بمناسبة صدور طبعة جديدة من رواية منتصر القفاش الثانية «أن ترى الآن» يعيد محرر (الكلمة) هنا نشر مقالته عنها، والتي سعت إلى الكشف عن آليات السرد فيها وتقنيات الكتابة المراوغة، التي تعتمد على متاهات احتمالاتها الخاصة للكشف عن كثير من المسكوت عنه.

آنية السرد وتجميد الزمن الفارغ

في رواية «أن ترى الآن»

صبري حافظ

رواية منتصر القفاش الجديدة "أن ترى الآن" هى عمله الخامس بعد ثلاث مجموعات قصصية هى "نسيج الأسماء" عام 1989، و"السرائر" 1993، و"شخص غير مقصود" 1999، ورواية واحدة هى "تصريح بالغياب" عام 1996. وهى سلسلة من الأعمال القصصية الجيدة استطاع عبرها منتصر القفاش أن يوطد مكانته كواحد من أكثر الأصوات تميزا وأصالة فى جيل الكتابة التسعينية الجديدة فى مصر. وتؤكد الرواية الجديدة هذه الحقيقة وتطرح كاتبها باقتدار كقصاص وروائى له لغته السردية الفريدة ومغامرته المتميزة فى بقاع خصبة مثمرة. كما تؤكد فى الوقت نفسه وثاقة العلاقة بين عالم هذه الرواية الجديدة وعالم روايته السابقة "تصريح بالغياب" ومنطلقاتها السردية. وهى علاقة لا تؤسس أواصرها بالمماثلة، وإنما بالمفارقة والمغايرة من حيث طبيعة العالم والتجربة، وبمواصلة الرحلة السردية والمغامرة القصصية فيها من حيث المنطلق.
تجربة مختلفة عن سابقتها
فالتجربة التى تقدمها هذه الرواية شديدة الاختلاف عن تجربة التجنيد فى المستشفى العسكرى فى الرواية السابقة. وكذلك المتاهة السردية التى تتخلق هنا مغايرة لتلك التى واجهناها تحت وطأة التجنيد وأوامره. فنحن هنا فى عالم تكوين الأسرة الجديدة فى الزمن التسعينى الصعب، بكل ما يحيق به من استلاب وكوابيس لا تقل حدة عن كوابيس مرحلة التجنيد وإن اختلفت عنها كلية. لأنها كوابيس العجز عن التحقق وعن السيطرة على الحاضر الغريب الذى تنسرب أيامه من بين أصابع البطل دون أن يستطيع إيقاف ما تجلبه معها من تردٍ ودمار. ونحن فى الوقت نفسه بإزاء تجربة سردية تسعى لاقتناص جوهر عالم سخيف ليست الحياة فيه سوى مزحة عملية ثقيلة وممجوجة، ولكنها قادرة على اقتناص هذا العالم فى شباكها المحكمة. أما المنطلق السردى فإنه يماثل منطلق الرواية السابقة، ويقطع به خطوات فساح فى نفس الشوط. فهى تعتمد كسابقتها على سرد الصور والمشاهد أو ما سميته بالكتابة المشهدية، وإن حاولت إفراغ هذه المشاهد من أى أثر للدرامية أو الانفعال، وتخلصت كلية من الحبكة الدرامية للسرد، وانصب تركيزها على تشكلات الصورة وما تنطوى عليه من حركة. كما ينطلق السرد فيها من خبرة حميمة بالتجربة المسرودة، خبرة شديدة الوضوح والتألق، لأن الوضوح هو هم القفاش السردى الأول فى كل ما يكتبه، كما أن الوضوح فى هذه الرواية مطروح أمام الالتباس، وفى مواجهته باستمرار، بل إنه الوضوح الذى يصوغ هذا الالتباس فى أجلى صوره وأشدها نصاعة. وهى نصاعة ضرورية فى هذه الرواية التى تهتم كما يقول عنوانها بضرورة "أن ترى الآن" بمعنى أن تتجسد أمام القارئ آنية السرد وآنية اللحظة المسرودة معا. فهم الكتابة الجديدة الأول هو رؤية هذه الآنية وفهمها وتجسيدها بشكل ملموس ومحسوس أمام القارئ والكاتب على السواء. وشاغل هذه الرواية الجديدة هو رؤية الآن كما يقول عنوانها، والعنوان هو عتبة النص الأولي. فإذا كان شاغل الكتابة السردية القديمة هو رؤية الحاضر فى سياق صيرورة تاريخية تجذره فى ماضيه، وتسعى لاستشراف مستقبله، فإن هم الكتابة الجديدة هو رؤية الحاضر فحسب، معزولا عن كل ما قبله، وعن كل ما يلحق به من ماض أو مستقبل.
التركيز على الحاضر
والتركيز على الحاضر ملمح أساسى من ملامح الهاجس الكيانى للرواية الجديدة فى مواجهة الهاجس المعرفى للرواية السابقة عليها. لأنها كتابة ماهية اللحظة الآنية والسعى للتعرف على حقيقتها. وتوشك هذه الرواية الجديدة أن تكون تجسيدا للحفر فى أغوار اللحظة الآنية التى يعيشها البطل "إبراهيم" فى نوع من الوجود بلا ماهية. ومحاولة لرسم أدق ملامحها بالتفصيل الممل إن جاز التعبير، لعل القارئ يحدق فيها فيرى "الآن" العربى الكئيب على حقيقته وهو يتبدى مراوغا من ورائها، وكأنه هو الآخر مزحة عملية سمجة، ويرى نفسه فى المرآة فينكرها عدة مرات قبل صياح الديك. لأنها تجسد لنا الوجود العبثى الذى يسم هذه اللحظة التاريخية الراهنة التى يعيشها العرب جميعا، وقد نزعت عنهم الأحداث كل ماهية، واستمرأت أنظمتهم التبعية، وفقدت مجتمعاتهم المشروع والهدف، وانعكس هذا كله على أدق تفاصيل الحياة اليومية للمواطن العادي. لكن علينا قبل الاستطراد فى تحليل حالة "إبراهيم" والفندق الذى يعمل فيه والآيل للتصفية والدمار، ودلالتهما معا على الواقع المصرى والعربي، أن ندخل القارئ معنا فى شبكة أحداث هذه الرواية التى لا يحدث فيها شيء يستحق الحكي. ولكنها استطاعت برغم تقتيرها الشديد فى الأحداث، وقصر السرد فيها على حفنة صغيرة من الشخصيات أن تخلق استعارتها الروائية الثرية والموحية معا.
فصول قصيرة متتابعة
فـ"إبراهيم" بطل هذه الرواية العارى من أى بطولة نموذج للمواطن العادى النمطي. يذهب إلى عمله فى الصباح ويعود إلى بيته فى المساء، دون أن ينشغل بأى شيء خارجه من أحداث. لا يقلقه إلا أنه ــ مع أنه فى مقتبل العمر، وقد تزوج حديثا ــ قد بدأ ينسى أسماء الأشخاص، وصورهم. بل إنه لا يدرك أن لهذا النسيان أى عواقب وخيمة حتى تقع الواقعة التى تحرك سكون حياته الخاملة، وتترك حصاتها التى سقطت فى مياهه الراكدة دوائرها المتلاحقة والمتتابعة والتى تتسع بالتدريج. دوائر عديدة تتعدد بتعدد فصول الرواية وتتابعها فى تلاحق سريع كتلاحق تلك الدوائر. لأن الرواية التى لا تتجاوز صفحاتها المئة والعشرين صفحة تتكون من أربعين فصلا قصيرا لا يزيد معظمها عن الصفحة أو الصفحتين إلا قليلا، وهى بنية سردية استخدمها منتصر القفاش فى روايته الأولي، والتى تتكون هى الأخرى من عدد كبير من الفصول القصيرة المتلاحقة. وتقسيم الرواية إلى فصول قصيرة، ينطوى على دافعين متناقضين أو دلالتين متنافرتين: أولاهما هى الرغبة فى أسر جزئيات العالم فى لوحات مشهدية قصيرة، يمكن تصويرها بدقة واستيعابها بسهولة، وثانيتهما هى الولع فى الوقت نفسه بتفتيت العالم وتهشيمه والكشف عن مدى تفككه بدلا من إضفاء أى وهم بالتماسك عليه. لكن هذا التقسيم يقوم بمهمة أساسية فى هذه الرواية وهى عملية تقطيع الحدث بصورة تضفى عليه نوعا من الإيقاع السردى من ناحية، وتتيح لنا متابعة فصول هذه المزحة السمجة التى كدرت حياة البطل المكرورة الرخية، وساهمت فى الوقت نفسه فى تخليق استعارة الرواية السردية الدالة.
عالم احتمالات
تبدأ هكذا ربما كانت البداية مع ازدياد نسيانه أسماء أصدقاء وأقارب وجيران، إلى حد أنه صار يحذر من ذكر اسم محدثه أثناء الحديث طال أو قصر (ص7) تبدأ الرواية بربما الاحتمالية، فنحن فى عالم الاحتمالات والالتباسات. وهى بداية تشى بأننا بإزاء عملية تحليل ذاتية تحاول التنقيب عن السبب فيما وقع، أو عن بداية هذا التدهور والانهيار. ولذلك كانت ربما كانت البداية تلك، بداية المسألة التى نغصت على "إبراهيم" حياته المكرورة الهادئة. فالرواية فى مستوى من مستويات المعنى المهمة فيها هى رواية "بحث إبراهيم" عن أسباب ما جرى له. وهى رواية إجباره على التحديق فى حاضره عله يفهم ما يدور به، وما يراد له فيه. لأن الرواية تبدأ منذ فصلها الأول بنوع من مساءلة النفس وتمحيصها باين الواحد بيعجز بسرعة (ص7) فنحن هنا بإزاء فرد من أبناء هذا الجيل الذى انتقل من مرحلة الصبا إلى مرحلة الاكتهال أو الشيخوخة دون أن يعيش شرخ الشباب كما هو الحال مع هذا الجيل التسعينى الجديد. قلت إن الرواية تبدأ بربما الاحتمالية، وتقدم لنا منذ صفحاتها الأولى إنسانا يعيش بإحساس مثقل بالذنب دونما إثم أو جريرة. يعتذر باستمرار للآخرين لنسيانه أسماءهم. فقد أدرك منذ صفحات الرواية الأولى أن مايفعله ينفصل عنه سريعا، ليسلك مداره الخاص، ولا يرسل له سوى ضوء نجم بعيد يكان أن يراه ولايملك القدرة على تفحصه (ص8) وهذا هو ما يدور فى الرواية بالفعل.
لعبة خطيرة
فقد بدأ لعبة لم يدرك عواقبها الوخيمة، بدأ فى محاولة للتغلب على النسيان، التقاط صور لزوجته "سميرة"، حتى يعود لملامحها كلما انسربت من ثقوب ذاكرته.لكن هذه المحاولة سرعان ما تحولت إلى لعبة استمرأتها زوجته، واندفع هو فيها دونما تروٍ أو تفكير. فأخذ صورا لها فى أوضاع كثيره بعضها مثير، وبعضها شخصى أو حميم إلى أقصى حد. وقد اثارت هذه الصور دهشة صاحب محل التصوير وإعجابه بجمالها وغرابتها معا، فأحس بالحرج. وقرر ألا يحضر له الفيلم الثانى (ص10) ولكن هذه الصور سرعان ما وقعت فى يد شريرة عبثت بها، وأضافت بالقلم شنبا أو طمست عينا أو زودت الجسد بشعر غزير، وبعثت بالصور فى خطاب مجهول المرسل إلى زوجته، فغضبت وتركت له البيت. ولم يكن "إبراهيم" قد عرض صور زوجته إلا على صديقين حميمين: "أحمد" و"سمراء". وكانت "سمراء" وهى صديقة حميمة من أيام الدراسة قد سخرت من بعضها ووصفت ثدى سميرة بأنه مترهل رغم أنها لم تنجب ولم ترضع (ص11) وربما كانت هذه السخرية هى بداية التشويه الرمزي، قبل حدوث التشويه الفعلي. ولذلك فإنه يصر على أن "سمراء" هى التى فعلت هذه الفعلة النكراء برغم انكارها المستمر لذلك.
تصرفات غريبة
هذه المزحة العملية السخيفة التى نغصت حياة "إبراهيم" هى كل ما يدور فى هذه الرواية من أحداث. فالرواية على المستوى السطحى للسرد ليس فيها شيء يستحق القص، اللهم إلا إصرار "سميرة" على معرفة الفاعل، وتحميلها زوجها للمسؤولية، ومحاولة "إبراهيم" مواجهة الصديقين اللذين عرض عليهما الصور واتهام كل منهما على حدة بأنه هو الفاعل. وقد انكرت "سمراء"، كما أنكر أحمد. بل اقترح ــ وهو اقتراح بالغ الدلالة على المستوى الاستعاري للرواية ــ أن "إبراهيم" هو الفاعل مفيش غيرك … فاكتفى إبراهيم بقول جايز … خاصة وهو يؤكد أن هذا كله ليس مرتبا فقط بالصور، وأن تصرفات إبراهيم كانت غريبة فى السنة الأخيرة من حياة الفندق (ص23). وتقدم لنا الرواية الكثير من هذه التصرفات الغريبة، التى استحالت إلى نمط حياة، من خلالها سردها لتفاصيل حياة "إبراهيم" بعد هجران زوجته له، وذهابها للحياة مع أختها "ناهد" فى بيتهم القديم، ومحاولته لاستعادتها، واستعادة حياته الراكدة لما كانت عليه، ولكن هيهات. فقد سقط هذا الحجر الفظ الثقيل فى بركة مياة حياته الآسنة، وما عاد بمقدوره أن يعيدها لما كانت عليه من ركود وخمول واستقرار. والرواية فى مستوى من مستويات الحدث فيها هى رواية بحث "إبراهيم" عمن اقترف هذه الفعلة الغليظة النكراء، دون أن يفلح فى الكشف عنه من ناحية، أو فى إقناع زوجته من ناحية أخرى ببراءته من المسؤولية عن هذه المزحة الثقيلة، والعودة بالتالى إلى البيت الذى دبت فيه الفوضى، وافتقد لمسات الزوجة وما يوفره البيت من أمن واستقرار.
رمزية الفندق وموقف "إبراهيم"
لكن الرواية فى مستوى آخر من المعني، وهذا هو الأهم، هى رواية التحديق فى حاضر "إبراهيم" وتمكينه من "أن يرى الآن" كما يقول العنوان. آن حياته الراهنة. لأن الرواية تكشف لنا من خلال هذه الأحداث السردية الشحيحة عن تضاريس الحياة التى يعيشها "إبراهيم" فى نوع من الوجود دون ماهية. وتلجأ الرواية فى هذا المجال إلى ما يمكن تسميته بعملية تجميد الزمن الفارغ الذى يعيشه "إبراهيم" فى لوحات مشهدية دالة. وهو تجميد بالغ الأهمية والدلالة لأنه مثل عملية التصوير بالحركة البطيئة فى الفيلم السينمائى يتيح للقارئ أن يتريث إزاء التفاصيل الصغيرة، بينما تتحول الأشياء فيها إلى استعارات توسع أفق السرد، وتحلق به فى آفاق رمزية دالة. ويتيح أيضا نوعا من التشوية أو التكبير للجزئيات والتفاصيل بطريقة تفرض علينا تأملها وإعادة التفكير فى معانيها. لأن الرواية تكشف لنا من خلال هذه التفاصيل الدقيقة كيف أن "إبراهيم" يمارس حياة بلا ماهية.لأنه لا يعى أقرب الأحداث إليه، وهو انهيار الفندق الذى يعمل فيه وإفلاسه. بالرغم من أن الجميع قد نبهوه إلى ضرورة القفز من السفينة قبل غرقها، والبحث لنفسه عن عمل آخر حتى لا يصمه غرق السفينة وهو فيها إلى الأبد، فيستحيل على الآخرين توظيفه. وحذروه من عدم وجود شغل فى الفنادق: أكيد صعب على أى فندق يشغل شخص فى مكان اتصفي، خصوصا لو كان بتاع حسابات (ص49). ولكنه بقى فى الفندق ليشهد فصول تصفيته حتى آخرها. وكأنه يعى على المستوى الاستعاري فى الرواية ألا مكان له خارج هذا الفندق حتى ولو تمت تصفيته.
ذلك لأن أن الفندق الذى يعمل فيه "إبراهيم" حتى آخر الرواية، والذى تتم تصفيته ويصر هو بدأب واستماتة من يريد انقاذ سفينة ميؤوس من انقاذها على التشبث به، يتحول فى هذه الرواية إلى استعارة موفقة لمصر، بل ولغيرها من الدول العربية التى استمرأت التبعية، واستحالت إلى فنادق أو شقق مفروشة تؤجر لمن يدفع أكثر للذين يتولون فى غيبة من أهلها ومن الزمن والتاريخ أمورها، ولا يهمهم إلا عمولتهم التافهة حتى لو أجروها بأبخس الأثمان. ومع ذلك فقد انهار الفندق بالرغم من تحويم المستثمرين النفطيين أو الخليجيين من حوله، وبالرغم من استماتة "إبراهيم" دون وعى منه فى ضبط كشوف حساباته، وتسجيل أدق دقائق ما على الدائنين له من مبالغ. فقد كان يعد كشوف الديون المستحقة للفندق أو عليه أول بأول دون انتظار أن تأتيه البيانات اللازمة من كل الجهات التى كانت تتعامل مع الفندق. فقد اكتشف ضياع المستندات الخاصة بها، بعد رحيل المدير المالى ونائبه اللذين قصدا ترك تلك الثغرات فى الحسابات دون أن ينتبه أحد. وسأله بهاء عن سبب عدم انتظاره، فاندفع يعلن عن حبه أن يكون عمله كاملا حتى آخر مستند معه. وكرهه أن يبدو مقصرا. لذلك ظل يعيد تلك الكشوف مرات ومرات كلما وصله جديد من الديون. وصار مشهدا عاديا تمزيقه لما ضبط حساباته ليعيد كتابة غيرها. ولم يستطع تحديد هل سيفهم من معه فى المكتب ما يفعله على أنه تميز ودقة فى العمل وحب له، أم خوف من أن يصبح بدون عمل، أم أنه شخص لا يمل التكرار ويظنه موهبة (ص52، 53)
والاحتمالات الثلاثة كلها صحيحة، فاستماتته فى التشبث بالسفينة الغارقة هى دليل التميز والدقة فى العمل والتفانى فيه، وهى فى الوقت نفسه نتيجة الخوف من أن يصبح بلا عمل. وهى علاوة على هذا كله سمة من سمات المصرى الأبدية فى شغفه بالتكرار والخلود إلى دعة تكرارات الحياة اليومية، واعتبار هذه القدرة اللامتناهية على التكرار موهبة كبري. لكن مأساة "إبراهيم" فى هذه الرواية هى أنه أدرك، وهو إدراك مرير، أن الفندق ليس دائما بصورة تتيح له البرهنة على موهبته فى التشبث بالتكرار. لأن ما ظنه موقع عمله إلى آخر حياته انقلب على وجهه الآخر. نزعت أبواب الغرف، تقشر طلاء الحوائط من أثر خلع الأرفف ونقل الدواليب والمكاتب. استبدل عمال الهوم سيرفيس الحنفيات المصقولة اللامعة بحنفيات رخيصة، وعمال الكهرباء استبدلوا قطع غيار تليفزيونات الغرف بقطع أرخص. كل هذا حدث سريعا فى لمح البصر، وكأن الوجه الآخر كان موجودا منذ زمن وراسخ فى كل جزء من الفندق، ولم يحدث سوى إزاحة الستار عنه. حزنه على كل ما حدث لم يكن سوى ارتباكه أمام فقدان ما ظنه وجها وحيدا أو دائما (ص98) وإزاء هذا الفقدان لما ظنه دائما وراسخا وأبديا يعيش "إبراهيم" هذه التجربة المرة التى تجبره على التحديق فى "الآن" المصرى والعربى الرديء ورؤيته بدقة متناهية، ومؤسية معا، وقد انقضت عليه الغربان ونهشت كل شيء فيه ولم يعد به غير الخراب.
رمزية الشبابيك
فالفندق المنهوب الذى تتم تصفيته يجسد كل عمليات النهب التى لاتتوقف من حول الإنسان المصرى البسيط وتأثيرها المأساوى عليه. لأن الرواية تتتبع تاريخ "إبراهيم" مع الانهيارات منذ تخلى أبيه عن الشقة المجاورة لأولاد صاحب البيت، برغم حقه فيها، وحتى شعور الإبن بأنه يعيش فى شقته كمن يعيش فى سجن. فقد وجد أنه يفتقد تسعة شبابيك، ستة فى الصغيرة وثلاثة لم تفتح بعد. وعدد ما كان يمكن أن يكون لديه ثلاثة عشر، وممكن خمسة عشر لو فتح اثنان آخران فى الشقة الصغيرة (ص113) وافتقاد الشبابيك أمر بالغ الدلالة، خاصة ولو كان هذا العدد الكبير من الشابيك الذى يجسد غيابه طبيعة المناخ الخانق الذى يعيشه. وقد مرت مسيرة الانهيارات الطويلة بالعديد من التنازلات التى تؤكد مسؤولية "إبراهيم" عن كل ما حاق به. فقد بدأت هذه التنازلات منذ قبل العمل فى الفندق بمنطق فترة وتعدي. وإذا لقيت شغلانة تانية ابقى سيب الفندق. لكن الفترة طالت والسنوات مرت (ص19). ومنذ تعلل بأمل السفر، كغيره من آلاف بل ملايين الشباب من أمثاله للعمل فى النفيطيات العربية التى تقدم حلولها الموقوتة الوهمية لمشاكل الشباب، وأخذ يبعث لأخيه الأكبر "مجدي" الذى سافر، بالـ c.v. مرة بعد أخرى حتى يعثر له على عمل هناك، فيتعلل بضياعه فى البريد مرة، أو فقدانه بعد استلامه إياه أخري. ومنذ كف عن أخذ أمور حياته فى يده وتركها تنسرب من بين أصابعه، وترك الآخرين يلوكون سيرته، أو يتسلون بمأساته. فالرواية مليئة بالتفاصيل الدالة والمهمة والتى تجسد لنا مدى مسؤولية الفرد عن الانهيار الجمعى الذى يعيشه الجميع بعد خراب الفندق، وانقضاض العقبان على أشلائه. وهى تربط هذا كله، أى الخراب العام، بالخراب الخاص الذى تسلل إلى حياة "إبراهيم" العائلية حتى استولى فى النهاية على شقته وطرده منها شريدا فى الشوارع فى نوع من التجسيد الفنى لتسلل الخراب العام إلى أدق تفاصيل حياة الإنسان العادى اليومية فى هذا الزمن العربى الرديء.