من آسر الاغتراب يكتب الشاعر الجزائري عبدالهادي السائح كي يشكل بعضا من تفاصيل حالة التضاد والتي تجعل الذات مسكونة بالأفق وهي تحاول الخروج من لحظة اليأس العارم الذي يلفها بعدما أنهكها الوجد وجعلها بعض منه أو هو نفسه.

أغنية الوجد

عبد الهادي السائح

تعبا أضع قلمي إلى جانبي كالمحارب القديم، أودِعه الظل.. ألقنه الصمت..
نصغي معا إلى كلالنا، نستسلم للحظة سكينة عابرة
كنا كما كنا
مردة أحيانا نطاول السماءَ و بشرا أحيانا
كسائر البشر ننسحب خلف ظلالنا فوق الدروب العتيقة..
تطالعني عيناك تخفيان ابتسامة غرقت في ظلالهما السوداء

كالآثار الدارسة تتراءى تحت بحيرة صباحية الصفاء،

تتماوج فيتراقص الوهم تحتها.. ابتسامةً
تغمرني
نشوةٌ يدب ملمسها الخفي و إيقاع الشجن في صدري
يكتنفني السحر، يمتد
عالمي الشعري في الأرجاء، تحيا الأشياء
تتجسد الرؤى، تتكلم المرايا و ينتشي السلام
يضحي الإيقاع مرأى يمسي الدفء ملمسا
في عالمي المسحور
يبهت عالم الآخرين كصفحة الطيف
يطالعني الوجد..

يندفق كالشعر
حبيبتي أغنـيَّةُ الوجدِ..

تتدللين كامرأة شرقية
تتدللين..
و أنا القادم من أطراف الغرب

لا وقت يحويني لأسائل الأطلال عن مية،
لأترك على عتبة بابها جرة من النفاق المعسول و شطرَ قلبي
أطلالي المشتتة تسائل العابرين عني،
ليست كرسم الحروف في رقعة عتيقة ..ليستْ
هي
هي
ما بقي من حروف الأبجدية بعد انحسار الليل عن غارة الأذفونش ..
لم يبتسم الصبح بعدها
ضاعت بسمته في أغوار الماء، في عَبرة شاردة
في مآقي حورية منسيةٍ.. في مآقيكِ
غرق عالمي في البحر.. حتى الأطلال غرقت..
في الغرب..
في المساءات المثقلة بملامح الظلام، بأسطر الشفق الكئيبة
يسائل أحفاد ابن زيدون البحرَ عن عالمهم المسلوب،
عن أطلاله الغارقة،

عن شمس دامية طعنها ملوك الطوائف الخمسة، أخفت ثغرها في الماء
لاح جبينها في المدى مثل جبينك أسطورة نصف معروفة
يتجاوب البحر
صخبه لغة قديمة كتمائم بابل
ينجرف الموج قافلا..

ترتسم في مائه أخيلة الشعراء،

يتلون كانعكاس أمزجتهم، كلغة البحر..

يتلبث..

ثم يرحل و أمانيهم إلى الأعماق في لحظة
و أنا
الملاح التائه بين الشواطئ التائهة
نسيتني أغاني البادية لما نسيها إدريس
لما صُلبتْ على أسوار إشبيلية أو تاهت بالـِرْمُ
في خرائط النسيان، في عالم الآخرين..
لا أدري لمَ أهذي على ضفتك
سوى أن جنوني من براءة عينيك
وأنك البحر الذي اتسع مداه لهذياني وجنوني
حينما ضاقت الآفاق المتعبة
حين وضعت قلمي الكليل و كالمحارب الجريح
أويت إلى ظلال الصمت
إليك
فارسك ما زال يطارد غيمته في لغة الشرق،
يسري في غابات السراب، يشكل براءة الرمل
أغنية تتناقلها الرياح، تطل كالألق من عيون المها
كالبدر من شرفة الأميرات
أفاق الدون كيشوت و انطوت آخر صفحاتنا الجميلة
لما تناثرت أحلام العابرين إلى اليوم في زوايا الصمت..
أنت أكثر من غيمة يا شريكتي في الموت أنا
أكثر من فارس
وما بيننا أعمق من تفاصيل اليوم، من إيحاء لغةٍ شاعرة،
من عالمنا يتراءى أشكالا غريقة تحت لجة الوهم
ما بيننا خفقان جرح مشرع في قلبين
انهمكا في لحظة أبدية مسحورة..
ليست كاللحظات.