رسالة المانيا

معرض فرانكفورت للكتاب وجائزة الكتاب الألماني

سلمى حربة

اختتمت فعاليات معرض الكتاب الدولي في فرانكفورت يوم الرابع عشر من أكتوبر بعد خمسة أيام حفلت بالنشاطات الثقافية والفعاليات الفنية، منها ثلاثة أيام خصصت لعقد صفقات شراء وبيع حقوق النشر للكتاب المؤلف بأنواعه أو المترجم، وتبادل حقوق وتصاريح الملكية الفردية وحقوق النشر وتشمل هذه العملية كل المنتجات المتعلقة بالمعرفة سواء كان ذلك في شكل كتب ورقية أو أفلام سمعية وبصرية والعاب إلكترونية وغيرها من الوسائط الثقافية. لقد كان هناك أكثر من 7448 عارض من 110 بلدا وأكثر من 400 ألف عنوان جديد بينها121 ألف كتاب يعرض لاول مرة، وقد أقيم على هامش هذه الدورة من المعرض ما يقارب من 2500 نشاط ثقافي شارك فيه كبار الكتاب والفنانين والمبدعين في مختلف المجالات المعرفية والعلمية، ووفقا للمنظمين فان المعرض أولى اهتماما كبيرا للكتاب السياسي وتفعيل قنوات الحوار بين الثقافات والدفاع عن حرية الكلمة. المعرض بهذا المفهوم ليس سوقا فقط وانما هو منبر للحوار، ولا أريد الكتابة عن ضعف مشاركة العرب في هذه النشاطات فالناس هنا قد فقدوا الثقة في مشاركاتهم التي أعطت انطباعا من عام2004 عندما حل العرب (من المحيط الى الخليج) ضيوفا على المعرض ولم يستطيعوا مجتمعين أن يقدموا شيئا مهما للآخرين، على كل حال نحن هنا لسنا بصدد تقييم هذا الغياب فكل عام يعاد الحديث في هذا الموضوع وتمتلئ أعمدة بعض الصفحات الثقافية في توجيه الذنب لهذا الطرف أو ذاك ناسين أن هموم الأدباء أنفسهم المشاركين في المعرض كانت في واد وهموم الأدباء في العالم في واد آخر، لنكن واضحين مع أنفسنا "نحن لا نعرف كيف نطرح قضيتنا وكيف نعرض موضوعنا" مثلما فعل الكوريين والهنود في دورات المعرض السابقة والكاتالونيين هذه السنة، وإلا ماذا فعلت الأعداد الغفيرة من الأدباء العرب الذين قدموا الى فرانكفورت في تلك السنة عام2004 من أجل تسليط الضوء على الادب العربي؟

اذن ماذا يستطيع نفر محدود من الذين حضروا هذا العام أن يفعلوا وماذا تستطيع كتب عربية قليلة ترجمت الى الالمانية حديثا أن تفعل، على سبيل المثال لقد تمت ترجمة رواية "عبث الاقدار" لنجيب محفوظ في معرض حريص على تقديم ما هو جديد في الادب العالمي، كان الله في عوننا. سوف لا أتطرق الى تلك الصفقات وأرقامها ولا الى الألف أديب ومفكر ممن شاركوا في تلك الفعاليات فربما الصحافة جاءت على ذكر ذلك، وإنما أريد تسليط الضوء على التقليد الذي سار عليه المعرض وهو أن تحل دولة أو منطقة ضيوفا، ما يوفر الفرصة لها لعرض أدبها المعاصر أو قضيتها وعرض فعالياتها فإذا كان عام 2004 قد خصص للعرب ضيوف شرف ثم لكوريا الجنوبية عام 2005 أما العام المنصرم فقد أعطيت الفرصة للهند لتحل للمرة الثانية ضيفة، في هذا العام حل إقليم صغير ضيفا على المعرض هو اقليم كاتالونيا في شمال شرق أسبانيا الذي عاصمته برشلونة، ويعتبر هذا أغنى اقليم أسباني وتكون اللغة التي يكتبون بها وحدة لغوية خاصة بهم عانت من الاضطهاد كثيرا، بشكل خاص في عهد فرانكو، لقد عانى أدبهم من الظلم والاضطهاد والتفرقة من قبل الادب الاسباني الذي لم يسمح إلا أن يكون هو في واجهة المشهد الثقافي، ومن جهة أخرى خاض أدبهم صراعا مع نفسه بين من يكتبون من أدبائهم باللغة الأسبانية، وبين من يكتبون باللغة الكاتالونية، وكان لكل من الطائفتين رأي مختلف فحجة من يكتب بالأسبانية منهم أنه يخدم قضيته أكثر من ذلك الذي يكتب بلغة لا يقراها إلا أناس يفهمون هذه اللغة وهؤلاء عددهم محدود، فالكتابة بالأسبانية تهيئ سعة الانتشار وهي بشكل عام لغة شعوب أمريكا اللاتينية وأسبانيا، المهم، كانت المشاركة فقط للأدباء الذين يكتبون بالكاتالونية وعددهم كان 130 كاتبا ومؤلفا فقد أستبعد الكثير من أدبائهم الذين يكتبون بالأسبانية حتى لو تناولوا في كتبهم موضوع كاتالونيا.

وقد أثار هذا الموقف من المعرض خلافا شديدا لأن القضية ذات حساسية سياسية، واشترك في ذلك السجال كتاب ألمان وأسبان بعضهم رأى إمكانية استضافة أسبانيا كدولة تضم الأسبان جميعا ومن ضمنهم الكاتالونيين والباسكيين وغيرهم، وقد أعلن كتاب اسبان مشهورون انهم سيقاطعون المعرض من منطلق ان استضافة كاتالونيا تدعم الخلافات بين الأسبان وحيث ان اللغة الكاتالونية لا يتكلم بها سوى سبعة ملايين وذلك عدد نفوسهم. لكن اللغة هي احدى الرموز القوية للمنطقة الساعية لتأكيد هويتها القومية تمييزا لها عن بقية أقاليم أسبانيا، السلطات الكاتالونية رأت رأي المعرض بمثابة فرصة لدعم ثقافة (أمة بلا دولة) فيما يتهم المحافظون الأسبان الكاتالونيين باضطهاد اللغة الأسبانية، وتشعر مدريد بالقلق من التيارات الانفصالية داخل الحكومة الكاتالونية التي أتيحت لها الفرصة كي تستغل حدث المعرض ـ في خدمة قضيتها، وبالفعل كانوا مصممين، الحزب الكاتالوني الانفصالي التي يقوده الاشتراكيون في برشلونة سعى للاستفادة من ذلك إذ خصص لهذه الفعالية 12 مليون يورو، الهدف من ذلك هو اقامة جسور للحوار والتواصل بين البشر وإيضاح قضية وتسليط الضوء على إنتاجهم الثقافي والإبداعي، المهم أدت الضيافة غرضها فقد كان للأدباء هؤلاء صوتهم المرتفع وفرض الادب الكاتالوني نفسه في أن يترجم الى اللغات الأخرى ومنها اللغة الالمانية، لقد أصبح واضحا أن للكتاب في هذه اللغة قضية أدبية واجتماعية وسياسية وتاريخية. لم يسع واحد منهم منفردا نحو هذا المترجم أو ذاك لكي يقنعه بترجمة عمل من أعماله، وإنما القضية هي التي جعلت المترجم يسعى الى المؤلف من أجل إيضاح القضية، سواء كان ذلك في السياسة أو الادب.

بالنسبة لألمانيا يمثل المعرض لها حدثا بارزا يتم فيه توزيع جائزتين هامتين الثانية في آخر يوم من المعرض وهي جائزة السلام وقد جرت العادة أن تسلم هذه الجائزة في كنيسة القديس بولس في فرانكفورت وكانت من نصيب المؤرخ الإسرائيلي "فريد لندر" لأبحاثه عن "المحرقة اليهودية" وكتابه "الرايخ الثالث واليهود" معتمد لمن يبحثون في الهلوكوست، ومن بين الذين فازوا بهذه الجائزة في الأعوام السابقة التركي أورهان باموك والعربية آسيا جبار. أما الجائزة الأخرى فهي "جائزة الكتاب الالماني" التي أعلنت قبل المعرض بيومين والتي تمنح في مجال الرواية المعاصرة التي تكتب باللغة الألمانية وقد فازت بها هذا العام يوليا فرانك عن روايتها "سيدة الظهيرة ". 

جائزة الكتاب الألماني
اهتمت الصحافة الألمانية كثيرا بجائزة الكتاب الألماني وبالروائية "يوليا فرانك" فقد كتب عن الجائزة وعنها الكثير معـتـبـرة إيـاها واحدة من الروائـيات الـلواتي فزن بجائزة رفيعة المستوى بجدارة، ومعتبرة الجائـزة لا تـقل في أهـميـتها عن غـيـرها من الجوائز الخاصة بالأدب الروائـي العالمي.  قبل بدء فعاليات معرض فرانكفورت للكتاب بيومين وبالتحديد يوم 8-10-2007 أعلن الفوز بجائزة الكتاب الالماني وقدرها 25 ألف يورو، تقدم الجائزة من قبل اتحاد بورصة تجارة الكتاب الالماني، وقد فازت بها الروائية يوليا فرانك ذات السبعة والثلاثين عاما عن روايتها "سيدة الظهيرة " وقد اعتبرتها لجنة التحكيم أفضل رواية كتبت باللغة الالمانية هذا العام، وكان من حقها أن لا تصدق بذلك، كما صرحت لأكثر من وكالة أنباء وصحيفة لأن تاريخها في كتابة الرواية ليس طويلا مثل بعض المتنافسين ولأن الروايات المدرجة على لائحة التنافس وصل عددها الى مائة وسبعة عشر رواية من 72 دار نشر، كتابها كانوا من ألمانيا وسويسرا والنمسا، وأمام لجنة تحكيم مكونة من سبعة بينهم كتاب رواية معروفين، وقبل إعلان الجائزة كان معروفا للجميع أن ست روايات من بين ذلك العدد ظلت تتنافس على الفوز، كانت تتنافس إذن مع خمسة من الكتاب المعروفين أحدهم الروائية كاتيا لانجه ـ مولر في روايتها "الأغنام الغاضبة" ومارتين موزنباخ في روايته "القمر والعذراء" (وهو الذي فاز هذا العام بجائزة بوشنر التي تمنحها الأكاديمية الالمانية للغة والشعر وفاز قبلها بسبع جوائز أدبية صيتها معروف في الأوساط الثقافية الالمانية وقد كتبت عن فوزه هذا في رسالة سابقة منشورة في الكلمة)، وتوماس جلافينيتس في رواية "هو أنا بالتأكيد" وميشائيل كولماير من النمسا في "مدينة الليل" "وتوماس فون شتاينكر في "هروب فالنر".

هذه الكاتبة ابنة عائلة معروفة باهتماماتها الفنية فأمها نحاتة وأبوها مخرج وجدها لأبيها رسام، أما هي فقد درست الادب الالماني والفلسفة في الجامعة فضلا عن أن لها خبرة واسعة في الحياة، فقد عملت نادلة في مقهى وعاملة نظافة ومربية أطفال وممرضة وموظفة في احدى الجرائد وخبيرة نصوص في إحدى الإذاعات. ويوليا فرانك تعتمد كثيرا على سيرة حياة أفراد عائلتها فيما تكتب، في روايتها السابقة "نار المخيم" عام 2003 (وقد ترجمت الى العربية في مصر منذ فترة قريبة) استندت الى سيرتها الشخصية في تلك التجربة التي خاضتها مدة سنة ونصف داخل معسكر للاعتقال في برلين الغربية مع والدتها بعد هروبها من برلين الشرقية.

أما أحداث روايتها هذه "سيدة الظهيرة " فتجري في النصف الأول للقرن العشرين في فترة ما بين الحربين العالميتين، والتي حملت معها أحداثا أليمة على الواقع الألماني، أهمها الحرب العالمية الأولى، وتدهور الوضع الاقتصادي، ووصول النازيين إلى السلطة، وملاحقة المعارضين لهم، ووصلت تلك المآسي ذروتها بإعلان الحرب العالمية الثانية وما جلبته معها من دمار وقتل وجوع وحزن. إلا أن يوليا فرانك لم تلعب دور المؤرخ للأحداث التي جرت في تلك الفترة على وجه التحديد، وإنما اعتنت في خلجات النفس البشرية وما يدور فيها، المتمثلة في شخصية بطلة الرواية الممرضة "هيلين فورزيش" والتي كانت تحلم بأن تصبح طبيبة في يوم ما. إلا أنه كان يتوجب عليها أن تتخلى عن هذا الحلم كما سبق وتخلت عن طفولتها السعيدة أثناء اندلاع الحرب العالمية الأولى، عندها تبدأ دوامة الضياع بالنسبة لهيلين، فبالإضافة لما جلبته الحرب معها من ويلات وآلام، نجد بطلة الرواية تواجه المتاعب مع زوج كان نازيا، وصلت الاحداث معها الى الحد الذي يجعلها تتخلى عن ولدها الوحيد لاحقاً.

في عام1945 كانت تلك الحرب على وشك أن تنتهي وكثير من الناس كانوا يهربون، هنا جاءت " هيلين "الى محطة القطار مع ابنها الذي كان بعمر تسعة أعوام لتتركه واقفا على الرصيف بينما ركبت هي القطار ليأخذها بعيدا الى حيث يمكن أن تكون هناك حياة جديدة، وهذا ما يضفي على الرواية طابعاً إنسانيا مكتوبا بنفس شاعري مرهف، هذه القصة هي سيرة حياة جدتها التي لم تتعرف اليها، هي إذن سيرة ذاتية لامرأة كان حظها عاثرا في الحياة وكانت أحداث الحياة قد أخذت منها عصارة شبابها ودفعت بها الى التهلكة بعد أن انطفأ أمامها كل شيء مضاء، المهم أيضا أن يوليا فرانك كانت على مسافة من كتابة هذه السيرة بالأسلوب الذي عرفت به، لم تقل لنا من المذنب من ترك ذلك الصبي على رصيف المحطة ولم تعتذر بالنيابة من أحد،لقد روت القصة بإحساس بارد وكان رأيها الذي تحدثت فيه الى الصحافة أن الادب الالماني الذي يطرح مثل هذه الإشكاليات قادر على أن يخوض جدالا أدبيا وهذا هو المدهش في النهاية. 

 

 

يوليا فرانك

أما عن سيرتها فقد ولدت مع أختها التوأم سنة 1970 في برلين الشرقية.

صدرت روايتها الأولى عام 1998 باسم "عبيد للحب"

أما مجموعتها القصصية " هبوط فاشل " فقد صدرت عام 2000 وفيها عرفت قدرتها على أن تترك مسافة بينها وبين الموضوع الذي يكاد يقترب من السيرة الذاتية وذلك ما أتاح لها امكانية عالية لأسر مشاعر القارئ.

أما روايتها " نار المخيم " عام 2003فتتناول الواقع السياسي فى ألمانيا المقسمة، وهى قصة أربع شخصيات هربوا إلى غرب ألمانيا، وقد التقوا جميعهم فى مخيم مارينفيلد لإيواء اللاجئين الذي تعرفه المؤلفة من خلال تجربتها الخاصة حينما انتقلت مع أمها وأختها التوأم إلى الجانب الغربي عام 1979.

وقد صدرت مجموعتها القصصية " أنا لا شئ وأنت كذلك " عام 2006.

أخيرا عام 2007 صدرت لها "سيدة الظهيرة ".

وللتعرف على هذه "جائزة الكتاب الالماني" لأهميتها نعود سنتين للوراء، الى 2005 السنة التي تأسست فيها الجائزة، فمن بيـن مائة وثلاثـون رواية مرشحة نال " آرنو كايكر " ِArno Geiger "جائزة الكتاب الألماني "وقدرها خمس وعشرون ألف يورو عن روايته الصادرة حديثا آنذاك (كل شيء على ما يرام Es get uns gut)، وبجانبه حصل خمسة روائيـين على جوائز تقديرية قيمتـها 2500 يورو" وهم "دانيال كلمان" عن روايته (مساحة العالم)، وتوماس لير عن روايته (42) وكيرت لوشوتس عن (جمعية الظلام) وجيـلا لوستكر عن (هكذا نكون نحن) وفردريكه مايوكر عن (هزّني الحب). وقد سلمت الجائزة له في مدينة فرانكفورت في احتفال أقامه مركز "نادي الكـتاب الألماني" الذي أشرف على منحها، وهذا النادي يسعى أن تكون هذه الجائزة التي أسست في نهاية عامـ 2005 مثل جائزة "بوكر" الإنجليزية و"جونكور" الفرنسية وقـد صرح المؤسس للجائزة ورئيس لجنتها والمتحدث باسمهـا في حينه الروائي "بودو كيرش هوف" أنه يعتبر الجائزتين المذكورتين قدوة ومثالا له، لذلك ينبغي أن تمتلك هذه الجائزة كل القدرات التي تؤهلها لكي تكون أفضل جائزة خاصة بالأدب الروائي الذي يكتب باللغة الألمانية سواء كان في النمسا أو سويسرا أو ألمانيا، وبالطبع وجود الروائي كيرش هوف بين سبعة محكمين للجائزة آخرين، من المعروفيـن أيضا في عالـم الأدب كنقاد أو متابعين، يعطي الجائزة قيمة أدبية عالية فروايات كيرش هوف التي تجاوز عددها الثمانين منها "من أين يبدأ البحر" و"مكان للحياة " جعلته واحدا من كبار كتاب الرواية في ألمانيا.

وكان اختيار اللجنة المحكّمة لرواية "كل شيء على ما يرام" من بين ذلك العدد الكبير من الروايات التي تقدمت لنيل الجائزة ومنها ما كان منافسا قويا، كأول عمل تمنح له الجائزة، صعبا ولكنه دقيق كما جاء آنذاك في خطاب الافتتاح للإعلان عن الجائزة.

يدور حـدث الروايـة الفـائزة "كل شئ على ما يرام" حول مصير عائلة نمساوية جرت على حياة أفرادها شتى الأحداث، من دون أن يتخلى الروائي عن إعطائها طابعا محليـا، الزمن الروائي طويل نسبيا فالأحداث تدور ما بين عام 1938 و2001 لذلك شارك في الأحداث شخوص ثلاثة أجيال متعـاقبة مستفيدا كثيرا من السيرة الشخصـية والقـص وصـوت الكـاتب نفسـه الذي يتـدخـل في الحدث ويعـلق على المفردات والجزئيـات الدقيـقة لتلـك الأيـام التي عفى عليها الزمن، تبدأ روايات " العـائلة " أو " روايـات الأجيـال المتعـاقبة "عـادة بدخول الأحـفـاد إلى البيـت الموروث ويعـملون على هذا الموضوع،هناك ماض يجب أن يبحث فيه لم يتطرق احد من أفراد العائلة اليه، على المرء أن يبحث في ذلك ويعيد الترميم للأشياء الخافية، وأن يفتش في السقوف والسراديب حتى يعثر على أدق أسرار العائلة المظلمة والمخفية والدفينة لأن الموتى " برأي بطل الرواية " عاشوا أكثر منا أو انهم يفوقون الأحياء دوما لما يملكونه من أشياء يمكن الحديث عنها. تبـدأ الرواية مع فيليب الروائي الخامل والكسول واللامبالي وقد ورث فيللا جدته بعد أن أصبحت خالية من ساكنيها، حديقتها مهملة وقد نمت فيها الأعشاب الضارة وتيبس الكثير من أغصان أشجارها والطيور تركت فضلاتها على الأسقـف. دخـل الحـفيد إلى الفـيللا وكـان كـل شئ كمـا هـو علـيه سابقا، الأثـاث لم يتـغـير وفي مكانه،كمـا كان قبـل ستين عاما لكن الأوراق الخـاصة والرسائل انتشرت في كل مكان وكـأنها طارت من الأدراج التي كانت فيـها، لقد اجـتهد في أن يجـمع ذلك كـله، احتـفظ بما ينـفعه ويرمي جانبا بما لا حاجة له به، لتنكـشف الأشياء وتـتضح شيئا بعـد شئ من خـلال قـراءة الأوراق ومتابعـة كل الخيوط التي تقـود إلى المنـاطق المجـهولة من حياة أفراد العائلة، بعد أربع وستـين يوما من البـحـث شد فيليب بطل الروايـة القارئ إلى تاريـخ عائلتـه، فـفي فيينا أيـام التـزاوج السـياسي بين النـمسا وألمـانيا الهتلرية عرف أشيـاء كثيـرة عن جـده وجـدته، الجـد الخائف على ثروتـه ونفوذه من الضيـاع وعلى مجـده ومكـانته الاجتماعية قبل الحرب من أن يفقدها،فضلا عن ذلك ازداد إحساسه بأنه يجب أن يتدخل في هذا الذي يدور في البلد ولكنه لا يستطيع وكان هذا العذاب يتصارع أيضا مع مصالحه، مع ذلك،فقـد نفـوذه وتوقـفت نشاطـاته وتعطـلت مصـالحه دون أن يفـعل من أجل ذلك شيئا، لقد شهد موت الكثير من أصحـابه ومعـارفه أما الذي يحصل داخل بناء عائلته فهناك الكثير، ابنته انجريد مثلا والدة فيليب قد وقعت في هوى واحـد من أعضاء الشبيبة الهتلرية وتزوجته، متحدية العائلة بهذا الفعل.وقد ذهب بالوصف بعيدا دون الخروج عن الخط الدرامي الرئيسي فمثلا عندما حاول فيليب تجسيد حياة والدته " انجريد "،تحكي الرواية عن18 أبريل 1945وكيف شهد والده نهاية الحرب بشكل درامي فقد أصبح يترنح من الذهول في وسط الشارع وقد فقد إحساسه بما يجري حوله بعدما خسر هتلر الحرب فضاعت على أثرها أحلامه، وكيف انتهت علاقته مع زوجته " والدة فيليب " آنذاك وهي التي تحدت العائلة وتزوجته لكن الأمر انتهى إلى الشجار الدائم وأسلوب التجريح بعد أن تخلى عن مسؤولياته العائلية. لقد أنتجت الرواية تواريخ مقنعة ومدهشة متهكمة وساخرة وقد حافظ على المسافة بين هذه الأشياء وهذه السخرية والدهشة.لا نستطيع هنا القول أن الروائي متأثر بتجربة الحرب وبمحاولة التعبير عنها ولا يحمل مسؤولية لأحد،والرواية ليست محاولة معاصرة لضرورة التعامل مع فترة النازية بيومياتها شديدة الغرابة، وليست هي مثل تلك الروايات التي تتساءل عن مصير الفرد والبشرية إذا ما تكررت التجربة النازية.

قام الروائي بذلك عن طريق رسوم تخطيطية أو تخطيطات أولية، ما يلبث أن يشبعها،بالأشكال والصور والاتصال مع الشخصيات، على سبيل المثال قد حمل شكل الوالدة هنا جانبين مزدوجين أو نسختين متوازيتين ومتناقضتين،كونها طبيبة وأم وكونها تكره النازية وتزوجت بنازي،وهذا هو النسيج الثمين. وفي الجانب الآخر، نجح آرنو كايكر في عمل توازن مقـنع وشديد الدلالة بين المتناقـضات في أفعال الشخصـيات وتوازن بين ما هو تاريخي وخاص، الذكريات والنسيان، المرء لا يعـرف كيف طبعت هذه الأجيال السابقة بهـذا الطابع لكن ماذا استـفاد فيليب من هذا كله؟ اصبـح دون شك أكـثر معـرفة بأصـل العائلة، لم يرد من سرده أن يكون تاريخيا أو معلومات محـايدة، وإنما بعد أن نشر غسيلها على الملأ، استطاع أن يعيش حياة مختلفة، عندما تعرف على جدته أصبح أكـثر فاعلية وأكثر استقبـالا لميراثه وأكـثر اعتناء به،لقد عاش في المـنزل، أرشف الرسائل التي عثـر عليها،والأثـاث اعتنى به وأزال الغبار عنه، شعر بالارتبـاط أكثر من ذي قبل، الأوقـات تغيرت وتبدلت عن ما كانت عليـه، وقف الحفيد أمام نفسه كما وقـفوا هم عندما تدق ساعة الحسم، لقد رسم لوحة دقيـقة ومتقـنة لزمن امتد على طوال ستين عاما. 

 

 

آرنو كايكر مع روايته " كل شئ على ما يرام "

السيرة الشخصيـة لآرنـو كـايـكـر:

ولد عام 1968 في منطقة (فول فورت wolfurt) في النمسا وفيها عاش ودرس إلى مطـلع شبابه.

في 1988 درس الفلسفة الألمانية القديمة ودرس علم الأدب المقـارن في (جامعـة فيـينا) و(إنسـبروك) في برليـن.

نال جـائزة كارل ماير Carl Majer للسيناريو في عـام 2001.ونـال جـائـزة فريدريش هولدرليـن Friedrich Hoelderlin في مدينة باد هومبورك التي تقع في جنوب ألمانيا عن روايتـه "كل شئ على ما يرام " في 2005

ونال أخيرا "جائزة الكتاب الالماني" عن الرواية نفسها.

أعماله الإبداعية: 

- " حقل القرع Kuerbisfeld "روايـة 1996.
-" حقيبة ومحـتوياتها " كتاب في الأدب والنقد،عام 1997.
- " مدرسة صغـيرة لراكبي الأحصـنة الخـشبية " رواية 1997.
- " الـلـهـب الشـارد " روايـة عام 1999.
- "كل شئ على الرصيف " دراما، بالاشتراك مع الكاتب المسرحي هاينز لنك،عام 2001.
- " الأصدقاء الطيبون " رواية عام 2002.
- " كل شئ على ما يرام " رواية عام 2005. 

* * *