كما يقول عنوان المقال يعلن الكاتب المصري عن أوجاع البعاد، لا تلك التي يثيرها الحنين إلى الوطن، وإنما التي ينتجها التأمل في حال الوطن، وما آل إليه من تخلف وهوان، بالمقارنة بغيره من المجتمعات التي احتفت بالعقل وتخلصت من الجهل والتشبث بأوهام الماضي والتعصب.

وجع البعاد

عيد اسطفانوس

هذا الطرح ليس لجلد الذات ، ليس لأنها لا تستحق الجلد، ولكن لأنه لم يعد يجدى الضرب على جلد ميت، فأنا ابن وطن ثرى غنى عامر، ثرى بموارده وسكانه، غنى بحضارته، وعامر بثقافته، مكانه الطبيعي رأس القائمة فوق في عنان السماء، لكن الواقع يقول أنه وطن مسبي ومسلوب، وطن سباه التخلف واستلبه الجهل، وطن أمسك برقبته عنصريون طغاه، قيدوه بسلاسل التمييز والطائفية والكراهية والفساد والعنف والقتل والدم، وهم يحاولون الان نسخ القائمة وتصديرها لهذه الامم علها تلحق بنا، تلحق بركب التخلف والجهل الذى ننعم به ونتمرغ فيه.

نعود الى رحلتنا، فقد منحت شهرا من الابتعاد القسرى، ولولا شوقي الجارف لرؤية حفيدتي ووالديها لما فكرت في السفر، السفر الذى كنت اعشقه في شبابي لكن التباين الشديد والمتسارع في الاحوال بين وطني والبلاد التي أزورها بات يسبب لي ألما نفسيا بعد العودة، وجع يستمر وقتا ليس بالقليل، بالإضافة الى أن التعامل مع السفارات الغربية يتطلب جهدا نفسيا ولوجستيا خارقا، فهم متعالون وخائفون ولا يميزون، لذا يعتقدون بأن تعقيد الاجراءات هي وسيلة حماية وهم واهمون.

وبقدر ما استمتعت بالتجوال والسياحة والعلاج فى ثلاث دول هي قلب أوربا، بقدر ما حزنت على أحوال بلادي، فلا شرطيا في الشارع ، ولا سيارات مقلوبة ومحترقة على الطرق، ولا أعمدة انارة مائله ومضيئة في منتصف النهار، ولا تلال أزبال مكومة على الطرق، وعلى ذكر الطرق فحدث بلا حرج عن النظافة والنظام والالتزام والتنسيق، وعلى الحدود بين هولندا وبلجيكا لم نر دبابات وأبراج مراقبة وجنود مدججين بالسلاح، رأينا عربة آيس كريم وأكلنا وعلى يسارنا بلجيكا وعن يميننا هولندا، ورأينا الجمال في الشوارع ، كل أنماط الجمال، وبالطبع رأينا الجمال الأنثوي الذى لا تملك عند النظر اليه الا أن تسبح لخالق الجمال، وهو جمال على سجيته لكنه مصان كجواهر داخل خزائن لايجرؤ أحد حتى على مجرد النظر اليه نظرة رديئة. وهنا تحضرني الصورة الكئيبة في أوطاننا حيث تغلف النساء تغليفا كاملا، ومع ذلك لا تسلمن من الجوارح المنتشرة في الشوارع ، وبالقياس النسبي على مستوى الجمال الأنثوي الذى رأيته هناك ربما لو لم يكن هذا الغلاف موجودا لكان حافزا أكثر على الفضيلة ، ورأينا الكنائس دورها مقصور فقط على دقة جرس، تذكر بانقضاء الساعات واقتراب الساعة الكبرى، وتذكرـ فقط تذكر ـ بالقيم العليا ومكارم الاخلاق المطلقة، الحرية والانسانية والقبول والتسامح والخير والجمال والعمل والنزاهة، وهى دعامات تقدم ورقى هذه المجتمعات.

لكن للموضوعية وحتى نخفف قليلا من درجة القتامة في أحوالنا نقول بلا مبالغة أو تحيز بأن المطار المصري الذى غادرت منه كان أفضل وأنظف وأرقى من مطار الوصول في قلب أوربا، والموضوعية تقتضى القول أيضا بأنه عندما زرنا شاطئا على بحر الشمال حيث تقترب درجة الرطوبة من 80%عرفت لماذا يعشقون شواطئنا، فقد كانت الطائرة الالمانية ذات ال 400 راكب القادمة الى أحد مصايفنا الشهيرة عندهم كنا الاسرة المصرية الوحيدة تقريبا بين الالمان والهولنديين والبلجيك والفرنسيين رغم بدء الدراسة رسميا في كل أوربا، نقطة أخيرة وهى بحكم خلفيتي المهنية فعندما حط الطيار على ممر الهبوط كان هبوطا ثقيلا بكل المقاييس، وهنا نذكر بسمعة الطيار المصري في العالم.

أما عن المنظومة الصحية التي شاءت الظروف ان نقترب منها فهي شيء خارج المقارنة، وعندما أقول خارج فأنا أقصد أن ما لديهم هو منظومة صحة أما ما لدينا فهو منظومة مرض، والبون شاسع بين نظام يستهدف تحسين صحة شخص عنده ارادة الشفاء، فهناك أمل في الحياه يود العيش لأجله، وبين نظام يستهدف انسانا بائسا محبطا مهموما ليس لديه ما يشجعه على الاستمرار في الحياه. وبالتالي ليس لديه ارادة الشفاء، وربما يذكرنا القارئ بالوعد الذى قطعناه في مستهل الطرح بعدم الاسترسال في جلد الذات، لكن في هذه النقطة بالذات أنا مضطر لأن ما رأيته رأى العين جعل واقعنا محبطا أشد الاحباط ، فما بين نظام تعليم طبى لا يصلح حتى لتأهيل حلاق صحة، وبين نظام صيدلة أقرب لمنظومة البقالة والعطارة العشوائي، وبين نظام تمريض فاشل تخاف حتى من التطلع الى وجوه أصحابه المنفرة، وبين أجهزة عقيمة عبارة عن لوطات منتهية الصلاحية أعيد طلائها في الصين وصدرت الينا، ويدير كل هؤلاء منظومة ادارية فاسدة، مع نظام تأمين يضحك فيه الجميع على بعض، فالطبيب يكتب للمريض ما يريده رخصة للتغيب المدفوع الأجر وقائمة من الادوية يستبدلها المريض بمستحضرات التجميل، ناهيك عما يسمى بالمستشفيات وهى مباني أقرب الى أي شيء عدا أن تكون مكانا للاستشفاء والنقاهة.

القارئ الفاضل لعلك تلاحظ مدى انفعالي ولا أقول انبهاري، فالحزن على هذا الوطن منبعه عشقي له، فأنا موقن كل الايقان أننا نملك ما لايملكه هؤلاء الذين سبقونا، لكننا مقيدون بسلاسل الماضي ... الماضي الذى لا يستطيع أحد الاقتراب لفحصه أو نقده أو تفسيره بقواميس العصر، ومن يغامر فمصيره محفوف بالمخاطر، أما هؤلاء فقد حطموا قيودهم. حطموا التابوهات وحرروا العقول ودفعوا ثمنا باهظا دماء ملايين من البشر، بسبب حروب دينيه وخلصوا الى أن حرية العقيدة والمذهب هي الحل الاوحد للنهضة، دماء ملايين من البشر بسبب حروب سياسية وخلصوا الى أن الوحدة والتكامل هي الحل الناجع وأصبحت الحدود مجرد علامات سياحية للفرجة، وخاضوا صراعات اجتماعية وخلصوا الى أن المجتمعات يجب أن تتكافل كوحدة واحدة فلا غبن أو تهميش أو احتقار أو تمييز لطبقة أو جنس أو مهنة ، وخاضوا صراعات اقتصادية وخلصوا الى أن الضريبة مقدسة وهى الوسيلة المثلى لتوزيع عادل للثروة على الجميع ،وأن توازن المصالح بين العامل وصاحب العمل هو ضمانة لاستقرار بيئة العمل المنتج المربح للجميع، واليوم هم يحصدوا نتاج عرقهم وجهدهم وبحثهم ومثابرتهم والتزامهم. أما نحن فنحصد نتاج التواكل والاتكال والغيبيات والكسل والفوضى والاهمال والتعصب والعنصرية نحصد دماء وقتلا وعنفا وبشرا متألمين وأطفالا بؤساء مشردين في مخيمات في طول هذه المنطقة الموبوءة وعرضها. هذا هو الوجع الذى يسببه البعاد نرى الصورة من خارج الاطار، نراها من بعيد فنعرف كم هي مؤلمة وقاتمة وحزينة.