يصور القاص الرسام العراقي الوضع البشري للعراقي في مدنه المنكوبة المنسية، من خلال رجل مثقف تلتبس عليه الأمور والواقع ولا معقولية الحرب والفساد فيتوحد مع نهر المدينة، وينعزل رائيا أخيلة وأشباح تتراءى له في نهر المدينة ومقاهيها، إلى أن ينفجر وسط مقهى.

الرجلُ الذي نصفهُ إنسان

عادل الهلالي

تَمرُ أعوام الموت ثقيلة , و أنا في مدينتي المحطمة التي سئمت العيش فيها لم تعد الديوانية، كما كانت , تختلف الآن . تنام تحت ستار الغبار و الظلام .. النيران تشتعل مرة .. تنطفئ مرة .. الناس يلعبون بالدموع النازلة من العيون النارية .. مشاكل كثيرة , مشاعر , ألام , خوف , قلوب ممزقه , كل الألوان فقدت في هذه المدينة , سوى ألوان الموت و الهجرة و ألوان الذكريات القديمة . كل تفاصيل الحياة تلاشت .. الشجاعة لا قيمه لها .. الخجل بؤس .. الطموح مرض ..فقط الخضوع والكوارث.. و كعادتي كل مرة أجلس وحيداً على ضفة النهر الذي يقسم المدينة إلى صوبين , نهر فراتي أعشقه ,أصبح جزء من ذاكرتي و امتداداً لوجودي . أسمع تنهداته الصغيرة تخرج من جوفه محملة بأساطير الخلق .. بأساطير التكوين .. أسافر في عوالمه .. أغوص في مياهه الهادئة التي تمشي الهوينا منذ فجر التاريخ , بل منذ فجر الخليقة. . أشعر برغبة في الكتابة .. كتابة شيء ما في داخلي .. لا أعرف بالضبط كيف أبدأ . و ليس المهم هي النهاية .. المهم كيف سأبدأ .. أغمضُ جفني .. تداهمني أحلام قديمة مع ذكريات تعود بي إلى غبش طفولتي . أستذكر بعض من دروس التاريخ خاصة تلك التي تحولت إلى قصص وأساطير ما زال البعض يتحدث عنها و البعض يعمل منها أعمالا مسرحية ناجحة .. كلكامش يصارع الوحوش و ينصر الخير ..كلكامش يبحث عن سر الخلود .. حمورابي أعلن مسلته الخالدة بقوانينها الإنسانية العظيمة .. اتسعت أحلامي حتى وصلت بي الأمنيات إلى أن أعيش معهم ولو يوماً واحداً ... حاولت أن أصرخ , أن أكسر حدة الصمت في الزمن المخجل الذي نعيشه الآن .. شعرت بعطش , دنوت من مياه النهر , لمست مياهه , شعرت ببرودته المنعشة و عذوبته الراوية , وبينما أغرف من مياهه بكفي , شاهدت بريقا يشتعل و ينطفئ , سمعت صوتا غريبا يتردد صداه في الكون المجهول . خيل إليَّ أني رأيت شخصا أو شبحا لشخص يسبح في مياه النهر . حاولت طرد الخيال المداهم . فهو لا شك وهم . فمن يقوى على السباحة وقت الغروب مع هذا الطقس البارد .. ثم ما الضرورة التي تجعل الشخص يسبح في مثل هذا الوقت ؟ . و قبل أن أكمل عباراتي الداخلية , تيقن لي أن رأسا بشريا ضخما أرتفع من جديد من تحت مياه النهر في وضع مراقبه و ترصد . . يراقبني و يراقب أشباح الناس وهي تعبر الشارع بلا مبالاة وباتجاهات لا تعي له معنى . رؤوس مدورة و مستطيلة , خفيفة و ثقيلة , تنتقل في الشوارع الرئيسية و بين الأزقة الضيقة باحثة عن المتعة وأخرى باحثة عن الخلاص ... عجوز مومس عيناها مشبعة بالكحل الرخيص تغمز لبائع قناني الغاز .. فتاة في ربيعها الثامن عشر ترتدي ملابس من عصر المماليك تنتظر دورها في طابور فرن الخبز .. رجل في الستين من عمره مستاء يبصق عصارة فمه على شاب مراهق يلاحق امرأة بعد أن يأس من تكوين علاقة حب مع فتاة بعمره .. سوق الهرج و المرج المزدحم بالبضائع المسروقة , و أخرى بيعت لسد رمق أطفال جياع .. طفل حافي القدمين شبه عارٍ في زقاق بارد رطب يمضغ قطعة خبز يابسة كما لو أنه يمضغ فخذاَ محمصاً .. سيارات إسعاف بسرعة جنونية تطلق صفارة الإنذار .. سيارة شرطه تطارد شباباً كانوا يشربون العرق في مكان منعزل و هادئ .. رجال دين بذقونهم الطويلة و عمائمهم العريضة متزينين بمحابسهم الملونة الجميلة يسيرون إلى الجامع ليلحقوا بموعد الصلاة .. رجل في الأربعين من عمره ثمل يترنح في مشيته يخطب في باب المقهى

- هنا .. جنت أكعد كبل عشرين سنه .. ألبس أحسن الملابس .. وأشرب أفضل أنواع العرق!.

 قبل أن يكمل كلامه سكب أحدهم فوق رأسه أعقاب السجائر وأعواد الثقاب .. يبتسم الرجل الثمل و يمسح النفايات عن رأسه و يقول بصوت حزين مرتعش:

- حتى حلم ما تخلونه نحلم ..ولو لحظه

أراقب مياه النهر وأترصد و أدقق مراجعا نفسي ووضعي، فربما ظهر علي عارض مرضي جديد غير عارض مرض القلب الذي أصبت بيه قبل بضع سنوات، وإلا ما هذا الذي أراه من أشباح في النهر وقت الغروب، كنت أسمع قديما جدتي تروي لنا عن حكايات الطنطل و السعلوة , كانت مجرد حكايات خرافية تجمعنا على موقد الشتاء البارد . لكني تيقنت الآن أنه رأس بشري ضخم ..ها هو يخرج من مياه النهر بكامل جسمه المرعب ..يقف منتصبا شامخا ..وحش بشري طويل القامة جداً .. راس بشري ضخم ذو ذقن طويل يصل إلى بطنه .. جسم ثور جامح ضخم أيضا .. يمتلك جناحان يستطيع أن يغطي بهما جزء من الشمس ..يقف منتصبا فوق المياه ..سرت القشعريرة في كل أنحاء بدني المرهق المتعب في هذه اللحظات .. بدأت أتصبب عرقا رغم البرد .. تحولت القشعريرة إلى رعشة , ثم رجفة , كرجفة سعفه في مهب ريح عاتية . ارتجاف لا إرادي .. لا أعرف سببه . أهو خوفاً من هذا الوحش الخرافي , أم خجلا من عجزي و جبني على مواجهته .. فأنا لا أستطيع أن أفعل أي شيء في هذه اللحظات المرعبة .. حاولت الهروب من المكان تاركاً أوراقي و قلمي , وبينما أدرت ظهري للنهر . شعرت بيد ثقيلة جدا تمسك بيَّ من كم قميصي .. ثم صوت جهوري أحسست يصل إلى أعالي السماء .

 - لا تخف .. لدي رسالة أريدك أن تبلغها إلى جميع أبناء المدينة.. قد تكون هذه ليلتي الأخيرة في هذه المدينة .. لي طلب واحد .. أريد الزواج من أحدى بنات المدينة الجميلات ..بشرط أن تكون ذات عقل يهزم الشيطان ... فمن يرغب بتزويج أبنته مني يدعها تقف في باب جامع المدينة و تحمل بيدها وردة .. وأنا سأختار واحدة منهن .. بعدها سيعم الخير في المدينة , و تنعمون بالحرية و الطمأنينة و السلام.

 ثم اختفى وسط النهر .. استدرت نحو النهر لم أجد له أثراً .. لا زلت في حالة اضطراب تام .. من المتعذر أن أتصور ما سوف يحدث لو شاع الخبر وسط المدينة .. وجدت نفسي في ممر الصدمة .. لملمت أوراقي و قلمي و تركت النهر وحده يجري كما كان منذ الآلاف السنين .. أسرعت بعبور الشارع .. دخلت المقهى .. أنظر بريبة بفضاء المقهى و أضوائه الخافتة .. ضوضاء و دخان و أدباء و مثقفين و عمال و كسبة و قرقعة أحجار الدومينو و رشفات أقداح الشاي الساخن وهواء نتن ممزوجا بعطر دخان النركيلة .. جلست على أحد المقاعد الخشبية .. غمر وجهي امتعاض , شعرت بالبرد يهز جسدي .. شغلت نفسي بمراقبة الدخان المتصاعد وسط المقهى , حاولت أن أسيطر على رجفتي بمراقبة التلفزيون المعلق في أحد الأركان .. خُيلَ إليَّ الرجل الذي نصفه إنسان و نصفه ثور مجنح يقول لي ..

- أنا أبن مدينتكم , أبن دجله و الفرات , لا أريد بكم الضرر . لا أريد الضرر بأي فتاة , لكن الخير الذي أحمله لكم يتطلب ذلك .. هيا يجب عليك أن تشيع الخبر بين الناس ..

- كيف سأشيع الخبر؟!. إن أشعته سيحسبوني مجنونا معتوها كذابا ..و أن صدقوني سيصابون بالهلع و الخوف و الرعب ..ومن منهم سيتطوع و يزوجك ابنته ؟ من سيضحي و يزوج أبنته لوحش خرافي ؟ .. , المديرون مشغولون بالصفقات المالية لبناء نواقص دوائرهم و مؤسساتهم , رجال الأحزاب منشغلون بالانتخابات والحصول على اكبر قدر من الكراسي , التجار و المقاولون مشغولون ببناء المشاريع الوهمية و البضاعة الراكدة في الأسواق العالمية , المحامون و القضاة مشغولون بالقضايا الجنائية التي باتت تجارة رابحة , أصحاب الأملاك العقارات مشغولون بارتفاع أسعار الأراضي و الأملاك , الأطباء مشغولون بتجارة صحة الإنسان . رجال الدين مشغولون بالعبادة و التوجيهات الدينية و فتاوي الحلال و الحرام . لا أعتقد أن أحداً سيستجيب من أهل المدينة النائمة تحت غبار الخوف ورعب المفخخات الدامية يوميا .. من سيجرؤ و يقدم ضحية أخرى لوحش خرافي .. لا أعتقد أن العقل الذي يستطيع إشعال النيران في المشكلات كي ينهيها إلى الأبد موجود الآن .. ثم أنا صحيح شجاع , أبحث كل الأمور في كل الميادين , لكني لا أملك الشجاعة الكافية في ميادين البحث عن وجهك و قلبك و حياتك و كل ماضيك .. لا أستطيع أن أتسلل و أغور إلى أعماق التاريخ , لو فعلت سيصفونني بالزنديق الكافر .. بغتة وبينما أنا أحاور نفسي، ظهر الرجل الذي نصفه إنسان و نصفه ثور مجنح على شاشة التلفاز , وأياد أثمه همجية بربرية تنفذ فيه حكم الإعدام , وهو عاجز عن صد ضربات الجلادين ... نهضت مذعوراً .. صرخت وسط المقهى .. أوقفوا هؤلاء اللقطاء .. أنهم يعدمون رجلا يحمل لمدينتنا كل الخير .. صرخت مرة أخرى .. مَن أراد منكم أن يخدع نفسه فليفعل .. مَن أراد أن يخدع الناس فليفعل .. مَن أراد أن يوقف الزمن فليفعل .. مَن أراد أن يذوب في الظلم فليفعل .. مَن أراد الجاه و الثراء فليفعل .. كل الأبواب مفتوحة لكم .. ولكن .. أوقفوا هؤلاء الأوباش .. أنقذوا هذا الرجل الطيب .. لم أسمع غير قرقعة أحجار الدومينو و رشفات أقداح الشاي الساخن ........