يشيد القاص المصري نصه من واقع أحداث الثورة المصرية متخذا من شخصية الصحفي وهو يغطي الأحداث دافعاً للسرد المزدوج كيف يروي الأحداث وما يحدث فعلا، وطبيعة مشاعر القصاص والثائر، من خلال بناء حدثٍ متدرج ينتهي بذروة ومن خلال هذه التفصيل نطلع على أحوال الثائرين والصحفيين ورجال الشرطة في مجتمع لا عدالة فيه ولا قيمة للإنسانية.

القصاصون

حـازم زيادة

تقول أنه لم تكن أمامك خيارات حقيقية.

تقول، هكذا دارت رحى المدينة.

. . .

لم تتوقع أن يقبلوا رواية بتلك النهاية الحزينة.  القصص الدرامية، خاصة ذات المعالجة السيكولوجية، ليس لها سوق رائج ، كما رددت لنفسك أثناء انتظار ردهم. كيف سيمسخونها مسلسلا تلفزيونيا سقيما او فيلما هابطا، تساءلت مازحا بينك وبين نفسك. لكنهم قبلوا أقصوصتك! وجلس هو قبالتك على الطرف الاخر من الطاولة، ينظر اليك بوجه جامد السمات. "نريد المزيد من القصص"، قالها بنبرة آلية رتيبة، "لكن هناك موضوع أكثر تحديدا هذه المرة".

تقول انه فى لقائكما الاول تساءلت عن ماهية الكاتب الذي ستظلله. فجاء رده قاطعا أنك لن تتعرف اليه، ويجب ألا تسال ثانية. ثم اضاف: "وما أهمية ذلك على اى حال؟" بل مهم، كما هممت بالرد، فيمكنك إن ألفت اسلوبه ان تنسج من خيوطه حبكة أدق وشخصيات أكثر تركيبا وتناولا أعمق للموضوعات. لكنك اكتفيت بالقول: "نعم، فعلا".

 هذه المرة، عادت خواطرك الى سؤال الكاتب المجهول، فلعل الموضوعات تسبر غور اللغز. قال بتؤدة معتادة: "ابحث فى الأحداث الجارية عن قصص تحبكها وتقدمها". فاجأتك كلماته. اية أحداث يعنى؟ المظاهرات والإعتقالات؟ الهجمات وأحداث القتل والتخريب؟ تغيير نظام الحكم؟ سارع بالقول كأنما استقرأ تساؤلاتك وأراد إخمادها: "اكتب قصة مستوحاة من متابعة دقيقة لأحداث اليوم السياسية. نحن لا نفرض اطارا محددا او اسلوبا بعينه – اكتب كما تشاء، لكن لا بد للقصص ان تكون وثيقة الصلة بالأحداث، وذات أساس واقعي صلب."

استطرق وهو يتامل هندامك بلا مواربة قبل ان يسال: "ما مدى معرفتك بربوع هذه المدينة؟" لم تشأ الكشف عن محل إقامتك بحى فقير منذ انتهاء دراستك الجامعية قبل عامين. لكنه لم يكن ينتظر ردك على اية حال. " من المفيد ان تقوم بالكتابة فى إحدى قهاوى وسط البلد. وجودك هناك يقربك من الاحداث أثناء وقوعها." صمت لحظة ثم اضاف وهو يدفع بمظروف محكم تجاهك: "هذا المقدم المالى عن القصص الجديدة. ابتع لنفسك جهاز لاب توب مستعملا. لقد لاقينا الأمرين اثناء فك خطك فى القصة الاولى. نريد كتاباتك مخطوطة آليا ومراجعة بعناية."

قلت: "نعم".

هممت بالسؤال عن قصتك الاولى ، اين ومتى ستنشر، لكنه اشاح عنك ليبدأ مكالمة تليفونية على هاتفه المحمول.

اودعت المظروف جيب سترتك الداخلى.

. . .

تقول انك تابعت الأحداث بهمة اكبر وتمحيص أدق. على حائطك رقعت قصاصات خرائط مطبوعة لأحياء القاهرة الكبرى، لترصد عليها مواقع ومسارات الفعاليات المتكررة، كما تابعت بصبر طويل اخبار التظاهرات التلقائية المتضاربة على شبكات التواصل الاجتماعي. وخططت جداول زمنية للأحداث المنتظمة داخل وحول الميدان الكبير والميادين الاخرى. ملفاتك البحثية تكشف عشرات المواقع التي زرتها تنقيبا عن الاخبار. ثم دأبت على شهادة هذه الوقفات والتظاهرات، مرات من اعلى المباني المحيطة، ومرات من مقربة الأرصفة الملاصقة. بل وغامرت بالاشتراك ببعضها طلبا للانغماس بالتجربة، فانتظمت في صفوف هذا الفريق أو ذاك، وهتفت ورفعت الإعلام ووزعت المنشورات، بالرغم من أنك لم تعتنق للحظة ما هتفت او ما رفعت أو ما وزعت مكتوبا. وكم رميت من الأحجار تجاه هؤلاء وهؤلاء، وكم طاردت من هؤلاء وطاردك اخرون، وكم استنشقت من غاز الدموع النافذ وأنت تعدو من المتاريس بل وقد اندمجت وراءها وسط حشود الامن المتخفين. قد ساءك رؤية المصابين وهالك مرأى المقتولين، لكن اضحكك سجال القط والفار بين هذا الحشد وذاك. ثم اضحكك أكثر ما قرات من التغطيات الإخبارية للأحداث التي شهدتها لتوك، فهالك انحيازاتها الجلية والمشوهة. تابعت المحاكمات واخبارها على المواقع وفى الصحف وعلى شاشات البرامج الإعلامية الصاخبة. حاولت شهود بعض جلسات التقاضي لكن طاردك رجال الامن الى خارج قاعات المحاكم. في الخارج رأيت المؤيدين والمعارضين، لهؤلاء وهؤلاء، رأيتهم ينتظرون في حر الظهيرة وتحت المطر، يسبون هذا وتلك ويشتبكون مع افراد الامن الذين طالما انحازوا لفئة أو أخرى. راقبتهم يهتفون ويصرخون، يرفعون اكف الدعاء، يبكون ويتباكون. ثم ينتظرون المزيد.

لم يفتك أيضًا متابعة الحكومة وتصريحاتها وتصريفاتها، وخطب رئيسها المطولة، وابتساماته ونظراته، وإشاراته ولزماته. عددت مؤازريه وصنفت معارضيه. هالك مبالغات هذا الفريق وذاك، واضحكك تناظر مقالاتهم ومواقفهم وتطابقها مع مقالات ومواقف الفريق الاخر منذ أشهر قليلة قبل انعكاس الأقدار وتداول المالات.

كما تتبعت على شبكات التواصل الاجتماعي الأخبار المتواترة لمصادرها. قرأت التعليقات الساخرة والردود البذيئة، كما وتابعت مدعي الخبرة والالمام من هنا ومن هناك. بل وتطوعت بتعليق هنا وسؤال استطلاعي هناك لعلك تسبر غور حدث ما.

 تقول إنك راقبت تصرفات وطباع المشاركين من كل منحى ومذهب وفي كل موقع من مواقع الاحداث. ألفت تفاعلاتهم وتنظيماتهم وخطابهم بل وخبرت ما يسرون من غضب وما يكنون من خوف. كل ذلك بحثا عن شخصيات وسرديات لقصصك.

 "يا له من بحث دؤوب".

هكذا كتبت: "فتجمهروا بجانب من الميدان، هاتفين بسقوط النظام الجديد. امطرتهم قوات الامن بقنابل الغاز، ثم لاحقتهم بالعصي الغليظة، وبطلقات الرش والرصاص الحي اثناء فرارهم. هرول علي طه تجاه المتحف ..." . هنا، تقول إنك توقفت، اينشرون هذا؟ اتصادق الرقابة على مثل ذلك السرد وبهذه الواقعية، والتي وثقتها اثناء مراقباتك الميدانية؟

هاتفته؛ "لا تقلق نفسك بشأن 'المكممين'" – فاجأك رده غير المتردد، ثم أضاف بصوته رتيب النبات: "بإمكاننا التعامل مع مواقف كتلك." ابهجك قوله. ربما قادك قدرك لمال ان تكتب باسم غيرك، لكنه يواتيك فرصة نادرة ان تكتب بلا وجل وان تصرح بلا خوف من العواقب. لابد ان كاتبك ذو سند وركن متين.

هكذا استطردت: "استرجع علي طه ليلة التعذيب المنصرمة بمزيج من الألم والغضب. وتملكته رغبة جارفة لكشف وقائع التعذيب الممنهج، فشرع يسرد على مراسل الشبكة الإخبارية أحداث تلك الليلة بأدق تفاصيلها: '... ثم اقتادونا عنوة الى مدخل المتحف الخلفي، حتى إذا دخلنا حجرة سفلية لا نوافذ لها عاجلونا بضرب مبرح بالعصي وكعوب البنادق. لا تحقيق ولا تدقيق وإنما لكمات، صفعات، وتكسير عظام، ...‘“

...

تقول أنك اعتذرت بشيء من الجفاء عن مصاحبة جار لك  الى سرادق عزاء في وفاة زوجة جار اخر. "وافتها المنية على اثر خطأ طبي اثناء عملية جراحية بالقصر" تمتم الجار الأول بصوته خفيض حينما لاقاك في بهو السلم . رجوته بإبلاغ تعازيك عنك ، ثم انسحبت مرددا اعتذاراتك وانت تنتقي خطواتك نزولا على درجات السلم المتصدّعة.

تقول أنك كنت مشغولا.

...

 "متى انتابتك الريبة أول مرة؟"

تقول انك كنت تطالع صفحة الحوادث بإحدى الجرائد الرئيسية ذلك الصباح كما اعتدت. أستوقفك سرد احدى وقائع القتل. قراتها مرة فأخرى، ثم دققت النظر في بعض فقراتها وتركيب جملها بل وتصرفاتها اللغوية. اصارت الحياة  تحاكي الفن؟! تسألت متعجبا، بدت القصة مألوفة وحتى لغتها السردية مشابهة لما كتبت انت، وان كانت أحداثها تدور في مدينة السويس. اضحكك تباكي احد القراء في تعليقه الطويل على انحدار قيم الحاضر، بينما ادعى اخر – باستفاضة وإصرار – ان شباب القصة من "العصابة" التي أشعلت  نار المظاهرات الأولى بالسويس. تقول انك تابعت مساجلات هذا الأخير مع قراء آخرين لفترة غير وجيزة ، وادهشك إصراره على رأيه ومثابرته على مجادلة كل من تسول له نفسه تفنيد ادعائه.

حفظت هذه القصة السويسية في أرشيفك الكتروني لمطالعتها فيما بعد، ولعلك تستفسر من صاحبك عن الأمر.

...

التقيته مرة أخرى في قهوة مختلفة. تقول أنك لاحظت انه يتحاشى اللقاء في مركز المدينة. قد اعجبته الرواية : "انها مستوحاة من واقع اليوم"، قالها بابتسامة مقتضبة، بل واردف مجاملا "سياق متضام ومتسق". لكنه ارتاى ضرورة لبعض التعديلات: "اليس من الاوقع ان تحتل الشخصية الثانية مرتبة اهم؟" – قالها متسائلا، ولكن بلهجة آمرة ثم استطرد مراوغا: "قصص من هذا النوع لا ينبغي ان يتصدر بطولتها شخصية متفردة". تلعثمت بكلمات توشي بالاختلاف معه، السياق يتتبع الصراعات النفسية الداخلية لشخصية محورية تعبر عن صراعات جيل باكمله يجتاز لحظة تاريخية مشحونة بمصالح متضاربة ومشاعر متناقضة. "هذه الشخصية المحورية، علي طه، مركبة بطريقة مثالية للغاية، بينما واقعية القص تقتضي ان تصدر تصرفاته تلك عن درجة من الرياء الاجتماعي – صورته الاجتماعية امام احمد، الشخصية الثانية، بل ومجموعة شباب النشطاء كلها." ثم استوى على مقعده ليتفرس في وجهك بينما تراجع ظهرك انت امام هذه المواجهة، ووضغط باصبعه تكرارا على موقع ما من صفحة روايتك المبسوطة امامه وهو يتفوه الفاظه بعناية واحدا تلو الاخر: "المحجوب، الشخصية الثالثة، يجب ان يلعب دورا اكبر؛ ربما هو مخبر متخفي تضطره عسرته الاقتصادية الى خيانة الاخرين او يخدم اغراض احدى منظمات حقوق الانسان بروابطها المشبوهة. ورابعهم بلطجي واخر لا يعنيه الا التحرش بالناشطات. هذا التنوع يضفي درجات اكثر من الواقعية. الواقع مركب بل ومختلط و... ".

تقهقر دفاعك و انكمشت حججك. لعلها تصير، كما قال هو، رواية من الواقعية الاجتماعية تكشف خفايا المجتمع  بدلا من حبكة سيكولوجية تفنط نوايا شباب عند مفترق طرق من تاريخ امتهم، و لعلها ... "نريد مسودة نهائية فيما لا يزيد عن اسبوع"، قاطع خواطرك المتوترة بحسم.

"نعم"، تمتمت بصوت خفيض. نسيت ان تسال عن مصير الرواية الاولى.

...

جلست الى طاولتك الصغيرة على مقهى بوسط المدينة، تكتب بهمة. من حولك امتدت طاولات اخرى صغيرة على مرمى البصر في هذا الاتجاه وذاك، الى كل منها جلس شخص مثلك منهمك في الكتابة. بعضهم تنقر اصابعه في خفة على لوحة مفاتيح، واخرون مالوا على اقلامهم بتركيز كانما يسردون قصصهم باجسادهم. الكل يكتب ، وحيدا. اثناء وقفة تامل، لاحت منك التفاتة عبر فراغ المقهى الممتد، لتلتقي عيناك بنظرات كاتب اخر في اقصى الغرفة – للحظة قصيرة رهيبة، قبل ان تفكا الاشتباك وتعودا الى صفحاتكما.

تقول هاك اوجه الشبه بينكما، ذات الشعر الاسود،و ذات العينين المنكسرتان المتشبثتان.

انتبهت فجاة عندما عاودت معاول الهدم ضجيجها المرتفع وهي تعمل على توسعة المقهى اكثر فاكثر.احكمت السماعات على اذنيك مرة اخرى، ثم كتبت.

"قد حازت روايتك تقديرنا الشديد"، استضاء وجهك فخرا لمديحه. "كانت كتابتك افضل من الآخرين." الآخرين؟! أهناك كتاب آخرون؟ لذات الرواية؟ اهذه مسابقة من نوع ما؟ "نريد عددا اخر من القصص، وفي اقرب وقت"، قالها مسرعا كانما يعاجل تقطيبتك ويغير مجرى الحوار." سيكون لك زيادة في الاجر، فوق العشرين بالمائة زيادة عن كل قصة. لكن يجب ان تعمل بمعدل اسرع، فهم يتطلعون لنشر عدد كبير من القصص قريبا. هناك حدث هام على وشك الحدوث" قالها وهو يتفوه الفاظه ببطء و حرص.

تحاشيت نظرته الثاقبة. "بالطبع"، تمتمت موافقا.

.

جلست بعيدا، اشاحت بوجهها عنك عمدا بينما راحت تراجع مرة بعد اخرى صفحتها الالكترونية باحدى مواقع التواصل. كم اشتقت لبريق عينيها. استقبالها غامض لتوددك وملاحقتك، مترددة كانما توازن مقاييس خفية. وماذا بعد، تساءلت صامتا وانت تلاحق حركات اناملها الدقيقة على صفحة هاتفها.

"رباه!" صاحت فجاة. ثم اضافت بنبرة متسارعة، بينما وجهها لم يفارق الصفحة الالكترونية  " صديقتي احسان ، لقد اعتقلوا خطيبها واخيه امس ليلا ناحية القصر. اتهموا علي برسم الجرافيتي على الاسوار، والاعتداء على افراد الامن اثناء تاديتهم عملهم، والشروع في زرع متفجرات بالقرب من منشاة حكومية." تابعت باهتمام، وان لم تستطع ان تغالب الانطباع بان صيحتها قد امتزج في جنباتها الصدمة مع التشفي. ثم راحت تقرا علنا الخبر المكتوب، متخطية كلمة هنا او جملة هناك. الاخوان متهمان بتقاضي الاموال من جهات اجنبية مشبوهة، وتخطيط لاضرابات وقلاقل، و ....

تقول انك هنا تجمدت. تابعت تلاوتها متخشبا وعيناك متسمرتان على الطريق المزدحم ابدا. انها كلماتك وتعبيراتك كما خططتها بيديك. هي قصتك مرة اخرى. تسارعت انفاسك.

"اليس فيما اقول اي شئ يثير اهتمامك؟!" قالتها بهدوء محكم، بينما استدارت عيناها لتواجهك لاول مرة بغضب حانق.

...

تقول انك سارعت بالعودة لحجرتك و لحاسوبك الخاص. الحدث مطروح في كل مكان : في مقالات على كافة المواقع الاخبارية، وبمشاركة العشرات على صفحات التواصل المختلفة، بل بالالاف في تغريدات بعضها غاضب، وكثيرها ساخر ومتشفي. الكلمات هي الكلمات، تركيبها،  ترتيبها، تناسقها، بل واستعاراتها ولحنها ! لمسمعها هكذا الفة مخيفة.

هي هي كلماتك. في معظمها، ولكن ليس كلها. بعد أن قرأت المقال الرئيسي المنشور عدة مرات، وبعد ان راجعت مسوداتك، تبينت مقاطع دخيلة على الأصل الذي كتبته انت. بعض جملك وكلماتك تم حذفها او استبدالها. بعض الاضافات منتقاة وموفقة لكن اغلبها  يشوبه الغشم، بل والعنف. لكن  لم تجد تعليقا واحدا في اي من مواقع الاخبار او التواصل على هذا الخلل النصي، فالاخبار عموما رديئة الصياغة.

لكنك انت لاحظت.

تقول انك برغم اصرارك في تقفي مصادر الخبر المختلفة،لم تجد اسماء الصحفيين الذين ادعى المقال انهم تحدثوا الى جيران ومعارف المقبوض عليهم. لم تجد اثرا لروايات شهود واقعة القبض ذاتها، او اية تصريحات لجهات الامن. لم تجد الا اسمي كاتبي المقال ؛ اسمان مطموران لم ينشر لهما ما يذكر فيما قبل. تذكرت انك التقيت احدهما خارج احدى المحاكم اثناء بحثك الميداني، وانه ناولك بطاقة تعريف مبللة بالعرق. في عجالة، كتبت رسالة الكترونية تذكره بلقائكما و ارسلتها اليه بدون ذكر المقال، الا ان الرسالة ردت اليك فورا باخطار عدم صلاحية عنوان المرسل اليه. هاتفت الرقم المسطور في البطاقة مرارا ، لكن دون جدوى: مرفوع من الخدمة.

اقلتك عربة السرفيس المتخمة براكبيها عبر الزحام الى مشارف الحى المسور حيث محل اقامة الاخوين المقبوض عليهم. لوهلة غير قصيرة اذهلتك فخامة المباني وهدوء الشوارع عن تقصي عنوان مسكنهما بدقة. تقول انك توقفت بوسط الشارع تحملق فيما حولك، محاولا تذكر تفاصيل المقال المنشور، و مضاهاة ما ترى بما وصفته اضافاته الدخيلة من ملامح المكان : مطعم ايطالي خافت الاضواء هناك، ومتجر ملابس مستوردة هنا. تسالت في حيرة:كيف يتورط من هذه بيئته في اعمال التظاهر والعصيان المدني؟ او اعمال العنف لو كان بذاك المقال ذرة من صدق؟ علام كان هذان الاخوان يعترضان؟!

كنت ترمق سيارة حمراء فاخرة تعترض طوار المشاة حين فاجأك صوت اجش عالي النبرة، "الام تنظر؟ هل انت تائه؟" في زيه الرسمي المنمق، وطوله الفارع، وطبنجته الملتصقة بجانبه الايمن، بدا امن العقار مخيفا، خاصة وقد التمع خلفه زوجان اخران من العيون مهددة متحدية.

رددت بصوت خافت "نعم." ثم انصرفت.

...

تقول انت تابعت عن كثب تطورات خبر القبض على الاخوين في الصحف والمواقع الاخبارية ومواقع التواصل. تشوقت لمعرفة ردود الافعال على القصة  - قصتك. كيف استقبلها قراؤها، ما تاثيرها وكيف وقعها؟ اي التفاصيل علقت باذهانهم؟ هل اقتنع القراء بتركيب شخصيات القصة، وتطورهم و عمقهم؟ كنت قلقا. هل يستبين القراء اية تناقضات في الحبكة او في نفسية الشخوص الرئيسية؟ والى متى يستديم اهتمامهم بالقصة ؟

لذا احصيت بداب الاعداد المتزايدة والمتسارعة لمشاركات القصة على المواقع المختلفة، ومداخلات التعليق عليها ببرامج الحوار التليفزيوني المسائية. بقدر غير قليل من الفخر، حددت المقاطع والفقرات التي عاد القراء والمعلقين الى ترديدها، بل وتذكر بعضهم تعبيراتها و الفاظها من الذاكرة اثناء مجادلاتهم الصاخبة. استمعت بتعجب لاراء الخبراء ضيوف تلك البرامج، بل لمداخلة وزير مرموق للتعليق على الحدث الجليل، محذرا من تزايد وتيرة المؤامرات على الوطن. قضيت ليال تتصفح تعليقات قراء تساءلوا عن تناقضات بدت لهم، ثم تتبعت صفحاتهم الخاصة لتستبين هواهم السياسي ولترى اذا او كيف استزادوا في نقدهم. من انطلت عليه الحكاية ومن لفظها ؟ بأي منطق اتخذ هؤلاء موقفا ضد شخوصها ومن ايدهم؟ رأيت قراءك بالآلاف يتحاورون ويتجادلون امام عينيك. مازحت نفسك بانه حتى نجيب محفوظ في اوجه لم يتلق ردودا على رواياته بهذا الحجم والسرعة.

تقول انك بالكاد انتبهت الى قرار النيابة العامة بتجديد حبس الاخوين لفترة احتجاز اخرى على ذمة التحقيق. وجه النائب العام اليهما تهمة التخطيط والقيام باعمال تخريبية بالتواطؤ مع عملاء اجانب. قرار النيابة لم يفد بمزيد من التفصيلات، وانت لم  تهتم بالتقصي. ما احزنك فعلا هو ان المزاج العام قد فتر اهتمامه فجاة بالقضية برمتها، وانخفضت، قل اختفت، تعليقات ومشاركات القراء عليها. انكفأ الجميع مرة أخرى على حيواتهم اليومية، على مشاغل اعمالهم، على معاناتهم في زحام المدينة، وعلى تفاصيل حادث قطار مروع اخر.

لكن قبل انقضاء اسبوعين، انفجرت اخبار قضية اخرى مماثلة – بالاسكندرية هذه المرة: قبض على مجموعة من الشباب بتهم التخريب، والتواطؤ مع جهات اجنبية للاضرار بالأمن القومي.  الكلمات كلماتك هذه المرة ايضا، وان زادت المقاطع الدخيلة والتفاصيل المحلية. لاحظت بمزيج من الغيرة والقلق ان كثير من المقاطع المضافة ذات جودة لا يخطؤها منصف.

...

تقول انه كان يمكنك التوقف هنا، والامتناع عن كتابة المزيد من القصص لحسابه. كانت سلسلة القصص الاولى قد ادرت عليك قدرا لا باس به من المال. وبالثقة التي اكتسبتها  في قدراتك قد تحاول ان تنشر قصصا باسمك في هذه الدورية او تلك. لكنك الان تحت ضغط نفقات متصاعدة : الفرح لابد ان يكون فاخرا، الشقة لابد ان تكون فسيحة، والاثاث يجب ان يكون مستوردا.

لذلك كتبت:" ... استطال الاجتماع السري حتى ساعات الليل المتأخرة . مرة بعد مرة، راجع الجميع خطة العملية حتى تفاصيل الكودات الشفرية والاشارات اليدوية. تحت جنح الظلام اقتحموا مرتدين اقنعتهم حرم الجامعة الامريكية بوسط المدينة، بعد ان طرحوا ارضا مسئول الامن وحبسوه باحدى المخازن. بهدوء صعدوا الدرج الى سطح المبنى المشرف على الميدان، ثم اتخذوا مواقعهم مصوبين اسلحتهم صوب مركزه واطرافه، كل حسب الخطة."

نالت هذه القصة اعجابه الشديد. كانت اول مرة يتحدث اليك ببعض الانفعال، حتى كدت تسمع صوت لهاثه على الهاتف. اثنى على واقعية السرد وبالذات على وفرة التفاصيل ودقتها.  سالك ان كنت درست بهذه الجامعة، "فوصفك لدواخلها وصف خبير." شرحت له انك حضرت هناك دورة تدريبية لمدة اسبوع واحد منذ عام. فلا طاقة لك بالمصاريف الباهظة للدراسة هناك، او لمستوى اتقان الانجليزية المطلوب. "عظيم!" رد هو من جانبه متجاهلا ما قلت، "لقد صغت رواية مكتوبة بعناية شديدة، مفعمة بالاثارة والنوايا المستترة والتقلبات غير المتوقعة. السرد لا يشي بهوية المقنعين الا باخر صفحة. القارئ يظل اسير الحدس حتى النهاية."

نعم، نعم. قلتها بمزيج من الحياء والمرارة – مرارة من خبر كيف يمكن لهذا الخليط من دقة التفاصيل وتمييع اليقين ان يلوي عنق الحقيقة. نعم، هكذا كان مرامي.

لمحت جارك يرمقك عن بعد بنظرة فارغة،بينما تسرع انت بمغادرة عمارتك السكنية لآخر مرة. لوهلة حدقت بمباني الطوب المكشوف والمتراصة على جانبي الشارع الضيق.  لكنها وهلة قصيرة، فقد عقدت العزم على الا تنظر خلفك والا تأسى لهذا الفراق.

...

"فلنعد الى احداث هذه الليلة."

تقول أنك سمعت اول ما سمعت بالخبر اثناء سيرك في الشارع تجاه مقهاك قرب الميدان. كان راديو احد الباعة، الذين اقتطعوا جانبا من الطريق العام لعرض بضاعتهم من الملابس والعاديات،  كان الراديو يجار بموسيقى راقصة صاخبة ما لبث ان تبين لك انها مقدمة موجز اخبار المساء. في جمل مقتضبة تقاذفها مذيعا النشرة واحدا تلو الآخر، اوجزا احداثا جسام ، محلية وعالمية، بلغة اقرب في لحنها إلى اعلانات مزيل العرق وغيرها من بضائع الاستهلاك.  في الخبر الخامس وقبل انباء الرياضة، اعلنا ان علي، احد الاخوين المقبوض عليهما من اسابيع، قد توفي في محبسه. وان اسرته قد استلمت جثمانه من السلطات المعنية صباح ذلك اليوم، وقد ظهر عليها علامات واضحة للتعذيب المبرح. هكذا انتهى الخبر.

تقول انك تسمرت بمكانك، وقد تعطل فهمك كما تقلصت حركتك. دفعك المارة الآخرون يمنة ويسرى في زحام لا يخفت تدفقه. لكنك مكثت في موقعك مذهولا ، ليس فقط لنبرة مذيعا الموجز برغم هول الحدث، وانما لان استخفافهما بفاجعة الموت تحت التعذيب لاقت صدى في شعورك انت. كنت مدركا تمام الادراك أنه يجب ان تستشعر اضطرابا دفينا لمقتل شاب قد ساهمت في قضائه. لكن اقصى ما رصدت من شعور لديك، وسط خواء قاتم، كان وخزة ندم ان قصتك التي لاقت ما لاقت من نجاح قد فشلت فى تنبأ هذا التطور الدرامي.

"اتعني انك لم تستشعر ذنبا؟ او حتى شفقة؟!"

تثاءب بائع العاديات، و استمر في الاستماع الى الراديو دون ادنى تأثر، وقد اعتلى عرشا عبارة عن صندوق قديم بالي في سكينة مذهلة وسط ضوضاء الطريق وزحامه. استفقت انت من صدمتك على اثر اصطدام احدهم بكتفك بعنف ، تزامنا مع تعالي ضجيج صاخب من صوب الميدان. مظاهرة جديدة، قصة جديدة. تحركت من جديد تجاه المقهى، وما ان دلفت داخل بابه حتى باغتتك سعة الفراغ وحجمه. فاقت توسعة المقهى، الثالثة في عامين، كل توقعاتك. امتد فراغ المقهى تحت مبناه السكني في كل الاتجاهات وبارتفاع على الاقل مستويين اخرين اعلاك فيما تسنى لك رؤيته ،كما اقتطع من المباني الملاصقة. تذكرت ، في لمحة خاطفة، لوحة فنية لفنان ايطالي اراكم اياها احد محاضري الجامعة الامريكية. . صفوف من الكتاب المنفردين جلسوا الى  طاولات تراصت بصورة لانهائية امتدت من محل وقفتك لافق نظرك. حدقت ببلادة حين رفع كثير من الحضور رؤوسهم لتفقد القادم الجديد، قبل ان يعودوا الى شاشاتهم وصفحاتهم.

تقول انك لم لم تجد سوى هذه الطاولة شاغرة لقربها من الباب وضوضاء الطريق. بعد ان احكمت سماعاتك على اذنيك، ودخلت على مختلف المواقع لتتيح لك متابعة احداث مظاهرة الميدان، بعد ان احكمت صلاتك بالحدث وبعدك عنه في ان واحد، كتبت:

"كان المتظاهرون مسالمين وهم يتقدمون صوب مبنى الوزارة بآخر الشارع. هتافهم الملح 'سلمية! سلمية!' طمأن اهالي المنطقة المتاففين من اقترابهم. قطع الطريق حائل من السلك الشائك وصف من العربات المصفحة وجنود يحملون اسلحة نصف آلية. توقف المتظاهرون هناك يهتفون حينا ويتحدثون بود الى الجنود والضباط المتمركزين على الجانب الآخر من السلك الشائك حينا اخر. تراجع ابراهيم حمدي عن السلك الشائك الى الخلف لتادية صلاة المغرب. اصطف مع المصلين خلف امام ازهري في معرض الطريق. اثناء الركعة الثانية، وبينما الامام يجود باحدى السور القصيرة، دوى إطلاق نار الي متتالي . صوته يصم الآذان جلبة ورعبا. تجمد ابراهيم في موقفه، وتفحص جسده ثم اجسام الواقفين حوله . كانما معجزة؛ لا اصابات. على مرمى خطوات رأى جسدا ملقى علي الارض ينزف بغزارة من جانبه...."

تقول انك ما كدت تسطر هذه الكلمات، حتى رايته يندفع من خلال باب المقهى الى داخله. التقت عيناكما لدى دخوله في لحظة خاطفة.  كان ينزف من جانبه وقد ضغط بيده على الجرح. نظر حوله بعصبية ولهاث لم يهدأ ، كانما يبحث عن شيء، ثم عاود النظر اليك في الم واضح. كان يبحث عن مأوى من مطارديه، لكنه وجد نفسه في فراغ ممتد مكشوف في كل الاتجاهات، فراغ ساطع الاضاءة، لامع الجدران. لا شيء يختفي هنا.

التقطت اذناك تسارع معدلات النقر على مفاتيح الكتابة حولك وتعالي ضجيجها. كانوا يكتبون بهمة محمومة. كل ينسج حول الزائر المصاب قصة بعض خيوطها مما ظهر عليه و كثيرها من وحي الخيال. بطرف عينك لمحت تسارع التغريدات في ركن شاشتك. لكنك انت رايته قبل اي من الآخرين. انت الاقرب له، وانت من تطلعت الى روحه في عينيه. هو لك. هو قصتك انت. من فورك، بدأت تكتب وانت ترصد كل نظراته وعبراته:"انفاسه متلاهثة. كان يعدو برغم جرحه العميق..."

"بدأت تكتب بدلا من ان تحاول اسعافه؟!"

تقول انه تهالك على المقعد المجاور لك. وانفاسه تتهدج من الالم، دارت عيناه في سقف المقهى بحثا عن كاميرات المراقبة. عندما رايت عينيه مثبتتان على جهاز اسود كروي الشكل اعلى الجدار، هززت راسك نفيا. كنت تعلم ان نظام كاميرات المراقبة دائم العطب. بدلا من ذلك، النظام الامني يعتمد على المخبرين، وعلى ما تنضح به وسائل الاتصال من معلومات غزيرة. يبدو انه فهم اشارتك، فقد عطف بصره على يديك وهما تنقران المفاتيح دون توقف. "لقد ابتسم" ، اسرعت بكتابة تغريدة: "بل ضحك برغم المه وبرغم استمرار ضغطه بقوة على جانبه المصاب." بيده الأخرى، جذب اليه جهاز التابلت الخاص بك، كانما يبغي ان يتقمص دور كاتب من الكتاب. "حتى في قبضة الالم المبرح، تحت سطوة خوف شديد، وفيما قد تكون لحظاته الاخيرة، يحاول ان يتخفى. هل هذه رد  فعل الطبيعة للحفاظ على الذات؟ ام انه في حالة انكار للواقع فيبغي استرداد صورة العادية ؟"

استمريت في مراقبته دون ان تتوقف عن الكتابة وتسجيل مقتطفات مسوداتك على مواقع التواصل اولا باول. "ترى عم يفتش؟  كلا، انه  يبحث عما ينشر عنه على المواقع المختلفة! هذه القصة تاتيكم عبر بث مباشر وحي كما لم تروى حكاية من قبل!" لكن ما ان انتهيت من  جملتك حتى رايته يكتب بعد ان أتم القراءة . فهو اذا لم يقنع بان يقرأ ما يكتب عنه، وانما يريد ان يسجل حكايته بنفسه، ان يشرح موقفه.

ها هي قصتك تنسل من بين يديك.

 بسرعة بحثت على جهازك عن الموقع الذي ينشر عليه. عزمت ان ترافق ما يكتب بتدوينك، ان توازي حكايته عن نفسه بروايتك عنه. وجدته يكتب تاريخه الشخصي، ببطء من لم يعتد الكتابة على صفحة التابلت، وبلغة ركيكة مفككة: اسمه، سنه، .... بدأت تكتب واصفا اياه :" هو في مثل عمري وعمر كثيرين في هذا البلد الشاب. قصير في بنيته، شديد النحافة.  نحافة لا تنجم عن رياضة البدن وانما من سوء تغذيته. نحافة الحاجة والعوز، التي عرفها كثير منا." شعرت بعينيه ترمقانك لوهلة، لكنك استمريت في الكتابة. "يداه خشنتان، يدا من اعتاد العمل اليدوي. بيمناه خاتم، قد حفر عليه اسم فيما يبدو. ترى اي مستقبل خططا له هو وخطيبته؟ قصة حب؟ متى وكيف التقيا؟ ترى هل تقرأ هي هذه الكلمات الان؟"

كان وجهه يلتوي من الالم وهو يجاهد ليكتب، شارحا في كلمات قليلة عقيدته السياسية والتي الت به الى الميدان تلك الليلة. هالك شحوبه لكنك ادركت بفراستك وخبرتك ان هذا شحوب من تربى في الفقر. مد ساقيه في تراخى كانه بدأ يفقد وعيه. لكنه  مازال يكتب.  تابعت : كان يعطي نبذة عن تاريخه الشخصي، عن اسرته الريفية، عن ضياع الارض، عن الرحلة الى المدينة على سطح قطار وهو صبي، عن عمله ساعات طويلة في سن السادسة كصبي لحام في امبابة، عن موت والدته بالخطأ في احدى المستشفيات الحكومية، عن فقدانه كل حبال الحرص والخوف بوفاة الام هكذا، وعن محاولة السلطات ترحيل عائلته من مسكنها في حيهم الذي يصر الجميع على تسميته بالعشوائي.

توقفت حينئذ عن الكتابة.، ليس لأنك سمعت نفير قوات الامن ووقع خطواتهم ثقيلة تهرول من بعيد. كنت تتوقع كل ذلك منذ فترة. وانما توقفت لانك هالك تماثل حكايته و حكايتك: الارض، الفقر، العشوائيات – بل وحتى تقارب السن وضعف البنية. ترى هل تجاورتما في ذات الحي السكني؟ ربما التقت اعينكما قبل هذه الليلة.  لكنكما، برغم تطابق البدايات انتهيتما الى مواقف متباينة اشد التباين. مشوار كل منكما دفعكما دفعا في دروب هذه المدينة الصعبة الى محطات وصول مختلفة بل متصارعة، وما لقاؤكما الليلة الا تقاطع حاد وعنيف.

تقول انهم هاجموا المقهى اثناء اجترارك لتلك الخواطر، وقبل ان ينهى هو تدوينه. اقتحموا المكان من ابوابه البعيدة، وراحوا يتفقدون القصاصين الجالسين هنا وهناك بعنف وجفاء. مع ااقتراب خطواتهم من طاولتكما، رايته يحاول الوقوف ليعلن عن نفسه، الا ان قواه خانته فانزلق الى ارض المقهى. فصارت بقعة الدم الاحمر على البلاط الابيض هدفا لا يخطئ. اطبقوا عليك انت ايضا، فطرحوك ارضا ثم اقتادوك الى ركن بعيد، ومنها الى سيارة الترحيلات.

فيما بعد، افادك الكتاب الاخرون ان قوات الامن ضربوه على رأسه وظهره قبل ان يسحلوه وراءهم الى خارج المقهى. لم يستطع اى منهم ان يجزم ان كانت وافته المنية وقتها ام لاحقا.

...

م يستمر احتجازك اكثر من يوم واحد. بعد مراسم الاسقبال المعتادة، من ركل ووضرب وشتم موزعة على مناطق الجسد المختلفة، استبقوك لساعات طويلة في زنزانة مزدحمة عن اخرها. لاحظت برغم آلامك ان كل نزيل من نزلاء الزنزانة كان في مرحلة تعافي مختلفة من عنف علقة الاستقبال الوحشية . ثم ، ومع ساعات الليل المتأخرة، اخرجوك من الزنزانة الى غرفة مكتب مهترئة المقاعد والطاولات. بوجه متورم وعين شبه مقفلة، راقبت ضابط النوبتشية يعبث بهاتفه المحمول الجديد في تافف وانفعال. بالرغم من انه امرك بالصمت التام طوال ساعتي انتظارك الا انه استقبل عرضك للمساعدة في انزال تطبيقات جديدة على الهاتف بترحيب مشروط باستعلاء. لم تستطع مقاومة الانطباع انهم هنا لا يحسنون صنع الكثير بخلاف الضرب المبرح او التهديد به. المكان مشرب بمزيج غريب من العنف، او الاستعداد للعنف، مع اللامبالاة - لامبالاة في تقدير اي شئ حتى حياة البشر. هذا المزيج الفواح من العقم الوحشي يكاد يزكم الانوف في كل لحظة وبكل شبرهنا. 

فجأة، قطع الانتظار عسكري عجوز يعلن وصول مأمور القسم اخيرا. اشار الضابط الى العسكري انه سيرافقك بنفسه، ثم اقتادك الى مكتب المامور بالدور الاعلى. امرك بالجلوس في ركن بينما اشتبك مع المامور في حديث هامس لفترة غير قصيرة، ثم وضع امامه ملفا واضاف ان رقم هاتف "الباشا" ملحق به. تفقد المامور محتويات الملف صامتا. لاحظت مستغربا ان تعبيرات وجهه الجامدة اللامبالية شابها تعجب دخيل وان كان لحظيا. بعد مكالمة شبه هامسة مع طرف اغدق في تبجيله، اشار لك المامور بالاقتراب دون ان ينظر اليك. قال "امض على المحضر!"وهو يضع الملف قبالتك.

رمقك بنظرات فاحصة اثناء توقيعك، ثم فاجأك بالسؤال: "كيف يكون شعورك وانت تكتب القصص؟"

...

خرجت الى هواء المدينة المحموم، وسؤاله يلح عليك. السؤال، والمشوب بالاستنكار حتى ممن هم داخل المنظومة،  اطلق جماح الاسئلة التي ما انفكت تلح عليك في كل خطوة من هذا المشوار، والعواطف الجياشة التي جاهدت لاحتوائها جهادا مريرا. كيف تشعر وانت تكتب؟ كيف تكتب والكتابة مكيدة؟ كيف تكتب والكتابة مقصلة؟ كيف ستكتب من الان فصاعدا؟

اخبرك احدهم ان الساعة قاربت الثالثة صباحا. برغم ذلك مازالت المدينة نشطة، تعج بمجون الحركة . ابواق السيارات، نداء الباعة، رنين الهواتف، صغار يصطرخون ويعدون، وموسيقى صاخبة تصدح من السيارات والباعة والهواتف. لم يلحظ الكثير تورمات عينك ووجهك، ومن لاحظ اشلح بوجهه. كنت متيقنا انهم جميعا تابعوا الحدث وقرأوا القصص. بل لقد سمعت شابا يقرأ لاقرانه من صفحة هاتفه فقرة من تدويناتك، ثم يميل بحركة ميلودرامية كانما يتمثل الموت. ها هي كلماتك مرة اخرى! 

بخلاف ذلك، لم يتغير شيء. لقد أزاحت المدينة الحدث عن خاطرها بلامبالاة. برغم آلام جسدك، أسرعت الخطى تجاه اقرب موقف لسيارات السرفيس.

 

.حازم زياده

يونيو 2016