّا وتسقينا حليباً حلواً بارداً في طاسات نحاسية. تمنح لكل منا تفاحة خضراء صفراء حمراء. عبر التفاحة التي على كفّي أراك والمرأة تقضمان تفاحتكما سوية. تنهضان إلى قاربكما وأنتما تضحكان وتشيران لي أن آتي معكما. لكني لا أستطيع الحراك.. ريح هوجاء باردة تشلَّني بينما قاربكما ينساب مع النهر ويذوب في قوافل راحلة وأنا أصرخ، أناديكما: انتظروني، خذوني معكم.. تباً للريح والبرد.. رحماك يا أخي..انتظرني.. أنا توأمك (آدم)..

*   *   *

استيقظ مفزوعاً مقطَّع الأنفاس. ريح باردة معفرَّة برذاذ مطر تخترق النافذة المفتوحة. القطار متوقف والمقصورة فارغة. اللعنة أين اختفى آخري والمرأة الشقراء؟

بسرعة أحملت حقيبتي وأركض. لا يهمني أي شيء في الوجود إلاّ آخري..

أقفز من القطار في لحظة انطلاقه. أتمايل وأسقط على السكة. كاد أن يسحقني القطار لو لم أسحب نفسي في اللحظة الأخيرة. يستغرق الأمر دقائق كي أتمكن من عبور السكك وبلوغ الرصيف. المحطة عبارة عن سقيفة خشبية مهملة وشبه منهارة، حولها وفي داخلها أعشاب برية. المكان فارغ تماماً والمساء ينشر عتمته في الفضاء.

أتقافز هنا وهناك في جميع النواحي بحثاً عن أي أثر لآخري وتلك المرأة. المحطة وسط أرض منبسطة إلاّ من بقع أعشاب منتثرة في الأنحاء، فأين يا إلهي قد اختفيا؟!

أشاهد من بعيد بقعة معتمة كأنها غابة. في نفس اللحظة التي أرى فيها تلك الغابة، يبدوا لي أني ألمح هَيكَلَي شخصين يتوغلان فيها. لا أدري أأتوهم المشهد أم أراه حقاً. المهم أني لا أمتلك غير أن أركض نحو الغابة بكل قواي وأنا أصرخ:

ـ انتظرني.. انتظرني يا أخي.. أنا توأمك آدم.. أرجوك انتظرني..

أبلغ الغابة وأنا أصرخ من دون أية نتيجة. هناك انتبه إلى أن الظلام قد خيَّم تماماً وريح باردة شَرَعَت تهب جاعلة الأشجار تصدح بأصوات أشباح متربصة. في لحظة تعب ويأس أطلق بكل ما أمتلك من جنون صرختي الأخيرة:

ـ انتظرني يا عزيزي.. أرجوك لا تتركني وحيداً.. أرجوك..

إذا بي أحس بضربة على رأسي تجعلني أفقد قواي وأنهار..

*   *   *

أفتح عيني وأنا أحّس ببرد. العتمة تحيطني ويتخللها ضوء خافت لشمعة موضوعة على الأرض. أرى نفسي مستلقياً على ركام من عشب يابس، وحولي ثلاثة رجال وامرأة ينظرون إليَّ بفضول. يبدو إنه كوخ خشبي من نوعية الأكواخ التي يستخدمها الحطّابون أثناء موسم التحطيب. قبل أن أنطق بكلمة، أرى المرأة تقترب مني وتكلمني بإنكليزية مكسَّرة:

ـ قل لنا ما الذي جعلك تتبعنا الى هنا وعلى من كنت تنادي؟

على ضوء الشمعة أرى وجهها ونظارتها الطبية.. هي نفسها امرأة القطار! أتمعن جيداً بالرجال عسى أن أعثر بينهم على آخري، لكن الثلاثة يشبهونه ويرتدون نفس الثياب السوداء!

تكرر المرأة عليَّ السؤال، وأنا لا أدري بماذا أجيب.

جميعهم مدججون بسلاح، بنادق ومسدسات وسكاكين. أبعد احتمال أن يكونوا عسكريين، لأن طبيعة الكوخ المتواضعة والشموع ثم هيئتهم العابثة، كلها توحي بأنهم أناس خارجون عن القانون ويعيشون بسرية. حينها أتذكر الأخبار عن وجود ميليشيات انفصالية مسلحة في كل مكان من يوغسلافيا: كروات وصرب وسلوفان وبوسنياك ومقدون وألبان..

أحاول بكل جهد وصدق أن أقنعهم بقصتي، بأني كنت في طريقي بحثاً عن آخري.. عن.. لا أدري.. ربما عن أحدهم هم أنفسهم. أتمنى فقط أن يبعدوا فكرة إني جاسوس حتى لو يتصورون إني عابث مجنون. لا أدري إن هم يقتنعون بكلامي. أراهم يتهامسون وينظرون إليَّ بشزر وريبة تفوح برائحة موت. شَرَعَ رعب يتصاعد في بدني ويجعلني أرتجف وأتحول كلياً إلى قلب نابض يدوي بألم مثل ناقوس جبّار. هل قرروا إعدامي.. لا أدري؟

يقوم أحدهم بتوثيق يدي بحبل، ثم يأمروني أن أتبعهم. لا أتمكن من رؤية ساعتي. لعلها قد تجاوزت الثانية بعد منتصف الليل. الظلام حالك وعصف ريح باردة يحرق العيون والآذان. عبر أشجار الغابة تبدو السماء مغطّاة بغيوم صفراء شاحبة تنضح بقطرات مطر متقطع. أعاني بمشيتي من يدَّي الموثقتين وأنا أهيم في أرض مليئة بأحجار وأغصان وبرك مياه..

فجأة يتَجَمَّدَ حراسي الثلاثة في أماكنهم ويطلبوا مني التوقف والصمت وهم يشيرون لي تهديداً ببنادقهم. تبدو في أعماق الغابة تحركات مبهمة وضجيج بشري. خلال توهجات بروق تنبثق أشباح من بين الأشجار.. جموع غفيرة تظهر بالتدريج من أعماق الغابة، كأنها حشود بشرية يصعب عدَّها: رجال نساء أطفال.. يركضون مفزوعين ويصرخون بكلمات لم أفهم منها غير: العسكر.. العسكر..

لا أدري كيف إختفى حراسي فجأة. ضاعوا في الحشود الهاربة. قبل أن أكتشف طريقي تهبط صاعقة تهز الكون وتشب نيران في الأشجار. خلال دقائق تستحيل الغابة الى جهنم: كون مظلم وسماء غاضبة ونيران تلتهم بشر وسط انفجارات رعود واستغاثات وزعيق كائنات بشرية وحيوانية..

لا محال أني هالك وقد حل يوم الحساب المنتظر.أركض هرباً من النيران، لكن وثاقي اللعين لا يمنحني حرية الحركة. أسقطت في بركة وأنا ألبط مثل سمكة. كم أحاول وأحاول الوقوف مستغيثاً بكل ما أوتيت من قوة وبجميع اللغات التي تخطر ببالي.

فجأة أحس بيد تمسكني من كتفي وتساعدني على النهوض، وتبدأ تفك وثاقي مصحوبة بصوت رجل أليف يخاطبني بلهجة عراقية في نفس اللحظة التي ينفجر فيها رعد صاخب وتسقط صاعقة جبارة فوق الغابة:

ـ قم يا أخي يا آدم.. يالله بسرعة نركض إلى الحدود.. العسكر والنيران وراءنا.. قم يا آدم، يا الله قم..

يركض أمامي وهو يستحثني.

تصيبني دهشة وأنا أحدق في الغابة: المطر منقطع وحشود البشر مختفية، ويهيمن صمت أصيل على الكون، إلاّ من زقزقة عصافير وقطرات ماء فضية تتساقط من الأغصان وتلمع بتوهجات شفق نحاسي يتخلله هيكل آخري.. كأن ملاك نور يسموا بي إلى السماء.

وداعاً يا نينوى، مع حبي إلى الأبد!

جنيف ــ نينوى 2007

هنا صورة رقم 15

قررت زيارة بلادي بعد غياب أعوام في أوربا. صحيح إني كنت تواقًاً لزيارة أهلي ومرابع طفولتي في بغداد، إلاّ أن رغبتي الكبرى كانت أن أشاهد معبودتي (حواء).

رغم مرور حوالي الثلاثين عام، وتعرفي على نساء عديدات ثم حياتي مع زوجة طيبة، إلاّ أن صورة (حواء) بقيت دائماً حيّة في مشاعري. لم أحاول ولا مرة أن أتخيل متغيرات العمر عليها. كانت دائماً هي ذاتها في روحي. وجهها الطفولي ووجنتاها الورديتان وعيناها العسليتان وشعرها البني، لا تكف عن التوهج في خيالي ساعات الحنين إلى بلادي وأهلي. كانت (حواء) هي المصباح المتألق لماضٍ حزين مظلم. كم تحسرت في أعماقي لأني لا أستطيع أن أشاهدها مرة أخرى. كنت في كثير من الأحيان أنتبه لنفسي هامساً:

((آه لو ألتقيها مرة وحدة.. مرة وحدة بعمري.. مرة وحدة..))!

عندما وصلت الى بغداد، منذ اليوم الثاني بعد لقاء عائلتي، رحت أستفسر عن مصير حواء. أتاني الخبر اليقين بعد أن زرت أخيها الأكبر الذي لا زال يقطن في قصر العائلة الذي أصبح خراباً:

ـ هي تعيش في نينوى، في مدينة الموصل، مع زوجها التاجر وأبنائها الكثار.

لم أتجرأ أن أطلب من الأخ عنوانها ولا أية معلومة عنها تدلني عليها. فكرت ربما أحاول في زيارتي القادمة. لكن الزيارة صارت صعبة بعد أن وقع الأخ مريضاً.

يا إلهي من المستحيل أن أقاوم رغبة لقائي بحواء. أن أكلمها وأبوح لها بتعلقي الأبدي بها، وكيف أمضي عمري وأنا أنتظر لقائها. أبداً لم أحلم أن أستلبها من زوجها، ولا حتى أن أغازلها، بل أقصى ما أتمناه أن أراها، نعم أراها وأكلمها لا أكثر. بل أقبل أن أراها ولو من بعيد، من بعيد البعيد، حتى من دون كلمة. فقط أن أراها لا أكثر، ثم أتركها لحالها وأعود محملاً بكنز رؤاها، مثل مهاجر يحمل تربة بلاده إلى موطن غربته. هنالك في هجرتي الأبدية، سوف أزرع ذكرى رؤاها، نخلة في روحي.

بعد معاناة وانتظارات وترددات اتخذت أخيراً قراري:

أن أسافر إلى نينوى، من دون أي أسم أو عنوان. قلت:

إن كان قلبي صادقاً في حبي لحواء، فإنه يقيناً سوف يدلني عليها. وإذا لم ينجح بذلك، فحينها سوف أقتنع بأن حبي لها كان محض أوهام مرضية لا تستحق كل هذا العناء..

*   *   *

قبل سفري إلى الموصل نصحوني بأن أخفي هويتي الأجنبية، فالمغترب أكثر عرضة للمخاطر والانتقام والخطف. تدبروا لي هوية عراقية مزورة، وأخفيت في بطانة سترتي جوازي الأجنبي.

هذه المرة الأولى التي أزور فيها هذه المحافظة. تخيلتها كثيراً من صورها وما قرأته عنها. سكنت في فندق، مدَّعياً بأني أستاذ قادم من بغداد كي ألتحق بعملي الجديد في الجامعة. قررت أن أمضي هناك أسبوعاً واحداً فقط، وإذا انتهى الأسبوع من دون نتيجة، سوف أرجع إلى بغداد كي أعود إلى مأواي في أوربا وأنا مرتاح قانع بأن قلبي كان طيلة أعوام وأعوام يعيش الوهم.

ابتهجت عندما وجدت فندقي قريباً من (مرقد النبي يونس)، أشاهده من نافذة غرفتي، معتبراً ذلك علامة خير. فكنت كثيراً من الأحيان أمرق على الجامع لأتأمل البناء وقبته ومئذنته، وأراقب الناس الذين لا يكفّون عن الازدحام للصلاة حتى في أوقات حظر التجوال والتفجيرات والاغتيالات التي لا تنقطع.

عادت لي ذكريات الوقائع العجيبة في حكاية (النبي يونس) التي تعلقت بها في طفولتي، ذلك النبي الطيب الذي لم يؤمن به أهل نينوى وما صدقوا نذيره لهم. يأس منهم فهجرهم، ثم اضطر أن يغرق نفسه في البحر ليكفر عن خطيئة تخليه عنهم. لكن الله أوحى للحوت بابتلاعه وحفظه في باطنه حتى أنزله حياً على الأرض. بعدها رجع إلى أهل نينوى الذين عادت الرحمة إليهم بعد عقاب الرب والخراب الذي حلَّ فيهم.

كنت في كل صباح قبل أن أغادر غرفتي، أغمض عيني، وأخاطب نفسي:

ـ يا قلبي إذا كنت صادقاً فعلاً في حبك الذي شغلتني به كل هذا العمر، قدني إلى محبوبتك.

ثم أترك قلبي وأقدامي تقودني في دروب نينوى.

لم أدع بقعة من المحافظة إلاّ وزرتها. أحياء مدينة الموصل، والبلدات البعيدة المنتشرة بين جبال الشمال وبوادي الغرب. كنت وحيداً أتجول محمياً من قلبي رغم كل الحواجز والمخاطر وعمليات الخطف والتفجير التي تبث الرعب في نينوى كلها.

في كل مرة كنت أعود إلى فندقي، أشكر قلبي لأنه قادني في دروب السلام. لكنه ما توقف عن تذكيري بأن أيام الأسبوع تمضي وما زال لم يدلَّني على محبوبتي.

طيلة الليالي الستة ما توقفت عن عودتها تلك الأحلام القديمة المنسية التي امتلكتني السنوات الطوال في غربتي ثم تلاشت مع الزمن. أجد نفسي خائفاً تائهاً في شوارع الوطن التي يملأها رجال غرباء مدنيون وعسكريون مدججون بأسلحة ونظرات ترعد بموت يسألون الناس عن هوياتهم. وفي كل مرة كنت ألجأ إلى الهرب واللهاث في أزقة الوطن وعيون الحراس تطاردني، وأنا أجهد لإطلاق صرخاتي المكبوتة بحثاً عن هويتي الأصلية التي لم أدرِ أين فقدتها. وكالعادة مهما اختلفت تفاصيل المشاهد ووجوه الناس والحراس، فإن الحلم كان ينتهي باختناقي وأنا أغرق وأغرق في بحر هائج يسطع بزرقة لا زوردية تمتزج بسماء بنفسجية نحاسية وغيوم بيضاء سوداء..

*   *   *

ها هو اليوم الأخير يحل. إنه يوم جمعة وقد قررت أن أغادر نينوى إلى الأبد. ها أنا أكتشف خداع قلبي الساذج. تركت حقيبتي في الفندق على أمل العودة ظهراً بعد ترتيب أمر تأجير السيارة التي ستقلني إلى بغداد.

كان صباحاً متوهجاً بخضرة ربيعية شقراء تنتشر في الأنحاء. عادت إليَّ صور ذلك الحلم المتكرر الذي ظل يزورني طيلة الليالي السابقة. لكني انتبهت أن هنالك خاتمة جديدة مختلفة ظهرت لي في الليلة الفائتة. حاولت كل مستطاعي أن أستعيدها، لكني فشلت..

بقيت أسير متمهلاً محاولاً تذكّر الطريق الذي يقودني إلى الكراج. ها قد تكشَّفَ لي بأن كل آمالي بلقاء معبودتي كانت محض أوهام بأوهام:

((آه لو تعرف يا قلبي كم أنا خجل منك لأنك قد خدعتني طيلة هذه الأعوام. ها هو يومنا السابع والأخير وقد حل دون أن تدلَّني على التي ما كفت نبضاتك تهمس باسمها منذ أزمان)).

كنت أحس بمشاعر مترددة بين خيبتي لعدم بلوغ مرادي وتحقيق حلم حياتي، وارتياحي لتحرري من وهم أثقل عليَّ طيلة عمري. تارة أعاتب قلبي لأنه ظل يخدعني طيلة تلك الأعوام، وتارة أشكره لأنه أخيراً كشف لي عن وهمي.

بقيت أمشي عن غير قصد غارق في تأملات عابرة وخيالات وأفكار تزدحم في روحي. إذا بي أنتبه إلى أني قد أضعت طريقي. وجدت نفسي في حي أنيق تنتشر فيه بيوت غنية قديمة الطراز تشبه (منطقة السعدون) في بغداد حيث كان بيت (حواء).

كان الوقت يقترب من الظهيرة وشمس الربيع تزداد سطوعاً وحرارة، فبدت الدروب خالية إلاّ من بعض المارة. فجأة لم أدرِ كيف انبجست ذكريات صباي، أيام كنت ألوب مثل ذئب جريح بحثاً عن أية فرصة للقاء محبوبتي. يا إلهي إنها ذات الأحاسيس وكأني لا أزال كما أنا في عز فتوَّتي. آه من جدار الفقر العملاق الذي كان يقف شامخاً مثل جبل أمامي يفصلني عن أميرتي القاطنة في قصرها الاسطوري.

هنالك في البعيد بدا في نهاية الشارع الفرعي قصر ضخم يشبه إلى حد بعيد ذلك القصر الذي كانت تعيش فيه (حواء) أيام زمان. رحت أقترب دون أن أتجرأ على إظهار تحديقي المبالغ خشية أن أثير الشكوك والمشاكل.

فجأة رأيت فتاة شابة تخرج من هناك بصحبة صبي. كانا يتجهان نحوي. بدت الشابة مثل كل النساء في هذه الفترة ترتدي ربطة على رأسها وثياب طويلة وقورة. كلما اقتربت، بدت ملامحها تتكشف عن حقيقة مذهلة لم أكن حتى أن أتجرأ على الحلم بها:

إنها حواء.. نعم حواء نفسها كما تركتها منذ ثلاثين عام! حتى صوتها الذي سمعته وهي تنادي الصبي:

ـ تعالَ عيني.. امشي..

جفلت لأول وهلة معتقداً بأنها تخاطبني. استعدت توازني عندما أدركت إنها كانت تعني الطفل. يا الله هو نفسه ذلك الصوت الرنّان بأنغامه الطفولية وصداه المعدني مثل ناقوس صغير. كم بدت غريبة في تلك الربطة السوداء التي كانت بالكاد تخفي خصلاته. يا له من انعكاس خلاّب بين السواد والشقرة:

((كيف حصل هذا؟ إنها هي ولا يمكن أن أخطأها إطلاقاً. من الممكن أن أشتبه بكل الناس حتى بأمي وأبي، بل وحتى بنفسي، لكني أبداً لن أشتبه بحواء. رسمها محفور في كل خلية من كياني. أدرك وجودها حتى من بين مليون امرأة. لا زالت هي نفسها برشاقتها ومحياها الطفولي الباسم رغم حزن عجيب طاغ))!

كدت أن أصرخ بها:

((حواء.. حواء.. أما تتذكريني.. أنا صديق صباك، أنا الفتى المعتوه الباحث عن رضاك.. أنا الطيب، أنا الحالم، أنا المعذب بجفاك))..

لكني تمالكت نفسي متذكراً حالي والوضع الذي أنا فيه. شعرت بنار شعواء تلتهب في أحشائي. ألسنتها ذكريات وذكريات عشتها طيلة سنوات صباي. كنت في عز شغفي مثل غريق أتحين أية فرصة كي ألتقط حتى لو لحظة واحدة أتمكن بها من مشاهدة حواء، أن أقترب منها، أكلمها. لكن مانع الفقر كان لعيناً جباراً مثل وحش جهنمي يحرس بوابة النعيم:

((يا الله كيف الآن بعد كل تلك الأعوام وأنا رجل ناضج، أعيش ذات المعاناة، متردد ضعيف أمام ذات الموانع التي ظلت تحرمني من الاقتراب من معبودتي. يا الله رحماك، أنا أبداً لا أبتغي أي حرام، فقط أكلمها لا أكثر، أبوح لها بشجون حبي المخبوء في أعماق روحي مثل جمرات تحت رماد. حواء أنت ملاكي، أنت أختي وابنتي ونبع حناني. يا رب اغفر لي كفري بك وتمردي عليك في أول شبابي لأنك لم تساعدني في حبي لها. أنا الآن رفيقك الوفي، أناجيك مثلما أناجي صديق حنون. رحماك يا إلهي ساعدني هذه المرة ولبّي دعوات حبي. وأنت يا قلبي الملتاع المرتجف، أرجوك اهدأ قليلاً، ما لي أراك تعود لخفقان صباك، كما كنت أيام حبك المعذب. اطمئن يا صغيري، ثق بي، فأنا لم أعد ذلك الفتى المعتوه، ألا تراني أمامك قد أصبحت رجلاً مجرباً بعد تلك الاعوام الطوال من الشوق والانتظار. أرجوك اهدأ اهدأ، ودعني أرى دربي))...

انتبهت إلى حواء قد مرقت وصارت خلفي، وعليَّ أن أعود إليها.

توقفت حائراً، ولم أتجرأ أن ألتفت. بقيت، تارة مستمراً بسيري، وتارة أتوقف، ثم أسير، حتى اتخذت أخيراً قراري أن أعود وأنا أصطنع حركة توحي وكأني قد تذكرت شيئاً. أخرجت أوراقي كما لو كنت أبحث فيها، وأنا أتقدم خلف معبدوتي والصبي الذي معها.

دون شعور، وجدت نفسي أعود لدور قديم قد نسيته تماماً في أوربا:

((آه، ها أنا أتبع فتاة.. أية لذة وإثارة في متابعة المحبوب. تجتمع فيها كل ملذات التوق والتحدي والترقب مثل طفل قلق يخشى على سلامة أمه)).

سنوات المراهقة أمضيتها وأنا أتبع حواء أثناء ذهابها وعودتها من المدرسة، وأثناء خروجها مع أخواتها. لم أنس محاولاتي الفاشلة أن ألتقط لها سراً صورة أحتفظ بها قرب قلبي. أتفقت مع صديقي الحميم (عماد التلكيفي) وأستأجرت (كامرة) وأختبئت وراء إحدى أشجار (بارك السعدون) وألتقطت لها خفية صورة أثناء عودتها من المدرسة. لكن الصورة ظهرت خالية، وكان من الصعب تكرار المحاولة.

ابتسمت ساخراً من نفسي:

((أأتجرأ الآن أن ألتقط صورة لها؟ أيسمح لي عمري بمثل هذه الخطوة الصبيانية. شكراً لك يا قلبي لأنك قد قدتني إليها. أعرف الآن أنك أبقيتني طيلة الأيام الماضية، كي تهيأني لتقبّل هذه الحظوة التي لم أحلم بها. اعذرني لأني لمتك، يا قلبي ومنبع حبي.. هاهي معبودتي لا زالت كما هي شامخة زاهية مثل بستان. آن الأوان يارب أن تنفخ في صورك العظيم لتبعث الروح في جثمان حبي. وأنت ياطائر العنقاء انطلق من أعماق قلبي وحلق في أعالي الأكوان وخذني هناك بعيداً بعيداً نحو جلال الرحمن))..

*   *   *

لم أدرِ كم أمضيت من أزمان وكم اخترقت من دروب وأنا أتبعها مثل بدوي مسحور بسراب جنان. إذا بي أخيراً أنتبه فجأة إلى أني في مقبرة؟!

رأيت حواء جاثية والصبي جنبها يلوب حائراً. لم أفهم أول الأمر ما يحصل، واحتجت إلى بعض الوقت كي أدرك أنها أمام قبر. رأيتها تخرج من حقيبتها قطعة قماش وتنظف ظاهر القبر، ثم تضع بضعة شموع وتشعلها. وشرعت تردد صلوات وأدعية وهي تبكي. جزعتُ وكدتُ أن أتجه إليها لأشاركها حزنها:

((أوه يا عيني يا روحي  ليش تبكين.. أرجوك كفي عن النحيب.. ترى دموعك حمم لهيب تجري في صدري.. أرجوك يا حواء أرجوك..)).

لمحت من بعيد صورة معلقة على شاهدة القبر. حاولت أن أقترب كي أراها، لكني خشيت أن أجلب انتباهها. ما الذي يمنعني أن أكلمها؟ يا الله كم أنا خائف. لم أحسب أبداً بأني هكذا أعود من جديد إلى ذات المشاعر الجياشة القلقة القديمة، التي ظننت إني قد تخلصت منها إلى الأبد أثناء حياتي في أوربا.

هبت ريح وشرعت السماء برش رذاذ مطر، فانطفأت الشموع وشرع الصبي بالعويل، وحواء لا زالت تصلي وتبكي، بينما كنت جاثماً متكوراً كحيوان برّي بين القبور. مشاعر جياشة كانت تتلاعب في روحي مثل ريح تعصف في قصر مهجور. وفي اللحظة التي قررت فيها أن أتجه إليها، رأيتها تنهض وتمسك يد الطفل وتركض متعثرة بين الصخور.

بقيت حائراً متردداً أن ألحق بها أو أتجه الى القبر لمعرفة هويته. حينما حسمت أمري ونهضت راكضاً لأشاهد الصورة بسرعة ثم ألحق بفتاتي، تعثرت رجلي وسقطت على الأرض وارتطم رأسي بحافة القبر. شعرت بوجع في جبهتي وقد سالت دمائي على التربة. لم أستطع أن أمنع عيناي من النظر إلى تلك الصورة، فكانت صدمة ما بعدها من صدمة.

شاهدت وجهاً مألوفاً لأمرأة! إنه مألوف إلى حد بعيد بعيد مسَّ شِغاْفْ قلبي وأشعل نيراناً في أعماقي. من هي هذه السيدة؟ إني أعرفها بكل يقين.. لم أصدق، رحت أزحف كي أتيقن، لكني كنت أحدس بمصيبة:

((رحماك يا ملائكة الرحمة والمحبة، رفرفي عليَّ واجعلي نسمات الصبر تهب على قلبي الحائر. أحس قواي تنهار وكياني يرتعد))..

نعم إني بكل يقين أعرف هذه السيدة!

زحفت أكثر وأكثر وأنا أدعوا كل قوى الكون الطيبة أن تعينني لأدرك خطأ ظنوني.. لا.. لا إنها هي.. لم أدرك كم مرة ومرة ومرة قرأت العبارة المكتوبة تحت الصورة:

حواء القادر (1956 ـ 2007)  استشهدت في حادث تفجير......

((مستحيل.. يقيناً إني واهم. كيف يكون هذا قبر حواء، وأنا كنت أراها بعينَي هاتين منذ لحظات. هنالك خطأ ما. ما زالت حواء حيَّة شابة خالدة هنا في قلبي.. هنا في نينوى.. هنا في هذه الدنيا. حواء حية، نعم إنها حية)).

امتزجت دموعي ودماء جبهتي بقطرات المطر وأطيان المقبرة.

دفعت القبر عني كأني أريد أن أتخلص من تلك الحقيقة المرعبة التي تواجهني. قمت مثل ميت ينهض من تابوته، ورحت أركض وأركض، هارباً من حواء القديمة الميتة، عسى أن ألحق بـحواء الحية الشابة والصبي الذي معها. لاح أمامي نهر دجلة فياضاً نحاسياً متوهجاً بحمرة شفق وغيوم حبلى برعود وبروق. حينها فقط تذكرت ذلك المشهد الجديد الذي اخْتُتِمَ فيه حلم الليلة الماضية:

بينما كنت أغرق كالعادة في تلك الأمواج العاتية، ظهر لي من الأعماق كائن جبار عجيب.. إنه يشبه.. نعم.. بل كان هو ذاته.. الحووووت!

*   *   *

وداعاً يا نينوى.. وداعاً.. بعيون دامعة أودعك قلبي ومأوى حبي..

يا زهور الربيع أنبتي على تربة ذكراي وانتثري في بساتين شبابها الأبدي..

يا عصافير الحب غرّدي في ليالي وحشتها وأسمعي قلبها أغاني عشق مؤجل..

وأنت ياشمس، بددي بأنوارك ظلمات عزلتها، ولتتوهج بك دروبها أينما سارت.

وأنت يا يونس، يا أخي، يا نبي تقي، انهض، اخرج من حوتك، وانثر دعواتك..

اسند منارتها الحدباء، واجعل دجلتها غزيراً بحب ومياه..

وداعاً وداعاً يا موطن قلبي..

وداعاً يا حواء..

وداعاً يا نينوى.. مع حبي إلى الأبد..

 

 3 ـ

قريـن روحـي

(وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ)

                      {الزخرف/36}

*   *   *

الإنسان ما خُلق إلاّ لكي يسمو

الإنسان من الأرض يولد وينمو ويكبر وإليها يعود.

ما يولد ويستمر بالتناسل إلاّ من أجل أن يسمو على ماضيه البدني الفاني، ليستحيل إلى ملاك خالد.

الإنسان ماهو إلاّ معبر بين الحيوان والملاك..

بين البدن والروح..

بين المادة والمطلق.

شيطانه ماديته،

وملاكه روحانيته..

اغتيـال الذات

جنيف ــ بغداد 1998

هنا صورة رقم 16

أخيراً في هذه الليلة الليلاء بدأت بتنفيذ عملية اغتيال رئيس بلادي التي كنت أهيئ لها منذ أشهر طويلة. لعلّي معتوه أو واهم لخوضي مثل هذه المغامرة المتهورة؟ لكني الآن مقتنع بأني إنسان واقعي وعاقل جداً، وَلَدَيَّ كل المبررات لارتكاب مثل هذه الحماقة. أنا بكل بساطة:

شبيه الرئيس!!

اسمي (آدم) ومهنتي الرسمية أن أكون (شبيهاً) لرئيس دولتي. أحل محله في تأدية المهمات التي قد يكون فيها سيدي عرضة للخطر..

لكني الآن أحبو مثل جرذ جريح بين الممرات المظلمة محاولاً قدر الإمكان تحاشي أجهزة الإنذار التي قمت بإبطال مفعول أغلبها. خلال عملي في القصر الجمهوري تمكنت من جمع المعلومات الكفيلة بتسهيل خطتي. توصلت إلى طريقة آمنة لفتح الباب المؤدي إلى الملحق السري لمبيت الرئيس. الملحق نفسه يخلو من الحراس لأن الرئيس يفضل أن يكون وحده تماماً أثناء نومه، فهو ليلاً لا يأتمن حتى حراسه الشخصيين. رغم كل المخاطر، غير أني لا أشعر بالخوف قدر ما أشعر بتأنيب ضمير لاضطراري القيام باغتيال رئيسي وسيدي ومالك نعمتي وروحي.

كيف يسهل عليَّ أن أغتال ذلك الإنسان الذي مهما حقدت عليه فإنه رغماً عني أصبح جزءاً من حياتي. بعد هذه الأعوام من تقمصي لشخصيته تسلل الرئيس كثعبان إلى دواخلي ونفث روحه في دمي حتى استحال هو.. أنا..!

لم أحسب أبداً أني سأنتهي إلى هذا المصير اللعين. الذنب ليس ذنبي، بل الرئيس هو الذي أصر على امتلاك كياني ومسخ حياتي إلى جحيم. ياتُرى هل أتأسف الآن لأني تخليت قبل عشرة أعوام عن درب أبي الورع والسير في ذلك الدرب الشيطاني. لن أنسى يوم قررت الالتحاق بكلية القوة الجوية، لا لأني كنت أرغب بها حقاً، بل من أجل الانتقام من حبيبتي التي أذلتني وتخلَّت عنّي من أجل ضابط عسكري بهرها بنجومه.

أثناء فترة الدراسة الأولى خيّل لي بأن اختياري للطيران لم يكن محض صدفة. شعرت بأنني أحقق رغبة صوفية مندثرة في أعماقي بالصعود إلى السماء والاقتراب من ربي. كنت أحس بمتعة مفعمة بنوع من التعبد الخفي عند التحليق في رحاب الفضاء المطلق بانفتاحه واتساعه. كنت أقوم بطلعاتي بشعور من يمارس طقساً يسموا بروحه في متاهات اللاّمحدود. لكن الحقيقة ظهرت عندما بدأت فعلياً القيام بعمليات القصف ضد متمردي الوطن وضد الجيران. ظللت في البدء متردداً أخشى التحديق في السماء لأنها صارت مرآة تفضح ذلك الجزء الشيطاني المشوه من ذاتي. كان ذلك الهاجس يبدو مثل سرطان ينموا ويكبر ويجتاح كل ماهو حي ونبيل وإلهي في كياني. شرعت بين حين وآخر أطلق صرخات وحشية لكتم كلمات أبي الزاهد وهي تصدح في سموات حربي:

((الله يا ولدي هو الذات، ومن لا ذات له لا إله له..)).

 *   *   *

لكني الآن بعد مضي تلك الأعوام العجاف لم أعد أمتلك في الحياة ما يستحق الوجود. تراني الآن أزحف في متاهات القصر الجمهوري المظلمة. لا أدري مالَهُ قلبي ينبض بحنين منسي إلى أحضان أمي؟ إحساس غريب كأني مقبل على حياة جديدة. منذ أن شرعت بقتل سيدي في كوابيسي وأنا أحس بأنني سأولد من جديد! يجب أن أتجنب أجهزة الإنذار التي تملأ الجدار. دفىء منعش يتسرب من هذا الظلام الدامس الذي لا تتخلله غير شذرات ضوء عيوني القلقة، كصياد في غابة وحوش كاسرة.

لم أفقه حتى الآن كيف أني متيقن في أعماقي بأن سيدي نائم في الملحق هذه الليلة؟ رغم إن الرئيس ليس من عادته أن يخبر حتى حراسه ولا زوجته بمكان نومه. يترك الأمر خاصاً به لآخر لحظة. لديه ما لا يحصى من المخابئ السرية والقصور المحصنة المترامية في أنحاء الوطن.

كم من ليال ونهارات أمضيتها وحيداً متفكراً قبل إقدامي على مغامرتي هذه؟ ظللت لأيام وأيام أجهد لتجنب النوم عسى أن أتخلص من رعب كابوس ظل يراودني بإصرار. كنت أرى نفسي أقوم باغتيال الرئيس خنقاً بحبل غسيل أجلبه من بيتي. بينما عنق الرئيس بين قبضتي وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة أستيقظ فزعاً على مرأى عيني سيدي جاحظتين محتضرتين!

رغم إصراري وقناعتي فأن لي ضميراً منخوراً ينوح مثل كائن جريح. ليس لي أي بديل، ما دامت روحي لم تعد ملكي. قد أسترجعها بموته. رئيس أحمق زائف زيف روحي وأرواح الوطن بأكمله. هو الذي أصر على تدميري.

لم يخطر ببالي خلال حياتي كلها وحتى أثناء سنواتي كطيار، أن أقترب يوماً من الرئيس. السياسة كانت آخر ما يستحق مني الأهتمام. لكنهم اعجبوا ببطولاتي. عمليات القصف الوحشية ضد أعداء الدولة جعلتهم يختاروني لتقلد وسام الشجاعة من قبل الرئيس نفسه. كانت المرة الأولى التي أقابله هكذا مباشرة. وقفت أمامه وهو يعلق الوسام على صدري. انتبهت حينها إلى اللون الأسود الفاحم الذي بدا عليه شعر الرئيس وشاربه وحاجبيه. قلت في نفسي لا بد أن يكون شعره منسوجاً من خيوط الليل. لكن ظني خاب عندما لمحت زغباً خفيفًا كان شيباً لم يستره الصبغ! حدَّق فيَّ الرئيس بنظرة حادة متفحصة والتفت إلى حارسه الخاص وهمس في أذنه. تجنبت النظر إلى عينيه احتراماً ووجلاً. بهرتني كثافة حاجبيه النسريين الجارحين. شعرت بنظرة الرئيس نحوي ليست شريرة بل فيها بعضاً من الإعجاب والتعاطف. ما حسبت أنها كانت تخفي لي مصيراً لم أنتظره ولم أتخيله أبداً!

بعدها بأيام اتصلوا بي من مكتب القصر الجمهوري. ارتعبت لأني لم أتوقع ذلك. طلبوا مني الحضور في موعد محدد من أجل إجراء خاص. عند الموعد وبعد تفتيش دقيق وصارم بالأيدي والآلات وجدت نفسي فجأة أمام الرئيس نفسه، بلحمه ودمه وببزته العسكرية المنقوشة بالنجوم والنياشين والصقور الذهبية!

رحب بي الرئيس وأجلسني قبالته. راح يطالع إضبارة كبيرة ويسألني عن أحوالي وعن ماضيّ وعن عائلتي وعن اهتماماتي وهواياتي ومعارفي، عن كل شيء! فقط أثناء تلك الجلسة بدأت ألاحظ التشابه بين الرئيس وأبي الزاهد. الفرق الوحيد أن أبي كان أنحف وأقصر وفي نظراته حنو وشفقة لم أجد لهما أي أثر في عيني الرئيس. مضت ساعة وأنا أجيب على أسئلته. أترقب بلهفة معرفة غايته من كل هذا. كانت بقعة من شمس متسللة عبر النافذة تسقط على نجوم الرئيس ونياشينه الذهبية فتعكس على وجهي وهجاً نارياً. في تلك اللحظة لاحت في خيالي صورة الشيطان التي كان يرسمها لي أبي وهو يحثني على السير في درب التقوى والإيمان. أطرقت رأسي خشية أن يرى الرئيس أفكاري.

تفاقم قلقي عندما صمت الرئيس واتكأ على كرسيّه وراح يتمعنني بنظرات خارقة باردة. يقيناً أنه كان يتفحص دواخلي وأحشائي ويقلب وريقات دماغي. خاطبني بصوت واطٍ لكنه حارق خارق آمر:

ـ اسمع يا (آدم)، أنا ليس من عادتي أن أمنح ثقتي لأي إنسان. الشخص الذي أمنحه ثقتي يجب أن يكون بمستوى المسؤولية بكل معنى الكلمة.. يعني واجب الوطن يفرض واحد من خيارين لا ثالث بينهما: أما الإخلاص والسير حتى النهاية، وأما التردد والجبن واستحقاق الموت كأي خائن..

توقف عن الحديث وهو يخرج سيكاره. أومأ لي أن أتناول أحدها. طبعاً رفضت بكل أدب وتناولت قداحة موضوعة على الطاولة وأشعلت سيـكار سيدي. أخَذَ نَفَساً وخاطبني بكلمات من دخان:

ـ بالحقيقة، بعد الاطلاع على اضبارتك وصورك وتقارير المخابرات وشهادات المختصين، اقتنعت إنك مؤهل بأن تقوم بالمهمة الوطنية الشريفة التي لا يستحقها إلاّ قلائل من الناس..

لم أفقه كم دام صمت الرئيس وهو ينظرني بعينين صقريتين. كنت غارقاً في مراقبة دخان السيكار المتصاعد الذي يذّكرني بسنوات حربي. العبق الكوبي الفواح بث في بدني خَدَراً لذيذاً. كم رغبت بالنوم. انتبهت لنفسي وصوت سيادته يصدح في رأسي:

ـ أنا قررت يا (آدم) أن تكون شبيهي.. نعم قررت أن أوكل لك مهمة حمايتي وتكون بديلاً عني في الحالات الخاصة. يعني أن تكون.. أنت.. أنا.. فهمت؟ إذا كان عندك سؤال تفضَّل..

لكني بقيت صامتاً. شعرت بالأسئلة مزدحمة وهي تنط ثائرة في رأسي مثل جرذان محصورة في قفص. لهذا فضلت الصمت. من دون علمي خرجت من فمي بضعة كلمات متقطعة تعلمتها في حياتي العسكرية:

ـ أنا بأمرك سيدي...

حينها أشار الرئيس اليَّ بأبتسامة عطوفة أن أخرج. اصطحبني أحد الضباط الى المكتب الخاص الذي سيشرف على كل نشاطاتي.

*   *   *

لكني الآن في ليلة الاغتيال هذه وأثناء زحفي أشعر بالضيق من حبل الغسيل الملفوف حول بطني. كم أود أن أقطعه وأتحرر منه.. لا أدري بالضبط لمَ إخترته؟ ربما من أجل تحاشي ضجيج السلاح؟ أو بتأثير ذلك الكابوس الذي ظل يراودني منذ أيام؟

لم أفهم ذلك المشهد الذي تكرر في كوابيسي الأخيرة.. كأنه كان جنيناً يختنق بحبل المشيمة! ماذا ستفكر زوجتي عندما تكتشف غداً إختفاء حبل الغسيل؟ لابد أنها...لا أدري ماذا جرى لرأسي؟ هنالك خلل بدأ يشوش خيالاتي.. غريب.. في هذه اللحظات الأخيرة من عمري أكتشفت إني قد نسيت تماماً وجه زوجتي!! ما هذا الذي أراه في رأسي.. إنه وجه آخر.. نعم وجه آخر.. من يا ترى؟!

ها أنا أخيراً أتجاوز نهاية الممرات المظلمة. أجد نفسي في القاعة التي يتخذها عادةً حراس الرئيس مقراً لهم في النهار. رغم انطفاء المصابيح إلاّ أن هنالك ضوء شاحب يتسلل عبر النافذة الصغيرة المطلَّة على باحة القصر الجمهوري.

أزحف حتى النافذة فيبهرني القمر البدري وهو يعلو السماء محاطاً ببحر حليبي تطفو عليه نجمة الصباح بقارب من شذرات فجرية. على الارض المحيطة بالقصر تجول مجاميع الحراس هنا وهناك في الشوارع والمداخل والبوابات العديدة.

رغم تعبي فأني أشعر بنوع من اللذة وأنا أكتشف قدرتي على السخرية من جبروت هؤلاء الحمقى. يالهم من سذج وتافهون.. تراهم قد أعدّوا العدة لمواجهة مختلف الطوارئ من هجوم جيوش حتى قصف طائرات، لكنهم أبداً لم يتوقعوا إن هنالك انسان يحبوا مثل جرذ في الممرات السرية في طريقه لأغتيال رئيسهم.

الآن فقط أشعر براحة ضمير وأنا أردد بأنه (رئيسهم) هم وليس (رئيسي) أنا!! لقد تغيرت منذ أن اكتشفت ذلك السر الذي خيَّب كل آمالي وحطَّ من قيمة سيدي الذي كنت أطلق عليه بكل صدق وفخر (الأب القائد)، والذي كرست له كل حياتي من اجل الحفاظ على حياته. بل شخصيتي بأكملها صارت جزءاً من شخصيته. لن أنسى ذلك اليوم الذي وافقت فيه أن أهجر الى الأبد وظيفتي كطيار، لأصبح شبيهاً لرئيسي وسيدي ومالك حياتي. في البدء أجروا لي عدة عمليات جراحية صغيرة لتعديل بعض ملامحي: تصغير الأنف من الأعلى، وتوسيع الحاجبين، وتكبير الشفة السفلى. ثم طلبوا مني أن أتبع نظاماً غذائياً يزيد بضعة كيلوات من وزني.

بقيت خلال أسابيع أخضع لدروس خاصة من مخرج مسرحي، كان يعرض عليًّ أفلاماً وثائقية تصور الرئيس في مختلف الحركات والاوضاع، لكي أدرسها وأحفظها وأجهد من أجل تقليدها بأدق صورة ممكنة. بعدها رحت أشاهد وأستمع الى خطاباته، ثم أقوم بأعادتها مع نفس الحركات ونفس الألفاظ.

بعد ستة أشهر من الدروس والتمارين قابلت خلالها الرئيس مرات عديدة لكي أدرس عن قرب حركاته وملامحه.

في كل مرة كنت أشاهد فيها رئيسي أسترق النظر الى وجهه فأرى فيه الكثير من ملامح أبي، لكني عندما أتجرأ أحياناً وأطيل النظر للحظات كنت بصورة لا إرادية أرى في عينيه نظرات شيطان طفولتي الذي كان يحذرني أبي من أغوائه. حينها كنت أخفض بصري وألعن في أعماقي تلك الرؤى الخطرة. رغم حراجة الموقف إلاّ أني رغماً عني كنت أفكر بنوعية رائحة الكولونيا التي كانت تفوح من وجه الرئيس، وأسأل نفسي إن كانت زوجته الجديدة هي التي بخرَّته بها قبل خروجه؟

كنت أعرف جيداً إن سلاح سيدي الأول والأكبر هو قراءة عيون الآخرين، وما أن يلمح فيها أي بارقة سوء مهما كانت ساذجة فأن مصير ذلك الشخص أصبح في حكم المنتهي.

طيلة سنوات خدمتي المتفانية كان أشد ما يرهبني فيه تلك القدرة الخارقة على قراءة شخصية أي انسان عبر عيونه. كان الرئيس قادر على إكتشاف الخائن حتى قبل أن يفكر بخيانته.. لهذا فأن مبدأه الأول والمختصر لكل وجوده الشخصي والسياسي:

((ليس مؤسفاً أن تقضي على أنسان بريء، بل المؤسف أن لا تجعل منه عبرة لكل من قد يفكر بخيانتك..)).

الآن في هذه الليلة الأخيرة من عمري وبعد كل هذه الأعوام، ورغم كل الأحداث الجسام التي مرَّت في حياتي، فأن صورة واحدة لا زالت تؤرقني وتأتيني كوابيساً مرعبة في نومي وفي صحوتي: عيون الرئيس ونظراته الحجرية التي تجتمع فيها كل معاناة وشكوك وشهوات وحوش التاريخ لحظة انقضاضها على فريستها!!

*   *   *

استمر زحفي الآن نحو غرفة الرئيس التي بان بابها في نهاية الممر. أنا أستغرب إحساسي هكذا بالتعب! صحيح إن عمري دخل الاربعينات، إلاّ أن حياتي العسكرية ورياضتي اليومية تمنحني شباباً وقدرة جيدة على التحمل. ألأغرب من هذا، وبينما كنت أحك عنقي، إكتشفت بأنني مترهل وتتخللني اللغود، كأني كبرت بالعمر فجأة!

على بقايا ضوء شاحب ألمح فوق الحائط صورة الرئيس وهو يطل بوجهه اللامع المتورد بالشباب والعنفوان. شعرت بأسف وقرف لأني أعرف جيداً مدى الزيف الذي تحمله هذه الصورة، إنها تمثل سيادته منذ أكثر من عشرين عام! رغم السلطان العجيب الذي يتمتع به وقدرته الهائلة بالتحكم بحيوات جميع الناس، إلاّ أنه ظل عاجزاً تماماً عن مواجهة الحقيقة الأبدية المتمثلة بسلطان الزمان وجبروت العمر.. درب الحياة المحتم. يمكن أن تغتصب كل أموال وثروات البشر لتضيفها الى أملاكك، لكنك أبداً لن تستطيع أن تضيف الى عمرك ساعة واحدة حتى لو اغتصبت حيوات جميع البشر.. في نداءات الفناء تكمن عذابات كل الطغاة على مر التاريخ!

تذكرت إني بعد الدورة اللعينة على يد ذلك المخرج بدأت القيام بمهمتي على أكمل وجه. كان يتوجب عليَّ أن أكثر التغذية لكي أزيد من وزني بضعة كيلوات. فرضوا عليَّ أن أحلق لحيتي وشاربي كل يوم، وأن أضع على عينيَّ نظارات طبية لكي أبعد عن نفسي أي شبه بالرئيس أثناء حياتي العادية. طبعاً لا أحد يعرف بحقيقة عملي إلاّ زوجتي، فأنا بالنسبة للجميع أعمل في أجهزة القصر الجمهوري، لا أكثر.

كنت أمضي الساعات في احدى مكاتب القصر أساهم مع آخرين بترتيب زيارات الرئيس ونشاطاته. وعندما يتقرر أن أحل محله، يقوم المختص بالتجميل بوضع شاربي الأصطناعي الشبيه بشارب الرئيس وينثر على وجهي بعض المكياج الذي يضيف اليه الاعوام العشرين التي يكبرني بها الرئيس، وهي تقريباً نفس الأعوام التي كان يكبرني بها أبي!

كانت مهمتي تشتمل عدة أمور مختلفة: مثلاً، أكون في السيارة الرسمية بينما الرئيس مختفي في إحدى سيارات الحرس. أقوم أحياناً بزيارة خاطفة لأحدى المواقع العسكرية على جبهة الحرب، وكان المطلوب مني إلقاء بعض الجمل المحفوظة مسبقاً، أن أتحاشى الجلوس والحديث المفصَّل مع القادة لكي لا أجلب شكوكهم الى حقيقة شخصيتي، وخصوصاً إن الجميع قد سمعوا عن شبيه الرئيس. كان المطلوب من المصورين في هذه الحالة التقاط صوري من بعيد.

رغم المخاطر التي تعرضت لها والجرائم التي إضطررت أن أشارك بها، ألاّ أنه خلال العامين الأوليين عشت في بحبوحة وأنتشاء وأنا أمارس متعة السلطة والنفوذ على الجميع، عدى الرئيس طبعاً، فهو الوحيد في الوطن كله كان قادراً على تجاوز سلطتي بل إلغائها تماماً وروحي معها إن شاء!

وأشد ما كانت تزعجني تلك الهواجس التي كانت تأتيني على شكل كوابيس أحياناً منذ أن توصلت الى تلك القناعة الجنونية بأني قادر على تصفية الرئيس والإحلال محله من دون أن يعرف أي أحد بذلك!!

كنت أجهد بصورة دائمة من أجل اتقان دوري والحفاظ على قوة أعصابي في أشد الحالات حرجاً. وكنت عند أي تقصير أتعرض لتوبيخ مباشر من سيادته. ثم يأمرني بالبقاء تحت إمرة ذلك المخرج اللعين من أجل تعليمي السيطرة على ذاتي وعدم الانقياد للعواطف "الخنثوية" على حد تعبير سيادته. حينها وعندما كنت أخفض بصري خجلاً أرى حذاء الرئيس يقدح من الغضب!

كنت أقف أمام المرآة لساعات محدقاً بوجهي وعيوني وأنا أردد:

ـ ((أنا الرئيس أنا الرئيس أنا الرئيس...)).

بدأت أقرأ جميع كتاباته وخطاباته حتى إني حفظت الكثير منها مثل أي قصيدة. كنت أسهر الليالي بمشاهدة أفلام الفيديو التي تعرض جولاته وخطاباته. بدأت أدرس حركاته بكل تفاصيلها وأقوم بتكرارها مرات ومرات حتى أجد نفسي في الصباح مستلقياً على بلاطات بيتي وزوجتي فوق رأسي توقظني وهي تتسائل عن سر عذابي.

مع الأيام بدأت شخصية الرئيس تتقمصني حتى غطَّت تماماً على شخصيتي. تأتيني ساعات كنت أنسى خلالها ماضيي الشخصي ليحل محله ماضي الرئيس نفسه الذي عرفت بعضهُ من خلال ماسمعت وما قرأت عنه هنا وهناك.

لكن العجائب راحت تتكاثر في الاعوام الاخيرة. كنت أندهش أن تأتيني أحلام فيها أحداث وأماكن وأشخاص ليس لهم أية علاقة بحياتي الشخصية السابقة. وعندما بحثت وجدت إنها كانت جزءاً من ماضي الرئيس! مثلاً أنا لم أرَ مدينة الرئيس الأصلية في حياتي كلها، وذات يوم قمت بزيارتها وإذا بي أكتشف إنه سبق وأن عرفت الكثير من معالمها ودروبها من خلال أحلامي! وتصاعدت فيَّ الرغبة حتى إني ذهبت الى القرية التي كان الرئيس قد أمضى طفولته فيها، وإذا بي من دون معونة أتجول في أزقتها وكأني عشت فيها لسنوات وسنوات!!

*   *   *

الآن فقط، وأنا أزحف في الظلام الدامس، أنتبه الى نفسي إنه طيلة الوقت كنت أرتدي بدلتي العسكرية! بل، يا ألله، تحت ضوء القمر أرى إني أرتدي بدلة الرئيس.. نعم بدلة الرئيس بنجومها ونياشينها وصقورها، التي لا يحق لأي انسان ارتدائها إلاّ في المهمات المحددة وتحت إشراف الجهاز الخاص. ثم كيف تمكنت من الحصول عليها، وما الذي دعاني الى ارتدائها في هذه الليلة بالذات!؟ إني حائر.. ثمة أمور كثيرة غريبة ومبهمة لا أجد لها أي تفسير!

فكرت إنه لا بد أن أكون متوتراً الآن وأعاني من بعض الهذيانات التي أربكت حياتي وسيطرت على سلوكي. حالتي النفسية بدأت تتأزم منذ ذلك اليوم اللعين الذي اكتشفت فيه ذلك السر الذي قلب حياتي رأساً وهدَّم كل البناء الذي شيدته خلال سنوات طويلة من التضحية والاخلاص لرئيسي وسيدي.

في ذلك اليوم الذي فوجئت فيه يقدمون اليَّ رجلاً تصورته الرئيس نفسه، لكنهم قالوا لي إنه شبيه جديد سوف أشاركه مهماته. طلبوا مني الاشراف على تدريبه وتحسين مستواه من اجل مشاركتي في عملي، وخصوصاً بعد ازدياد المخاطر التي راحت تهدد حياة سيادته والحاجة لأكثر من شبيه كي يقوم بتأدية المهمات الكثيرة المطلوبة.

لا أدري كيف أغطي خيبتي وأنا أشاهد ذلك البائس الجديد الذي يحاول أن يشاركني في دور حياتي، ويغتصب مني شخصيتي أنا، روح رئيسي التي أصبحت روحي أنا. والأنكى من هذا إن اللعين كان ممثلاً متخصصاً وداهية بتقليد شخصية الرئيس بأتقان فائق يثير الاعجاب، حتى إنه جعلني أشعر بضعفي وهرمي على دوره.

كان تشابهه مع الرئيس يتجاوز المعقول، ورغم إني أشرفت على تدريبه ولكني كثيراً ما كنت أشتبه به وآخذ له التحية معتقداً إنه الرئيس. كان اللعين يسخر مني ويمارس دوره ويصدر لي بعض الأوامر، ثم بعدها يضحك مني أمام الجميع.

صحيح إنه كان شاباً وديعاً وطيب القلب ويتقن النكتة، إلاّ أنه رغماً عني قد غلبتني غيرته. لم أتمالك السيطرة على فرحي عندما بلغني فجأة خبر اعدامه السريع من دون محاكمة وبأمر حازم من الرئيس. لم أفهم ماهي جريمة هذا الشبيه الأحمق. جميع الذين سألتهم تلكأوا وتهربوا من الموضوع!

إن حادثة اعدام الشبيه الجديد جعلتني أتوغل في متاهات جهنمية لم أكن أحسب لها أي حساب طيلة السنوات السابقة. ذات ليلة تجرأت وفتحت خزانة مدير المكتب الخاص وبحثت في الأضابير السرية الخاصة بنشاطاتهم. من خلال التقارير العديدة تبين لي إن الرئيس بدأ يستخدم الشبيهين به منذ سنوات طويلة، وإن هنالك أربعة قد سبقوني في عملي، والعجيب إنَّ أربعتهم قد تم اعدامهم أو اختفوا من الوجود بحوادث مؤسفة حسب تعبير التقرير، وإن ذلك المسكين كان خامسهم!

كان بالأمكان أن تبدو مثل هذه المعلومات عادية ومتوقعة، لولا إني ما اطلعت أيضاً على ذلك التقرير المدموغ بعبارة (سري وخاص جداً). كان يتحدث عن بضعة محاولات قام بها بعض الشبيهين بالتخطيط لأغتيال الرئيس وإخفاء جثته ليحل محله من دون جلب الانتباه! لم يذكر التقرير كيف تم اكتشاف هذه الخطة! بعده مباشرة يتحدث تقرير آخر عن أخبار سرية تذكر إن هنالك صراعاً صامتاً بين عدة مخابرات عالمية تعمل على استخدام الشبيه من اجل إزاحة الرئيس وفرض رَجُلَهُم الشبيه المطلوب!

إن اطلاعي على هذه الحقائق الخافية كانت بمثابة عاصفة اجتاحت كياني وألهبت غابة روحي. اندلعت نيران شكوك عاتية وأسئلة جامحة تؤدي الى أسئلة وأسئلة تتمحور حول الاستفهام التالي:

من يضمن بأن أي من هؤلاء الشبيهين ما نجح بخطته وتمكن من أن يحل محل الرئيس؟ إذن من المعقول جداً إن الرئيس الحالي ليس هو الرئيس الحقيقي.. بل هو أحد أشباهَهُ ممن تمكن من قتله واحتلال محله من دون علم أحد! بل من المعقول أيضاً ومن الممكن جداً إن الشبيه الذي أزاح الرئيس الأصلي قد تم إزاحته هو أيضاً من قِبَلْ شبيه آخر، وهذا يفسر كثرة إعدامات الشبيهين!!

عند هذا الأستنتاج الجهنمي شعرتُ بأن الأمور قد خرجت عن سيطرتي وتجاوزت حدود المعقول. إذن أنا لست أكثر من شبيه لشبيه لشبيه.. لا أحد يعرف الى أي حد! إنني دمية تحركها دمية تابعة لدمية حتى اللا منتهى؟!

*   *   *

ها أنا أبلغ أخيراً غرفة سيدي. إني أستغرب، رغم وجود أربعة أبواب متقابلة، إلاّ أني من دون تردد إتجهت الى الباب الثاني الايسر وكلّي يقين إنه باب غرفة الرئيس! أعرف إن المسألة ليست مسألة حدس، بل ثمة يقين عميق في دواخلي وكأني أعرف المكان جيداً وإني دخلت الى غرفته الشخصيه هو.. ياله من هذيان!؟

رغم الصمت المظلم إلاّ أني أسمع وابل مطر يهطل مِدراراً على قلاع روحي، وريح هوجاء تعصف ببوابات قلبي، وثمة رعد رعديد، يا ألله، يهدر جباراً كاسحاً لايرحم أحشائي الجريحة، فترتج بين أضلاعي صرخات خرساء لا تسمعها إلاّ  تلك الأرواح الكونية الحائرة مثلي.

إني لم أتخذ قرار الاغتيال هذا إلاّ بعد أن أصبحت على قناعة كاملة بأنه يكفيني ترك شاربي الحقيقي ينمو، حتى أكون قادراً تماماً على خداع الجميع. اكتشفت إن حيّز الحرية الذي تركوه لي لكي أحافظ على شخصيتي الاصلية، ليس حباً بي، بل لكي يمنعوني من التفكير بأي مشروع شرير.. من أجل أن أظل دائماً أحمل علامة خاصة تميزني عن الرئيس. كم ضحكت مع نفسي عندما علمت إن الرئيس قد منح الصلاحيات لحراسه بأن يمسكوه من شاربه عند ظهور أية بادرة تدعوهم للشك بأنه الشبيه!

خلال لحظات سأشرع بتنفيذ الخطوة الأخيرة من خطتي الجهنمية: سأدخل غرفة نوم سيدي ثم أخنقه بحبل الغسيل، وبسرعة أحلق شارب الرئيس وأضع على وجهه بعض المكياج ليبدوا مزيفاً، ثم أضع عليه ثيابه الرسمية وفيها أوراقي وهويتي الشخصية، بينما أضع أنا أوراق وهوية سيدي في جيبي. بعدها أنادي الحراس وأطلب منهم أن يأخذوا جثة هذا الخائن الى عائلته، أي الى عائلتي طبعاً، لكي يدفن في قبره وعلى شاهدته سوف يكتبون إسمي أنا!

لكني الآن لم يكن يهمني أن أنجح حتى النهاية لأحل محل الرئيس. كل الذي يهمني الآن أن أغتاله فقط. منذ اكتشافي لذلك السر الرهيب وأنا أعاني من أحاسيس الخيبة والأحتقار لنفسي لأني هدرت كل هذه السنين في التشبّه برئيس أحمق هو نفسه شبيه لشبيه. الآن قد حلت ساعة الانتقام من هذا الكائن الزائف الأحمق الذي زيَّف حياتي وحياة الوطن بأكمله.

لا زلت أزحف وسط الظلام الدامس وببطئ شديد نحو سرير الرئيس. كنت أتوقف بين حين وآخر من أجل أن أتنصت الى أنفاسه. مع اقترابي الشديد رحت أسمع أنفاس الرئيس تمتزج مع أنفاسي أنا! عند بلوغي حافة السرير امتدت يدي في الظلام ولمست بوجل كتف سيدي. ثم سحبتُ يدي ونهضتُ واقفاً وبهدوء مرتعب فككت الحبل من حول بطني. لم أسأل نفسي عن سر هذا الاصرار غير المعقول باستخدام حبل الغسيل بدلاً من سلاح أسهل مثل السكين أو المسدس الكاتم. فتحت انشوطة الحبل التي كنت قد هيأتها بدقة وجربتها مرات عديدة حول عنقي. إنحنيت على الرئيس وأنا أكتم أنفاسي، وما إن شعرتُ إن يدي اقتربت من رأس سيدي أدخلتُ الانشوطة بسرعة حول رأسه حتى العنق دون أن أترك حتى ولو ثانية واحدة لأية ردة فعل محتملة.. سحبتُ الحبل بكل قواي حتى سقطت به على الارض. خلال زمن لم أدرك كنههه ملأتْ الفضاء حشرجات مختنقة مستنجدة لاهثة متوجعة حتى هجع الجسد وساد الصمت المطبق!!

بسرعة نهضت وأضئتُ المصباح ونظرتُ مباشرة الى السرير.. كانت المفاجأة: نعم هنالك جسد رجل ميت.. جاحظ العينين بملامح ميتة مرتعبة ولسان متدَّلي.. لكنه ياللعجب لم يكن الرئيس بل رجل آخر يشبهه!! كان بلا شارب لأن الشارب المصطنع ساقط الى جنبه. كيف حصل هذا؟ من دون أي تفكير مددتُ يدي نحو شاربي أنا لأقتلعه..!!

هاهي المصيبة قد حلت حينما وجدتُ إني لم أتمكن من أقتلاع شاربي، بل بكل بساطة كان شارباً حقيقياً ثابتاً صلباً متجذراً في وجهي منذ الأبد!!

رحتُ أتلفَتْ الى المرآة المثبتة على باب الدولاب وأنظر الى وجهي:

إنه وجه الرئيس الحقيقي تماماً بلا أي مكياج، فيه نفس تجاعيده، ونفس شاربه، بل نفس العيون الصقرية والحواجب النسرية والشعر الفاحم المصبوغ والزغب الأشيب....!!؟؟

حينها انطلقت من أعمق أعماقي صرخة معتوهة إرتجَّ لها جدار القصر الجمهوري وانتشرت أصدائها عبر سموات الوطن وأنهاره وصحاريه وجباله:

ـ يا إلــهــــي مـــــن أنـــــا!!؟؟

الفصل الأخير

من حياة انسان اسمه صدام(*)

جنيف ــ بغداد 2000

هنا صورة رقم 17

عزيزي صدام،

أنت ترى إني لا أخاطبك بـ (سيدي الرئيس حفظك الله) كما تعودت من أتباعك، بل أخاطبك كأنسان أولاً وآخراً. إن الذي حفَّزني للكتابة اليك وعنك، هو اطلاعي على تصريحاتك الاخيرة عن رغبتك بكتابة قصة حياتك بنفسك. لهذا فأني قررت الأسهام معك بهذا المشروع، ليس لنزوة خاصة، بل لأنك منذ أعوام طويلة مسؤول عن مصير شعبي، ولأن الكتابة عنك هي بذات الوقت الكتابة عن أخطر مرحلة عاشها الوطن. ها أنا أكتب اليك الفصل الأخير من حياتك، أما الفصول السابقة، فكما تعرف جيداً، إنك سبق وإن كتبتها بدم الناس ودموعهم..

*   *   *

ذات فجر ليس ببعيد ستستيقظ يا صدام على فراشك في القصر الجمهوري، ولا تزال طرية في رأسك بقايا كوابيس عبثت في روحك طيلة الليل. كعادتك من دون تفكير ستمتد يديك وتضغط الزر كي يأتيك حارسك. ستفكر بترددك أمس أن تمضي الليلة هنا، أم في أحد قصورك أو مخابئك الأكثر أماناً. ستبقى مستلقياً بين الاغفائة والصحو محاولاً استعادة بعضاً من مشاهد كوابيسك. كانت كلها مشوشة ومتقطعة وغامضة، وستحس بانقباض ثقيل يهيمن على روحك، فلا زالت حية في أعماقك أصداء استغاثات احتضاراتك وتوهجات عيون ضباع وغربان تنهش بعالمك.

عندما ستنساب عيناك نحو السقف بلونه الوردي، ستشاهد أحداث كوابيس ليلتك: صحراء تمتد بلا منتهى، مزروعة بقبور تجول في أنحائها ضباع مسعورة تنهش بأشياء غامضة، وفي سمائها المكفهرة بغبار العراق الاحمر تحوم غربان سود فوق طوفان جبار. وهناك في البعيد، شاهدت ياصدام أمك منتصبة بين القبور بقامتها الشامخة وملامحها الصارمة ونظراتها المهيمنة وهي تمد كفيها نحوك وتناديك بصوت آمر حنون:

ـ تعال يا وليدي تعال.. أنا أمك صبحة.. تعال عيني تعال.. هنا بصدري وبين أحضاني أخبيك من الضباع والغربان وأحميك من الطوفان.. تعال يا وليدي تعال..

حينها يا صدام وأنت في سرير كابوسك سترتجف على غير عادتك وتغمض عينيك هرباً من رؤى ليلتك، بينما يضج رأسك بأنشودة كونية باكية من عويل ضباع ونعيق غربان ونحيبك أنت صارخاً في البرية مناجياً أمك الشامخة بين القبور:

ـ يمى.. يمى.. آني جاي.. يمى اخذيني آني جاي...

ستنتبه إلى أن الحارس لم يأتك بعد، فتضغط الزر مرة ثانية وثالثة بغضب. هذه المرة الأولى التي يتجرأ فيها على التأخر!

ستتذكر أنك عطشان فتفكر بأن تطلب كأس حليبك الصباحي المعتاد الساخن والمحلى بالعسل. ستشرع بالتمطق بلسانك متخيلاً طعم الحليب فتنبثق صورة أمك وهي تعاتبك على أمر غامض لا تتذكره. حينها سيعود من جديد كابوس الطوفان الكاسح والضباع التي كانت تطاردك فتحس بالقرف. تضغط الزر وتصرخ منادياً أتباعك:

ـ لك هاي وينكم.. ماكو أحد؟!

ستسقط رأسك على المخدة بينما يدك مستمرة على الزر. هذه المرة الأولى في حياتك تحس بهذا القدر الهائل من الكآبة والانقباض؛ فتفكر بأنك ربما مريض، وستستعيد بعض أحداث يوم أمس التي قد تكون ساهمت بتعكير مزاجك، عندما استلقيت على فراشك في حوالي الحادية عشر مساءً، تذكرت قائمة المحكومين بالإعدام، فناديت على حارسك أن يجلبها لك، ثم عاينتها مرة أخرى وترددت إزاء اسم ضابط شاب أصله من نفس قريتك. تذكرت أمه التي كتبت لك طلب استرحام وذكرتك بأنها الطفلة الوديعة التي كانت تلعب معك أيام الطفولة. رغم ذلك فإنك وقعت على كل الأسماء وألقيتها إلى حارسك ثم تصفحت الجريدة وغفوت.

لكن حارسك ما زال غائباً، حينها ستستغرب الأمر وتتصاعد فيك مشاعر شك غريب، فتتناول مسدسك وتقفز من سريرك، بدشداشتك البيضاء التي احتفظت بعادة النوم بها منذ طفولتك. ستتجه نحو الباب وأنت تصرخ على الحراس فلا من مجيب.. لا أحد.. لا أحد! في الحمامات وفي الممرات وفي القاعة الكبيرة.. لا أحد.. لا أحد! تفتح النافذة المطلَّة على باحة القصر.. لا أحد! ستبدو أشجار الحديقة وعشبها متيبسة ومصطبغة بحمرة الفجر المتوهج عند ضفاف نهر دجلة. لا أحد غير كلاب تسرح هنا وهناك.. ستستغرب من المشهد: الكلاب الكلاب ماذا تفعل!؟ عندما تتمعن جيداً ستكتشف هول الكارثة: إنها ليست كلاباً بل ضباعاً. نعم، ضباع! حينها، ستجتاحك رجفة كالصاعقة وتسري قشعريرة حمى في روحك، مدركاً تلك الحقيقة المرعبة: إن كابوسك لم يكن حلماً، بل ها هو يتجلى أمامك واقعاً أجردَ لا يرحم، عليك أن تعيشه حتى نهايتك المحتمة!

ستزفر بقوة وتصرخ:

ـ ولكم وينكم يا جماعة.. ماكو أحد.. ماكو أحد؟!

لا أحد.. لا أحد سيجيبك يا صدام.. صرختك ستتردد في أرجاء الفضاء ليعود صداها ممتزجاً بعويل ضباع ونعيق غربان. من دون تفكير سترتمي على الهاتف وتبدأ الأتصال بأتباعك، فلا من مجيب.. ترن الهواتف فتصدح في أذنك معتمة خانقة. حينها ستفكر بزوجتك (أم عدي) وأبنائك، فتتصل بجميع هواتفهم، فلا من مجيب. وعندما تغمض عينيك ستشاهد داخل رأسك خاوياً يصدح بنواحٍ موحش يذَّكرك بندابات الوطن؛ فترمي الهاتف وتقفز نحو السلم لكي تهبط، لكنك ستتردد كثيراً. ستركض مرتعباً في ممرات القصر وأنت تصرخ:

(ما كو أحد.. ماكو أحد))، فلا تسمع غير صدى استغاثاتك.

*   *   *

بعد زمن من الدوران في متاهات قصرك الجمهوري سوف تتعب وتجد نفسك فحطاناً مجهداً على حافة إحدى النوافذ. ستشاهد تحتك نهر دجلة تفيض مياهه حمراء فوارة. سوف تكتم أنفاسك وأنت ترى بغداد تمتد على مدى البصر والدخان يتصاعد من بقاياها الغريقة. لا شيء غير الطوفان وحشود ضباع وغربان تحوم منذرة بالكارثة.

حينها ستلمح سيارة (بيك آب) واقفة تحت الشرفة. ستتناول إحدى الرشاشات المهجورة وتهبط بسرعة. عند الباب المطّل على الخارج سترتمي عليك الضباع، لكنك ستفتح رشاشك عليها من دون أن تنتبه أنها لم تكن تبتغي مهاجمتك، بل الالتفاف حولك مثل الكلاب حول سيدها. ستطلق رصاصك نحو الأرض والسماء، وأنت تصرخ وتهاوش، وتقفز نحو السيارة وتقفل الباب عليك، وتنطلق بها بسرعة عاصفة، ساحقاً في طريقك ضباعاً وغرباناً صَدَمَتْ الزجاجة الأمامية ولطَّختها بالدماء.

لا تدري أين تتجه.. لا تفكر إلاّ بالابتعاد عن مياه الطوفان الزاحفة التي تغمر كل الطرق. ستندهش وأنت تشاهد من بعيد نصب الجندي المجهول قد اختفت منه قبته الخضراء المشطورة، ومقر القيادة القومية يتعالى منه الدخان. ستفكر أن تتجه شمالاً إلى مدينتك (تكريت)، لكن الطوفان القادم من الشمال يغلق الطرق والجسور. تجد نفسك تتجه نحو الجنوب وتسلك طريق المطار الدولي. لا أحد.. في كل مكان لا أحد غير الضباع والغربان والطوفان المتصاعد. يا ألله.. كم سيبدو لك آنذاك الوطن كئيباً موحشاً بلا إنسان. لكنك أيضاً ستعترف في تلك اللحظة برغبة دفينة ما ظننت من قبل أنها ستظهر يوماً هكذا ساطعة صريحة: هذا هو الوطن الذي كنت تريده منذ أن وطأت روحك أرضه. نعم، أرض قاحلة بلا حياة أو بشر إلاّ من عويل ونعيق وخواء، وطن من موت! لولا ارتباكك لما ترددت حينها أن تطلق صرخة انتشاء راحت تصول في أعماقك.

ولن تعير أي اهتمام لبقع الدم المنتثرة داخل السيارة والقيود المرمية إلى جانبك؛ لأنك تعرف بأنها تابعة لإحدى مجموعاتك الخاصة. ستشعر بتفاقم انقباضك وتشاؤمك.. حينها ستتذكر فكرة لعينة سبق لك أن قرأتها في صحيفة ولم تهتم لها حينئذ: إن الموت لا يفاجئ الإنسان أبداً، بل نحن نستعد له ونرغب به قبل أشهر من حدوثه! لا تدري لماذا عادت إليك فجأة هذه الفكرة؟ ستستعيد هواجس الموت التي راحت منذ أشهر تنمو في روحك مثل نبتة أخطبوطية تمد فروعها بين شرايينك، ستستعيد كل علاقتك التاريخية مع الموت، ستتذكر ذلك الطبيب النفسي الذي استشرته منذ فترة عن سر الكآبة التي راحت تنمو بطيئة في أعماقك. بعد جلسات عديدة، انْخَدَعَ بكلامك وإصرارك على معرفة السبب، فَصَرَّحَ لك بالحقيقة التي تحاشيت سماعها طيلة حياتك:

ـ أنت يا سيدي تعاني من هوس الرعب، ليس من الموت، بل من الحياة. أنت تدرك في أعماقك وقبل ولادتك أنك طفل غير مرغوب به.. الله زرعك في بطن أمك من دون مشيئتها. جئت الحياة رغماً عنها، وبقيت أنت دوماً رمز عشقها الخائب وحبيبها الغائب؛ ولهذا يا سيدي عليك أن تتصالح مع الحياة، إن سر كآبتك أنك بدأت تدرك أن أوان التصالح قد فات و...

وقبل أن يكمل كلامه صمت عندما رأى نظراتك قد استحالت إلى حجر. بقيت أنت صامت ولم تجبه، بل أشرت له برأسك أن يغادر، لكنه كما تعرف غادر ولم يعد إلى بيته أبداً، بل ما زال هناك يرقد في بقعة مهجورة من أرض الوطن المنثورة بقبور ضحاياك.

ما لم يدركه ذلك الطبيب الساذج أنه كشف لك نصف الحقيقة؛ لأن النصف المتبقي هو الذي تسبب بإعدامه: إنك يا صدام، بخلاف الأطفال غير المرغوب بهم، لم تنمُ فيك مشاعر الذنب باعتبارك ضيفًا طارئاً على الحياة، بل على العكس، فأنت نجحت بتحميل الآخرين خطيئة وجودك الطارئ، واستحالت مشاعر الذنب فيك إلى حقد مسعور ضد الحياة بأكملها. تمكنت أن تجعل الحياة هي الطارئة على الوجود وأنت هنا ماحق الأرواح وصانع الدمار؛ لأنك تعيش الموت في داخلك، والإنسان الحي بالنسبة لك هو الإنسان الميت. هذا بالضبط المعنى الأصيل لقولك الشهير:

ـ ((إذا أرادوا يوماً أن يأخذوا العراق؛ فإنهم سيجدوه أرضاً بلا بشر...)).

أنت يا صدام تحلم بأرض بلا حياة، بوطن بلا إنسان!

*   *   *

كم سترغب وأنت في الطريق إلى بابل، أن تدخن سيجارك الكوبي الذي ظل صديقك الوفي كاسترو يبعثه لك دائماً. لكنك عندما تفتش في ثنايا السيارة ستجد علبة سجائر أجنبية وبضعة أشرطة أغاني وقنينة عرق (مستكي). سوف تدخن وتحتسي (العرق) وأنت تستمع إلى الأغاني العراقية الحزينة وسيارة البيك آب منطلقة بك في أقصى سرعتها.

رغم الكآبة المهيمنة على نفسك؛ فإنك لن تشعر بالحزن، بل بنوع من الرغبة الجيّاشة لبلوغ غاية كنت تنتظرها منذ زمن بعيد. رغم محاولتك أن تتساءل عن مصير عائلتك وأبنائك وأتباعك إلاّ أن صورة أمك ستظل هي المهيمنة على شاشة رؤاك. ستنساب منك، ولأول مرة، دموع حارة صادقة وأنت تستعيد طفولتك القاسية اليتيمة.

كانوا يسخرون منك ومن أبيك الغائب ومن أمك البعيدة. لكن أمك علَّمتكَ كيف تسكت تلك الألسن الوقحة والأفواه المهذارة. علَّمتكَ أول درس بالتعامل الحاسم مع البشر. حينما أتيتها باكياً وأنت صغير؛ لأن أحد أصحابك عَيَرَّكَ بأبيك وبيتمك. صرخت بك أمك أن تسكت وتنتظر. بعد قليل نادتك إلى الحجرة فوجدت ابن الجيران عارياً يبكي وهو مكبل بالحبل. أعطتك أمك شيشاً محمياً وطلبت منك أن تحرقه من خلفه. وبعد تردد حرقته وأنت تشعر بلذة لم تفارقك حتى الآن. منذ ذلك اليوم ارتبط تعذيب الآخرين لديك بلذة الأمومة وحنانها!

عبر نافذة السيارة ستشاهد الضباع ما زالت منتشرة في أنحاء الوطن. ستراها مستمرة تحدق فيك بألفة وخنوع مثل الكلاب، لكن ذلك لن يمنعك من الاستمرار بسحقها بسيارتك، وأنت تدمدم بشتائم غاضبة مصحوبة بذكريات انبثقت من أعماق طفولتك البعيدة. ستتذكر جيداً ذلك الفجر عندما كنت في الطريق الذي يربط بين قريتكم ومدينة تكريت. مسافة ساعات من المسير كنت تقطعها يومياً من أجل المدرسة. كنت تخطو في طريق المدرسة وحيداً حزيناً، تفكر بأبيك المفقود وأمك الغائبة وخالك القاسي الذي ما زالت آثار صفعاته على وجهك وكلماته الجارحة الشاكية من أمك التي كان يقول عنها: "أختي المصيبة". كنت تشعر بشتائمه ضد والديك تحفر في قلبك الطفولي جراحاً أقسى بكثير من صفعاته الحامية.

فجأة وجدت نفسك وحيداً بين الضباع. أحاطتك وأنت لا تملك غير (المگوارـ العصا) وسكين سرقتها من الجيران. ضربت هنا وهناك وقاومت ببسالة. انتثرت كتبك ودفاترك. صَرَعْتَ ثلاثة منها وأنت تهاوش وتناوش بمگوارك وسكينتك وتعض بأسنانك. لكن الضباع كانت كثيرة.. نعم، كثيرة، وأنت وحيد يا صدام، بلا أم ولا أب، ولا حتى إنسان يحميك ويحنو على طفولتك المنبوذة المعذبة.. لا أحد.. أنت وحيد بين ضباع غدّارة تكالبت عليك وراحت تنهش بلحمك، وأنت تصرخ وتصرخ حتى فقدت تماماً إحساسك بأوجاع لحمك المنهوش. لم يبق لك غير أن تفقد كل أمل بالمقاومة وتسلّم مصيرك إلى القدر المحتوم فتتكورعلى نفسك حاشراً رأسك بين أحضانك.

لكنك في اللحظة الأخيرة التي كنت فيها تفقد تماماً كل قواك، وأنت تحس بأحد الضباع يحاول أن يبعد بفكَهُ يدك لينهش وجهك، شممت رائحة العفن والموت من لعابه الذي بللك. فجأة ومن دون أي سبب واضح تذَّكرت أمك.. نعم، تذَّكرت أمك وتذَّكرت معها الحقيقة التي سوف تقلب كل حياتك: إنك أبداً لن تأسف على نَفْسكَ أن تلتهمها الضباع، لكنك تأسف كل الأسف أن تموت من دون أن تضع رأسك في أحضان أمك. فقط  أن تضع رأسك على صدرها وتتغطى بفوطتها وتشم رائحة شعرها الحني، بعدها سوف لن يهمك أبداً أن تنهش بدنك كل آفات الكون. فقط عندما تذَّكرت أمك في تلك اللحظة بدأت تحّس لأول مرة بأوجاع أنياب الضباع. من دون أن تدري كيف سرى فيك نبض الحياة ومن أين أتاك ذلك الجبروت؛ لكي تنهض وتنتفض وتطلق صرخة وحشية متفجرة من أعمق أعماقك، ومفعمة بكل مكنون كيانك:

ـ يمى.. يمى تعاليلي.. يمى خلصيني..

كانت صرختك من العنف بحيث إن الضباع نفسها لم تعرف مثيلها أبداً حتى تجاوز تأثيرها حدود المتوقع، فما كان منها إلاّ أن تبتعد عنك قليلاً فقليلاً وهي ترمقك بنظرات غريبة ليس فيها أي أثر للنهم والافتراس، بل فيها الكثير من التودد والخنوع. حتى الآن لم تجد التفسير المعقول للأمر. هكذا حدث لك، ذلك أنت الفتى المنهوش الثياب والبدن والروح، المعَّفر بالدم والتراب وبقايا الضباع. لم تكن تشعر بأوجاعك، بل كان يغمرك إحساس لذيذ بأنك خرجت تواً إلى الحياة؛ إن ولادتك الحقيقية قد بدأت الآن بين أنياب الموت وغدر الحياة.

منذ ذلك اليوم لم تشعر أبداً بالخوف وأنت تسلك طريقك وحيداً؛ لأنك تيقنت في أعماقك أن الضباع صارت تهابك، وأنك لن تهابها أبداً في حياتك. صارت عندما تراك تلهث وتحوم حولك مثل الكلاب، وأنت تعاملها بكل احتقار. منذ لحظة نجاتك أدركت أنك امتلكت تلك القوة الروحية التي تؤهلك للسيطرة على كل الضباع، بل حتى على الرجال الذين يشبهون الضباع.

 

*   *   *

هكذا كما ترى يا صدام أن القسوة لا تخلق إلاّ القسوة مثلما الموت لا يخلق إلا الموت، فمنذ أن نجوت من تلك النهاية المحققة عرفت أن ملاك الموت قد عقد اتفاقه الأسطوري معك: عليك أن تقدم له القرابين لكي يؤجل حتفك، تقدم له الأضاحي كل يوم كي يتركك حياً. لقد أصْبَحَتْ متعتك الكبرى أن تنتقم من الحياة. أن تستمد حياتك من موت الآخرين وقيمتك من عذاباتهم. وعندما كان يشتد بك الحنين إلى أمك، وتزيد الحياة من قسوتها عليك، كنت تلجأ إلى الحيوانات. وجدت عزاءك في تعذيب القطط والكلاب. تلاحقها وتضربها وتنصب الشباك لاصطيادها، ثم بالفأس تكسر أقدامها وترجمها وتسحلها وتحرقها، وبعد أن تتعب منها كنت تلقيها في المستنقعات، وتمضي الساعات بمشاهدة عذابات غرقها واحتضارها. بعدها تحس بالراحة والأمان. بعض الأحيان كنت تأخذ تلك القطط والكلاب الجريحة وتلقيها إلى ضباعك التي تسرع إلى نهشها بدون رحمة.

حتى في الأيام التي كنت تمضيها قريباً من أمك في بيتها، كنت تعاني من ويلات العذاب وأنت تراها مع رجل آخر غير أبيك الغائب، وتجبرك على رعاية أولئك الأولاد الذين كانت تقول لك إنهم إخوتك.. لكن يا إلهي إن أباهم ليس أباك! لم تنسَ ذلك الحادث عندما كنت مع أخيك الأصغر برزان على شاطئ دجلة. كم أحسست بلذة وأنت ترقبه وهو مشرف على الموت غرقاً. بقيت جامداً في مكانك قابضاً على الطين تصنع منه كائنات ثم تقطعها وتسحقها، لولا ظهور أمك المفاجئ لتركته يغرق. عندما رأيتها اصطنعت الارتباك ورميت نفسك إلى النهر وأنقذته. لكن أمك أدركت الحقيقة، ومن دون أن تعاتبك قررت أن تبعدك عن إخوتك؛ فأرسلتك عند خالك في بغداد.

لكن الحياة في بغداد جعلتك تدرك أن الضباع يمكن أن ترتدي جلود بشر. لم تستقبلك هذه المدينة بأحضانها ومباهجها كما كنت تنتظر، بل رفضتك بكل قسوة وأطلقت عليك أحكامها الجائرة وأنت الريفي اليتيم؛ كان الأولاد يسخرون من شكلك ومن لهجتك ومن ثيابك، بل حتى اسمك جعلوك تكرهه، وكم رغبت بشدة أن تغيره. لكنك بفضل أمك أدركت أنه يناسبك تماماً. قالت لك بثقة: ياوليدي هو (اسم على مسمى)، حتى أقنعتك أنك حقاً الفتى الصادم والضارب والماحق للحياة. في بغداد أدركت أنه ليس هنالك ضباع تنتظرك في الطرق، بل هنالك بشر أشد فتكاً وغدراً من الضباع ينتشرون في كل الطرق وزوايا الحياة. فعرفت أنك لكي تظل حياً فعليك تدجينها مثلما دجنت ضباع تكريت... أن تحولها إلى كلاب ذليلة مطيعة؛ ولهذا فإنك حافظت على حمل السكين، بل رحت تحمل معها أيضاً مقبضاً حديدياً مسنناً، مزقت به عشرات الوجوه، ونشرت الرعب في المدرسة وفي المنطقة؛ حتى راح يهابك الجميع، صغاراً وكباراً، بما فيهم المدرسون أنفسهم. أحطت نفسك بمجموعة من الأتباع الضباع تمارس عليهم سطوتك وجبروتك لينهشوا بلا رحمة من تشاء.

ما إن قويَ عودك حتى طلبت من خالك مسدساً وأبديت له استعدادك أن تقتل أحد أعدائه من الشيوعيين وهو من أبناء عمومتكم. عندما أفرغت رصاصاتك في جسمه وسقط أمام بيتهم وبدأت زوجته بالصراخ والنحيب، أحسست حينها يا صدام بلذة غريبة، وفي نفس اليوم وأنت مختبئ في أحد بساتين دجلة اكتشفت لأول مرة نشوة رجولتك وأنت تستعيد مشهد نزيف الضحية ونحيب الزوجة!

*   *   *

وأنت في السيارة تشق الطريق إلى بابل، ستتأفف من كل تلك الذكريات يا صدام. لم تكن تهتم في طريقك لمعاينة المدن والقرى المتناثرة؛ فهي تشبه بعضها بعضاً مهجورة بائسة كئيبة تسرح بطرقها الضباع وتعلو سماءها الغربان والدخان. لكن فجأة سيسودك شعور كأنك بلغت مرامك، وأنت تجد نفسك أمام مقبرة النجف. ستشعر كأنه سبق لك معرفتها، رغم أنها المرة الأولى التي تراها في حياتك. وقبل أن تبتعد كثيراً في السؤال ستدرك أنها مقبرة كابوسك!

ستهبط من السيارة فتحيطك الضباع كعادتها القديمة تحوم حولك كالكلاب، كما في كابوسك ستبدو القبور على مد البصر، كأن البشرية كلها مدفونة في النجف. كم من القبور أنت المسؤول عنها: ملايين قضوا نحبهم بالاغتيال وبالإعدام والتعذيب، بالإضافة إلى الحروب والمجاعات...

قبور فوق قبور وقبور تؤدي إلى قبور وقبور تحاذي قبوراً.

فجأة ستنتبه إلى أن الطوفان راح يقترب ويغمر القبور بأمواجه العملاقة وهي تأتيك فاتحة أشداقها كوحوش كاسرة تلتهم الضباع وتطاردك أنت أيضاً. سوف تركض واثباً بين القبور وهي تنخسف بك واحداً بعد الآخر، وأنت في حيرتك ستشاهد من بعيد، كما في الكابوس، أمك شامخة بين القبور وهي تناديك لتأويك بين أحضانها. فتركض وتركض والضباع تحوم حولك مرتعبة لاهثة، فتسقط وتتعثر بالقبور المنخسفة والمياه ستبدأ تغمر الطريق إلى أمك، لكنك ستقاوم وتقاوم وأنت تصرخ طالباً منها العون، ستزحف وتزحف حتى تبلغ أمك التي ستأخذك بين أحضانها الحارة المعتمة وتأويك معها في أعماق حفرتها. آنذاك فقط يا صدام ستنتابك مشاعر بالأمان لم تعرفها أبداً في كل حياتك.

بينما أحضان أمك تبتلعك والطوفان يغمرك فلن تنتبه في تلك اللحظة إلى زهور شقائق النعمان في كل مكان راحت تشق القبور وتطفو على سطح الطوفان؛ فتمتزج حمرتها بشعاع الصبح المتصاعد لتضفي على الوجود ألواناً قزحيةً مثل ألوان الحياة.

السيدة الخرسـاء وقصر العزلـة

بغداد 2004

هنا صورة رقم 18

بالأمس حلمنا يا حبيبتي

أنا وأنت روحان تسرحان بين أكوان

وعندما نتعب نهجع في شموس

أقدم لك مهرك قلادة شهب وأقراط أقمار

نمضي شهر عسلنا في ذرى الوجود

نصلّي بحضرة جليل، نصافح ملائكة ونتسامر مع أنبياء

بيتنا بلا جدار ولا أبواب

وطننا كوكب أرضه مروج وسماؤه أنوار

أنهاره تراتيل ومخلوقاته طيور

نتناسل سلالة جديدة بلا خطيئة حواء ولا جريمة قابيل

نصنع حضارة يقودها حالمون، لغتها ضاحكة، ودستورها يكتبه أطفال

الموت فيها نوم، واليقظة حياة

سلاحها سلام ودينها محبة

نعم يا حبيبتي.. بالأمس حلمنا بهذا..

لنبقى إذن هنا في خلود حلمنا، نحلم ونحلم ونحلم

*   *   *

في أثناء زيارتي لبلادي في نهاية عام (2004)، بعد غياب إجباري دام بالضبط (25) عاماً، سرد لي صديق هذه الحكاية العجيبة وقد عايشها هو عن كثب، ولم يخطر ببالي أبداً أن أعايشها أنا بدوري وتقع خاتمتها على رأسي!

كان هذا الصديق ولنسمه (ص) من معارفي القدماء أيام شبابي الأولى قبل هجر الوطن. علاقتنا بدأت أوائل سبعينات القرن الماضي، في أثناء نشاطنا في أحد الأحزاب اليسارية. أتذكر أننا في أثناء حملة الحكومة ضد اليساريين أواخر السبعينات، اتفقنا على الهرب من الوطن سوياً، لكنه ظل متلكئاً خائفاً حتى ألقيَ القبض عليه، بينما بقيتُ أنا مختفياً فترة، إلى أن تمكنتُ من هجر الوطن نهاية عام (1978). ومنذ ذلك الحين انقطعت الاتصالات بيننا، لكني سمعت أنه قد خرج من السجن بعد أشهر؛ حيث وافق على الاعتراف والتوقيع على تخلّيه عن حزبه، ثم أصبح عضواً في حزب البعث، وتدرَّج في التنظيم وتقلَّد مسؤوليات عديدة في الأجهزة الإعلامية. كنت أتابع أخباره بين حين وآخر؛ إما من خلال أصدقائنا القدماء، أو من خلال نتف الأخبار الصحفية التي كانت تنشر صورته كمسؤول إعلامي وحزبي مهم. في أواخر أعوام التسعينات، سمعتُ أنه هجر العراق والتحق بالمعارضة. حاولتُ كثيراً الحصول على وسيلة للاتصال به في الخارج، لكني لم أنجح. سمعت أنه كذلك كان يبحث عني، وكدنا أن نلتقي يوماً في عاصمة عربية، لكن سوء الصدف حالت دون ذلك.

وأخيراً تم الأمر بعد سقوط النظام؛ حيث اتصل بي من بغداد ليخبرني أنه قد عاد إلى الوطن مع المعارضة؛ ليتقلد من جديد نفس منصبه الإعلامي السابق، لكنه هذه المرة كان ينطق بخطاب جديد عن (الديمقراطية وحقوق الانسان وجيوش الحلفاء)! أصر على دعوتي للالتقاء به في زيارتي القادمة إلى الوطن.

ها أنا ألَبّي دعوة صاحبي (ص)؛ لأستعيد معه ذكريات ماضينا المشترك. بعد أيام من عودتي، عندما كنت جالساً معه في أحد مطاعم بغداد، فجأة لكزني قائلاً:

ـ شوف هذا الرجّال، شوفه قبل ما يروح.

عندما نظرت بالاتجاه المقصود، لمحتُ رجلاً طويل القامة يرتدي معطفاً أسود غالي الثمن رغم الإهمال الذي عليه. بدا شعره سرحاً كثيفاً يلمع بشيب فضي جذاب تشوبه القذارة. له شارب رقيق منمق، ووجهه شاحب بصفرة مرضية حادة مليئة ببقايا جروح لم تلتئم بعد، وشارب فضي رفيع أنيق يناسب بشرته البيضاء بذلك اللون الحليبي الذي يتسم به أبناء الطبقة العليا الذين لم تمس بشرتهم الشمس. عيناه بدتا من وراء النظارة الطبية تعبتان متورمتان رغم ألَقْ عتيق وبقايا نظرات جريئة وقحة. لم أستطع أن أقدّر عمره، لكنه يظهر في الخمسينات. من الواضح أنه كان في زمانه نجماً وسيماً من أبناء المجتمع الراقي، رغم الانحطاط الصحي والنفسي البادي عليه.

بعد المطعم لبَّيتُ دعوة صاحبي (ص) لتمضية تلك الليلة في بيته الواقع في أطراف بغداد، على أمل الاستماع إلى حكاية ذلك الرجل الذي ظلت صورته عالقة في ذهني لسبب لا أعرفه.

فوجئت أن بيت صديقي ما هو إلاّ قصر شامخ في وسط بستان شاسع كثيف مطل على نهر دجلة. طيلة الليل وحتى إطلالة الفجر، رحت أستمع إلى تلك الحكاية ونحن مستلقون في إحدى غرف القصر مفترشين أبسطة الحرير، وقربنا مدفئة غازية تمنحنا الدفء في برد كانون القارص. رغم أن (ص) قد أصبح متديناً يصوم ويصلي، إلاّ أنه ظل متسامحاً في الكثير من الأمور؛ فقد فتح أمامي صندوقاً في الحائط كان عبارة عن (بار) يحتوي على عدد كبير من قناني المشروبات الكحولية الأجنبية والراقية جداً، وهو يخاطبني مبتسماً:

ـ يا عزيزي، مثلما تعرف آني والحمد لله متوقف عن الشرب، لكني أقدر أمزمز وياك شوية، احتفاءاً بلقائنا التاريخي. أرجوك، اخدم نفسك مثلما يعجبك.

فوجئ عندما أخبرته أني متوقف تماماً عن الشراب والتدخين لأسباب صحية؛ ولهذا اتفقنا على تناول الماء والشاي. فظلَّت طيلة المساء والليل تعبق في المكان نكهة الشاي العراقي المعطر بالهيل، مع أنواع الحلويات.

لولا ثقتي بصديقي (ص) ويقيني بأنه يقول الحقيقة التي سمعها وعرفها، لما صدقت قصة ذلك الرجل الغريب الأطوار المدعو (س) مع تلك السيدة الغامضة العجيبة، اسمعوا إذن هذه الحكاية:

السيد (س) كان شخصية مرموقة أيام البعث، مهنته الحقيقية هي (السمسرة)؛ أي بصورة أدق (تاجر غواني)! ولكنها تظل مهنة كان معروفاً بها في وسط ضيق، أما في الوسط العام فكان يشتهر بصفات أخرى أكثر احتراماً: مثقف ذائع الصيت، حزبي كبير، رجل أعمال بارز، مسؤول دولة مهم، وهي مهن قد زاولها حقاً، لكن مهنة (السمسرة) تبقى هي المهنة الحقيقية الثابتة والأصيلة التي زاولها رغم سريتها وكتمانها عن عموم الناس.

من الواضح أن (س)، بعد سقوط النظام السابق، يعيش شتاء حياته بعد أن تبدد مجده مع تبدد الدولة التي رعته. لكن المقربون منه يعرفون أن عذابه لم يكن لهذا السبب وحده، بل بسبب آخر مَسَّهُ في الصميم من روحه، ألا وهو فقدانه لأعز إنسانة على قلبه، تلك (المرأة الخرساء) التي بغيابها فقد كل أسباب البقاء في دنيا صارت غبراء لا يذوق منها غير مشاعر حسرة ونقمة وعار. كل الذي أصابه بعد الاحتلال من تدمير قصره واغتصاب أملاكه وحرمانه من جاههُ وسلطانهُ وتشريدهُ وتحويلهُ إلى حطام إنسان، كل هذا ما كان يهمَّه ولا آلمه، لو أنهم تركوا له تلك (الخرساء)!

كان لقائه بها قد تم في ظرف خاص جداً. بعد حرب الكويت في يوم ربيعي من عام (1991)، كان (س) في زيارة شخصية لصديقه (ن) مدير شعبة مكافحة التجسس في دائرة الأمن العامة. عند باب المكتب لَمَحَ صاحبنا سجينة تمرق من أمامه خارجة وهي مكبلة المعصمين يقودها شرطي. هكذا خطفت ومسته بلا اهتمام. خلال لحظات قابل وجهه وجهها فتقابلت نظراتهم. شعر حينها خلال زمن قد لا يتعدى ثانية واحدة، أن برقاً قد توهج في روحه. لا يدري ما الذي أثاره فيها، لعلها نظراتها، رغم سكون ووجع ظاهر عليها، إلاّ أنه خلال تلك اللحظة أحَّس فيها وهجاً من كبرياء. دون وعي منه زفر وكاد يصرخ بها، إلاّ أنه سخر وتمالك غضبه. ظاهرياً لم تكن تتميز بأي خصلة تجلب الانتباه. كانت امرأة عادية، يمكنك أن تجد ملامحها في الكثير من نساء العراق؛ وجه حنطي، وعيون عسلية، وشعر حني، وقامة تميل إلى الطول.

خلال لحظات، تناسى (س) المسألة عندما انطلق صديقه المدير بضحكته العالية المرحبة، وهو يترك مكتبه ويتقدم ويحتضنه. رغم بعض الهاجس الذي كان يتردد خافتاً مكبوتاً في صدر (س) ويدفعه إلى السؤال عن شخصية تلك المرأة، إلاّ أنه سرعان ما انغمر في لجَّة الحديث مع المدير الذي كان ذا شخصية مزاجية متقلبة. تراه في نفس الوقت يمتلك طاقة غضب وحقد تجعله ينهار على المعتقلين تعذيباً حتى الموت، فإنه سرعان ما يستريح ويتناول الهاتف ليلاطف ابنته المشلولة ويبث كلمات حنان لزوجته، ثم ينادي أحد مساعديه الجلاّدين ليسأله عن أحوال عائلته ويساعده في حل مشاكله ويشاركه في أحزانه!

أمضى (س) زيارته العادية إلى صديقه وعاد إلى الدار، لكن الليل عندما يحل يصيب التعب حراس العقل فينسحبون تاركين خبايا النفس تنهض من أعماق سجنها لتجول في كيان الإنسان على هواها. لقد عاف النوم السيد (س)، أول الامر لم يفطن إلى السبب، ثمة مشاعر غامضة بدأت تبعث في دواخله كآبة ثقيلة، حنين إلى مجهول وتأنيب ضمير إزاء خطايا منسية، بقي يتقلب مثل محموم، وسط العتمة رأى على السقف وجه تلك السجينة مرسوماً بظلال وخيوط ضوء. حاول أن يسخر من الأمر:

((أنا الرجل العابث القابض بكفي على حشود نساء من مختلف الأشكال والأجناس وأجهل حتى أسماء الكثير منهن، كيف لسيدة مجهولة سجينة عادية وضيعة أن تحرمني من نومي))؟!

سيدة لم يشاهدها أكثر من لحظة واحدة، مَرَقَتْ مثل برق خاطف لا يمكنه أن يترك أثر في سماء روحه. قال: لعله في الحقيقة غاضب من ذلك الكبرياء الكامن في نظرتها الخاطفة، أو ربما من تجاهلها له، أو ربما من ذلك السكون الواثق الذي تنطق به ملامحها!؟ لكن الوجه راح يتكرر في أنحاء الغرفة، على السقف وفوق الجدار وحتى على الأرضية. وعندما أغمض عينيه انبثق في داخل رأسه وجه نسوي حنطي عادي، أليف قريب إلى القلب، عينان عسليتان متوهجتان مثل نجمتين، أنف منساب مثل درب، شفاه نحيفة بليلة مثل ساقيتين، أما شعرها فقد غمر وجهه بمويجات نسيم ساحر انساب في دمه.

ها هو السيد (س) وحيد على سريره وسط  ظلام قصره، كطفل مهجور مرتعش منكمش على نفسه! لم يكن أمامه غير أن يترك غرفته ويجلس في الشرفة. كان بيته الذي يسميه (قصر العزلة) في منطقة (ج) في أطراف بغداد. على مرتفع يطل على نهر (دجلة) محاطاً ببساتين نخيل وحمضيات كثيفة، وأمامه عند الضفة المقابلة تمتد مزارع حنطة وعبّاد شمس خلال عدة أميال لتنتهي ببادية على مدى البصر. في عتمة تلك الليلة البليلة بضياء بدر وهّاج بين نجوم.. هناك لاح وجه السجينة!

أمضى السيد (س) ساعات في الشرفة مع السكائر والخمرة، وهو كئيب قلق غاضب حائر. لأول مرة بعد غياب طويل، تعود إليه تلك المشاعر التي طالما عانى منها وَمَقَتَهْا، ونجح في التخلص منها في الأعوام الأخيرة: مشاعر عار وإثم؛ لأنه لم يهتم بمعرفة مصير تلك السجينة!

كيف أتيح لتلك المرأة النكرة أن تغزوه هكذا في عقر روحه؛ تحرمه من نوم وسكينة؟!

راح يلوم نفسه؛ لأنه لم يرد عليها، كان على يقين أنه لو عنَّفها، ودفعها احتقاراً، أو على الأقل نظر إليها شزراً، لما تسربت إليه مثل هذه المشاعر المتعبة.

*   *   *

فجأة انقطعت الحكاية مع انقطاع الكهرباء وانتشار الظلام في الغرفة وفي أنحاء القصر. عندما قام صاحبي (ص) ليجلب المصباح؛ قمت أنا وفتحت الشباك لأتطلع في ظلمة الخارج. كان الصمت يخيم على البستان ولا تتخلله غير أصوات مويجات دجلة القريب وحفيف حشرات وهفيف خافت لسعف نخيل تتلاعب به الريح. عدت الى مكاني بعد أن عاد صاحبي ومعه مصباح غازي نوَّر المكان، وهو يعتذر عن عطل (مولدة الكهرباء) الخاصة بقصره، بسبب المطر، ثم افترشنا الأرض وعاد إلى حكايته:

قبل أن تستغرب معنى تأثر (س) بنظرات كبرياء خاطفة أطلقتها سجينة مجهولة، وخصوصاً وهو في مهنة أشد ما تكون بعيدة عن العواطف الرقيقة ولا مشاعر الكبرياء. يجب أن نعرف أن السيد (س) رغم أنه (سمسير) محمَّل بخطايا مهنته التي لا تعد ولا تحصى، أقلها الكذب وأكبرها الإسهام بجرائم اغتصاب وتعذيب وقتل، لكنه أيضاً امتلك ما يكفي من الثقافة والذكاء ما يجعله قادراً على فلسفة مهنته؛ بحيث إنه كان يعدَّ نفسه، إن صح القول: شريفاً!

يقيناً إن هذا الوصف يدعو إلى السخرية، لكنه حقيقي؛ فهو يعدُّ نفسه شريفاً؛ لأنه أحب مهنته وجهد لإتقانها والإبداع بها، بصورة لا تخطر على البال. ثم إنه لم يشعر في حياته أنه ضحية، بل على العكس فإنه يعدُّ نفسه أشبه بطبيب مشرف على علاج ضحايا، كما كانت تردد إحدى بناته (نقصد إحدى الغواني العاملات معه):

ـ ((إحنا أبداً مو مرضى ولا نستحق الرعاية والعطف، المرضى الحقيقيون اللّي يستحقون الرعاية والعطف هم الرجال اللّي يعانون الكبت والحرمان فيجون إلنا إحنا ممرضات اللذة؛ حتى نعطيهم ما عندنا من علاجات.. أي عيني.. السمسار طبيب لذة وإحنا البنات ممرضات علاج طبيعي، وزبائننا مرضى حرمان وكبت))!

باكراً في الصباح توجه (س) إلى دائرة الأمن، وجد صديقه المدير متعباً قليلاً وقد انتهى تواً من وجبة تعذيب صباحية قبل الفطور. سرد عليه بكل صراحة حكاية أرَقَهُ وعذابات ليلته. ضحك المدير كثيراً وهوَّن عليه، وأبدى استعداده أن يمنحها إليه لساعات؛ ليفرغ فيها غضبه وشهوته. تلكأ (س) ولم يدر بماذا يجيب. يقيناً إن المسألة لا يمكن أن تتعلق بهيجان جنسي؛ لأنه بكل بساطة منذ أعوام طويلة مصاب بـ (عجز جنسي)، وقد نجح بإخفاء هذا السر حتى عن أقرب أصدقائه. لعله كان راغباً بالانتقام منها وإذلالها، لكن مشاعراً لعينة بالإثم ظلت تجول في أعماقه، وهذا أمر لم يتعوده منذ سنوات طويلة، منذ أن تخلّى عن ماضيه الوضيع ودخل عالم المجد والسلطة!

عندما لاحظ المدير تردد (س) اقترح أن يقدم إليه ملفها؛ لكي يطَّلع عليه براحته ثم يقرر موقفه منها. ثم بكل رحابة صدر تركه وحده في المكتب يتصفح إضبارتها التي كان أقل ما يقال عنها إنها (عجيبة)!؟ لا بد إنها كانت قد تعرضت لعبث وتمزيق، فالتقارير التي لا تحصى المكتوبة عن هذه السيدة السجينة، تبدو متناقضة وبلا منطق، كأنها كتبت من قبل أشخاص من كل الأجناس والمهن والأعمار، وفي حقب مختلفة. ليس هنالك تقرير واحد يجزم بحقيقة هوية هذه المرأة؛ فكل تاريخها وأصلها مجهول، بل لا أحد يعرف حتى اسمها، وقد أطلقوا عليها تسمية (الخرساء)؛ لأنها صماء لم تجب بكلمة واحدة رغم كل الإذلال والتعذيب. ما عرفوا عنها أي شيء، ولم يتمكنوا أن ينتزعوا منها أية معلومة؛ فبالإضافة إلى خرسها فإنها لم تبدِ أية علامة على معرفة القراءة والكتابة. ثمة آراء متضاربة حتى عن تاريخ ومكان العثور عليها. بل إن أحد التقارير يؤكد أنها كانت سجينة منذ أوائل تأسيس الدولة العراقية؛ أي: منذ أكثر من سبعين عاماً، علماً بـأنها ما زالت في ريعان الشباب؟! هنالك تقرير يقول إنهم قد عثروا عليها منذ أعوام في البادية الغربية تجول تائهة وحدها. بعض آخر يقول إنهم عثروا عليها معتكفة في مغارة في جبال الشمال، وآخر يدَّعي أنها من أهل الأهوار، وآخر يظن أنها من عائلة بغدادية عريقة!

لم يشاهد (س) في حياته مثل هذا الملف العابث، هذا الغموض العجيب الذي يحيط بهوية إنسان. من بين كل هذه التناقضات والملابسات الغرائبية هنالك شيء واحد تتفق عليه جميع التقارير: إنها إنسانة مريبة؛ لأنها بين حين وآخر وهي نائمة تهذي بكلمات غامضة توحي بمعرفتها بأسرار خطيرة، عن مؤامرات وانقلابات واغتيالات وحروب وأحداث عديدة لا يعرف بها غير رجال الدولة الكبار؛ ولهذا فإنها متهمة بالتجسس، وقد أمضت كل هذه السنوات على أمل أن تخضع ذات يوم وتعترف عن مصدر معلوماتها.

أصابت الحيرة (س)، أمام هذه المرأة اللغز قال: ما له والمتاعب، ليدعها وشأنها تتدبر حالها مع سجّانيها. لكن قوارض الإثم ظلت تنبش في ضميره الذي خاله قد مات منذ أعوام طوال، كأن مصير هذه المرأة قد تعلق بقراره هو وليس غيره، كأنه يعرفها ويعرفها ويعرفها منذ أن وُلدَ، بل ربما في حيوات سابقة، كما يدَّعي المصدقون بتناسخ الأرواح؛ هل كانت معبودته.. أخته.. أمه.. ابنته.. توأمه؟!

بعد مداولات مع صديقه المدير واتصالات بالهاتف مع المسؤولين الكبار، تم التوصل إلى حل: أن يأخذ السيد (س) تلك الخرساء معه إلى قصره لفترة ما، وهنالك يتصرف بها كما يشاء؛ فلعله إن امتلكها وأشبع نزواته منها سوف يتخلص من الحيرة التي كبلته بها. لكن سيادتهم فرضوا شروطاً عدة، أهمها أنها لن تغادر القصر أبداً ولن تتصل بأحد غير السيد (س)؛ أي: أن تبقى سجينة تحت رعايته، وأن يجلبها لهم متى يطلبون، ثم أن يخبرهم في حالة حصوله على أية معلومات تخص هويتها وتاريخها.

*   *   *

فجأة اهتزت غرفتنا بضجيج حاد اخترق هدوئنا وأزال خدرنا. انتفضتُ متسائلاً عن الأمر، لكني فوجئت باستمرار صاحبي على وضعيته وعدم مبالاته بالضجيج وكأن الأمر طبيعي. وخاطبني بهدوء قائلاً وهو يتناول استكان الشاي:

ـ ما كو شي.. أكيد طائرات أمريكية تحاصر مخابئ مسلحين.

أحسست بالخجل وكأني كشفت عن ضعف في حساسيتي، فعدت إلى جلستي وأنا أصطنع الهدوء واللاّمبالاة. وعاد (ص) إلى حكايته:

قبل أن أسرد عليك الفصل المهم من حكاية (س) مع تلك الخرساء العجيبة التي أذهلته بأسرارها وأخذته معها في أسفار عجاب جعلته يغور في متاهات سرمدية من سؤال وجواب. لكي تكون على بينة من الأمر، أرى من الواجب أن أكشف لك أولاً بعضاً من تاريخ (س) الشخصي. لا يخفى عليك بأنه كان من جماعة صدام، وعمله كله مع قادة النظام ورجالاته. قد يبدو الأمر طبيعياً بالنسبة للكثيرين، لكن بالنسبة له لم يكن بهذا الوضوح؛ فكان يشعر في أعماقه بأنه قد خان مبادئ شبابه وتنكَّر لقيمه وطموحاته. خدع وتجسس وتملق وسبب الأذى للكثير من الأبرياء. لكنه كان أيضاً بين حين وآخر ينقاد لذلك الميل الغامض الذي قد يستحق أن يسمى ضميراً، ويدفعه لمساعدة المظلومين ما أن تحين له فرصة. كم من المغضوب عليهم خلَّصهم من غياهب سجون أو من قرارات موت محقق، وكم من القتلة والسفلة تدبر لهم المقالب وبعثهم إلى قيعان جهنم!

عاش (س) حياته الأولى مثل الكثير من أبناء العراق، في ضنك العيش وقسوة الحياة. يقال إن الجوع لا يمكنه أن يحيا وحده، بل عليه أن يتنفس الإذلال لكي يدوم. والمشكلة أن هذا الإذلال لا نعانيه من أصحاب الجاه والمال قدر ما نعانيه من أبناء جلدتنا من الجوعى وضحايا الظلم. الجميع يشتركون بإذلال الجميع كأنهم ينتقمون بذلك من سادتهم بعيدي المنال. الآباء يذّلون الأبناء، الكبار يذّلون الصغار، الرجال يذّلون النساء، المعلمون يذّلون التلاميذ، الموظفون يذّلون المراجعين، هكذا في شبكة جهنمية من الإذلال اليومي العلني والمتستر. أما (س)، فمنذ أن استقوى عوده وبدأ يدرك هذه الحقيقة المرة، قرر أمام ربه وضميره أن يتمرد على جوعه وذله؛ ولهذا قرر أن يبحث في الكتب عن دروب الخلاص. أصبح مثقفاً عاشقاً للمطالعة والكتابة. ومع الأيام قادته الكتب إلى خيار الماركسية فأصبح شيوعياً في أول شبابه بداية السبعينات. تعلَّمَ أن يقدس الفقراء ويحلم بالثورة التي سوف تحررهم من  الظلم. راح يقرض الشعر ويدبج المقالات النارية عن الثورة القادمة.

لكن حماسة الإيمان هذه سرعان ما انهارت عند أول تجربة اعتقال عاشها (س) في أواخر السبعينات وهيمنة صدام على الدولة. صحيح أنه صمد وتحمل مختلف أنواع التعذيب وحتى الاغتصاب، إلاّ أن الأيام  وأخبار هروب القادة الى الخارج وخيانتهم لقضية الثورة والكفاح، جعلته يفقد الأمل تماماً وينتكس وينقم على كل ماضيه النضالي. خلال ظلمة السجن بدأت الحقيقة المرة تظهر له: لقد اغتصب منه الجلادون فحولته. أصبح خصياً وفقد كل الصلابة والقدرة على المعاشرة. صارت ذكورته لحمة ميتة. حاول المستحيل لكي يمارس عادته السرية. لم تنفعه حتى الصور الخليعة التي حصل عليها من المعتقلين. أصابه هذا الأمر بالرعب، وجعله يواجه تلك الحقيقة المرة التي طالما أجَّلَ مراجعتها في أعماقه. رغم شبابه وثقافته إلاّ أنه حتى سجنه لم يكن قد تذوق طعم المرأة. علاقته بها ظلت مبهمة وغامضة. إحساسه بها إرتبط دائماً بقضية الجوع والحرمان. لن ينسى، كيف إنه ذات يوم في أول مراهقته كان يشتغل تحت شمس بغداد الحارقة والجوع قد أنهكه والعرق ينزف من جبينه ويحرق عيونه. كان لحظتها يشتهي برد الظلال وصحن من الرز والمرقة أمامه يلتهمه بلذة. إذا بشابة ترتدي (ميني ﭽوب) تخطف من أمامه تتمايل بشموخ بأفخاذها البضة البيضاء. فجأة من دون شعور تكونت صورة واضحة ملونة أمامه مثل شاشة سينما: الفتاة عارية تماماً وقد تحولت الى دجاجة مشوية في صحن الرز والمرقة!!

منذ ذلك اليوم، وهو يمارس عادته السرية على تلك الصورة الطريفة الشاذة!!

أما الآن في عتمة السجن والعزلة فان إكتشافه لحقيقة إخصائه قد هزَّ كيانه من أساسه ولوَّثَ علاقته بالحياة بكل تفاصيلها. خيبته برجولته جعلتهُ ناقماً على الله وعلى الأحزاب وعلى المثقفين والسياسيين وعلى جميع الذين يتشدقون بوعود الخلاص. أصبح كتلة من الحقد والرغبة بالانتقام من كل رجال بلاده، جميعهم، الجلادون منهم والضحايا. راح يمضي وقته منعزلاً عن باقي المعتقلين وهو يبحث عن أي طريقة لإرضاء شهوة الانتقام التي كانت نار جهنم تحرق بكيانه. تخيل تفجير القنابل وسط الحشود واغتيال الناس بالسكين وتسميم مياه الشرب وخنق الاطفال بالمهود واغتصاب النساء بالقضبان.. الحقد وحده كان يمنعه من الانتحار.. الانتقام وحده كان يغذي فيه نسغ الحياة!

أخيراً اهتدى الى حل جهنمي  يضمن سلامته وديمومة حياته وبنفس الوقت التشَّفي بعذابات أعدائه. بالصدفة عثر على قطعة جريدة ممزقة فيها مقال عن الروحانية الآسيوية. كان يؤكد على ان الله عندما يريد أن ينتقم من مِلَّة، ليس بالضرورة أن يسلط عليها الجوع والحرمان، بل يمكن أن يسلط عليها البطر والتخمة. لحظتها أتاه الوحي:

((لأكافحنهم بـتخمتهم وبطرهم. إن كان شبقهم هو الذي جعلهم يغتصبوني ويقتلون فيَّ رجولتي، فإني بـ (الشبق) ذاته سوف أنشر سموم الموت والتفسخ في كيانهم.. بالشبق سوف أنخر أرواحهم وأستولي على عقولهم وضمائرهم وأقتل الرجولة في أبدانهم. بالشبق سوف أستحيل الى شيطان يغوينهم حتى حتوفهم..))..

لكي تنطلق خطته الجهنمية، قرر أن يبدأ بالانتقام أولاً من رفاقه الذين خدعوه بوعودهم الخلابة. بدأ بالاعتراف عليهم وتوريطهم صدقًا وكذباً واحداً بعد الآخر. أطلقوا سراحه بعد أن وقع على انتمائه للبعث. لم يكتف بالاعتراف والتجسس على رفاقه، بل راح يلاحق رفيقاته السابقات ويتلذذ بالإيقاع بهن ليشارك رجال الأمن بتعذيبهن واغتصابهن. كان مهووساً بالانتقام من نساء أولئك الذين خدعوه بمشاريعهم الزائفة. مع الزمن راح يصطاد النساء هنا وهناك، أي نساء، ويصطنع لهن أية تهمة ويقدمهن لمن عذبوه. كان يحس بلذة غامرة بمجرد أن يقدم النساء البريئات الضعيفات إلى أولئك الجلادين. محنة السجن أظهرت إلى السطح حقيقته العميقة التي نجح خلال سنوات النضال أن يغطيها بشعارات وأحلام عذرية: إنه يقدس الأقوياء ويحتقر الضعفاء. كما يردد هو أحياناً في حالة ثمالته، أنهُ مازوشي مع الأقوياء وخصوصاً الجلادين ويتلذذ بخنوعه لهم، وهو أيضاً سادي يتلذذ بسحق الضعفاء وإذلالهم وخصوصاً النساء. هكذا إذن، دخل السجن مناضلاً ومثقفاً ثورياً وخرج منه مخصياً وبعثياً وسمسيراً وفياً لمهنته. صار واضحاً إن المهنة الوحيدة التي تناسبه والتي بها سوف ينتقم ممن أخصوه، أن يكون: سمسيراً..

بصورة أدق: سمسيراً مثقفاً وسياسياً محنكاً...

 

*   *   *

ـ لازم الأمريكان ابتلشوا بجماعة كبيرة!

عندما سمعت هذا التعليق من صديقي (ص)، تصورت لأول وهلة أنه مستمر بسرد حكايته! احتجت لوقت لكي أدرك انه كان يتحدث عما يجري خارج القصر. حينها فقط انتبهت إلى نفسي إلى أني كنت متناسياً تماماً ضجيج القصف والطائرات، مع استمرار صاحبي بسرد تلك الحكاية! أدركتُ مستغرباً كيف أني قد أرغمت نفسي بشكل غير واعٍ على عدم الاستماع إلى دمار الخارج، بسبب خشيتي أن أكشف عن ضعف في حساسيتي. فهمت من (ص) إن هنالك قريباً من البستان ثمة حرب دائرة بين الجيش الأمريكي ومجمومة من المسلحين. وكما بدى لي من خلال صديقي أن هذا أمراً طبيعياً قد تعوَّدَ عليه العراقيون ولا يستحق منّا وقفة ما.. ثم عاد إلى حكايته:

مع الأيام إتقن السيد (س) مهنته واكتسب مهارات جديدة جعلها أداة لتغيير حياته بكاملها. بعد الجلادين اتجه إلى المثقفين من أبناء طبقته. بدأ يرسل لهم بغوانيه لإغوائهم وكسبهم لصالح طموحاته بالصعود والانتقام من ماضيه. ثم توصل إلى الإداريين من مسؤولي الثقافة في الصحف ومؤسسات الدولة والحزب. كان يختار مدير الجريدة الفلانية ويرسل له إحدى شغيلاته، لتعود مع قرار تعيينهِ صحفياً من الدرجة الأولى. ثم من خلال بناتِه أقنَعَ بعض الكتّاب المغضوب عليهم، أن يشتري منهم مواضيعهم وترجماتهم، وينشرها باسمه. مع الزمن أصبح إسماً كبيراً في عالم التأليف والترجمة، وكل هذا ساعده على الصعود السريع في مراتب الحزب.

بحكم ثقافته الواسعة وسفرياته المتنوعة، اقتبس فنون الإغواء والبغاء الغربية. خلق شبكة واسعة من الغواني من مختلف الألوان والأجناس، خصوصاً من بلدان المعسكر الاشتراكي السابق. علَّمهن كيفية إغواء الرجال ومساعدتهم على اكتشاف ملذاتهم المجهولة. من خلالهن عَرَفَ إن الغالبية الساحقة من رجال الدولة والحزب والطبقة المثقفة لا يختلفون عنه في حالته النفسية. كانوا ساديون قساة لا يرحمون مع الضعفاء، ورعديدون ضعفاء مع الأقوى منهم. يقال إن الرجل الحسّاس المجبر على ممارسة القسوة في وظيفته، بحاجة إلى تعويضها وتفريغ شحنة الخنوع المكبوتة بأية وسيلة كانت، ومن أفضلها وأسهلها هي التعرض للإذلال والعذاب الجنسي من قبل امرأة طاغية تشبه الأم. لهذا علَّم (س) غوانيه كيفية القيام بدور الأم الطاغية واستعمال فنون التعذيب بالأدوات الخاصة التي استوردها من أوربا: السياط والقيود والمقاعد الخاصة والأعضاء من الكاوشك والأقنعة والثياب الجلدية، وقد أضاف إليها (نعال المرأة البلاستيكي)  كخصوصية وطنية. لإشاعة ثقافة (السادية ـ المازوشية) هذه وأوصى بترجمة المقالات والكتيبات التي تتحدث عن هذا السلوك، واستورد عشرات الأفلام الجنسية المتخصصة بمثل هذه الحالة.

مع الأيام تعوَّد غالبية مسؤولي الحزب والدولة والجيش والشرطة والنخب المثقفة والمتعلمة أن يزوروا شقق (س) السرية ليتعرضوا إلى الإذلال والشتم والتعذيب الجنسي على يدي الغواني. ثقفَّهم بمختلف الخيارات المعروفة في مباغي أوربا. بعضهم يعامل كأمرأة وهو يرتدي سراويل النساء، وبعضهم يعامل كطفل ينام في الكاروك (المهد) وفي فمه ممَّة الحليب وأمه البغي تهدهده وتصفعه ثم تمارس له العادة السرية. وآخرون يفضّلون أن يمثلّوا أدواراً وضيعة وقاسية مختلفة تتناسب مع مهنتهم الأصلية. فالجلاد يحب أن يمارس دور سجين معذب، والمعلم يمارس دور تلميذ مذنب، والحاكم يمارس دور متهم محكوم بالإعدام. بل أحد السادة المسؤولين المعروفين بجرأتهم في مكافحة المتمردين وسحق رؤوسهم بعصاه، كان يعطي مسدسه المملوء فعلاً بالرصاص لكي تهدده الغانية حتى إنه يقتنع حقًا أنها سوف تقتله فيشرع بالبكاء والرجاء وينطق بالشهادة استعداداً للموت.

مع الزمن صارت قيمة الغانية وأجرتها تحدد بمدى قبولها بالقيام بدورها الإذلالي والتعذيبي حتى أقصى الحدود. فالسيدة (سوسو) مثلاً كانت باهظة الثمن ومرغوبة جداً لأنها كانت تجمع بين قوة الشخصية وبرودة الأعصاب ومهارة الإمتاع، فهي أثناء قيامها بأطفاء السكائر على أبدان الراغبين أو تهديد البعض بالسكين لحد تجريحهم، فإنها بنفس الوقت، كانت قادرة على مداعبتهم بحنكة ودهاء بحيث إنهم كانوا يبلغون ذروة اللذة رغم أوجاع الحروق والجروح!

كم كان (س) يحس بالمتعة والتشفي وهو يتفرج، عبر نافذة خفية، على الرجال المعروفين بأنَفَتِهِمْ وبطشهم وكبريائهم التلفزيوني، واحدهم يولول شاكياً مثل ولد، بينما إحدى الغواني تجلده بالنعال الوطني على مؤخرته المكشوفة!

كل هذا مَكَنَ (س) أن يفرض سطوته في مجالات الدولة والحزب والثقافة. بحفلة مجون واحدة تتناثر فيها البنات والخمرة والحشيشة، كانت تلبّى له أعجز المطالب.

من خلال وساطة إحدى بناته التي لا ترد لها كلمة اختار الحزب أحد كتب (س) من ضمن برنامجه للتثقيف الإجباري، وكان كتاباً شيقاً ومفيداً عن تربية الشبيبة وأخلاق المجتمع القومي الجديد!

*   *   *

لأول مرة انتبهت إلى صاحبي (ص) يتأثر بضجيج القصف ويقطع حكايته مرتبكاً، عندما أحسسنا فجأة باهتزاز القصر بعد سقوط قذيفة قريبة منه. قام وفتح النافذة، ثم عاد ليطمئنني قائلاً بأن القذيفة لم تمس داره، بل سقطت في البستان المجاور. جدد لنا قارورة الشاي وجلب لنا فطائر (كليجة) وقنينة ماء معدني، وعاد إلى سرد حكايته:

بعد أن اطلعت على مختصر سيرة (س)، يمكن الآن أن نعود إلى قصته التي ابتدأت مع تلك السيدة الخرساء. ذلك اليوم أخذها مباشرة من دائرة الامن إلى بيته (قصر العزلة)، فهو أمين تحت رعاية حارس مسلح ومحاطة بسياج مراقب بالعديد من أجهزة الإنذار. في هذه الدار كان يزاول وحدته عندما يتعب من صخب بغداد ومن نشاطاته الثقافية والسياسية والاقتصادية، بالإضافة إلى مهنته الأساسية طبعاً.

سَلَّمَ (س) السجينة إلى الخادمة زوجة حارسه وأوصاها بالعناية بها وترتيب غرفة لها. تركها هناك ونزل إلى بغداد وانشغل في نشاطاته المعتادة حيث يمضي الليالي في شققه العديدة. كانت الحياة في بغداد التسعينات تزداد اضطراباً وصعوبة بسبب الحصار وفرار العديد من كوادر الدولة والحزب والنخب المثقفة والمتعلمة إلى الخارج هرباً من الوضع المتفاقم سوءاً وفقراً. في خضم هذه الأمور كاد (س) ينسى خرسائه تماماً ولم يفكر حتى بالسؤال عنها. بعد مضي أكثر من أسبوع في إحدى الليالي وجد نفسه يطلب من سائقه أن يمضي به إلى (قصر العزلة). كان مخموراً محشوشاً تعباً نعساً فذهب إلى سريره مباشرة وبدأ يغرق في نومه..

لم يدرِ كيف بين الحلم واليقظة بدأ يتهادي إليه صوت غناء. كان ترنيماً حنوناً، من شدة إلفته ظنه يأتيه من دواخل أحلامه. بالتدريج مع تنامي انتباهه بدأ يدرك أنه ليس بحالم وأن الغناء يأتيه من خارجه. لم يتبين إن كان أنثوياً أم ذكورياً، لكنه كان شجياً بموّال عراقي حزين لم تتضح كلماته. مثل همس طفولي يتصاعد بعتب صداقي حتى يبلغ مداه في نحيب جياش ومناجاة يائسة راحت تقطع نياط قلبه. انتبه (س) إلى دموعه قد بللت مخدته. انتفض ونهض غاضباً. هذه المرة الأولى التي يبكي فيها هكذا بكل ضعف وبؤس. لقد خان العهد الذي قطعه على نفسه في معتقله لحظة قرر فيها أن يعترف ويقلب تماماً صفحة حياته السابقة: بأن لا يدع الحزن ومشاعر الأثم تجتاح قلبه ولن يترك عينيه تدمع أبداً حتى لو قطَّعوا أوصال الكون أمامه!

لم يكن يدرك من أين يأتيه ذلك الصوت. فكر ربما الخادمة قد نست المذياع في إحدى الغرف، فاتجه إلى القاعة وسط الدار وراح يتنصت ويتبع مصدر الصوت. كلما اقترب كانت النغمات تتضح أكثر فأكثر. رغم غضبه وإصراره الواعي على الرفض، إلاّ أن موجة حنين راحت تتصاعد في روحه. وجد نفسه أمام باب غرفة لم يغلق تماماً. من الواضح الآن أن الأنين لم يكن في مذياع. دفع (س) بحذر الباب. كانت الغرفة معتمة إلاّ من ضوء فجر منساب عبر نافذة مفتوحة. هناك على حافة النافذة بدت ظلال إمرأة جالسة موشَّحة بأنوار سماء فضية شاحبة. راح يقترب بحذر وهدوء وهو مجذوب مسحور. ظلت تغني وهي ترمق السماء كأنها تناجي قمر ونجوم متلألئة. عبر ضباب الفجر الواهي ظهرت ظلال بساتين تحيط  بنهر دجلة، مع حقول حنطة وعباد شمس وبادية بعيدة وأفق لا ينتهي. خيّل لـ (س) إن الطبيعة كلها، النخيل والاشجار والنهر والبادية والفجر والريح، كانت هي التي تشدوا عبر حنجرة المرأة. للحظة حانت من المرأة التفاتة نحو (س)، فعرف أنها سجينته الخرساء! ما إن لمحته صمتت وعادت ترمق السماء وكأنه غير موجود.

هل من المعقول أنها هي نفسها؟! كيف يقولون عنها خرساء وهي تصدح بهذه التراتيل التي لم يسمع مثيلها. اقترب منها أكثر ليتأكد من صحة رؤيته، حتى لمس كتفها، ومن دون تفكير كلمها وهو مبهور مبهوت:

ـ يا سيدتي.. هذه أنت.. أرجوك استمري بغنائك.. استمري..

لكنها ظلت صامتة جامدة وهي ترمق السماء. من دون وعي توجه نظر (س) معها بحثاً عما يشغلها. هناك في الأعالي شاهد القمر ونجمة الصباح (الزهرة) متلألئان في عينيها. حينها فقط شعر أنه أمام إنسانة غير عادية!

*   *   *

اضطررت أن أقطع كلام صاحبي (ص) معتذراً، لأني بدأت أشم رائحة حريق. صحيح أن ضجيج القصف والطائرات لم يتوقف، إلاّ أني أرغمت نفسي على تجاهله، لكن الحريق قد يكون خطره مباشر. وقف صاحبي وراح يجول في أنحاء الغرفة وهو يتشمم، ثم عاد ضاحكاً وهو يقول:

ـ لازم أوربا أثَّرت بيك ياعزيزي.. صاير حساس جداً.. حرق الكليجة تتخيله حريق..ها ها ها..

لم أخبركم بأني منذ ساعات بدأت ألاحظ على صاحبي (ص) تغييرات بطيئة على ملامح وجهه كلما استمر في سرد حكايته. لا أدري كيف؟ ثمة تغييرات طفيفة قد تكون بتأثير العتمة وتلاعبات الضوء الغازي. بدأ كما لو أنه أصبح أكثر حزناً وأكثر رقة وأكثر تأثراً بما كان يسرده من وقائع.. أقول كما لو إن كان بصورة ما معني بما كان يجري لبطله (س).. لا أدري كيف أصف لكم شعوري.. أعترف أنه أمر مبهم وصعب الإيضاح.. ربما ستفهمونه مع مجريات الحكاية..

أزاح فطائر الكليجة عن المدفأة، وعاد إلى حكايته:

منذ تلك الليلة، بدأت حياة صاحبنا تتغير. راح يعود كل ليلة إلى (قصر العزلة) مخموراً محشوشاً، فقط لكي يتنصت الى شجى السيدة الخرساء. رفضت أن تغني بحضوره، أو بحضور أي كان، ولا في أية ساعة، بل فقط عندما يهلُّ الفجر. تجلس إلى النافذة وسط العتمة وتصدح مناجية القمر ونجمة الزهرة تودعهما وهما يغيبان مع إشراقات الصباح. كان (س) كل فجر يفتح بابها بحذر ويحبوا على الأرض ويختبئ مثل طفل ليجلس في العتمة قريباً من النافذة، ويمضي ساعة أو أكثر في غيبوبة أنغامها. كانت تغني بمختلف الألحان الشائعة. يأتيه شدوها تارة رقيقاً حنوناً يعبق بنسيم فوّاح من ثمار أرض وضباب سحر وهمس أحبَّة، وتارة حاراً جياشاً يصدح بعواصف وأمواج وتساقط صخور حزن وغضب. يبدأ بهمس طفولي ثم يتعالى بحوار صداقي معاتب حتى يبلغ مداه في نحيب جيّاش يقطع نياط القلب فيبكي (س) ويرتجف وتنهمر دموعه حارة لا تنضب.

ذات مرة خطر في باله بصورة عابرة أن يدعها تتنزه في البستان المحيط بالقصر. أصابته الدهشة وهو يراها تتمايل أمامه بقامة شامخة تهفهف بثوب ليلكي فضفاض وشعر حنّي طويل. بدت حرة منطلقة مثل طير فرَّ من قفصه. راحت تعانق جذوع النخيل والحمضيات.. تمرِّغ كفيها بالأتربة والأطيان..تلاحق الطيور والضفادع. عندما شاهدت دجلة أطلقت صرخة همجية ثم آهات وهمسات وولولات شغف وتعجُّب مثل طفل يكتشف العالم تواً، أو مثل أم تعود إلى أحضان أطفالها بعد غياب طويل. ركضت ورمت نفسها في النهر وراحت تغتسل وترتوي ككائن بدائي يخزِّن عطش قرون. فجأة غطست في الأعماق وغابت. أصاب (س) الهلع فرمى نفسه نحوها وهو يطبش هنا وهناك منادياً إيّاها من دون جدوى. لم يدرِ كم طال انتظاره وبحثه وهلعه حتى فقد الأمل وأصبح متيقناً أنها قد غرقت. فجأة شاهدها تخرج من بين الدغل وتختفي بين الأحراش مطلقة فحيح وحشي، ثم عادت إليه وقد التفَّت أفعى رقطاء حول ذراعها وهي تداعبها بصداقة وحنان!!

منذ ذلك اليوم دخل (س) مع السيدة الخرساء، في عالم طقوسها البدائية بالتجوال في الطبيعة واكتشاف خباياها. كل عصر كان يقضي معها ساعة أو ساعتين في البساتين وعند ضفاف دجلة. كذلك كل يوم جمعة كان يرحل بها إلى منطقة جديدة من البلاد، يتركها تسير أمامه في البساتين والجبال والبوادي وعلى ضفاف الأنهار. كانت تعرف الدروب والزوايا شبراً شبراً. تتلمس الارض والنباتات والحيوانات بشغف وانبهار كأنها تتبادل معها طاقة الحياة. تقوده إلى مخابئ الأرانب وجحور الثعابين، تلاعب الثعالب والذئاب، بينما العصافير والفخاتي تحّط على كتفيها وكفيها. يفوح منها عبق الأرض بأطيانها ونباتاتها وأحيائها. كالحرباء تتلون حسب المحيط، تارة سمراء كأديم الأرض ومياه النهرين، وتارة خضراء ذهبية  كحنطة وشعير. رغم صمتها في ساعات التجوال، إلاّ أن (س) كان يتنصت لصوتها ينبع من خلايا الأرض، من أطيانها ونباتاتها وأحيائها، بل حتى من مسامات بدنه هو وأحشائه. صار مقتنعاً بأن صوتها كان صوت الحياة، بل هي الحياة ذاتها..

*   *   *

خيل لي، أني بين حين وآخر، كلما توقف ضجيج القصف والطائرات، كنت أسمع من بعيد البعيد أصوات غناء. قلت يقيناً إني أتخيل تحت تأثير حكاية صاحبي. لكني بعد تكرار الأمر، أبَحْتُ لصاحبي بما يدور في خلدي، وأنا أداري بضحكة هازئة معتذراً عن خيالاتي. رغم أن صاحبي قد شاركني السخرية، إلاّ أني لاحظت خلجات مرتبكة بدت على صوته. ثم بعد حين، اعتذر مني قائلاً بأنه ذاهب ليجدد الشاي.

قمت ناظراً من النافذة. بانَ البدر متوهجاً في كبد السماء، والنجوم متناثرة حوله في جميع الأنحاء، فتتخلل تلك الأنوار ظلام البستان. من بين النجوم رأيت نجمة قريبة متوهجة أكثر من غيرها، فخمَّنتُ أنها قد تكون (نجمة الصبح ـ الزهرة) التي كان أبي يستيقظ عليها ليؤدي صلاة الفجر ويرحل إلى عمله.

عبر النخيل وأشجار الحمضيات تمكنت من رؤية شاطئ دجلة، وعلى صفحته تتهادى وديعة مويجات متلألئة بأنوار الكون. بين حين وآخر، كان الفضاء يقدح بنيران القصف المتبادل في جهات غير مرئية، فتتوهج السماء والمياه والبساتين، كما لوكانت تحت تأثير برق خاطف. ومن بعيد البعيد يتهادي صوت غناء نسوي ممزوجاً بالضجيج والانوار والريح.

عاد صاحبي (ص) جالباً من جديد الشاي والمياه المعدنية، مع صحن قيمر (قشطة) محلى بالدبس. وعاد إلى حكايته:

هكذا يا أخي، عبر هذا التجوال بدأ (س) يعيد اكتشاف بلاده، التي كان يتباهى بكتاباته بأنه يعرفها شبراً شبراً. أدرك بأنه في الحقيقة لم يعرف إلاّ مدينته بغداد وبعض المدن الكبرى. قال إنه صار مقتنعاً، بالحقيقة لم يكن يعرف سوى عبودية المدينة بصخبها وضيقها ومجونها وطغيانها الخلاّب الخادع الذي لا يرحم الضعيف وطيِّب القلب. تجواله مع سيدته جعله يكتشف الجانب الخالد والسرمدي من بلاده، أريافها وبواديها وأهوارها وأطيانها وأنهارها وجبالها.

يبدو أن علاقته بسيدته الخرساء لم تفرض تغييراً على سلوكه ونظرته للحياة، فحسب، بل شمل تأثيرها ناحية عميقة لم يتوقع أبداً أن تتغير هكذا فجأة: رجولته!! ذات ليلة استيقظ مرتعباً على حلم كان فيه يضاجع خرساءه. أصابه الحزن لأنه كان متيقناً من اكتشافه كالعادة خيبة أمله. لكن حدثت المفاجأة التي لم يتوقعها أبداً: كانت ذكورته حية!؟ نعم هكذا بدأ يستعيد رجولته ويحس بقدرة فعلية على المعاشرة. اكتشف بأنه فعلاً يشتهي سيدته. بعد تردد طويل قرر ذات ليلة وهو ثمل محشوش أن يعَبِّر لها عن رغبته بها، لكنه سرعان ما تراجع بعد أن رأى منها ذلك الصمت الوقور. حينها قرر أن يهجر أية محاولة معها وأن يشبع شهوته مع غوانيه.

ظلت الأيام والأعوام تمضي والسيد (س) يحاول أن يجمع بين حياة الخطيئة والمجون في بغداد وحياة الطهر والتعبد في (قصر العزلة). كان يصحو في الظهر ويمضي الساعات بالعناية بنفسه في قاعة الرياضة والحمامات والسباحة، وأحياناً التجوال مع خرسائه. عندما يحل الغروب ينزل إلى بغداد ليعيش صخبها ومجونها حتى آخر الليل، ثم يعود قبيل الفجر لكي يتطهر بشجي خرسائه. كل مرة تنتهي من غنائها، كان يجثوا أمامها يشكوا لها عذاباته وحيرته في حياته. هكذا صارت راهبة اعترافاته. يسرد لها كل موبقات ليلته: كم خدع وعذب واغتصب أو حتى قتل أو سبب القتل. وكانت هي لا تبدي غير الصمت وأنظارها متجهة نحو السماء. وتمسح بكفها على رأسه فيحّس بخدر لذيذ يعيد إليه ذكرى أمه تفَلّي له شعره وهو نائم في أحضانها.

لو يشاهده أصحابه وغوانيه في تلك الحالة، لما صدَّقوا أبداً. ها هو (س) الباطش الداعر الذي يتملقه أهل المال والسلطان وتحت سطوته شبكات حسان من كل جنس ولون، يمتلكهن لحظة يشاء كما يمتلك أي سيد جواريه.. هكذا يتحول إلى زاهد متعبد في حضرة خرساء مجهولة التاريخ والهوية. ها هو المتمرد الخليع الناقم على الله والوجود، راح بالتدريج يستحيل إلى إنسان آخر.. بدأ ضميره يصحو وينمو مثل جنين يحيا وينمو في أعماقه. أصبح حاملاً بضمير تعب مشوه، ويا ويله وسواد ليله من ساعة المخاض! كيف له أن يحافظ على جاهِهِ ومالِهِ وسلطانِهِ برفقة ضمير معذب يحرقه على  حياة حافلة بكل ما هو منافٍ للضمير.

هذه الحياة المزدوجة لم تكن سهلة أبداً. كان (س) تواقًاً للخلاص من مجونه وضياعه. السمو عن مستنقع الموبقات الذي كان يعيش فيه ويستمد من أقذاره سلطانه وجبروته. كل فجر بعد اعترافه بآثامه، يقسم لها، بأنها كانت ليلة الفسق الأخيرة، وأنه سوف يتخلى عن حياة ملوَّثة، ليمضي عمره معها. يهجر كل شيء ويهيم في البوادي بعيداً عن حضارة خرقاء ببريق وهّاج زائف، زيف حياته كلها. لكن الغروب ما إن يحل ويبدأ الشفق النحاسي يوشح البساتين والحقول ومياه دجلة بحمرة الكآبة والمجون، حتى تتصاعد عواءات مكلوبة من أعماقه تحثه على الثمالة ومناجاة رفاق الخطيئة. حبال طويلة شائكة وقوية متجذرة في أحشائه وعظامه، تشده إلى حياة الليل والتلذذ بمشاهد العذاب السادي المازوشي، والفكاك منها كان يعني موته. فيحتسي كؤوس الخمرة وأنفاس الحشيش ثم ينزل إلى بغداد.

الأعوام تمضي وعذاباته تتفاقم والوطن من حوله يذوي ويحتضر تحت حصار لا يرحم ويغادره خيرة أبنائه، بينما الدولة يستفحل سرطانها ويستولي عليها بالتدريج رجال منحطون تفاقموا مثل جراثيم في أزبال هزائم وخيبات. تضاعف الطلب على الغواني بصورة متسارعة تفوق الحساب. كلما استفحلت أزمة الوطن واقتربت النهاية التي يدركها الجميع، تكاثر الرجال المرتادون لغرف التعذيب. أصبح لدى (س) عشرات الشقق في أنحاء بغداد، بل صارت لديه فروع في جميع المحافظات بما فيها محافظات الشمال المحمية. بسبب الحصار صعب استيراد أدوات التعذيب الجنسي، فتمكن (س) بحكم علاقاته المتشعبة أن يتم تصنيعها وطنياً. كان (س) فخوراً باختراعه طريقة وطنية للمشاركة في رفض التهديدات الأمريكية: أمَرَ برسم الأعلام الامريكية على شراشف المضاجعة وجعل غوانيه يرتدين نفس بدلات ضابطات الجيش الأمريكي، وتعلّمنَ النطق بشتائم وبذاءات أمريكا أثناء حفلات التعذيب. لقد لاقت هذه الطريقة إقبالاً منقطع النظير، حتى قيل إن سيادة ابن الرئيس قد طلب نفس الأجواء للياليه الخاصة.

كم كان (س) يشعر بالأسف لأنه في تلك الظروف لم يترك بلاده ويهاجر مع خرسائه مثل الملايين غيره. بدهائه وماله وعلاقاته ومعرفته بأسرار المعارضين، كان بالإمكان أن يتبوأ منصباً قيادياً في المعارضة ويصبح الآن في صفوة الحكام الجدد. الكثير من زبائنه الأوفياء من كوادر الحزب والدولة والثقافة التحقوا بالمعارضة وعادوا يقودون الدولة الجديدة التي حطمته الآن. أدرك جيداً أن الكثير من قادة النظام الحالي  يودُّون القضاء عليه خوفاً من كشفه لأسرارهم.

*   *   *

كانت جلستي تسمح لي أن أشاهد النافذة مقابلي، بينما صاحبي (ص) كان ظهره إليها. بدأت ألمح من بعيد، اندلاع نيران كانت تتفاقم في أرجاء البستان. لكنني ولسبب مجهول لا أستطيع تفسيره حتى الآن، بقيت متجمداً في مكاني شاعراً بخدر لذيذ وكأني في عوالم حلم وفقدان. كانت كلمات صاحبي تأتيني على شكل صور كما لو كان هو نفسه جزءاً من فلم يجري أمامي. بدت لي مشاهد النيران وهي تحرق النخيل وأشجار الحمضيات وتشع في أرجاء السماء وفي مياه دجلة، كأنها جزءاً طبيعياً من أحداث تلك الحكاية التي أسمعها وهي تجري أمامي:

كما ترى يا أخي فإن هذه الحالة الاستثنائية كان مقدراً لها أن تنتهي. ذات ليلة عاد (س) إلى قصر العزلة ثملاً منتكساً حائراً تاركاً وراءه بغداد تعيش بانتظار ساعة الصفر للاجتياح الأمريكي. كان الجميع في حالة نفسية تحت الصفر بانتظار هزيمة محتمة، بينما عويل اللذة يتعالى من جميع شقق التعذيب الجنسي في الوطن. كان في حالة إحباط وخيبة وتأنيب ضمير؛ بحيث إنه اقتنع حينها بأن ليس أمامه غير واحد من حلَّين: إما أن يقتل نفسه.. أو يقتل خرساءه.. أو يموت الاثنان معاً!!

في هذه الأثناء هبت عاصفة راحت تثير الضجة في  الفضاء وتضرب جدار القصر بقبضات وحشية. سحب (س) مسدسه واتجه مباشرة إلى غرفتها. كانت كعادتها جالسة في العتمة عند النافذة المغلقة تراقب بزوغ الفجر من خلف الزجاج رغم حلكة السماء التي اجتاحتها جحافل غيوم سوداء. كانت الريح تطلق زعيق موحش مثير للشفقة، بينما خرسائه ما زالت في تأملها المناجي. من دون انتظار أو تردد صَوَّبَ مسدسه نحوها واستعد لإطلاق رصاصة الرحمة. في هذه اللحظة ولأول مرة رآها تنظر إليه.. لم يكن يرى في العتمة ملامح وجهها، لكن عينيها كانتا متوهجتين ببريق مثل نجمتين أو جمرتين أو عينَي حيوان مفترس.. حين قدحت البروق توهجت خرسائه فَبَدَتْ مثل إلهة خرافية تمارس سطوتها على الوجود. من خلفها تحولت قامات النخيل إلى أشباح محاربين بسيوف نارية. أصابه الجزع وتجمدت أصابعه على الزناد وشعر بالاختناق كأنه في واحد من كوابيسه التي طالما شاهد فيها أمه ملفعة بالسواد تأتيه وهو مرتعب مختنق. لا يدري كيف وجد نفسه فجأة يلقي بالمسدس على الأرض ويجثو أمامها واضعاً رأسه في حضنها وهو يجهش ببكاء مر.

امتزج صوته بانفجارات رعد وهو يعتذر منها طالباً الغفران.. يعاهدها بأنه سوف لن يخونها أو يتنكر لها أبداً.. منذ هذه الساعة سوف يهجر كل أملاكه وغوانيه وسلطانه ويهرب بها خارج الوطن.. سوف يعيشا وحيدين في جزيرة نائية أو واحة مهجورة..

فجأة اهتز الكون بانفجارات جبارة كأن الأرض كلها قد استحالت إلى حرب شعواء.. إلى بركان ثائر.. كل شيء راح يتداعى.. السماء والأرض والحيطان وحتى بدنه. وعندما أمْسَكَهَا لكي يهرب بها عبر النافذة تفجَّر كيانه وشعر بأنه يغيب عن الوجود.. حتى اللحظات الاخيرة ظل متشبثاً بمعبودته.. ما عادت تهمه حياته أبداً.. هي وحدها، خرسائه وآلهته.. بأنفاسه الاخيرة انبثقت صرخات مخنوقة:

ـ اهربي.. اهربي.. خلصي نفسك.. أرجوك اهربي..

وهو في ضباب فقدان وغبش موت متفاقم رآها تطبع على جبينه قبلة وداع وتشرع بالارتفاع كأن قوة عليا تجذبها نحو الفضاء، فتعلو وتعلو متسامية نحو سماء تنقشع عنها الغيوم..

 

*   *   *

في اللحظة التي بلغ بها صاحبي (ص) جملته الاخيرة، اهتز الكون من حولنا كأن السماء قد سقطت علينا، وتفجرت الأرض في بركان هائل، لتبلع صاحبي وغرفتنا والقصر وكل ما هو مرئي من حولي، ثم أنا كذلك ابتلعني الدمار وغبت عن الوعي وعن الوجود بأكمله؟!

لا أدري كم من الزمن قد مضى عليَّ، عندما فتحت عيني لأجد نفسي تحت الأنقاض وحيداً لا أرى غير خراب القصر وجذوع نخيل وأشجار محترقة ودخان وصمت ينتشر في الأنحاء. خرجت من جحري ورحت أزحف مثل حيوان جريح، كلّي حروق وخدوش ورضوض، وأنا أشعر بعطش قاتل وكأن حرائقاً لا زالت مندلعة في جوفي. بعد جهود عظيمة بلغت أخيراً جرف النهر ورحت أشرب وأشرب. دون أي تفكير ارتميت في قارب مهجور وتركت دجلة يأخذني أينما يشاء. وأنا مستلقٍ على ظهري محدّق إلى السماء تشّع بحمرة فجر متصاعد. ومن بعيد تهيأ لي كأني أسمع شجى غناء نسوي يمسَّ قلبي وَيغَمَرَ روحي بحزن وفرح وسؤال..

ليسـت خاتمـة

هنا صورة رقم 19

جبل الأحلام

بعد أزمان وأزمان سأبلغ قمة جبل الأحلام

أنظر إلى الحياة تحتي وأناجي السماء:
إيه يارب، لقد سأمت هذا العالم الساذج

الذي يتشدق بذرى العقل وهو في هاوية الجنون

خذني أيها الحبيب إلى كوكب آخر نظامه بالمقلوب:

نهاراته أقمار ولياليه شموس

غاباته رمال وبواديه مروج

يعلمني أطفاله ويلاعبني آبائه

تحنوا الي نساؤه ويهابني أسياده

تسافر لي مدنه وتحلم بي أحلامه

حكوماته ضحكات وأمواله كلمات

تتطاير الحمامات من أسلحة جيوشه، وينام الحراس في زنازينه

في الجوع نلتهم نجومه، وفي العطش نشرب أنواره

تسير في روحي قوافله، وتعشعش في قلبي عصافيره

www.salim.mesopot.com

 

(*) مقطع من قصيدة (حب وجلجلة) للشاعر اللبناني (خليل حاوي)

(*) هذه القصة نشرت في جريدة الحياة اللندنية / الاثنين 24 نيسان عام 2000 / ص 10. أي قبل نهاية صدام المعروفة بعدة سنوات.