يصور الروائي الليبي عالم القرية البعيدة بين الجبال، طقوسها، خرافاتها، في شبكة معقدة من العلاقات الخفية، متسلالا أشتعال الرغبات، مصوراً اللذة المحرمة، والعسف الواقع على المرأة، ونطل أيضاً على واقع المدينة وأوضاع المجتمع الليبي زمن القذافي وحروبه.

ماءان (رواية)

عبد الحفـيظ العابد

الإهداء

إلى نِسْوتي الأربع: زوجتي أحلام وبناتي

براءة وتُقى وألق

أيَّتها النار

انتزعي منِّي نزف الماء

يشعلني الماء

يطفئني الماء

يغسلني الماء

من الماء

(1)

قال الوالد:

ــ ما ترعاشْ في الوادي يا أحمد.

إنَّها الظهيرة، رمى أحمد حقيبته المدرسيَّة، أكل بضع لقيماتٍ على عجل، انطلق نحو الزَّريبة، فتح بابها وهو يراقب والده وهو يخرج المحراث من المخزن.

لطالما كره أحمد الحرث، إنَّه يفضِّل أن يقضي بقيَّة حياته يجوب الشعاب خلف الأغنام، لكنه لا خيار له في تلك القرية التي يقدِّس أهلها الزراعة، لا أحد في القرية تساءل عن سرِّ قداسة فعل الحرث، ورثوا هذه القداسة عن آبائهم، عليهم ادِّعاء محبَّة الحرث، وتمثّل أمومة الأرض المزعومة حتى ولو بدت الأرض لأحدهم زوجة نكدة.

مازال أحمد يذكر أول صفعة من والده، كان صغيراً عندما نعت أخاه سعيداً بالطحَّان، سمعه والده فاسودَّ وجهه، ناداه، وعندما اقترب أحمد منه صفعه وحملق فيه وهو يقول:

ــ عيب، عيب.

انطلق أحمد غير عابئ بوصية والده نحو (وازينا)، هذا الوادي الكبير الذي يٌضحي في ذلك الوقت من السنة أكثر من وادٍ، حيث الظلّ والماء العذب وثمار النخيل، هناك أيضاً سيكون في وسع أحمد أن يسبح في البركة العظيمة المعروفة بقلْتة فرس، قيل إنَّ فرساً براكبها غرقت فيها منذ سنين طويلة، في (وازينا) قد يحظى أيضاً برؤية سالمة وهي تساعد والدها في الحقل، في الأثناء تساءل أحمد عن سبب إخراج والده المحراث، إذ لا غيوم في الأفق، لاشيء غير زفير هذه القائلة.

(2)

حول سيدي البهلول الرابض على الهضبة التي تفصل بين (وازينا) و(سوناف) اجتمع عدد من شيوخ القرية، يجرّون عجلين أسودين حول الوليّ، تعبق رائحة البخور في الأرجاء، يتم التحضير للحضْرة في تلك الليلة، سيكون ثمة مجذوبون يبتلعون الجمر، إنها العادة كلّما تأخر المطر، إذ مرّ أكثر من شهر من الخريف ولم تمطر بعد، لا بد من بعض دمٍ مسفوح، لا بد من قتل السواد الماثل في العجلين، السواد سلطة مطلقة، لا بد من دمٍ مسفوح يحرّر ذاك الخير.

(3)

المطر! هذا النزف الأبدي، هذا الدمع المستجدى، هذه النّطف المشتهاة، الحاضرة في ذاكرة الأرض الحالمة بغيماتٍ ممتلئة المثانة، المطر هذا المعشوق الذي يقتفي الفلاحون والرعاة حوافره، المطر هذا الماء المخاتل الذي يدّعي الطهر رغم نجاسته، المطر هذا القذف...

(4)

يقسم (وازينا) قرية (تغنّيت) إلى قسمين غير متساويين، تحيط بالقرية سلسلة من الجبال، ينتصب على أعلى قمتين منها قصران قديمان (بوسطام وسليقين)، يبدوان كحارسين للمدخلين الشمالي والغربي، أيضاً في وسعك وأنت تنظر إلى الشرق أن ترى الشمس وهي تشرق من بين القصور الأربعة التي يستغرق الوصول إليها نحو ساعة.

(5)

في القسم الأعلى من (وازينا) البعيد عن بيوت القرية كان جمعة الوصيف ــ وهو شاب أسود نحيف ورثَ رعْي غنم الحاجّ ساسي عن والده الذي قدم إلى القرية منذ زمن طويل، كان جمعة الوصيف قد ربط أتانه إلى سدرة عظيمة في الوادي، كان يقف خلف أتانه على أطراف أصابعه مثل لهب متحفّز، يغمض عينيه ويرخي أجنحة مخياله، يتحسس ظهرها برفق ويطير بجناحيّ التمنّي في معراجه، يدفع بقوة، فتلتفت إليه، تحرك أذنيها بشكل عكسيّ، يقف على إصبعين فقط، ويصعد، يصعد نحو قمة سليقين، تتصلب عضلات قدميه، تتسارع نبضات قلبه، يدفع بقوة أكبر، يقف على حافة النشوة، تهوي حبات عرق على الحجر تحت قدميه، تنهمر النطف المسجونة فيه، ثم يهوي برأسه على ظهرها ليجدها مازالت تنظر إليه وقد رفعت أذنيها إلى الخلف، ينصت إلى خفقات قلبه، يسمع ضجيجاً وكأنّ صخوراً تتدحرج في رأسه، في الأثناء ترتفع أصوات:

- الوادي فاض، وازينا فاض.

وقف جمعة الوصيف لحظة، ثم حاول أن يعدو خارج الوادي، لكنّ ركبتيه متصلبتان، خطا خطوات ثم سقط، حبا مثل طفل، قصد الربوة على يسار الوادي، تشبّت بغصن رتم، سحب بيديه القويتين جسمه، واصل حبوه مثل حرباء إلى أن وصل إلى أعلى الربوة، ومن هناك أفزعه المنظر، عاد ببصره إلى السدرة، أدرك أن أتانه مازالت مربوطة إليها، صرخ:

ــ الـ حـ مـ ا ر ة...

راقب المياه وهي تغمر أتانه، كان آخر ما رآه منها أذناها وهما ما تزالان ترتفعان إلى أعلى، همت عيناه، جمع قوته، تفقّد نعليه وعصاه، أدرك أنّها رافقت أتانه في رحلتها الأخيرة.

الوادي خائن نزق ما إن ينتصب حتى يدنّس هذه الأرض بمائه النجس، لكنّه في الوقت ذاته يتطهّر من أدرانه، آهٍ كم هو مخاتل هذا الماء، كيف يتسنّى له أن يكون طاهراً نقيّاً، ونجساً في آن؟

راقب أحمد وأصدقاؤه (وازينا) وهو يجثت النخل، يمارس سطوته، ويجعل من القرية قسمين معزولين، بدا في تحركاته المتعرجة مثل ثعبان، كلّما واجه صخرة كبيرة لم يقدر على اقتلاعها التفّ حولها وواصل طريقه.

السلطان

(1)

في الطريق المنحدر إلى الغرب من قصر (سليقين) قليلاً بدت سيارة بيجو زرقاء كانت تذرع الطريق باتجاه القرية، اقتربت من دار الحاج ميلود الكائن بالربوة بمحاذاة غوط الحنظل، وعندما وصلت السيارة وقفت، ترجل منها المبروك ابن الحاج ميلود، كان المبروك قد التحق بالخدمة العسكرية بالقوات الخاصة منذ نحو خمس سنوات، إنه يعمل في بنغازي، مرّت ستة أشهر على إجازته الأخيرة، سمع النسوة بوصوله فتعالت الزغاريد:

ــ السلطان وصل.

ثمة صخب..وضجيج، وبضعة فتية ينزلون أواني وأمتعة وملابس من السيارة وهم يحملون أحلامهم المؤجلة بالسلطنة، لكل منهم زمنه الذي سيمارس فيه سلطته، لكلٍّ فتحه الأكبر الذي عليه أن ينجزه، وغزوته التي سيغزوها يوماً، ثمة حصن لكل منهم عليه أن يدكّه، لكن لا بد من بعض دم مسفوح كي يحظوا بالسلطنة.

كان المبروك الذي أكمل سنته الحادية والعشرين عريض الجبهة، كبير الأنف حتى ليخيّل إليك أن وجهه كلّه أنف، ثمة دكنة أسفل عينيه الصغيرتين، وشعر أسود كثيف يغطّي شفته العليا، لا أحد يملك شنباً يضاهي شنبه، بوسع قبّرة أن تقف على شنبه، قيل لأنه عسكري بالقوات الخاصة فإنه يتقاضى علاوة إضافية بسبب شنبه، الشنب جزء من هوية العسكري ورجولته، يمتلك المبروك رغم قصره النسبي يدين كبيرتين وأصابع ضخمة مفلطحة، لهذا كان يلقّب بالكُلّاب، عليك أن تحذر وأنت تصافحه، ضغطة من يده القوية قد تجعل من أصابعك إصبعاً واحدة، قيل إنه حفر داره التي سيتزوج فيها بمحجوبة في خمسة أيام، كان يخترق التراب بفأسه مثل أرنب عظيم، كلّما وهنت عزيمته استحثته الصور المتخيّلة عن محجوبة على مواصلة العمل بجدّ، لقد أتم حفر داره غير بعيد من دار أبيه، لقد بدت ديار الحفر تلك الباردة صيفاً، الدافئة شتاءً مثل أرحام عظيمة، أو قبور تتناسل داخل المقبرة.  

(2)

ـــ هيّا يا سلطان، العرّاسة في انتظارك.

انطلق المبروك رفقة ابن خاله سعيد إلى دار في طرف القرية حيث يجتمع أصدقاؤه المقرّبون، إنهم العرّاسة أو حاشية السلطان الذين ينفذون أحكامه بحزم، سيكون المبروك مبجّلا ً طوال أسبوع أو أكثر، سيكون في استطاعته أن يعاقب كل من يناديه باسمه، لا أحد يسبقه إلى طعام أو شراب، ولا أحد يغادر مجلسه إلا بإذنه، يطاع إذا أمر، ويُستجاب له إذا طلب، إنه السلطان، لكن تتويجه فعلياً بالسلطنة سيكون ليلة الدُّخلة بعد أن يدكّ حصن محجوبة المنيع، عندها ستوهب له مقاليد السلطة، وجارية طيّعة، وفرصة لاستعادة مجد آبائه من السلاطين الفاتحين، عندها سيكون السلطان ذاته، أحكامه نافذة إلا إذا شاء أن يعفو أو شاءت محجوبة.

عندما وصل المبروك وسعيد دار الحفر وجدا العرّاسة ينتظرون، تناقشوا في أمر من سيتولى منصب وزير السلطان، رشّحوا سعيداً كي يحظى بالمنصب، إنه الأعلى تعليماً، لكنّ المبروك قال إنه لا يحتاج إلى وزراء ومستشارين، إنه سيختار فقط بضع جنود يلقون القبض على العابثين بالنظام، وينفذون أحكامه.

(3)

في (شعبة عمر) التي تتفرع من (شعبة القندول) تبدو نسوة يرتدين أردية مزركشة، يحزمن حزماً من الحطب، يحملنها فوق رؤوسهنّ، يعضضن بأسنانهنّ على أطراف أرديتهنّ فلا يبقى إلاّ فتحة صغيرة تسمح لهنّ أن يبصرن الطريق بعين واحدة سافرة، على كل واحدة أن تعضّ بقوةٍ على طرفي ردائها حتى لا ينكشف وجهها، لا قيمة لكل أعضاء المرأة الأخرى، حتى إنّ كشفت المرأة عن وجهها في حضرة رجل يُفسّر في الغالب على أنّه دعوة إلى ممارسة الجنس، زهْرة من بين هؤلاء النسوة الحطّابات تدرك أكثر من غيرها ما يعني الكشف عن الوجه في حضرة رجل غريب، مازالت تذكر يوم أن كانت تقتلع الحلْفاء في أحد الشّعاب، كانت منحنية عندما سمعت خُطى، استقامت بسرعة فسقط رداؤها عن رأسها، التفتت، رأت رجلاً يعتمر قبعة سوداء، كبّلت الدهشة يديها، خفق قلبها بشدّة، أمسكت طرف ردائها، سحبته إلى أعلى، لكنه كان أسرع منها، ووضع يديه على فمها، طرحها على كدس الحلْفاء المقتلعة، أخرج عود ثقابه، وأشعل امرأة القشّ، مرّت بضع دقائق قبل أن يغادر دون أن يدحرج كلمة عن شفتيه، لاشيء غير فحيح النار، لم تخبر زهْرة أحداً بالحادثة، أدركت أنه لن يصدقها أحد، سيلومونها هي، مازالت تستحضر الحادثة التي تثير فيها عواطف متناقضة.

كان النسوة يقطعن الدرب الضيّق نحو دار الحاج ميلود، تنحسر أرديتهن من الأسفل قليلاً فتلوح أحذيتهن السوداء المصنوعة من البلاستيك، وتبدو سيقانهنّ التي تشي بكثير مما تخفّى تحت الرداء، حقّاً إنّ الساق بصّاص.

(4)

ــ كل شيء بالبركة.

ــ الله يبارك فيك يا سي الفقيّ.

ــ هذا حصنك، حجاب ادّسّه* في الدار، وحجاب تخليه في جيبك ليلة الدخلة، معاك الصُّلاح يا ولدي.

وضع المبروك مبلغاً من النقود في جيب الفقيّ الزروق وغادر مستبشراً وهو يحمل تمائمه متمتماً:

"الحذر واجب، جدّة محجوبة عجوز داهية وساحرة...ما تخافش، ما تقدر ادير شي مع سي الفقي الزروق".

الفقيّ الزروق سليل أسرة عُرفت بالكرامات، قيل إنّ جدوده جاءوا من الحجاز من المدينة المنورة، مازالت القرية تروي شيئاً من خوارق جدّه الأول الذي أوقف الماء المنساب من عين (وازينا) بعد أن رمى مِعْرقته - وَهي قبّعة بيضاء يرتديها الفلاحون أثناء عملهم كي تمتص عرقهم وتقيهم حرّ الشمس ــ رمى مِعْرقته في عين (وازينا) بعد أن خاصمه جاره على يوم سقياه، فما همت قطرة منها أشهراً حتى استرضاه أهل القرية، جدّه الأول هزم ساحراً أتى من المغرب، وبعد أن تصدّى له غادر مسرعاً وهو يقول:

ــ (البلاد فيها أهلها).

يقصد أهل القرية الفقيّ الزروق طلباً للعلاج من الصداع، والعقم، وسوء الحظ، وفكّ السحر، وتحصين العرسان من الربط، وهو سبب مجيء المبروك.

ليس الربط والتصفيح ألا محاولات دؤوبة من المرأة لكي تسلب الرجل امتداده الأفقي، وانتصابه، ومن ثم تسلبه سلطته، لا سلطان من غير غزوات، وفتوح، وحصن مدكوك، لا بد من بعض دم مسفوح.

(5)

إنّها ليلة الخميس، تعبق رائحة الكسكسي في المكان، ضجيج، وأصوات ملاعق تحسو أكوام الكسكسي فتصطدم بقعر الصحن المصنوع من النحاس، بعضهم رمى ملعقته جانباً وشمّر أكمامه، وشرع يغترف الكسكسي بيمينه متمثلاً المثل (اللي ما ياكل بيده ما يشبع)، يبدو في المشهد بضع رجال، متجهمون، يضعون مناشف على أكتافهم، يراقبون الجالسين من طرف خفيّ.

ــ هات إبريقاً هنا.

ــ زيدنا لحم يا عليّ.

هناك يصطفّ الأطفال في طابور طويل، يقتربون واحداً تلو الآخر من شيخ كبير كان يحملق فيهم وهو يمدّ كل واحد منهم بقطعة من اللحم ويسأله:

ــ ما خديتش لحمة؟

في الجوار كان جمعة الوصيف وبعض من أقاربه وأصدقائه الذين جاءوا من مكان بعيد، يرتدون أقمصة بيضاء طويلة مطرّزة من الأسفل، ويعتمرون قبعات سوداء، إنّها ليلته كي يري أهل القرية أنّه يجيد شيئاً آخر غير رعي غنم الحاج ساسي، إنه عازف زُكْرة ماهر، لا أحد يضاهيه، الليلة لن يستبدل جمعة الوصيف ثوبه فقط، بل سيبدّل مهنته أيضاّ، سينزع ثوب الراعي كي يرتدي ثوب الفنان، الليلة سيكون في وسعه أن يشرب من الجرار المملوءة باللاقبي* المخمّر، الليلة لا أحد أكثر أهمية من جمعة الوصيف بمن فيهم السلطان نفسه.

كان جمعة الوصيف يتفقد زكرته ويردد مع أصدقائه بصوت خفيّ:

ــ صوتك رنّان يا زكرة صوتك رنّان

صوتك رنّان عذّبتِ بنات الجيران

في الرَّحبة التي أمام دار الحاج ميلود جلس الرجال على شكل قوس يتوسطهم ساسي وبعض أصدقائه، في مقابلهم بمحاذاة الدار جلستِ النسوة وقد تنقّبن، يراقبن المشهد بعين واحدة، يتقدمهن النخّاخات اللاتي أسدلن شعورهن على وجوههنّ وانحنين، وتمايلن مع أنغام الزكرة.

كان جمعة الوصيف ورفاقه يتوسطون الجميع، كان يسحب الهواء من أنفه ثم يدفعه إلى شدقيه ثم يزفر الهواء إلى داخل الزُّكرة، كان وجهه ينتفخ فيبدو مثل ذكر كوبرا أسود، كان يضع الزُّكْرة تحت إبطه الأيسر، يضغط عليها برفق فيندفع الهواء عبر أنبوبين مصنوعين من القصب وُصّلا بقرني ثور في آخرهما فتعوي الزُّكْرة.

كان الجميع واجماً، بدوا مثل صمٍّ، لا أحد يصفّق أو يبدي تفاعلاً مع أنغام الزُّكْرة، لا أحد غير النخّاخات يزيّنّ المشهد، كان جمعة ـ كما جرت العادة ـ يوقف العزف بين لحظة وأخرى متيحاً الفرصة للبرّاح، كان يجلس بالقرب من أحدهم، يخفض رأسه، فيضع ما جادت به نفسه من نقود تحت قبعة جمعة، ثم يرفع البرّاح صوته باسم واهب المال، وتتبعه النسوة الجالسات بزغرودة، إنّها ليلة لجمع المال أيضاً.

حضرت النسوة في تلك الليلة ليشهدن الرجل وهو يمارس سطوته، فالمرأة ينقصها المال أيضاً كي تضحى شريكاً في السلطة وفي الفراش، ليست المرأة إلا فراشاً يمتلكه الرجل، ليست إلا متاعاً، وما الزواج إلاّ مقايضة المال بالجسد.

        دبّ اللاقبي المخمّر في قدمي جمعة الوصيف، أحسّ أن جيشاً من النمل يغزو فخذيه، تثاقلت خطواته، لكنه ظلّ يصدح:

ــ رنّن حدايدها ورا مسلاني* نحساب راجِلْها مسلّح جاني

في تلك الأثناء، وبينما كان الناس منشغلين بالزكرة، اقتاد أحمد ورفاقه إبراهيم الأبنة إلى (وازينا) حيث لاشيء غير العتمة، وازينا موحش ومخيف ليلاً، هناك اختلفوا من سيطؤه أولاً، لكنّ أحمد اقترح أن يباشره الأكبر عمراً، تناوبوا عليه مراراً قبل أن يعودوا أدراجهم.

(6)

في دار الحاج مسعود والد محجوبة جلستِ النسوة، بضع عجائز يرتدين أردية رقيقة رُسمت عليها ورود ملوّنة، أما النسوة الأصغر سناً فيرتدين أردية مخططة بالحرير، سِعْدة عمّة محجوبة ترتدي بدلة عربية رجاليّة، وتعتمر قبعة، رسمت بالفحم شنباً لنفسها وأمسكت مِغْرفاً وهو عصا طويلة مفلطحة عند رأسها تستعمل لتعصيد (البازين)، كانت تلوّح بالمغْرف، ترفعه إلى أعلى ثم تنزله عند خاصرتها، تمدّه أفقيّاً، تومئ به إلى إحدى النسوة الجالسات فتنهض لتشاركها الرقص، ليس في وسعهنّ أن يرفضن طلب سِعْدة، إنّها تمتلك الامتداد الأفقي، هذا ما ينقص المرأة كي تستعيد السلطة المفقودة، كان غناء النسوة يتعالى :

ــ سعيد الناوي أهو جي، يجرح ما يداوي أهو جي

في تلك الأثناء دخلت محجوبة في ثلّة من صويحباتها، المتزوجات منهن كنّ يلقّنها كل ما يتعلق بليلة الدُّخلة في الدار المجاورة، شخصت حناجر النسوة الجالسات، صدحت أعينهن، قالت أشياء كثيرة عن محجوبة، كسرت زغرودة أطلقتها سِعْدة كثافة الصمت، ارتفعت الزغاريد تباعاً، أُجلست محجوبة وأسندت إلى الحائط، ثم شرعت عمّة المبروك وخالته في تخضيب كفّيّها الصغيرتين بالحناء، مرّرت أمّ محجوبة كانون البخور بالقرب من رأسها سبع مرات، أضحت الدار بفعل الزغاريد المطلقة وكأنّها مترعة بالضفادع.

(7)

إنّها عشية الجمعة، ترقّبٌ وانتظار، علي أخ المبروك الأكبر يحمل سكّيناً يمرره من حين إلى آخر على إبهامه مختبراً حدّته، ثمة صبية وقفوا على العليّة في مقابلة الدار، وفتيات يافعات عند السقيفة يحملن درابيك (طبول) مصنوعة من الفخار والجلد، تعالت أصوات الصبية على العُليّة:

ــ جُوا، جُوا.

ــ وصلت العروس.

أومأ عليّ إلى أحد العوّالة فانطلق نحو الزريبة، أمسك عنزاً سوداء إلاّ من بعض بياض في أذنيها المنقّطتين، جرّها من قرنها فأبت، حملها بين ذراعيه وأسرع، طرحها أرضاً باتجاه القِبْلة، وضع عليّ رجله اليمنى على رقبتها، وتحسّس بيده اليسرى بلعومها صاحت كما لم تصح من قبل، حاولت أنْ تحرّر أرجلها فلم تفلح، عندها تعالت أبواق السيارات، لاح موكب العروس المكوّن من خمس سيارات تتقدمهم سيارة تيوتا صفراء، عليها رداء أحمر مزركش، إنّها سيارة العروس، قرعت الفتيات على الدرابيك بشدّة، وحرّرت النسوة زغاريدهنّ، ضجّ المكان بأصوات الجميع وصمتت العنزة، أغلقت عينيها، وأسلمت رقبتها لعليّ، حزّ عنقها وهو يتمتم:

ــ الموس باطل*.

عبرت محجوبة الدم المسفوح وهي تدرك أن دماً آخر سيراق تلك الليلة، انقبضت عضلات بطنها، أحست بخنفساء الخوف تدبّ من أسفل ظهرها حتى رأسها، أحاط الصبية بالسيارة.

ــ وسّع يا ولد.

ترجّل خال محجوبة من السيارة، أحطتِ النسوة بمحجوبة، اصطحبنها إلى دارها.

ــ هيّا تفضلوا للخيمة.

ــ آنستونا، تفضلوا.

في الخيمة كان الرجال جالسين يتسامرون، يلتفتون نحو الباب كلّما دخل أحدهم، ملّوا الانتظار، أيقظت رائحة البازين أنوفهم فصرخ فيهم الجوع، آه.. كافرهذا الجوع، في الأثناء دخل رجل يرتدي سروالاً أبيض وقميصاً أزرق دسّ الجزء الأمامي منه في سرواله، ولفّ منْشفة صغيرة حول رأسه

ــ تفضلوا يا جماعة خمسة.. خمسة.

ارتسمت ضحكة في عيون الجالسين.

إنّها ليلة العمر، إنه الامتحان الأعظم، ويوم الامتحان يكرم المرء أو يهان، لمثل هذه الليلة خلق الرجل، ومن أجل هذه الليلة يكابد الرجل ويشقى، الليلة سيشرب السلطان من دم التفاح في كأسين من طين، وسيحظى سكّين اشتهائه بجسدٍ لا مقطوع ولا ممنوع، الليلة...

شرد السلطان المبروك وهو يقف أمام المرآة يتفقّد مظهره للمرة الأخيرة قبل الزّفة، حضرت في تلك المرآة كل تفاصيل حياته، معلّم الصفّ الأول الذي مازالت آثار أصابعه محفورة في ذاكرته، يوم ختانه عندما كان عمره سبع سنوات، الرّعشة الأولى، سنوات عدّها يوماً يوماً وهو ينتظر هذه الليلة حتى قبل أن تفقس شهوته.

ــ هيّا يا سلطان، الجماعة وصلوا.

بدا موكب السلطان يسير ببطء، يتصدرهم المبروك الذي ضرب بعض أصدقائه طوقاً من خلفه خوفاً من بعض الأصابع التي قد تمتد إلى قفاه، كهول وشباب وصبية رافقوا المبروك في زحفه المهيب نحو داره كي يشهدوا فتحه الأكبر، بدا في عباءته البيضاء مثل ملك محاط بحاشيته...، وصل موكب السلطان، وقفوا في مقابل الدار، أسرع عليٌّ أخ المبروك الأكبر يتفقّد الطريق إلى الدار، تعالت الزغاريد، عاد عليٌّ، أومأ للمبروك فمشى مسرعاً نحو الدار، أمسك عليٌّ جرّة في الجوار، رفعها أعلى من رأسه ثم رماها علي الأرض بشّدة فتشظّت، دخل المبروك، وابتعد الحشد قليلاً عن الدار، بقي بعض أصدقاء المبروك المقرّبين يستحثونه:

ــ هيّا أسرع.

ــ لقد تأخّرت.

كانت الآمال معقودة على المبروك في أن يصنع مجد هذه القرية، ومن أجدر منه بذلك وهو الشاب القويّ الذي اعتاد أن يأكل الثعابين والضفادع في عمله بالقوات الخاصة، كان أحد أصدقائه ينظر إلى الساعة محتسباً الوقت منذ أن دخل المبروك داره:

ــ هيّا يا سلطان، مرّت أربع دقائق.

كان هناك ترقّب وانتظار، راهن بعض أصدقاء المبروك على أنّه سينجز المهمة في عشر دقائق، قال آخرون لا بل في ربع ساعة، اشتدّ الجدل بينهم، وعندما حلّت الدقيقة الخامسة ساد صمت كثيف حين صرّ الباب، وسُمعت نحنحة، خرج المبروك يمشي واثقاً مزهواً، لوّح للحضور تلويحة النصر، تعالى الهتاف، حمله أصدقاؤه على الأكتاف، سارعت بعض النسوة إلى محجوبة، أطلقن رشقة من الزغاريد.

(8)

لقد صنع المبروك تاريخاً لقرية تغنّيت التي صارت حديث الناس، طار الخبر سريعاً إلى القرى المجاورة، رواه الناس بكثير من الدهشة والإعجاب بهذا الرجل الخارق، شكّك بعضهم في الحادثة، أضحى المبروك بطلاً في أعين الصبيان، ونام على كثير من وسائد الفتيات الحالمات.

في مساء السبت كان السلطان محاطاً بحاشيته يتصدر الخيمة، لقد أمضى النهار في استقبال التهاني بنصره المؤزّر الذي لم يشهد التاريخ نظيراً له، كان بعض حاشيته يحضّرون الشواء في حين لحق سعيد وآخرون بأحمد الذي خرق عن غير عمد قانون العرّاسة عندما قدّم الشاي لغير السلطان الذي لا يجب أن يسبقه أحد إلى طعام أو شراب، أحسّ أحمد بخطئه عندما ساد صمت كثيف فالتفت إلى السلطان مبتسماً، وعندما أومأ السلطان إلى حرّاسه انقضوا على أحمد الذي أسقط إبريق الشاي على الأرض وتلاشى في الظلام، أحمد أخ سعيد الأصغر وعمره ستة عشر عاماً، تفرّق سعيد والآخرون بحثاً عن أحمد، فتّشوا كل زريبة ودار خزين في الجوار، راقبوا الطرق المؤدية إلى دار محجوبة، سعيد الذي وزّع المهام على الآخرين كمن في مكان غير بعيد من خيمة السلطان، إنه يخاف العتمة، لطالما كره الخريف حين يكون مضطراً للخروج في ظلمة الفجر لالتقاط البلح المتساقط كلّما هبت ريح، كان يحسّ أن شخصاً ما يتبعه، لم يخبر أحداً حتى لا يصبح موضع سخرية، كان لا بد من الإمساك بأحمد كي يرى السلطان فيه رأيه، لكنّ السلطان ملّ الانتظار واستبدّ به الشوق إلى محجوبة فغادر مجلسه مصحوباً بحاشيته الذين أوصلوه إلى الدار ثم عادوا إلى الخيمة، قضوا الليل كلّه يتسامرون، وصل حديثهم إلى سعيد، قال أحدهم:

ــ لن ينجو أحمد من العقوبة، لن يكون في مقدوره أن يصل إلى محجوبة، وحتى إن وصل لن تعطيه شيئاً من متاعها.

ــ ها ههه...، ليس لديها ما تعطيه، لقد أعطت كل شيء للمبروك.

فكّر سعيد في الأمر، تذكّر أن أحمد عندما كان صغيراً نال إعجاب فتيات كثيرات ومن بينهن محجوبة، كنّ يفضّلنه ولا يرضين بغيره عريساً لهنّ، لم يعرف سعيد سرّ حظوته لديهنّ، لكن أحمد بارع في إدراك حاجته منهنّ، مرّ الوقت بطيئاً على سعيد، وعندما اقترب الفجر خفت صوت الجالسين في الخيمة وتلاشت قهقهاتهم، قصد سعيد الخيمة فوجدهم نائمين، سحب فراشاً وهوى مثل ميّت، في صباح اليوم التالي حين ضربت الشمس وسط الخيمة بشدّة أفاق جميعهم متكاسلين، بقي أحدهم نائماً في الزاوية كان يضع لحافاً على وجهه، تساءلوا تراه من يكون؟ سارعوا إليه وما إن نزعوا عنه الغطاء حتى تعالى هتاف وصراخ كان أشبه باحتفال، إنه أحمد.

ــ هه..لقد جئت بقدميك إلى الفلقة.

نظر إليهم بعين واحدة نصف مفتوحة، وقال:

ــ ومن قال إنّكم تستطيعون ضربي، الأمر يعود إلى المبروك، أقصد السلطان.

انطلق سعيد إلى دار السلطان كي يخبره أنّهم ظفروا بأحمد، في الطريق وجد بعض الصبية وقد نصبوا رداء جعلوه على شكل خيمة، كانوا مختلفين فيما بينهم، سألهم سعيد عن السبب فقالوا إنّ شعبان وهو أطولهم وأقواهم نصّب نفسه سلطاناً لكنّهم لم يرضوا بذلك، كل واحد منهم يريد أن يكون السلطان، ضحك سعيد لكنّ شعبان قاطعه قائلاً:

ــ أنا الأكبر ولا يجوز أن يتزوج الأصغر أولاً.

أخفى سعيد ضحكته خلف عبسة مصطنعة وقال:

ــ لكن لا بد من عروس، لا سلطان من غير عروس.

التفت الصبية إلى بعضهم، تهامسوا قبل أن يتابع سعيد حديثه:

ــ عليكم أن تقنعوا أحدكم بأن يلعب دور العروس، أما السلطان فاجعلوا كل واحد منكم سلطاناً لمدة ساعة، لكن لا تنسوا عليكم إيجاد العروس أولاً.

غادر سعيد وقد بدا على الصبية الاقتناع بما قاله، بدؤوا المشاورات فيما بينهم، تعالت أصواتهم، اشتدّ جدالهم.

ــ أنت ستكون العروس.

ــ لا.. أنت، أنت.

سكت الصبية حين فاجأهم شعبان قائلاً:

ــ أنا سأكون العروس.

استغرب الصبية أيما استغراب، طفت دهشة على وجوههم، نظروا بعمق إلى شعبان الذي أردف:

ــ سأكون العروس، لكن سأكون أنا من يختار الحاشية ويصدر الأحكام، سنلعب لعبة السلطانة.

فرح الصبية، أومؤوا برؤوسهم مشيرين إلى موافقتهم على هذا الاقتراح، ولم لا إذا كان كل منهم سيكون السلطان ساعة من نهار.

وصل السلطان، جلس في صدر الخيمة، تكلّم الحاضرون تباعاً، طالبوه بمن فيهم سعيد أن ينزل عقوبة مشدّدة بأحمد الذي كثيراً ما ضايقهم بمزاحه، ونال منهم بمقالبه.

ــ فلْقة يا سلطان.

ــ هيّا، عشرون جلدة.

ضجّت الخيمة بأصواتهم، ضحكوا بشدّة، بدت الشماتة في أعينهم وهم ينظرون إلى أحمد الذي استأذن السلطان في الكلام.

ــ يا سلطان، عندي لك شيء.

ــ وما هو؟

ــ شيء أرسلته إليك عروسك.

ــ آها.. هات، أرنا

أخرج أحمد قرطاً من جيبه وأعطاه إلى السلطان الذي تفحّصه بعناية، قلّبه في يده يميناً وشمالاً، رفعه إلى أعلى فلمع تحت أشعة الشمس المتسلّلة عبر فتحة داخل الخيمة، جعل السلطان القرط في قبضة يده، حدّث نفسه "الملعون كيف تحصل على قرط محجوبة، إنه قرطها بالتأكيد، لعلًه دخل إلى الدار عندما كانت محجوبة خارجها، أو أرسل إليها رسولاً يتوسل إليها، الملعون لو أنه أحضر حذاءها أو أيّ شيء آخر، لكن قرطها، أوه..، ملعون "،  أشار السلطان إلى حرّاسه أن يطلقوا سراح أحمد.

 

الوطء

(1)

قال سائق التاكسي :

ــ سكّر بابك، هيّا خلصونا دينار ونصف كل واحد.

جلس سعيد في المنتصف بين سائق التاكسي وأحد الركاب، وانطلقت سيارة البيجو البيضاء المنقطة بالصفار من (تغسّات) باتجاه الشمال نحو العاصمة، سعيد شقيق أحمد، إنه شاب محظوظ إذ تسنّى له أن يلتحق بالجامعة قبل نحو شهر، إنّها سنته الأولى، إنه فخر أبيه إذ لم يسبق لأحد من سكّان قرية (تغنّيت) أن درس في الجامعة، سعيد شابّ وسيم، بنيّ الشعر، عسليّ العينين، ألمى الشفتين، وأنفه طويل قليلاً، سعيد لم يعتد بعد على السكن الجامعي مع رفيقيه في الحجرة، ولم يألف بعد النوم على سريره الذي يتوسط الحجرة بين سرير عبد القادر الطالب في السنة الثالثة بقسم الدراسات الإسلامية الذي يزعم أن عنده حلولاً لكل مشاكل العالم، وسرير حسن الطالب في السنة الرابعة بقسم الفلسفة الذي يبدو شاكاً في كل شيء.

كان سعيد يتمنّى أن يمضي كل الوقت أثناء دراسته في بيت خالته التي تقيم غير بعيد من الجامعة، هناك لن يكون مضطراً للتدخل كلّما شبّ عراك بين عبد القادر وحسن، وهناك أيضاً سيكون قريباً من حليمة جارة خالته التي كان كلًما التقاها عندما يذهب إلى بيت خالته في عطلة نهاية الأسبوع نظرت إليه بعمق، وفاضت ابتسامة ناعمة على شفتيها، حليمة أم لطفلين، زوجها العسكريّ كثيراً ما يغيب عن البيت، حليمة امرأة جميلة، ناعمة، فمها باتساع ملعقة صغيرة، وأنفها محدّد، وخدّاها بلون تفاحتين، شرد سعيد في جسد حليمة الجميل، غاص في تفاصيله، أحسّ بحركة دؤوب بين فخذيه، وضع رجْلاً على رجْلٍ، التفت إلى سائق التاكسي، تظاهر أنّه منصت إليه، كان سائق التاكسي الذي ينفث دخان سيجارته عبر أنفه يحادث الراكب الجالس عن يمين سعيد، قال بعد أن رمى بقايا سيجارته من النافذة:

ــ النساء شرّ لا بد منه.

فهزّ سعيد رأسه مشيراً إلى موافقته الرأي.

                                 (2)

بدا سعيد شارداً، لقد عاد لتوّه من قرية (تغنّيت) بعد أن حضر عرس ابن عمته المبروك، كان متكئاً على سريره، يقلبّ صفحات كتاب بين يديه، لكنه لا يقرأ، مازال مندهشاً من الاحتفاء الذي حظي به المبروك بعد فتحه المبين، طفا على ذاكرته يوم طهارته (ختانه)، حينها كان عمره ست سنوات، مازال يذكر عندما أتى الطبيب المصريّ الذي يعمل بمستوصف القرية إلى دارهم، اُقْتيدَ أولاً أحمد أخو سعيد الذي يصغره بسنتين، لكنّ سعيد هرب، ركض على الربوات التي بجانب دارهم مثل فهد صغير، لحق به ابن عمته عليّ، أمسك به، حمله فبكى بشدّة، أحسّ أنّ هذا الطبيب سيسلبه روحه، أدخله عليّ إلى الدار، قرّب الطبيب قطعة قطن من أنفه فغاب عن الوعيّ، عندما أفاق وجد بعض النسوة يباركن لوالدته، كانت كل واحدة منهن تدسّ مبلغاً من النقود تحت وسادته، مدّ سعيد يده، تحسّس عضوه، حمد الله كثيراً عندما وجد كل شيء في مكانه.

يدرك سعيد الآن لماذا تمّ الاحتفاء بيوم طهارته، إنه ليس إلاّ إعداداً لاحتفاء أكبر مثل ذلك الذي حظي به ابن عمّته المبروك.

كان سعيد قد لاحظ أن حسن يقرأ كتاباً منذ أيام لا يفارقه، كان منكبّاً على قراءته، وقد ثنى غلافه حتى لا يبدو عنوانه، استبدّ الفضول بسعيد فاندفع قائلاً:

ــ ماذا تقرأ؟

سكت حسن لحظة ثم أجاب:

ــ كتاب في الجنس.

دبّت قشعريرة في جسد سعيد الذي تبعثرت كلماته فلم يجد ما يقول، لكنّ حسن أتبع قائلاً:

ــ هل تعرف أن بعض كتب التراث وصفت الفَرْج وصفاً دقيقاً ؟

ــ الفَرَج!

ــ ها ها.. صدقت يا صديقي، إنه فَرَج، يفرّج كربة الرجل ويحرّر شهوته.

أحس سعيد بحرج كبير فصمت قليلاً، وبعد تريث سأل وقد بدا عليه الانفعال:

ــ وهل يجوز الحديث عن أعراض النساء ؟

ــ كما يجوز الحديث عن أطوال الرجال وقضبانهم، ثم لا تنسى أنّ حروباً خيضت، ورقاباً حُزّت من أجله.

لاحظ حسن أنّ الحوار كاد أن يصبح حادّاً فمازح سعيداً وهو يبتسم :

ــ لا تقل لي إنك ممن يعشقون الضيق!

ابتسم سعيد، في الأثناء دخل عبد القادر فدسّ حسن الكتاب تحت وسادته، وتحسّس فراشه باحثاً عن شيء ما، أمسك بعلبة تبغ، أخرج سيجارة وراح يدخّن.

ـ لا تفسد أفكار سعيد بكلام هذا الصهيوني الذي يزعم أنّ الجنس محور الحياة.

لم يدرك حسن من أين علم عبد القادر بأمر الكتاب، لعلّه تنصت على حديثه مع سعيد، أو تصفّحه في غيبته عندما كان خارج الغرفة، كان عبد القادر جالساً فوقف:

ــ لا ينقصنا إلا هذا اليهودي كي يفسد أجيالنا بفحشه، بئس الجليس هذا الكتاب، إن شئت يا سعيد أعطيك بعض الكتب التي ترضي الله ورسوله.

سكت سعيد، أخذ عبد القادر حقيبته وأراد الخروج لكنّ حسن تكلّم وهو ينفث الدخان من فمه وأنفه في آن:

ــ وماذا عن أسلافك؟

التفت عبد القادر الذي كان قد همّ بالخروج فواصل حسن حديثه:

ــ ألم يصفوا الخدود والنهود والفروج، ألم يحزّوا أعناقًا كي يحظوا بهنّ سبايا أو زوجات، لكنهم لم يعرفوا الجنس، بل عرفوا فقط الإيلاج، ألم يجعلوا من المرأة عرضاً ومتاعاً، وحرثاً يأتيه الرجل متى وكيف، بل وحيث شاء، لم تكن إلا وعاء يحوي ملايين النّطف حتى لا تدنّس هذا العالم، كان عليها أن تكون طيّعة، وأن تستجيب لرغبة زوجها وإلاّ باتت ملعونة، كان عليها أن تعتاد على مقايضة جسدها بما يهبها الرجل من صداق ونفقة، كان عليها أن تطمر رغبتها، يكفيها شرفاً أن فتوحات أُنجزت كي يحظى الرجل بها في الدنيا أو الآخرة.

احمرّت وجنتا عبد القادر، تدافعت الشتائم في فمه، لوّح بسبّابة يده اليمنى مهدّداً، حاول مهاجمة حسن، لكنّ سعيداً اعترضه، هدّأه، فغادر الغرفة وهو يصرخ:

ــ مُـ لـ حـ ـد...

(3)

يفتقد سعيد الجبل وقرية تغنّيت، لم يعتد بعد العيش في تلك المدينة الساحلية، ولم يأنس إلى البحر الذي يبدو غير بعيد من بيت خالته، كثيراً ما بدت له رائحة البحر في الصباحات الباردة كأنّها ضراط، كان سعيد خجولاً، وكان يكره خجله، لطالما حاول أن يتجاوز خجله فينطلق لسانه، لكنّ لكْنته الريفيّة تشكّل عقدة أخرى له، لذا فإنه يطيل المكوث في كهف صمته، حاول مرّات أن يفتتح حديثاً مع زميلته في الكلية نورية، لكنّه فشل، كانت نورية تثير فيه شعوراً مختلفاً عما عرفه من قبل، كان يبدو لنفسه أكثر تسامياً كلّما فكّر فيها، لم يلحظ أية حركة مريبة أسفل خاصرته عندما يستحضرها، أحس وكأنّ إنساناً آخر يتفتق في داخله.

(4)

أيّ مخلوق مبجّل هذا الإنسان الذي يُخلق من نطفة نجسة تستوجب غسل الجسد كله، أي مخلوق مكرّم هذا الإنسان الذي يحمل في صلبه ملايين النطف التي تكفي لتدنيس هذا العالم.

إنّها عشية الخميس، كان سعيد يراقب زوج خالته موسى، كان واقفاً عند المدخل الرئيس للبيت ينظر إلى الأحذية المبعثرة هناك، يطيل النظر، ثم يهوي إليها فيجعلها أزواجاً بشكل عرضي على يمين الباب ويساره، ثم يشعل سيجارته ويقف عند الباب، يسحب أنفاساً عميقة وينفث الدخان باتجاه الشارع، ثم يعود فيغلق الباب خلفه، يعيد النظر إلى الأحذية المتراصة، ثم يشرع في ترتيبها من جديد، هذه المرة يجعل كل حذاء داخل زوجه ما أمكن ويسنده على الحائط إلى يسار الباب.

ــ هيّا أسرعي يا امرأة، سنتأخر.

خرجت خالة سعيد تجرّ عجيزتها، أوصته بالبيت، أغلقت الباب وغادرا، إنهما يقصدان وليّاً صالحاً، سيحضران الحَضْرة ويبيتان هناك متبركين به، إنهما يقصدان الأولياء كل ليلة جمعة منذ سنوات، فخالة سعيد لم ترزق بأطفال رغم مُضيّ ثماني سنوات على زواجها، استلقى سعيد على السرير، فكّر في هوس زوجة خالته بالأحذية، استحضر الدلالة السلبية للحذاء المقلوب في قريتهم، كان أحدهم إذا رأى حذاء مقلوباً سارع إليه فعدله دون أن يجرؤ على السؤال لم يفعل ذلك، ربط ذلك بقول أحدهم في القرية إن الحذاء المقلوب أمام دار الحفر قديماً يشي بفعل جنسيّ منجز، وضع سعيد رجلاً على رجل، أسند رأسه بيديه وبدأ يمنّي نفسه برؤية جارتهم حليمة التي تذكره نظراتها بنظرات عيشة الهجّالة* التي عندما كان في التاسعة من عمره أوصل إليها رغيفي خبز بعد المغرب ذات مرة فبالغت في الاحتفاء به، أعطته بعض الحلوى وعندما أراد أن يغادر انقضّت عليه، تحسست روحه، جعلت رأسه بين نهديها، ضمته بشدة للحظات ثم أفلتته فانطلق مذعوراً.

سمع سعيد طرقاً خفيفاً على الباب فأسرع لفتحه، دخلت جارتهم حليمة، غلّقت الباب خلفها، حيّته، أخبرها وهو يتلعثم أن خالته غير موجودة فقالت إنها تعلم، دنت منه، فتسمّر في مكانه، أحسّ بظمإٍ شديد، حاول أن يبتلع ريقه فلم يجد ما يبتلع، انقبضت عضلات بطنه، دنت أكثر فتراجع إلى الحائط خلفه، مرّرت حبّات التوت على شفتيه الملتهبتين، تعرّق جبينه، ونزّ إبطاه، همت حبّات عرق من أسفل ظهره فجرت بين ردْفيه فأحسّ ببرودة لاذعة، حاول أن يستجمع قوته فيمسكها ويشطرها نصفين فلم يقدر، أمسكت بيديه، جسّت بهما أعناق تفاحها، ماتت كل أعضائه إلا واحداً ظلّ يمارس انتصابه الا بديّ، تيبست قدماه، لم تعد قادرتين على حمله فاستلقى على ظهره، جلست عند خاصرته، وحوت نزق سيفه بغمدها.

طُرقَ الباب بشدّة هذه المرة فأفاق سعيد من نومه هلعاً، تحسّس البلل عند خاصرته، استعاذ بالله من الشيطان الرجيم:

ــ كابوس، أوه...كابوس.

سارع إلى الباب وفتحه، دخلت خالته ثم زوجها، نظر إلى الأحذية المرصوفة، صرخ وكأنه يخاطب جنيّاً:

ــ ساووا الشلايك*.

غادر سعيد بيت خالته، عبر الدرب بين بيت خالته والسكن الطلابي، قضى وقته في الطريق مفكّراً فيما رأى، وصل حجرته وقد بلّل المطر ثيابه، وجد صديقه حسن وقد تكوّر حول مدفئة صغيرة، كان يشكّل فضاء الغرفة بدخان سيجارته، بدت رائحة تبغه زكيّة، حيّاه وسأله عن أحواله، استبدل ثيابه المبتلّة، أسرع إلى سريره، اتّكأ على وسادته، قرّب ركبتيه من رأسه وسحب الغطاء، نفخ في كفّيه بشدّة، حدّق طويلاً في دوائر الدخان المتراكمة، بدت مثل خصلات حليمة، حدّثت نفسه بأن يشارك حسن أفكاره، لكنه خشي أن يكون موضع سخرية، أخرج كتاباً أدبيّاً، وشرع يتمتم بصوت خافت، دبّت رعشة في جسده فقرأ وأسنانه تصطفق :

ــ خفّف الوطء ما أظنّ أديم الأرض إلاّ من هذه الأجساد.

 

الكشْف

(البحر هو المبتلع الأقدم والأعظم...، هو اللجة الأنثوية والأمومة التي تشكّل لثقافات عديدة أنموذج الهبوط والعودة إلى ينابيع السعادة الأولى)*.

(1)

منذ أن لفظك ضلع آدم وأنت تبرّرين وجودك، وتحملين تفاح خطيئتك الذي طالما أفزع سكاكين اشتهائهم، أنت المذنبة، عليك ادعاء محبة إله جعل الجنة تحت قدميك لمن أرادها، لكنه لم يجعل لكِ شيئاً فيها، لن تكوني فيها إلا كما كنت في الدنيا حرثاً يحرثه الرجل، ووطاة يطؤها، أنت شيطانة هذا الكون، وزهرة الشرّ التي أغوت قابيل أن يدنس بياض هذه الحياة وبراءتها، لست إلاّ فراشاً، نعم أنت فراش، ولكن لا تستهيني بهذا الفراش الذي كثيراً ما كان مركز السلطة، كم من دول أديرت من هذا الفراش، وقرارات حرب اتخذت فيه، عروش هوت وحصون دُكّت لأن هذا الفراش أراد، هنا على هذا الفراش خرّ الجبابرة صاغرين، هنا في وسعك أن تجابهي العالم المستذكر، أن تسلبيه امتداده الأفقي وانتصابه، وأن تمتصي كل قذارته، ومن قال إنّ البحر هو المبتلع الأعظم.

(2)

مرّت أشهر على زواج محجوبة من المبروك، ذلك العرس الذي أضحى قصة يرويها الرجال، وتهمس بها النساء اللاتي دفع الفضول بعضهنّ إلى أن يسألنها عن بعض تفاصيل ليلة الدُّخْلة، فكانت تبتسم في وجوههنّ وتتمترس بالصمت، كثير من الفتيات اليافعات رمقنها بنظرات تشي بكثير من الحسد، سمعتْ من بعضهنّ روايات كثيرة عن ليلتها الأولى في دار المبروك فكانت تهزّ رأسها من غير أن تنهمر كلمة واحدة من شفتيها.

قيل إنّها بدت شاردة صموتة، وهو ما فسّره بعضهنّ بسبب غياب المبروك الذي عاد إلى عمله في شرق البلاد بعد أن قضى شهراً معها، لكنّها وحدها تعلم الحقيقة، لقد حفرت ليلة الدُّخْلة عميقاً في ذاكرتها، وهدمت كلّ ما شيّده الخيال عن ليلة العمر، لقد كسر الواقع مرآة رؤياها فتشظّت أحلامها مثل جرّة هوت خارج الباب الموصد تلك الليلة، مازالت تتذكّر همهماتهم وهم يزفّون المبروك، في دار الحفر تلك التي تشبه القبر كانت تنتظر فارس أحلامها أن يأتي محمولاً على الأكتاف كي تهبه حصنها المنيع الذي ذادتْ عنه ما مضى من عمرها، مازالتْ تذكر عندما كان عمرها ست سنوات حينما مرّرت جدّتها خيوط اللانا الرقيقة حول جسدها النحيف وتمتمت بتعويذات، إنّها عملية التصفيح التي تجعل الحصن أكثر مناعة، كم تمنّت لو أن الله خلقها بساق واحدة، كانت ستكون أكثر اتزاناً وهي تلعب النِّقيزة مع صديقاتها، يلاحقن حجراً صغيراً قافزات على ساق واحدة، أمضت حياتها مثل قُبّرة تراوغ الراعي كي لا يهتدي إلى عشّها المشيّد بين ساقين، في دار الحفر تلك التي تشبه الرّحم كان لهب السراج يمدّ عنقه إلى أعلى، كان مثل عين يقظة تحرس الكون، وتبصّ عليها، كانت وحيدة، لا شيء معها غير قامتها على الحائط، وفراش عند الزاوية وُضعت عليه ملاءة بيضاء، كان ضوء السراج ينعكس عليها فتبدو مثل شفقٍ يفصل بين براح البياض وخيمة الليل، أحسّت أنّ العالم كلّه باتساع ذلك الفراش الضيق، تذكرت ما قالته صديقاتها عن ليلة الدُّخلة فدبّت خنافس الخوف أسفل ظهرها، بدت قامتها على الحائط مثل خنفساء عظيمة تحاول أن تبتلعها، انشطرتْ بين الخوف والرجاء، بين الرغبة والتمنّع، الليلة ثمة ولادة جديدة، ثمة رجل سيدكّ حصنها المنيع، وسيحظى بدفء الأعشاش، الليلة سيخطّ رجل تاريخها المجيد، وسيهبها شهادة براءتها، إذ كل ما تحتاجه المرأة ملاءة ملطّخة بالدماء، الليلة سيكون في وسعها أن تكتشف اتساع المسافة بين ساقيها التي بدت لها أنّها باتساع هذا الكون.

كانت جالسة على حافّة العتمة في الركن المعتم قليلاً عندما أندفع باب الدار الخشبيّ، استرقت النظر فبدا المبروك مزمّلاً في عباءته، اقترب فسلّم، أحسّت حينها أنّها قادرة على حمل المبروك على قدميها ورميه بعيداً خارج الدار، وحدّ الخوف ساقيها، التصقتا، أصبحتا ساقاً واحدة، صارتا سداً منيعاً في وجه المبروك، لكنّها خذلت جسدها وسلّمته للمبروك، وبسبب نوبات الخوف والخجل التي ما انفكت تعصف بها فقدت الإحساس بالألم عندما كان المبروك يفتضّ إنسانيّتها بسبابته، قال إنه سمع أنّها عادة شائعة في بعض مناطق البلاد، لكنه لم يكن على يقين أيّ إصبع يستعمل، كل الأصابع تفي بالغرض، وأيّ شرف قد حظيت به سبّابة المبروك وهي قد جمعت بين الدنيا والآخرة، بين الإفتضاض والتسبيح، في تلك اللحظات أدركت أن جسدها ليس لها وحدها، كل العائلة تشترك فيه، أبوها وإخوتها وأعمامها وأبناء أعمامها، كل عائلتها الكبيرة التي كانت تنتظر صكّ براءتها خارج الباب، سألها المبروك ألا تخبر أحداً بالحادثة وخرج مسرعاً دخل النّسوة ضجّت الدار بالزغاريد، بعدها طوال شهر أو يزيد قليلاً كان عليها أن تذعن لرغبات المبروك الذي كان يضاجعها مثل هرٍّ، وكان كلّما صعد قمة النّشوة همى لعابه على ظهرها، وأحسّت بلزوجته بين كتفيها، كان المبروك على عكس أصابعه الطويلة المفلطحة لا يمتلك امتداداً أفقياً يذكر، فشتان ما بين سبّابته وسبّابته، راقبتْ مرّات كثيرة سبّابته وهي تقتطع البازين، استغربت كيف استساغ أن يلعق الحساء بسبّابته التي بدت مخيفة مثل خرطوم فيل عظيم.

(3)

الكلب حيوان وفيّ، كم من قصائد نُظمت فيه، وحكايات روت وفاءه لأصحابه، كان نباحه يهدي التائه في الصحراء إلى بيوت الكرماء فيصيب قرى ومبيتاً آمناً، وهو أيضاً صائد ماهر ـ إذا ما دُرّب ـ اعتمد عليه العرب في صيد فرائسهم، إنّ العيش في قرية جبليّة مثل (تغنّيت)، تكثر في الشّعاب المجاورة لها الذئاب والثعالب، وأيضاً بعض الضباع التي تخرج ليلاً يستوجب تربية الكلاب والاحتفاء بها، إنّها سلاح أهل القرية الوحيد في وجه تلك الوحوش كي يحموا أغنامهم.

ما أقسى الشتاء في قرية (تغَنّيت)، وهي قسوة لا تتجسد في شدّة البرودة وحدها، وإنما في كونه فصلاً يشحّ فيه الطعام للحيوانات المفترسة كالذئاب فتُضحي أكثر شراسة، ولكن أي قرية محظوظة (تغنّيت) تلك التي تجتمع فيها شجرتان من أشجار الجنّة، النّخلة والزيتونة، وأي سلاح في وسعه أن يدحر برد صباحات الشتاء هناك مثل رشفة من زيت الزيتون، أو يدفع برد ليالي الشتاء مثل شربة من اللاقبي المخمّر المُخزّن في جرار الفخّار تلك.

ياله من يوم بارد، سحب بيضاء تتدافع فتحجبُ عين الشمس، لكنها سرعان ما تنزاح بسبب الرياح القادمة من الغرب لتأتي سحب أخرى ثم تنزاح، بدت وكأن بعضها يسابق بعضاً في سعيها الحثيث نحو الشرق، بدا أحمد وكأنه ارتدى كلّ ملابسه، كان يحمل عصا من سعف النّخل يهشّ بها على غنمه، يملك أحمد كلبين يُدْعيان (رِبْح) و(رِزْق)، (رِبْح) كلب أسود له غرّة، وأرجل بيضاء من الأسفل، تتدلّى أذناه مثل ورقتيّ سلْق، وله ذيل رقيق، إنه كلب سريع وقويّ، قيل إنّه سلوقيّ أو يكاد، أما رِزْق فهو كلب أبيض كثير الوبر، له ذيل ملتوٍ مثل كعكة، وأذنان منتصبتان، إنه مازال يافعاً، بالكاد أكمل سنته الأولى.

ليس من عادة (رِبْح) أن يتغيّب عن الرعي، إنّها المرة الأولى، حيث لم تفلح كل محاولات أحمد في جلبه، لقد التحق بالعرّاسة، نحو عشرين كلباً أو يزيد يتبعون أنثى واحدة، يقاتل كل منهم كي يحظى بها، قد يعيش الكلب ويموت دون أن يحظى برعشة واحدة، وقد تكون رعشته الأولى هي ذاتها الأخيرة.

في (شعبة فِلْسِن) أحضر أحمد حطباً وأوقد ناراً، لفَّ سيجارة من التبغ المحلّيّ، خلطها بشيء من الزعتر وراح يدخّن، يُشاع أن تدخين الزعتر مفيد جداً، اقترب أحمد من النار، تكوّر حول نفسه، كادت الدماء أن تتجمّد في عروقه، فكان يمرّر يديه على النار ثمّ يضعها على وجهه، دنا من النار أكثر، راقب عصافير النار وهي تمدّ أعناقها إلى أعلى مثل فراخ جائعة، أحسّ بحرارة في خصيتيه سرعان ما بدأت تنتقل إلى أعلى، دبّت حركة في جوارهما، أدرك أنّ ثمة شيئاً يرفض حالة الانكماش تلك ، شيء ليس في قدرة البرد أن يسلبه امتداده، حدّث أحمد نفسه:

"أوه..لا ينقصني إلا أنت.. ليس وقتك الآن".

ضغط أحمد على رأسه محاولاً إرجاعه إلى جُحْره، لكنه عاد ليكون أكثر صلابة، لفّ أحمد سيجارة ثانية ودخّنها على مهل لعلّه يتناسى أمره، استعاذ بالله من الشيطان الرجيم، مرّت بضع دقائق قبل أن يكمل أحمد سيجارته، عاد إليه، دعكه فأضحى أكثر انتصاباً، بدا أطول من مئذنة الجامع العتيق المشيّد على الهضبة هناك قرب المقبرة، صفعه أحمد بيسراه، عاركه بشدّة فسرت سخونة في جسد أحمد كلّه، حضرت كل فتيات القرية اللاتي رآهنّ من قبل واللاتي لم يرهنّ، تشنّجت رجلاه حتى وكأن أوتار قدميه ستُقطع، ظلّ كذلك حتى ذرعه القيء، بقي مستلقياً إلى أن التقط أنفاسه ثمّ نهض، تفقّد الأغنام فلم يجدها، مشى باتجاه أعلى (شعبة فِلْسِن)، رأى بعض النعاج التي كانت مستنفَرة، وسمع نباح (رِزْق)، ركض بسرعة فرأى ذئباً، لا كانت ذئبة، لقد قتلت شاتين حتى تلك اللحظة، لم يقدر عليها (رِزْق) فاكتفى بالنباح، ليس في استطاعة كلب أن يهزم ذئبة، لا بد من كلبين اثنين كي يهزموا ذئبة أنثى، لكنّ (رِبْح) اللعين تغيّب، رمى أحمد الذئبة بالحجارة فتشجّع (رِزْق) عندما رأى أحمد، فهرولت، لحق بها (رِزْق)، لكنّها كلّما ابتعدت قليلاً اتخذت وضعية القتال فكان (رِزْق) يقف ويعود أدراجه، الذئبة مقاتلة شرسة، تقاتل مثل قطّة، تستلقي على ظهرها، وتتحيّن الفرصة كي تقتلع بلعومه، الذئب ليس في استطاعته أن يقاتل مثلها، فعضّة واحدة في مقتل ستكلّفه حياته، استمرت المعركة سجالاً بينهما قبل أن تنسحب الذئبة وهي تدرك أنّها أصابت طعاماً وفيراً، ستعود ليلاً إلى الشاتين الميّتتين، عاد أحمد وهو ممتلىء غيظاً على (رِبْح)، سيعاقبه حينما يراه.

(4)

إنّه صباح الجمعة، يشارك سعيد أخوته ووالدته الإفطار بعد أن عاد عشية الخميس من طرابلس، شكّلوا دائرة كبيرة حول قصعة من الخشب، لاشيء يضاهي العصيدة الساخنة في صباح شتاء (تغنّيت) البارد، وحده والده كان على فراشه الوثير يفطر منفرداً مثل أسد، مازال سعيد يتذكر عندما كان صغيراً، كان يلعب مع إخوته في الدار، لكنّ أحداً منهم لم يكن يجرؤ على أن يجلس في فراش والده رغم أنه خارج الدار، ذلك الفراش الموضوع في صدر دار الحفر كان مختلفاً عن غيره في الدار، كان أشبه بعرش يبدو عالياً بحيث ليس في وسعهم الصعود إليه، وضعت عليه وسادتان ناعمتان، وقطعة صغيرة مصنوعة من الصوف، وبجواره راديو صغير كان والده ولا يزال يستخدمه في الاستماع إلى الأخبار، عندما كان سعيد صغيراً كان حلمه أن يكون له فراش كفراش والده عندما يكبر، وأن يُؤْتى إليه بصحْن الغذاء عليه قطعة اللحم الأكبر بعد عودته من عمله، أنْ يتّكئ واضعاً رجلاً على رجل وهو يتنقل بين موجات الراديو، أن يمشي الجميع على رؤوس أصابعهم عندما يكون نائماً في القائلة.

والد سعيد رجل طيّب ونزيه، كافح كي يعيل عائلته الكبيرة، إنه رجل رقيق القلب رغم أنه لا يبدي ذلك، عندما كان شاباً عايش الحرب العالمية الثانية التي دار جزء منها في ليبيا، وكان شاهداً على الفلّاقة وقطّاع الطرق الذين كانوا يسلبون الناس قوت يومهم، لهذا السبب ربّما هو مهووس بالحرب في أحاديثه القليلة، ومتشائم من وقوعها، والد سعيد مازال قوياً وحازماً رغم أنه على وشك التقاعد، لم يكن يوماً على وفاق مع الحاج ساسي.

الجمعة يوم دنيا وآخرة، يوم لله وللأسرة في آن، والجامع هو بيت الله وحده، أو هكذا أريد له أن يكون قبل أن يسلب الساسة الله بيوته فأضحت المنابر أماكن يدار منها الصراع، الجامع الذي لم يعد لله غير قادر على جمع الناس، فلم يفلح دعاء الخطباء على امتداد أكثر من ألف عام في أن يجمع الله قلوبنا وأن ينصرنا فلم نزدد إلا فرقة وانهزاماً، الجامع لم يعد محايداً، ولم يكن عبر التاريخ إلاّ منحازاً للحاكم.

دخل سعيد المسجد، جلس في آخر صف كعادته، كان الفقيّ الزروق جالساً في الصف الأول من جهة اليمين، كان يحمل سبحة ويتمتم، يلتفت يميناً ويساراً، إنه خطيب المسجد وإمامه، الفقيّ الزروق الذي يقصده الناس طلباً للشفاء ودفعاً للسحر، هو من يؤمهم أيضاً، إنه رجل بخيل، أكول، قيل إن في وسعه أن يلتهم خروفاً وحده، يعرف سعيد أنّ الفقيّ الزروق لن يصعد المنبر قبل تأكده من وصول الحاج ساسي الذي يحرص على حضور الجمعة حرصه على قضاء ليلتها مع بعض خواصه في شرب اللاقبي المخمّر ولعب الورق، فالجمعة أكثر من صلاة، إنّها وجاهة أيضاً، مرّت دقائق قبل أن يدخل الحاج ساسي، جلس في منتصف الصف الأول مقابل المنبر كعادته، ساسي ابن البَيّ عامر رجل غنيّ ونافد في الدولة، كان أول من بنى بيتاً من البلاط في (تغنّيت) التي مازال كثير من أهلها يسكنون بيوت الحفر، متزوج من امرأتين، سليمة لم تنجب له أطفالًا فتزوج من لطفية التي أنجبت له ولدين، الحاج ساسي كثيراً ما يقيم الولائم التي نادراً ما يغيب عنها الفقيّ الزروق الذي يهب الحضور بركته ودعواته.

نهض الفقيّ الزروق، عدل قبعته، تنحنح بشدّة ثم صعد المنبر، وبينما كان يعلك خطبته شرد سعيد، فتذكّر شيئاً من حديثه مع رفيقه في الغرفة حسن الذي قال ذات مرة إنّ الدول لا تُبنى في المسجد الذي كان شريكاً في بثّ الكره والانقسام والتخلّف، وإنه آن الأوان كي يعود المسجد المسروق إلى الله، وأن يتحرّر الدين من وصاية الفقيه، كما أنه يرى أن الخلافة شكل بدائي للحكم أثبت فشله، وأن الدين ليس شرطاً لتقدم الشعوب، وأكبر كذبة هي أنّ المسلمين تقدموا بالإسلام، الحقيقة أنّهم تقدموا بالانفتاح على الأمم الأخرى، بدا له كلامه مقنعاً في الأثناء صدح الفقيّ الزروق:

ــ اللهم ألّف بين قلوب المسلمين.

فردّ المصلّون بصوت حزين مثل رجع الصدى بمن فيهم سعيد:

ــ آمين...

(5)

منذ أن قددتِ قميص يوسف وأنت سجينة جسدك، مطاردة من كل الرجال الذين مافتئوا يغلّقون باباً تلو آخر خوفاً من أن تمتدّ حلمة تفاحك إلى اشتهاء سكاكينهم، بالأمس عشت متهمة تحملين خطيئتك واليوم أضحت خطيئتكِ تحملك، يلاحقكِ قميصه المقدود، ودم تفاح مسفوح، وأمامكِ باب موصد أغلقه الفقهاء وتجار الدين كي لا تستفزّي أرواحهم المرتخية فتنتصب، بعيدة أنت عن جسدكِ، بعيد جسدك عنك، لم تفلح كل محاولاتك في مواراة سوءتك مُذ خصفت عليها من ورق الجنّة إلى أن ألبسك الناطق باسم الله سواد الجلابيب، مُنذ تفتّقت فاكهة جسدك وأنت تعيشين تدافع هذا الماء وذاك الطين، كم نازعت كفّك كفّك وكم دافعتا معاً ثمار التين وهي تشتهي قضمة واحدة، كم كمنتْ هذه النار في غُصْنك لفأسه وانتظرته أن يهوي على جذعك فتشتعلين، إذ لا بد من قامتين كي تحظي بالنار، لا بد من جسدين كي تحوزي الدفء.

مرّت نحو ثلاث سنوات على آخر مرّة كانت فيها زهرة في الشعب ذاته قرب الجرف، تحاشت القدوم إلى المكان رغم أنّها حامت حوله مرّات كثيرة، كانت في كل مرّة تسلك الطريق الوعرة إلى الشعب تتسارع نبضات قلبها ويطفو فيها ندم مصطنع يحجب عمق حنينها للمكان والذكرى الحاضرة فيه، كانت قدماها تخذلانها في كل مرّة فتغيّر مسارها، لكنّها ها هي الآن في المكان ذاته، منحنية حيث كانت منحنية قبل ثلاث سنوات، تطيل الانحناء وتنصت، وعندما تسمع خطى، تنهض، تُسقط رداءها عن رأسها عمداً، تنظر حولها فلا ترى الرجل الغريب ذا القبعة السوداء.

آهٍ.. كم كانت صادقة تلك اللحظات! كانا جسدين بلا أقنعة، عاريين من أسمائهما، يستعيدان فردانيتهما الأولى قبل أن يُضحيا شاتين في قطيع يدعى المجتمع، ويعيشان وجودهما المطلق، أحست حينها أن قدمها اليمنى كانت على أعلى قمّة قصر (سليقين)، وأن رجلها اليسرى كانت على قمّة (قصر بوسطام)، وأن اتساع المسافة بينهما قادر على ابتلاع مئذنة الجامع العتيق التي تتعالى هناك، ومن قال إنّ البحر هو المبتلع الأعظم.

(6)

مع افتضاض المساء بكارة الشمس اللعوب، واندلاع دمها على الأفق، وقبل أن تهطل العتمة في ذلك اليوم الشتائيّ، يعود جمعة الوصيف يجرّ قدميه، يوم آخر قضاه في رعي غنم الحاج ساسي الذي لاحظ أن جمعة الوصيف أضحى أقلّ نشاطاً منذ حادثة الغرق تلك، جمعة نفسه سأل الحاج ساسي أن يشتري له حمارة أخرى تحمل أمتعته ويكون في وسعه أن يمتطيها متى ما تعب وكان الحاج قد وعده مرّات، لكنه جازم هذه المرّة على أن يشتري له أتاناً أخرى، غداً الأحد سوق لبيع الحيوانات سيذهب الحاج مبكراً، وسينام جمعة ليلته حالماً، فالليل زمن لأوبة الحلم، وغداً عندما يجفُّ الليل، وتفقس شمس أخرى، ويكسر الصبح الحابي مرآة الرؤيا، سيكون الحاج ساسي في طريق العودة ومعه حمارة جديدة، مرّت تلك الليلة بطيئة على جمعة الوصيف، وما إن لاح موكب الشمس الغضّة، وعبقت رائحتها في الحقول والطرقات حتى كان جمعة الوصيف مستعداً بعد أن أكمل الحلب، كان جالساً على حجرٍ صغير في مقابل الشمس ويدندن:

ــ رنّن حدايدها ورا مسلاني

نحْساب راجلها مسلّح جاني.

في الأثناء بدت سليمة زوجة الحاج ساسي الأولى التي اعتادت أن تساعد جمعة في الحلب، سليمة شديدة البياض وممتلئة، ورغم أنّها على مشارف الأربعين فإنّها مازالت جميلة وطريّة، كانت تلبس إسوارة كبيرة من الفضة في يدها اليمنى وأساور من ذهب في يدها اليسرى، ينحدر من أسفل شفتها السفلى وشم صغير، يبرز نهدان متلاصقان، ويشي حزام ردائها بخصْر جميل رغم امتلاء أطرافها، يبدو أنّها حضرت متأخرة في ذلك الصباح، لا بل جمعة الوصيف هو من استيقظ مبكراً وحلب كل الغنم وحده، حملت سليمة الوعاء المملوء حليباً وغادرت، بدت عجيزتها مثل كثيب طريّ، ظلّ جمعة في مكانه جالساً على الحجر نفسه، مرّت الدقائق بطيئة وهو ينتظر وصول الحاج، سرت برودة في ردْفيه، وصلت أسفل ظهره فنهض، عاد إلى الدار واتّكأ، لن يرعى اليوم إلا ومعه أتانه الجديدة، شرد قليلاً قبل أن يسرع خارج الدار حافياً عندما سمع ضجيجاً، رأى سيّارة الحاج الداتسون البيضاء وعليها دابّة شهباء عظيمة، لها قوائم قوية ورأس مفلطح، اقترب من السيارة، نزل الحاج ساسي:

ــ هيّا نزّل الحمار يا جمعة.

 

القرَّة

(1)

الشتاء أعمق الفصول، وزمن تعشعش فيه الأحلام فيفقس بيضها صوراً ورؤى تتجاوز الواقع وتتخطّى عتباته، زمن تنكفئ فيه الذوات على أنفسها وتستعيد حالة التكّور الطفولي التي تستدعي الحلم، وإذا كانت رحلة الصيف هي رحلة إلى الخارج نحو فضاءات أرحب ومستراحات أوسع، فإن رحلة الشتاء هي رحلة نحو الداخل كي تستكشف الجوانب المعتمة، الشتاء في قرية (تغنّيت) ليس ككل الشتاءات، إنه قاس وممتع في آن واحد، فديار الحفر الدافئة التي تشبه الأعشاش تجعل العاصفة في الخارج أكثر متعة، ديار الحفر تلك التي تشبه الأرحام مليئة بأسرارها وحكاياها التي ترويها الجدّات لأحفادهنّ بينما تعدّ الأمهات (السّفنج) الساخن والبسيسة التى اعتاد الناس أن يأكلوها مع الكرموس (التين) المجفّف، على صوت (البيبور) المملوء بالكيروسين ملامح طفولة تتشكّل، ثمة حميمية في دار الحفر تلك ليس في وسع البيت المعاصر المشاد من البلاط أن يهبها، حميمية دائمة لكنها تبلغ ذروتها في الشتاءعندما تتلاصق الأجساد والأنفس طلباً للدفء.

(2)

سحب سوداء تتزاحم، تقف على حافّة الهطول تنتظر إيقاد شعلتها كي تنهمر، وزغبٌ افتضَّ لتوّه بشرة الأرض يمدّ أكفّه تضرّعاً، ويتهيّأ للاحتفاء بقِرّة مقبلة، أضحى النهار كأنه ليل بفعل السحب السوداء التي ما إن صدم بعضها بعضاً حتى أُوقد فتيلها وأزّت، ثم همى حبرها برداً على الأرض العطشى، وبينما كان المطر يشتدّ، كانت سِعْدة عمّة محجوبة جالسة إلى جوار زوجها عمّار الأقطع الذي دخل في غيبوبة منذ أن سقط من أعلى الزيتونة منذ نحو شهرين، ومن قال إنّ عمّار الأقطع الذي يضرب به المثل في القوّة والشّدة يٌضحي جثّة هامدة بين الحياة والموت، عمّار الذي لقّب بالأقطع لأنه عندما كان يحصد الشعير ذات مرّة عضّته حيّة تعرف بأم القرون فبادر إلى المنجل فأهوى به على إبهام يده اليسرى فقطعه حتى لا يسري السمّ في جسده كلّه، عمّار الذي كان عندما يخرج أهل القرية إلى (الخُشّة) تلك الأرض التي تبعد مسير ساعتين عن قرية (تغنّيت)، وكانوا يعسكرون هناك شهراً أو يزيد حتى ينتهوا من الحصاد، كان يعود مع المغيب إلى بيته، كان يقطع المسافة في نحو ساعة أو أقل، كان يطأ الأرض بشدّة، واسع الخطى، وما إن يصل حتى يحمل سِعْدة التي كانت تنام على السُّدّة خوفاً من العقارب والحشرات في الصيف ويطرحها أرضاً ويهوي عليها مثل نسر جائع، ومن ثمّ يغادر مع الفجر خفيفاً مثل سحابة صيف، مازالت تذكر رائحة عرقه الممزوج بالتراب عندما كان يطؤها، أخبرها مرّة أنّ صديقه قال له إنّ عرق الرجل يفعل فعله في إثارة المرأة كما يفعل بول التيس، كان على سِعْدة طوال عشرة أعوام - وهي مدّة زواجها ـ أن تكون مستلقية أو منبطحة في عتمة ذلك الليل على فراش ضيّق لا يتسع لجسدين متحاذيين، لكنها الآن تجلس بالقرب من عمّار تحاول إبقاءه حيّاً ببعض الجرعات من الماء والحليب كما اعتادت، وتدعك جسده بالزيت الحويل (المعتّق) بعد أن عجزتْ الأدوية وحجابات الفقيّ الزروق في إعادة الحركة إلى جسده، نصحها بعضهم بزيت الزيتون الذي سيحافظ على طراوة جسده، وهي تمرّر يدها الناعمة على جسده لم تجرؤ قط على الاقتراب من خاصرته، على امتداد عشر سنوات رسمت مخيلتها صوراً كثيرة عن خاصرة عمّار وعنه وهو يجسّ به أحشاءها في عتمة الليل وفي ظلمة دار الحفر، قرّبت سِعْدة يدها من خاصرته، سلبته سرواله، مرّرت يدها الناضحة بالزيت على فخذيه، اقتربت منه، غمست يدها اليسرى في صحن الزيت، ضغطت بسبابتها وإبهامها على رأسه، ثمّ شكّلت بأصابعها حلقة وسحبت بيدها اليمنى عنقه إلى داخلها وراحت تمرّرها جيئة وذهاباً، وبعد لحظات ارتسمت دهشة كبيرة على وجهها، خُيِل إليها أنّه يتحرك، لا بل إنه يتحرك.

(3)

بينما كان المطر يشتدّ مؤذناً باستمرار القِرَّة ليومين أو ثلاثة كان الحاج ميلود متّكئاً على فراشه يراقب المطر من الداخل، زخّات تتلوها زخّات، وكان إلى جواره صندوق صغير مملوء بالتبغ المحلّيّ المعروف بالشولطو الذي يُزرع في قرية (تغنّيت) والقرى المجاورة لها، أخرج ورقة صغيرة، وضع فيها القليل من التبغ، لفّها بيده، ثمّ مرّرها على لسانه كي يلتئم جانباها، أوقد اللفافة وبدأ يدخّن، لم يبدُ سعيداً رغم أن المطر يشي بمحصول وفير من القمح والشعير، وعشب كثّ سيغزو خدود الجبال المترامية هناك، ففي القرية كل الناس ينتظرون المطر، لقد علّموا أطفالهم كيف يغنّون له أغنية الحياة، كان إلى جوار الحاج ميلود حفيده طفل ابنه الأكبر عليّ الذي لم يكمل سنته الأولى، كان يتأبّط مرضعة اصطناعية ذات حلمة كبيرة، وكانت كلّما سقطت من يديه الصغيرتين سارع جدّه إليها فأعادها إليه، فعل ذلك مرّات لكنّ الطفل لم يسكت، أخذ الحاج ميلود المرضعة، تفحّصها جيداً، بدت حلمتها غضّة كبيرة، حاول أن يتأكد أن الحليب في وسعه أن يتدفق عبرها إلى الخارج، وضعها في فمه، مصّ بشدّة فاندفع الحليب إلى بلعومه، أعادها إلى الطفل وهو يقول:

ــ هيّا ارضع.. بلا بروع

عاد إلى بقيّة اللفافة، أخذ منها أنفاساّ عميقة متتالية، ثمّ رماها إلى خارج عتبة الدار، رجع إلى مكانه، اتّكأ، وضع رجلاً على رجلٍ، لكنه سرعان ما جلس، أعدّ لفافة أخرى، مرّر عود ثقاب مصنوع من الشّمع على حجر صغير إلى جانبه كان يستعمله أحياناً للتيمم، أشعل لحظتها وراح يدخّن، فأخبار الحرب التي بدأت تستعر مع الجارة الجنوبية تشاد تقلق الحاج ميلود، وخاصة بعد أن سمع من بعض معارفه أنّ ابنه المبروك الجندي في القوات الخاصة كان من ضمن من اقتيدوا إلى هناك للمشاركة في المعركة، منذ أيام وهو يكتم الخبر وقد نبّه كل أولاده ألا يخبروا والدتهم والأهم ألا يخبروا محجوبة زوجة المبروك.

(4)

إنّه اليوم التالي، بدت السماء وكأنها تعيش حالة من ديمومة الاستفراغ، و(وازينا) منتصب منذ الأمس تذرعه ملايين النُّطف المحرّرة، والرياح القوية الباردة تصفع حبات المطر فتنثني حتى تكاد تدخل إلى داخل ديار الحفر، العائلات تكوّرت حول إبريق الشاي الحائز حضن الكانون، والوحل يسلب من تجرّأ على الخروج منهم حذاءه، كان الوقت آخر النهار غير أنه بدا أكثر سوادًا بفعل السحب المتراكمة، في تلك الأثناء كانت محجوبة داخل دار الخزين المظلمة المترعة بالشعير والتبن، فمنذ أن عاد المبروك إلى عمله كان عليها القيام بكل أعمال البيت بما في ذلك علف الحيوانات، كانت في الدار لكنها لم تكن وحدها، كان معها رفيقها الذي يكبرها بسنة، لقد لحق بها إلى دار الخزين عارضاً مساعدته، رفيقها الذي عندما كانا صغيرين يلعبان لعبة العريس والعروسة زُفّت إليه مرات ومرات، كان لا يرضى بغيرها عروساً له، كان بقيّة الأطفال يشكّلون طابوراً، ويسيرون مقلّدين أبواق السيارات بأفواههم، وتحت شجرة لوز عظيمة وُضع على غُصْنين منها رداء قديم تجده ينتظرها، هناك حيث لا فراش ضيق عند الزاوية، ولا ملاءة منذورة للدماء، ولا سراج يراقب المشهد بعين واحدة، هناك كانا يتلاصقان بجسديهما الطاهرين، ولكن منذ أن نضجت فاكهة جسدها وصار محرَّماً عليها أن تلعب مع ثلّة الأطفال تلك ابتعدا، غير أن أعينهما ظلّت تحكي أشياء كثيرة عن ذكرياتهما معاً، رفيقها الآن يقف أمامها وهي ترتعد برداً أو ربّما اشتهاء، يشفّ فستانها المبتلّ عن تفاحتين صغيرتين متباعدتين، صفعهما البرد فانكمشتا غير أن عنقيهما ظلاّ ممدودين، وبعض حبات المطر على شعرها كانت تنحدر من خصلات ناصيتها فتجري على أنفها ثمّ تروّي شفتيها البكر، فهي باستثناء أنّ زوجها المبروك فقأ بسبّابته عين ظنّها مازالت عذراء، عذراء الروح، وحقلها لم يوطأ بعد، وفاكهتها اللاممنوعة تنتظر لحظة اقتطاعها، ضغط على يديها بشدّة، قبّلها، ثم نفخ فيهما، أشعلا اللحظة بكفّيهما امتزج ريقه العذب بملوحة قطرات المطر بشفتيها، مال على شجرة التين، وعندما وقفا على أطراف أصابعهما هويا معاً على كومة التبن وأصغيا إلى حمحمة النار، صارا وكأن النار تحضنهما وتبكيهما في آن.

(5)

منذ أن عاد سعيد من آخر زيارة له إلى القرية بدا شارداً مهموماً، فنورية زميلته في الكلية تحادث طالباً آخر وتطيل الجلوس معه، أحسّ بكره في قلبه لكلّ نساء الأرض، فالمرأة هي المرأة، مخاتلة وخائنة، بقيت طوال الأشهر الماضية تمنّيه بنظراتها العميقة، فكّر في أن يكتب إليها رسالة تحوي كل الشتائم التى يعلمها والتي لا يعلمها، لكنه عاد إلى نفسه، عنّفها.

"آهٍ.. لو كان في وسعكَ أن تغتال خجلكَ، لن تحبّك أي امرأة مادمت ملجمَ اللسان هكذا".

سعيد قلق أيضاً على صديقه وزميله في الغرفة حسن، فعندما عاد لم يجد غير كومة من بقايا سجائره، وفوضى سريره عند الزاوية التي تشي بأنه كان هناك، عندما التقى عمر صديق حسن سأله عنه فهمس عمر في أذن سعيد:

ــ قيل إن أفراد الأمن الداخلي اقتادوه إلى مكان غير معلوم.

ــ أوه.. الأمن الداخلي، وما تهمته؟

ــ التفكير.

ــ التفكير!

ــ لا يريدون لأحد أن يخرج عن سلطة القطيع.

ــ القطيع! أىّ قطيع؟ آه.. لقد تذكرت كان حسن يقول الكلمة نفسها، ولكن هل يستطيع القطيع أن يجابه الراعي، لا بد للقطيع من راع وبضع كلاب تحرسه، هكذا تعلمنا في القرية، أقصد.

نظر عمر حوله وهمس:

ــ ليس الوقت مناسباً للكلام.

غادر عمر، وأكمل سعيد طريقه وهو يفكر فيما قاله عمر، لقد سمعه من حسن مرات، لقد طلب سعيد من حسن ذات مرّة أن يبتعد عن السياسة خوفاً عليه فردّ عليه بأنه لا يمارس العمل السياسي ولا ينتمي إلى أيّ تنظيم أو حزب سياسي، وأنّ تهمته الوحيدة أنه لا يريد أن يعيش مثل شاة في قطيع، وبما أنه قطيع سياسي قبل أن يكون قطيعاً دينيّاً فإنه سيتم ّ تكفيره سياسياً قبل أن تكفّره السلطة الدينية، وعندما قال سعيد إنه سيكتفي بدراسة الأدب وسيبتعد عن وجع رأسه بمشاكل السياسة ردّ حسن في هدوء ليس في استطاعتك الهروب من السياسة، فهي حاضرة فيما تدرس، إذ لا يمكن أن تقرأ مغامرات امرئ القيس مع المرأة إلا بوصفها محاولات لاستعادة الملك والسلطة المفقودة، ولا يمكن تنظر إلى قصائد عنترة في عبلة إلا في ضوء سعيه الحثيث لأن يكون شريكاً في السلطة، حتى أولئك الصعاليك الذين نبذهم القطيع حاولوا بناء سلطة موازية للسلطة المركزية المتمثلة في القبيلة.

أحسّ سعيد بحجم محبّته لحسن كما لم يشعر من قبل رغم أن كلامه كان في كثير من الأحيان صادماً ومستفزّاً، لكنه كان صادقاً وهادئاً ومخلصاً، آهٍ لو كان في استطاعة سعيد أن يفعل شيئاً لما ادّخر جهداً، لكن

ــ الله غالب، الله غالب.

(6)

إنه عصر يوم الخميس، سيرافق سعيد خالته وزوجها في زيارتهما إلى الوليّ الصالح، ستُقام حضرة كبيرة في تلك الليلة يأتي إليها المجذوبون من كل الأماكن، كان زوج خالته موسى واقفاً قريباً من الباب ينتظر زوجته التي تخرج دائماً متأخرة، كان يراقب الأحذية ويدخّن، ثمّ ينحني فيلتقط حذاء بنيّاً ويرتديه، يشمّر سرواله إلى أعلى قليلاً ويقلّب رجله اليمنى، ينظر إليه، يسير نحو الباب ثم يعود، ينزع الحذاء ويلتقط حذاء آخر أسود فيرتديه.

ــ هيّا اخرجي يا امرأة.

خرجت برنيّة تجرّ عجيزتها، وهي امرأة طويلة وممتلئة في مقدورها أن تلتهم زوجها، أو تسقطه أرضاً بضربة واحدة، فهو رجل نحيف جداً، له شنب صغير كأنما رُسم بقلم رصاص، وأنف طويل، وصوت فيه بُحّة حتى إنه لا يكاد يبين ربّما بسبب عمله شرطي مرور يقضي الصباحات نافخاً في صفارته.

        ساد صمت كثيف في السيارة التي تذرع الطريق باتجاه (سيدي الشارف)الذي يبعد ساعتين أو أكثر قليلاً، في الطريق حدّث موسى نفسه بأشياء كثيرة "ماذا لو صدم سيارته بأول حائط يواجهه، قد تكون طريقة مثلى لإيقاف نبض كدس اللحم المكوّم عن يمينه، عندها سيحزن عليها، وستهطل عيناه مدراراً، وسيتقدم الناس في جنازتها المهيبة، وسيُضرب عن الطعام، ويقلع عن التدخين ويمشي حافياً مثل بهلول.

ــ لا، لا.. لكنّها بسبع أرواح، قد أموت أنا وتبقى هي.

وماذا لو أنّ جنيّاً من المستحضرين في الحضرة يلبسها، ومن ثم يلوي عنقها، سيكون الأمر قضاء وقدراً.

ــ آه.. وأي جنيّ في وسعه أن يلْبسها، إنّها تحتاج إلى جيش من الجنّ".

 كتم موسى أنفاس سيجارته، داس على البنزين، زاد في السرعة وأفكار تدحر أفكاراً في رأسه.

ازدحام شديد، أناس من كل مكان جاءوا إلى (سيدي الشارف)، إنه أشبه بعرس جماعي، كان موسى زوج خالة سعيد يدخّن، وينظر بعمق إلى جبل من الأحذية المكوّمة عند مدخل مسجد يعجّ بالمصلين في صلاة العشاء، لقد أوشك أن يهمّ بها فيعدلها لولا خوفه من أن يتهمّ بالجنون، وسعيد كان يلاحق الفتيات والنسوة بعينيه، وفي الوقت ذاته يحاول إسكات جوعه لهن وللطعام، فرائحة الكسكسي تغوي الأنوف، وتجعل أفئدة الناس تهوي إلى المكان، لا أحد يعرف من أين اكتسب الكسكسي كل هذه القدرة على إغواء أنوف الناس ومعداتهم، لعلّه بفعل سحر جذره اللغوي (كس)، فـ (الكسكسي) و(الكسكسو) الممدود بالياء والواو باختلاف اللهجة بين غرب البلاد وشرقها ما هو إلا تحاشٍ لذكر الجذر مجرّداً، الغريب أن هذا الجذر (كس) يفعل فعله في الحيوانات أيضاً، فيمتدّ سحره إليها، فـ (كُسْ كُسْ) تستعمل لجلب الكلاب ودعوتها إلى الطعام، في المقابل فإن (كِسْ كِسْ) تستعمل في دفع القطط وطردها.

بعد انقضاء العِشاء والعَشاء كان هناك حشد كبير من الناس يلتفون مشكّلين دائرة، وفي الداخل هناك دفوف تُمرّر على جمر الكانون استعداداً لبدء الحضرة، وما إن ارتفعت الأصوات الله حيّ، الله حيّ، حتى هام المجذوبون، بعضهم يطعن خاصرته بالسكّين، وآخرون يمرّرون أسياخاً ساخنة عبر أعناقهم، بعضهم يبتلع الجمر، وبين لحظة وأخرى تنهض امرأة من الحاضرات مصروعة تخبط قدميها على إيقاع الدفوف المتعالي، تعيش هذيان طفولتها، تنثني مثل لهب في مهبّ الريح، تظلّ كذلك حتى يمسح أحدهم بيده عليها أو يرشها بماء فيعود إليها وعيها، إنهم أصحاب بركة وصلاح، راقب موسى المشهد، جال ببصره في النسوة الحاضرات، بحث عن بُرْنيّة، انتظرها أن تبرز إلى الحلقة تحرث الأرض بقدميها القويتين، مرّت لحظات، بدت هناك في ردائها المخطّط شامخة مثل نخلة، وثابتة مثل طود عظيم.

عندما هتك ضوء الشمس خيوط الفجر، ولاحت أهدابها كان موسى يقود سيارته باتجاه البيت، وعلى يمينه بُرْنيّة تغطّ في نوم عميق، وفي المقعد الخلفي يجلس سعيد متكوّراً مثل عصفور، وكان صوت مغنٍ يصدح على الراديو المحلّيّ:

ــ يا بيت العيلة يا عالي يا مظلّل بالحبّ.

 

الحِلْمة

الجبل المنتصب هناك

يمتدّ

أعلى من المِئْذنة

(1)

إنّه الفجر، الحاج ميلود يقلّب موجات الراديو القديم لعلّه يقتنص خبراً عن الحرب الدائرة هناك، لقد ملّ أخبار النصر التي يذيعها الراديو المحلّيّ منذ أن اندلعت تلك الحرب، كان يحتسي الشاي الأحمر كعادته ويوجّه هوائية الراديو باتجاهات مختلفة، ثم يجعلها باتجاه باب دار الحفر، يوصل سلكاً معدنيّاً بالهوائية ويجرّب بلا فائدة، يضربه من أعلى بكفّيه ضربتين:

ــ خردة.. خردة

كان ينتظر انبلاج الصبح جالساّ على قلقة حتى يذهب إلى العمل في الحقل، هناك سينهك جسده عن طريق الحفر بالمسحاة، وقد يفلح في ردم قلقه إلى حين.

في تلك الأثناء كانت محجوبة مذعورة في دارها، لقد أفاقت لتوها فزعة بعد أن رأت حِلْمةً مخيفة، لقد أحسّت بخوف شديد رغم أنّ الحِلْمة كانت مبهمة ولا تتضمن موت أحدهم صراحة، ربّما لذلك كان فزعها أكبر لعجزها عن فكّ الشفرات التي ستساعدها على عبور رؤياها، فكّرت في أنّه لا بد من الاستعانة بأحدهم في تفسير حلمها، ليس هناك من هو أبرع من الفقيّ الزروق في ذلك، أوجدّتها بدرجة أقلّ، لكن ثمة مشكلة، ليس في وسعها أن تروي الحلم كاملاً، هناك جانب تخجل أن تبوح به، قضت محجوبة الصباح حائرة، كنست دار الحفر والفناء الواسع أمامها، عبرته جيئة وذهاباً مرّات ومرّات وصورة مئذنة الجامع العتيق وهي تهوي لا تفارق مخيلتها، كان هناك في الأفق غيمة واحدة عظيمة، وكانت تمطر طيوراً صغيرة سوداء تشبه الخُطّيفة، وما إن تصطدم بالأرض حتى يتطاير منها شرر عظيم، كانت الريح تدور بشكل حلزوني وتقترب من مئذنة الجامع العتيق، اشتدت أكثر، الْتفّت حول المئذنة، مرّت لحظات قبل أن تسقط على صخور كبيرة فتشظّت، وعندما سكنت الريح، واندحرت الغيمة النازفة طيوراً من لهب، عادت محجوبة ببصرها إلى الجامع العتيق، هالها ما رأت، ينتصب مكان المئذنة قضيب عظيم، عندها أفاقت محجوبة من نومها، احتست جرعة من الماء لعلّها تسكت خوفها.

فكّرت محجوبة طويلاً فيما ستفعل، وفي عشية ذلك اليوم ذهبت إلى دار جدّتها، روت لها حلمها منقوصاً، أخبرتها فقط بسقوط مئذنة الجامع العتيق، فطمأنتها جدّتها، وقالت إن صحّ ما رأت فإنه قد يموت الفقيّ الزروق، ألحّت عليها ألا تخبر أحداً، انبجست بسمة على وجه جدّتها التي طالما رأت في الفقيّ الزروق عدوّاً، فالمثل الشائع يقول (صاحب صنعتك عدوك).

(2)

لا أحد يعلم من أين اكتسب البوكشّاش (الحرباء) كل هذه الطاقة، إنه أشبه بكائن أسطوري، يُشاع أن قطرة من لعابه كافية لقتل أكبر ثعبان، كما أن العادة جرت بأن يجعل جسده علاجاً للديغ، لقد أثبت جسده قدرة رهيبة على امتصاص السم، كل ما عليك فعله هو أن تبقر بطنه ثم تلفّه حول موضع السم، يُشاع أيضاً أن البوكشّاش مرابط (ذو كرامات)، فإيذاؤه قد يجرّ وبالاً عظيماً عليك ويجعلك عرضة للمسّ وعداوة الجنّ، لذلك فإنّ أهل قرية تغنّيت يحترمون البوكشّاش، أو يخافونه، فهو إن عضّك كما يعتقد أهل القرية لن يكون في مقدورك أن تنزع إصبعك من فكّيه حتى ينهق حمار مسنّ في مكان ما، ولكن ما علاقة الحمار بالبوكشّاش، هذا الكائن الأسطوري ساحر ماهر، يجيد التخفّي والخديعة، يخدع أبصارنا فيُخيّل إلينا أنّه تلوّن بألوان شتّى، ويختفي هنا كي يطلع هناك، إذ ليس من الممكن أن يكون هنا وهناك في آن.

ــ أنت مسحور يا حاج ساسي ومحسود.

هذا ما قاله الفقيّ الزروق للحاج ساسي، ثمّ أعطاه ماء معزّماً وطلب منه أن يرشّ به بيته وبالذات عتباته، وقال أيضاً إنه يحتاج إلى بوكشّاش (حرباء) كي يذبحه ويعلّق جسده في البيت، فذلك سيساعد في طرد الجنّ من البيت، فالبوكشّاش الذي يستعمل في سحر الناس، يستعمل أيضاً في علاجهم.

طمأن الفقيّ الزروق الحاج ساسي وقال إنه في خلال أيام سيتخلص من سحره، أما إن استعصى الأمر فإن الفقيّ سيدعو أصدقاءه من الصُّلاح ويقيمون حضرة في بيت الحاج ساسي، فالحاجّ صديق عزيز ومعطاء، عندها سيحظى الحاج ساسي بنوم هنيء، وسيهجره حلمه المفزع الذي شقّ ستار غفوته مرّات، لقد رأى في منامه غير مرّة أنّ كلباّ أسود عظيماً ينام في فراشه، إنه ليس ككل الكلاب، له أنف ضخم عظيم أشبه بخرطوم، وأرجل كثيرة تزيد عن أربعة، وهو ما فسّره الفقيّ بأنه علامة من علامات سحر الحاج ساسي، فالكلب الأسود دلالة على الجنّ المسلَّط على الحاج.

دسّ الحاج مبلغاً من النقود في جيب الفقيّ الزروق الذي بادر بالقول:

ــ خيرك سابق، خيرك سابق.

غادر الحاج فأخرج الفقيّ المبلغ من جيبه، تفحّصه، إنه مبلغ كبير بالنسبة لعطية يوم واحد، تفتّقت بسمة خفيفة على وجهه، تغيّرت ملامحه بعد أن نزع قناع الجدّ والتُّقى الذي يلبسه أمام الحاج، بدا مثل بوكشّاش كبير.

(3)

إنها ليلة الجمعة، سيذهب سعيد في صباح اليوم التالي إلى (تغنّيت) وسيمكث أسبوعين هما مدّة عطلة منتصف العام الدراسي، وسينعم برؤية (تغنّيت) وهي تزدان بأزهارها كما هي دائماً في شهر فبراير، المهم أن تمضي الليلة على خير، فعبد القادر منذ أن غُيِّب حسن أصبح حذراً، قلقاً، ينام خارج الغرفة مرّات كثيرة، سيكون على سعيد أن ينام الليلة وحده، على سريره الذي يتوسط سريرين خاويين احتضن سعيد وسادة وحاول أن ينام، ترك النور مضاء فلا شيء يخيفه أكثر من غرفة معتمة، لاحت في مخيلته نساء كثيرات، عيشة الهجّالة التي لم تعد هجّالة فقد تزوجها الحاج بلعيد الذي تجاوز السبعين من عمره، مرّ على زواجهما ثلاث سنوات، رغم ذلك ظلّت نظراتها إلى سعيد كما هي لم تتغيّر، ونورية زميلته ومعشوقته التي لم تعلم بعشقه، وحليمة جارة خالته التي لمّحت له مرّات لكنها ملّت صمته الا بدي وتردّده، حليمة التي كثيراً ما نامت على وسادته وشاركته فراشه في أحلامه.

كانت الساعة تشير إلى الرابعة فجراً، كان سعيد ممتدّاً على سريره، تبدو قدمه اليمنى من تحت الغطاء، إنّها ذات أصابع طويلة ومحدّدة، كان ما يزال يحتضن وسادته، غارقاً في أحلامه عندما قُرع الباب بشدّة استيقظ خائفاً، اختلط الأمر عليه، كان أشبه بكابوس، تمنّى لو كان الأمر كذلك وقبل أن يخطو أي خطوة نحو الباب ضرب أحدهم الباب بقوة فكسر القفل، دخل مجموعة من المعمّمين بعمامات خضراء، كان أكثرهم ملثمين، ارتعد سعيد، أحسّ أن كل زغب جسده كان واقفاً على أطراف أصابعه، سألوه عن عبد القادر، نعتوه بالخائن والكلب الضّال، فتّشوا الغرفة وكأنّهم يبحثون عن إبرة، سألوا سعيداً عن آخر مرّة رأى فيها عبد القادر فأجاب منذ يومين، غادروا وانطلق سعيد إلى الحمام، مرّت لحظات قبل أن يخرج وهو يجرّ قدميه "كلب ضالّ!".

عندما كانت الشمس تذيب أكوام النّدى المكوّم على العشب اتجه أحمد نحو ملتقى الواديين (وازينا) و(سوناف) كي ينضم إلى المختار وفوزي والبشير، ومن ثمّ سيقصدون (الخُشّة) تلك الأرض الخصبة، سيمضون يومين أو ثلاثة هناك يتفقدون الزرع ويجمعون التِرْفاس* وقد يصيبون صيداً، أقنع أحمد والده أنه ذاهب لتفقد القمح والشعير فالأعراب الذين يجوبون الشعاب والوديان لم يتركوا حِمى إلا وقد وقعوا فيه، لقد نشأت نزاعات كثيرة بينهم وبين أهل تغنّيت، عند ملتقى الواديين انتظروا طويلاً إبراهيم الأبنة الذي لم يحضر فقرّروا الذهاب من دونه، أحمد أصرّ على انتظاره قال إنه سيلحق بهم عندما يصل إبراهيم، انطلقوا جنوباً، مرّوا على شِعْب عميق جعلته السيول المتعاقبة أشبه بأخدود يُسمّى (شِعْبة البطّال)، ذلك المكان الذي كان وما زال شاهداً على مثْلية متجذّرة، هناك كانت تتمّ وماتزال مقايضة الجنس بالجنس، صعدوا الجبل المسمّى (سند القبلي) عبر طريق ترابي وعندما وصلوا إلى أعلاه بدت لهم القصور الأربعة وهي تنتصب على قمم جبال شاهقة، لقد سمعوا قصصاً كثيرة عنها لكنّ أحداً منهم لم يزرها، سمعوا عن الكنز الذي يحرسه ملك الجنّ وخمسة آلاف من أتباعه، كثيرون بمن فيهم الفقيّ الزروق حاولوا الحصول عليه لكنهم لم يفلحوا، تداول الناس روايات عن الصِّل العظيم الذي يبلغ طوله نحو ثلاثة أمتار، قيل إنه هو نفسه ملك الجنّ يتمثّل في صورة صِلٍّ أحياناً كي يمنع كل من يحاول الاقتراب من الكنز، واصلوا سيرهم، عبروا أرضاً منبسطة قبل أن يصلوا إلى (الشعبة السوداء) ذات الصخور المحددة التي تبدو وكأنها صخور بركانية، تركوا (كهف العُقْبان) عن يسارهم وصعدوا عبر مسرب ضيّق هو الطريق الأقرب كي يصلوا إلى (الخُشّة) في الأعلى هناك.

وضع المختار إبريق الشاي على النار بعد أن خبا لهبها وأصبحت جمراً، وبدؤوا رحلة البحث عن التِرْفاس، سار كل واحد منهم في اتجاه، بدا الزرع طريّاً غضّاً، وكانت رائحة أزهار شوك القندول تعبق في المكان، لمعت الأزهار تحت أشعة شمس الربيع الدافئة، ساروا ينبشون الأرض بأعواد صغيرة، سيكون التِرْفاس وجبتهم على الغذاء، لا شيء مثل طعم المعكرونة بالتِرْفاس أو أكله مشويّاً، لا يحتاج جمع التِرْفاس إلى مهارة كبيرة، يحتاج فقط إلى الحظّ، لا أحد ببراعة أحمد في جمع التِرْفاس، إنه مثل سلوقيّ يشتم رائحة التّرْفاس بأنفه.

وصل المختار ثم البشير وفوزي تباعاً إلى حيث وضعوا إبريق الشاي على الربوة قرب الدار، لقد جمعوا الكثير من التِرْفاس الأحمر والأبيض، وضعوه قرب الطابون، وبينما كان المختار يعدّ الغداء عمل البشير وفوزي على تنظيف التِرْفاس من التراب الملتصق به، قال المختار وهو يقطّع البصل إلى قطع صغيرة:

ــ لقد استبدل أحمد إبراهيم الأبنة بنا، ياله من لعين!

ملأ فوزي كوب الشاي ثم نفخ فيه كي يبرد وقبل أن يأخذ أول رشفة أشار بيده إلى جهة الشمال الغربيّ، التفت المختار، كان أحمد وسعيد وكلبهما (رِبْح) يقتربون منهم، وبعد أن وصلا ضحك المختار وهو يسأل أحمد:

ــ أين صاحبك؟

ــ دعك منه، حسابه فيما بعد.

لقد علم سعيد بأمر ذهابهم إلى (الخُشّة) فلحق بهم، إنه يحبّ ذلك المكان، لقد أمضى سعيد ما تبقّى من ذلك النهار يتمشى على الربوات المزدانة بالزهر، يجمع بعضاً من نبات (الباقرعون)*، ويراقب عقاباً كبيراً كان يجوب فضاء الخُشّة بحثاً عن فريسة، وعندما جثم الظلام على صدر الأرض عاد الجميع إلى الدار، أوقدوا فتيلة قديمة، كان الصمت كثيفاً لا يبدّده غير عواء ذئاب جائعة يأتي من بعيد، كان (رِبْح) يردّ عليها بنباحه، اتفقوا على أن يخرج أحمد والبشير وفوزي إلى الصيد ويبقى سعيد والمختار في الدار، خرجوا يتبعون نباح (رِبْح) أينما اتجه، أخذوا معهم عصاً وكيساً مصنوعاً من الخيش، كانوا يمنّون أنفسهم باصطياد شيهم كبير.

ظلّ سعيد صامتاً ينظر إلى لهب الفتيلة إلى أن فاجأه المختار سائلاً:

ــ كيف هنّ بنات المدينة؟

ــ ها ها، ناعمات

ــ كيف، كيف؟

ــ أقصد أنّهن لسن كأنصاف الرجال اللاتي عندنا.

ــ وكيف أبليت معهنّ؟

ــ ها ها، ...

مرّ الوقت سريعاً، وبينما كان سعيد يحكي للمختار كان الأخير منصتاً، كان يمدّ يده من حين إلى آخر، يعيد شيئاً ما إلى مكانه أسفل خاصرته، فعل ذلك خلسة، لقد أنساهما الحديث جوعهما الذي لم يسكت عنهما فتحسّس سعيد كيس الخبز وأخرج رغيفاً، أمدّ المختار ببعضه، في الأثناء سمعوا نباحاً يقترب منهم.

ــ لا بد أنّه رِبْح.

كان هناك شيء يتحرك داخل الكيس الذي يمسكه أحمد، قال إنه شيهم كبير سيكفيهم ليومين، فتح المختار الكيس بحذر خوفاً من أشواك الشيهم التي قد تمتدّ إلى جسده، انفجر ضحكاً:

ــ ها ها، ههـ قنفذان!

قال سعيد الذي اقترب من الكيس ليرى القنفذين:

ــ وماذا سنفعل بهما؟

أجابه الجميع بصوت واحد:

ــ سنأكلهما بالتأكيد.

بعد أن أكلوا القنفذين أسلم سعيد نفسه للنوم، في حين ظلّ الآخرون يتسامرون ويدخنون التبغ المحليّ حتى وقت متأخر من الليل، تحدّثوا عن إبراهيم الأبنة، وعن النساء، استحضروا ذكرياتهم معاً، روى المختار قصصاً كثيرة عن الجنّ والغول الذي يسكن (وازينا) فأحسّ البشير بتنمّلٍ في أعلى ظهره، سكتوا للحظة، أنصتوا لهمهمات سعيد وهو نائم، اقترب أحمد منه، بدا وكأنه يرتعد، ناداه مرّات فأفاق مذعوراً، استعاذ بالله من الشيطان الرجيم، أعطاه أحمد بعض الماء فشرب، ثم اضطجع على جنبه الأيمن، قرأ المعوّذتين ونام، لكن الحلم نفسه عاوده، أفاق ثم نام مرّات ولم يغادره حلمه، كان سعيد قد رأى في منامه عيشة الهجّالة وهي ترتدي عمامة سوداء وتحمل مقصاً في يدها وكان هو ممدّداً في قميص طويل أبيض في مكان معتم، اقتربت عيشة منه ووقفت عند منتصفه، وعندما هوت عليه كي تقطع روحه أفاق من نومه.

 

المأتم

(1)

سيّارة بيجو بيضاء مملوءة معيزاً وضأناً بدت بالقرب من دارالحاج ميلود، ثمة تيس كبير أقرن كان يحاول أن يقتطع شهوته قبل أن يقطع السكين عنقه، في الطريق إلى دار الحاج ميلود كان هناك مجموعة نسوة يمشين في أرديتهنّ المزركشة مثل سرب البجعات، وما إن دخلن الدار حتّى ارتفع العويل، كل امرأتين تتقابلان وتندبان معاً، إنها حالة من تشارك الحزن، في الأعراس أيضاً لا بد من تشارك الفرح، فالغناء الشعبي المعروف بالبوطويل يقتضي أن تتشارك امرأتان الغناء، فالحالة نفسها، والأصوات المتعالية تتشابه إلى حدٍّ كبير، فهنا وهناك يٌضحي العويل والغناء وسيلة للترويح والاستفراغ.

ــ امتى توفّى الحاج الله يرحمه؟

علك أغلب الرجال السؤال نفسه وهم يرسمون عبسة مصطنعة على وجوههم، بعضهم انتقل إلى المقبرة قرب الجامع العتيق كي ينحتوا له رحماً في صخور الهضبة هناك، بعضهم أجهز على بضع مواش مما كان في سيارة البيجو تلك، إذ لا بد من بعض دم مسفوح كي يحظى بالطّهر.

إنه العصر، صار القبر جاهزاً، أُخرج جثمان الحاج بلعيد والد الحاج ميلود من دار الحفر، إنه رجل مسنّ تجاوز السبعين، تبع موكب النسوة الجثمان خارج الدار، تشاركن العويل، وُضع التابوت في سيارة البيجو البيضاء نفسها، وزُفّ إلى المقبرة، هناك حيث تقدّم الفقيّ الزروق الصفوف في صلاة الجنازة.

عندما كانت الشمس على وشك أن تتوارى في عشّها خلف الأفق هناك، كان الفقيّ الزروق وبعض الصلاح ومن يستطيع القراءة يتلون القرآن في الخيمة على روح الميت، انحنت أعناقهم على المصاحف مثل جمال تشرب من نبع، وظلّت أعينهم تراقب باب الخيمة من طرْف خفيّ، انشطروا بين المصاحف وبين الباب الذي تتسرب منه رائحة بازين لذيذ، أوقظت رائحة البازين جوعهم فراحوا يبتلعون الكلمات كما يبتلعون قطع البازين، خارج الخيمة كان عليّ ابن الحاج ميلود الأكبر يتفقّد القصاع، تخيّر قصعة ردمها باللحم حتى إنّ البازين لا يكاد يظهر من تحت كومة اللحم تلك.

ــ هذي قصعة الفقيّ الزروق.

عندما غزت القصاع الخيمة اندحرت المصاحف، وانحسرت الأكمام، وأُشهِرتْ أذرع اقتلعت بأصابعها الطويلة المفلطحة البازين مثل أخطبوط، سرعان ما تلاشى كل شيء ولمعت قعور القصاع الخاوية، غسل الفقيّ يديه بعناية شديدة:

ــ صدقة بالغة إن شاء الله.

في تلك الأثناء كان الصبية يلعبون، يركضون بشدّة، يلاحق بعضهم بعضاً، ربّما اختلط الأمر عليهم فظنّوه عرساً، فالمظاهر ذاتها، الخيام المنتصبة، ورائحة الطعام، والازدحام، وربّما لأنهم لم يقفوا بعد على حقيقة الموت، بالنسبة إليهم يٌضحي العرس والمأْتم زمناً لإدراك متعة هاربة، قرب الزريبة كان هناك بضع رؤوس محزوزة، لم يكن رأس ذلك التيس الأقرن من بينها، أُعجب الحاج ميلود بنشاطه فاستبقاه فحلاً، كان هناك يصول ويجول في الزريبة.

قال شعبان وهو يلهث:

ــ هيّا نلعب (الوابيس).

نظر الصبية إلى بعضهم وهزّوا رؤوسهم مشيرين إلى موافقتهم، فليس في استطاعتهم أن يرفضوا طلباً لشعبان، (الوابيس) لعبة تقتضي اختيار جدار أو صخرة تُجعل محجّاً يحرسها أحد الصبية أما الباقون فعليهم أن يختبئوا، من يستطيع الوصول منهم إلى المحجّ وتقبيله من غير أن يراه حارس المحجّ يفوز، ومن يجده حارس المحجّ أولاً ويناديه (وابيس) يخسر، شعبان ماهر في هذه اللعبة، إنه يجيد التخفّي، لقد ورث ذلك عن جدّه رمضان الذي قيل عنه إنه ما من أحد كان ببراعته في صيد طيور الحَجَل، كان عندما ينصب شباكه لا يحتاج أن يجعل لنفسه مخبأ يتوارى فيه عن أعين الطيور، كان ينبطح على الأرض بثيابه المتسخة ويكتم أنفاسه مثل ميّت لا يتحرك، ويبقى يراقب شباكه بعين واحدة نصف مفتوحة، قد ينتظر ساعة أو ساعتين أو أكثر إلى أن تأتي الطيور التي كانت أحياناً تقف على ظهره قبل أن تتجه إلى حبوب الشعير المنشورة تحت الشباك، عندها ينقضّ عليها ويمسكها جميعاً، والد شعبان بلقاسم هو أيضاً بارع في صيد طيور الحجل، لكنه ليس ببراعة الجدّ رمضان، شعبان أطول الصبية وأقواهم بنية وهو يشبه في ذلك والده وجدّه اللذين يمتازان بجسدين ضخمين وأنفين كبيرين.

زخّت العتمة وجرى الليل في كل مكان، اجتمع الصبية كلهم ما عدا شعبان، انتظروه فلم يأت، نادوه بصوت عال، وبعد لحظات بدا من جهة دار الخزين التي ربما كان يختبئ فيها، بدا بعض القشّ في شعره:

ــ وابيس شعبان، وابيس شعبان.

لم يبد أن شعبان قد غضب لخسارته في اللعبة كعادته، قال إن الوقت تأخّر وإن عليه العودة إلى البيت.

النسوة اللاتي أمضين النهار في العويل وإعداد الطعام بدا عليهن التعب، لقد نزعْن وجوه الحزن تلك فبرقت ضحكاتهنّ الرقيقة، في تلك الأثناء كانت محجوبةـ التي قالت إنّها ستتفقّد الدارـ في دار الخزين، وعلى الكيس المملوء شعيراً كان رفيقها يحرث جسدها الطريّ.

(2)

مرّ أسبوع على وفاة الحاج بلعيد، كان الحاج ميلود جالساً مع بعض أقاربه عندما اقتربت سيارة عسكرية عبر الطريق الترابي، فكّر في أنّهم قد يكونون ممن عمل مع ابنه المبروك في الخدمة العسكرية وقد أتوا لتقديم واجب العزاء، تمنّى أن يكون الأمر كذلك، اقتربت السيارة أكثر، أُوقفت بالقرب منهم، ترجّل منها ضابط وجنديّ كان يقودها ببدلتيهما العسكريتين، سلّما ثم جلسا، أسرع عليّ فأحضر الشاي، مكثا صامتين لحظات، ارتشفا الشاي على مهل ثم تكلّم الضابط فسأل عن الحاج ميلود الذي أجاب:

ــ وصلت، وصلت.

عرّف الضابط بنفسه ثم تنحنح قبل أن يتبع:

ــ الحمد لله على سلامة ولدك المبروك.

دُهش الحاج ميلود، ألجم الخوف لسانه، تململ في مكانه، أحسّ بسخونة في جسده، تساءل ماذا قد يكون حدث لابنه، فالمصائب لا تأتي منفردة، لكنّ الضابط تابع فأخبرهم أنّه أصيب ببعض الشظايا في الحرب، لكنّ الله سلّم، إنه محظوظ، لقد أُجريت له عملية ونزعت الشظايا من جسده وهو يتلقّى العلاج في أحد المستشفيات في جنوب البلاد، سينقل إلى طرابلس عندما تتحسّن حالته، عندئذٍ سيكون في وسعهم أن يزوره للاطمئنان عليه، أكمل الضابط حديثه ثم نهض ليغادر، ألحّ عليهما الحاج ميلود أن يبقيا للغذاء لكنهما غادرا:

ــ في الأفراح إن شاء الله.

        وصل الخبر إلى محجوبة فراحت تصفع خدّها، أعولت كمل لم تعول من قبل حاول بعض النسوة تهدئتها فلم يفلحن، من كان يظنّ أنّ محجوبة قد تحبّ المبروك إلى هذا الحدّ في تلك المدة القصيرة من الزواج، لكن على المرأة أن تعول على زوجها ولو لم تكن تحبّه، عليها أن تبكيه حتى ولو كانت تكرهه.

 

العيد

(1)

كم من رؤوس ستُحزّ، ودماء ستسفح في هذا اليوم بسبب حِلْمة رآها إبراهيم، حِلْمة غيّرت مسار التاريخ وقرّبت أعناقنا من نزق السكاكين لولا ذلك الكبش الأول الذي افتداك بنفسه، مازال دمه ينزف كل عيد، النعجة التي لم تفتد أحداً مازالت تنزف هي الأخرى، كان عليها أن تدفع ثمن بطولاته، كل أغنام الدنيا لا تكفي أن تكون فداء لإسماعيل الذي أذعن لسلطتك أبي، فلْتفن كل القطعان مادام ذلك سيبقي على هذا القطيع الأعظم الذي نعيش فيه، ولتخرس كل الأصوات التي تنادي بالخروج على طاعتك أبي، في الحقيقة لا أحد يجرؤ على المناداة بذلك مذ خان الجبل هامان وأسلمه إلى الماء.

لا ذبح حتى يذبح الفقيّ الزروق إمام القرية، كلّ الذبائح مؤجلة حتى يحزّ بسكينه عنق أضحيته إيذاناً ببدء عرس الدم، في تلك الأثناء وبينما كان الجميع ينتظر كان عليّ يشحذ سكّينه على حجر خشن، فعلى الذابح أن يظهر رحمة بضحيته أو أضحيته، عليّ الذي تظهر عبسة منحوتة على جبينه لا تغادره إلا نادرا لديه استعداد لذبح قطيع بأكمله وسلخه، إذ لا أحد يضاهيه في تلك المهارة، أخرج عليٌّ ثلاث أضاحي من الزريبة واحدة له وأخرى لوالده وثالثة لأخيه المبروك الذي يرقد في المستشفى بعيداً هناك، قرّب وعاء مملوءاً شعيراً منها فأكلت حتى شبعت، ثم سقاها حتى ارتوت، إنّها تعدّ أمنية أخيرة لها قبل أن يُسفح دمها الذي سيطهّر رغم نجاسته ذنوباً كثيرة، إذ لا بد من بعض دمٍ مسفوح كي تحظى بالمغفرة.

سعيد الذي عاد إلى القرية كي يحضر العيد مع أسرته بدا مهموماً، يتأمل الأضاحي المعلّقة من أرجلها كي يسهل سلخها، ذكّرته بمشهد الطلاب الذين عُلّقوا على المشانق في الجامعة بتهمة الخيانة في يوم يسمونه عيد الطلاب، ليسوا إلا ضحايا وأضاحي قُتلوا كي يبقى القطيع الأعظم الذي نعيش فيه، فالحبال المتدلّية متشابهة، وفكرة التضحية تؤسس للمشهد في الحالتين، حمد الله كثيراً إذ لم يكن صديقه حسن من بينهم، لعلّه مازال حيّاً في سجن ما، عاد للأضاحي، رثى لحالها، ولكن لم قد (زائدة تحذف) يبكيها مادامت هي سعيدة بأن تكون أضاحي، لقد سمع من جدّته غير مرّة عندما كان صغيراً أن الأغنام عندما يجيء عيد الأضحى تعيش حلم أن تكون أضحية، وتتمنّى أن يقتطع أحدهم رأسها تقرّبًا إلى الله، إنها ليست أفضل من جدّها الكبش الأول الذي افتداك أبي بنفسه.

(2)

قال والد سعيد:

ــ هيّا اذهب أنت وأحمد إلى دار عيشة كي تذبحا لها أضحيتها.

ــ عيشة الهجّالة؟

ــ المسكينة مرّ شهر واحد على وفاة زوجها.

ــ لكن لا بدّ أن عليّاً قد ذبح لها فهي زوجة جدّه.

ــ هيّا اذهب بلا نقاش، إنّها جارتنا ونحن أولى بها.

خرج سعيد من الدار، بحث عن أحمد في الجوار فلم يجده "الشقيّ، لا تجده أبداً عندما تحتاج إليه، أين ذهب يتسكّع" ناداه بصوت عالٍ فلم يجبه، لم يكن أمام سعيد خيار سوى الذهاب إلى دار عيشة الهجّالة، عندما وصل بدا عليٌّ وقد علّق الأضحية من رجلها في السقيفة، حمد الله كثيراً، سلم على عليّ، كان في الدار بضعة نسوة يواسين عيشة في محنتها في العيد الأول بعد وفاة زوجها، خاطبهنّ سعيد قائلا:

ــ عيدكم مبروك.

بينما كان سعيد يساعد عليًّا في سلخ الأضحية، كانت عيشة تعدّ لهما الشاي، ظلّت من حين إلى آخر تنظر إلى سعيد بعمق، إنه يعرف هذه النظرات، إنّها النظرات نفسها التي كانت قبل عشر سنوات، ورغم تقدّم عيشة في العمر قليلاً فهي مازالت ممتلئة، عيناها واسعتان سودوان، تبرز شامة أعلى شفتها العليا من جهة اليسار، وتتدلّى خصلات تغطّى الجزء الأكبر من جبينها، لقد تزوجت مرتين لكنّها لم تنجب أطفالاً، إنّها بحقّ امرأة قوية.

عندما أكمل عليّ وسعيد سلخ الأضحية قدّمت لهما عيشة الشاي، ومرّرت كانون البخور الصغير حولهما، ارتشف سعيد الشاي بسرعة وحين أراد أن يغادر طلبت منه البقاء للغداء، لكنه قال إنّ عليه أن ينجز بعض الأشياء.

انقضت عطلة العيد بسرعة، عاد سعيد إلى طرابلس، قضى الطريق في التاكسي وهو يفكّر في عيشة الهجّالة كما لم يفكر فيها من قبل، لم يعرف ما الذي جعله يشتهيها على غير عادته، أتراها وضعت شيئاً له في كوب الشاي أو كانون البخور ذلك، أحسّ بألم في خاصرته إذ إنّ روحه لم ترتخ طول الطريق، وعندما وصل السكن الطلابي وجد الغرفة مفتوحة فدخل، رأى أحدهم يجلس في سريره فخاطبه:

ــ السلام عليكم.

ــ وعليكم السلام، لا تستغرب أنا الطاهر زميلك في الغرفة.

ــ أهلاً بك، كأنّنا التقينا من قبل.

ــ نعم، نعم، نحن ندرس في الكلية نفسها.

ــ أظنك في السنة التانية.

ــ نعم، في السنة الثانية قسم التاريخ.

لهجة الطاهر بدت غريبة لسعيد، ونطقه للثاء جعله يخمّن من أي منطقة هو رغم أنّه لم يسأله، جلس سعيد على سرير عبد القادر بينما كان الطاهر يتحدّث، تكلّم في كل شيء، في التاريخ والجغرافيا والسياسة والأدب، روى قصصاً كثيرة عن بطولاته في صباه، لم يسكت، كان سعيد متمترساً خلف صمته، إنه صموت بطبعه، كما أنه يأخذ بنصيحة حسن الذي حذّره ذات مرّة من أولئك الثرثارين الذين ينتقدون النظام، قال إنّها وسيلتهم لمعرفة ما يدور في داخل الناس من أفكار ومن ثمّ يعدّون تقاريرهم الأمنية، أحسّ سعيد بخوف شديد لكنه بقى منصتاً للطاهر الذي لم يبد أنه سيتوقف، إنه ذو لسان رطب وحكّاء ماهر بالرغم من أنه من الواضح كان يختلق بعض قصصه، نال التعب من سعيد فتململ، لكن الطاهر لم يفهم ولم يسكت، ظلّت الحكايات تتوالد من لسانه، هزّ سعيد رأسه ومن ثم حرّك حاجبيه كي يظهر له إنصاته، وبعد أن ملّ الإنصات استأذنه في أن يرتاح قليلاً، وضع سعيد أمتعته في مكانها ثم عاد ووقف، بقى متردّداً، فكّر في سرير من سينام، وبعد لحظات اتجه نحو سرير حسن وجلس، وضع رأسه على الوسادة، كانت رائحة التبغ مازالت تنبعث منها.

(3)

انقضى العيد، ومرّ عليه نحو شهر، لكن ما أكثر الأعياد في هذا البلد، فغداً سيطل عيد آخر يسمّونه عيد الجلاء، كان سعيد عائداً إلى السكن الطلابي عندما رأى بعض العمّال الذين يبنون منصّة كبيرة إعداداً للاحتفال الذي سيُقام غداً، أخبروهم في الكلّية أنّ حضور الاحتفال إجباري، وأنّ من يتخلّف من الطلاب عن الحضور سيعرّض نفسه لعقوبات شديدة أقلّها فصله من الدراسة، وأشاع بعضهم أنّ القائد معمر القذّافي سيحضر الاحتفال وسيلقي خطاباً بالمناسبة، عندما وصل سعيد إلى الغرفة وجد الطّاهر منكبّاً على كتبه يقلّبها فسأله:

ــ عمّ تبحث؟

ــ لا شيء

ــ هل أخبروكم بأمر الاحتفال غداً؟

ــ نعم

ــ وهل ستحضر؟

سكت الطاهر قليلاً ثم قال:

ــ ربّما.

ــ لكنّ الحضور إجباري، قد تفصل من الدراسة إن تغيّبت.

ــ ههـ، وهل تصدق هذه الحيلة؟

عاد الطاهر إلى كتبه يبحث فيها، واتّكأ سعيد على يده اليسرى وشرد"يبدو أنّ الطاهر طاهر، ربّما تسرّعت وظلمت الرجل، لا أظنّه كما توقعت، ربّما هو ليس من أولئك الذين تحدّث عنهم حسن ذات مرّة، لقد ظلمت الرجل".

في صباح اليوم التالي أفاق سعيد مبكراً كي يذهب إلى الكلية حيث سيكون التجمع ومن هناك سيقصدون ساحة كلية الهندسة حيث سيُقام الاحتفال، الطاهر مازال نائماً، حاول سعيد إيقاظه فلم يستجب فارتدى سعيد حذاءه وأغلق الباب وراءه وأسرع،

في ساحة كلية الهندسة ـ التي شهدت من قبل إعدام بعض الطلاب بتهمة خيانة ثورة الفاتح ـ بدأ الطلاب يتوافدون، أمام المنصة الكبيرة كان هناك حشد من المعمّمين بعمامات خضراء ما انفكّوا يهتفون لمعمر القذافي ولثورة الفاتح، رُفعت شعارات الثورة، وعلت الأصوات التي تنادي بالثأر من كل خائن وتصفيته، على المنصّة صدح الخطباء والشعراء الشعبيون والنظّامون، مجّدوا ذكرى إجلاء القواعد الأمريكية الذي تمّ في مثل ذلك اليوم، مرّ الوقت بطيئاً على سعيد، كانت الشمس حارة، أحسّ بظمإٍ شديد، وقدماه ماعادتا قادرتين على حمله، إنها الظهيرة وما من أحد يعلم إن كان القذافي سيأتي ليخطب فيهم أو لا، كان على الجماهير أن تنتظر قائدها، لقد وقفوا لساعات طويلة، فكّر سعيد في أن يغادر تلك الجموع ويعود إلى الغرفة، لكن ماذا لو رآه أحدهم، قد تكون مغادرته تهمة كافية لقتله، قرّر سعيد أن يتحمّل وأن يبقى، أقرّ في نفسه بأنه لا يملك شجاعة الطاهر الذي بقى نائماً غير مبالٍ بما قد يحدث، وبينما كان سعيد غارقاً في تفاصيل تلك الوجوه الكالحة أعلن أحدهم على المنصّة عن البيان الختامي الذي سيتلونه على مسامعهم، تقدّم شاب قصير ذو شعر طويل ملتوٍ، صدح:

ــ بسم الله الرحمن الرحيم، وباسم الفاتح العظيم.

بدا الصوت مألوفاً لسعيد، تابع الشاب قراءة البيان، وتابع سعيد إنصاته، "إنه صوت الطاهر، لا لا لكن الطاهر في الغرفة نائم"، لم يكن سعيد قادراً على رؤية من داخل المنصّة جيداً بسبب أشعة الشمس، وبعد المسافة، فقرّر أن يشقّ الصفوف كي يقترب أكثر، انسلّ من بين الأجساد المتعرّقة، قاوم رغبة شديدة في التقيّؤ بسبب الراحة الكريهة المنبعثة من تلك الآباط، وبعد مجاهدة وصل أمام المنصة حيث يقف أولئك المعمّمون، رفع بصره إلى المنصّة فلم يصدّق ما رأى، كان الطاهر هو من يتلو البيان الختامي وعندما انتهى من قراءته رفع يديه الاثنتين وهتف للقذافي وثورة الفاتح فردّد الحشد الذي كان أمام المنصة ما قاله، التفت سعيد حوله، كانت كل الأيادي ممدودة إلى أعلى، وكل الحناجر تهتف، أحسّ سعيد بخوف شديد فرفع يده، وحرّك شفتيه متظاهراً أنّه مع الهاتفين.

 

الرُّوح

(1)

دار الحفر لا نوافذ لها، لذا فإنها لا تبوح بأسرارها وليس في وسع أحدهم أن يتنصت على ساكنيها رغم أنّها كثيراً ما تكون متجاورة، إنّها لا امتداد عمودي لها، وإنّما تمتد إلى الداخل مثل عضو أنثوي عظيم، تكتسب دفء الأرض شتاء وبرودتها صيفاً، إنها شكل بدائي للمأوى، فرغم أن الإنسان عرف البناء منذ آلاف السنين لا أحد يعلم دافع أهل القرية (تغنّيت) والقرى المجاورة لحفر هذه الديار واتخاذها مساكن لهم، إنّها البيت الأكثر أمومة، ففي حين ينتصب بيت الحاج ساسي وبضع بيوت أخرى مشيّدة من البلاط، تحنو ديار الحفر على ساكنيها مثل أرحام، توجد في قعر دار الحفر حجرة صغيرة محفورة تُسمّى (دكّانة) تستعمل لتخزين زيت الزيتون والطعام، إنّها الجزء الأكثر عتمة، إنّها الجزء الأكثر أماناً، هناك كان يختبئ سعيد عندما كان صغيراً خوفاً من عقاب أبيه.

(2)

مرّت أشهر منذ أن اكتشفت سِعْدة بمحض الصدفة أنّ عضواً من أعضاء زوجها عمّار الأقطع مازال قادراً على الحركة، اخضرّ قلبها أملاً، عاشت حلم أن يستعيد زوجها وعيه، داومت على دعك جسده بالزيت الحويل (المعتّق) بشكل شبه يومي، والأهم دعك (روحه)*، كما أن الطبيب المصري العامل في المستوصف كان يأتي إليه بشكل منتظم كي يزوّده بأكياس الماء والأملاح كي تبقيه على قيد الحياة، بدا لسِعْدة وهي تمارس تمارين الانتصاب شبه اليومي لزوجها أنّ ذكره كائن قائم بذاته، لا يمت بصلة لذلك الجسد المكوّم على الفراش، ذلك العضو الممتدّ إلى الخارج له حياته الخاصة، وأحلامه التي ليست بالضرورة هي أحلام جسده، له وعيه المغاير لما ينتجه العقل من وعي، له مجده وانتصاراته وسيرته الذاتية التي يجب أن تنكتب بعيداً عن سيرة صاحبه، يُشاع أن الرجل ليس في استطاعته أن يفكّر بشكل صحيح مادام في حالة انتصاب، وأنه ليس في وسع الجسد أن يكون برأسين يعملان في الآن ذاته، لذا وجب على أحدهما أن يتعطّل مادام الآخر يعمل، إنه ليس مجرد عضو، وليس مجرد امتداد أفقي، إنه رمز سلطة الرجل وسبب شعوره بالتفوق النوعيّ.

تحت خيمة الليل وفي عتمة دار الحفر المضاءة بفتيلة صغيرة كانت سِعْدة تدعك روح زوجها بالزيت الحويل، كانت تمرّر يدها جيئة وذهاباً فيتمدد، تضغط بأطراف أصابعها على رأسه فينتفض، لقد دافعت على امتداد أشهر رغبة ملحاحة في أن تكمل الأمر حتى آخره، لم يعد في استطاعتها أن تتجاهل صوت شهوتها، يتملكها اشتهاء في أن تكون فوق وأن يكون زوجها تحت، إنّها لحظة مثلى لتحقيق ذلك مادام عمار الأقطع يرقد على فراشه مثل دمية، نزعت ملابسها باعدت بين رجليها، وجلست عند منتصفه، بدا لها المشهد مختلفاً من أعلى، وفقس فيها شعور مغاير لما عرفته على امتداد عشرة أعوام، راقبت وجه عمّار، بدا أكثر احمراراً ربّما بسبب انعكاس ضوء الفتيلة عليه، انتفخ ودجاه، تشكّلت حبات عرق على جبينه، دبّ في سِعْدة بعض الخوف فتوقّفت للحظات، لكنها سرعان ما عادت لتكمل رحلة الارتواء تلك، وحين وقفت على أعتاب النشوة ارتعد جسد عمّار وكأنه مقرور، ضغطت أكثر فأكثر فانتفض مثل من يتخبطه الشيطان من المسّ، تدحرجت بضع كلمات عن شفتيه، إنه يهذي، لا إنه يستعيد وعيه، لم تصدق سِعْدة ما رأت، تسمّرت في مكانها للحظة، ثم سارعت فارتدت ملابسها.

في اليوم التالي أقبل رجال القرية ونساؤها مباركين عودة عمّار الأقطع إلى الحياة، إنّه مازال على الفراش، يحتاج أياماً كي يستعيد عافيته، في الأثناء راجت روايات كثيرة عن حجابات الفقيّ الزروق وبركته ودورها في شفاء عمّار، بعضهم قال إنّ ذلك بسبب كيّه في رأسه، بعضهم رأى أنّ الأمر محض إرادة إلهيّة، أنصتت سِعْدة إلى كل الروايات ولم تكذبها.

(3)

ــ الحمد لله على السلامة، إن شاء الله هذا حدّ السوّ.

كان المبروك متّكئاً على سريره في المستشفى، وإلى جواره يجلس والده الحاج ميلود وأخوه عليّ وصهره الحاج مسعود والد محجوبة، آهٍ...، محجوبة ما عاد يقدر أن يلجم قلبه المشتاق إليها، غداُ سيخرج، لقد التأمت جراحه وشفيت، لقد كان محظوظاً رغم أنّ أصبعه قد بُترت، لكنّه على الأقل بقى حيّاً في حين مات بعض زملائه في الحادثة نفسها، لم يرو المبروك شيئاً عن الحادثة، إذ ليس مسموحاً للعسكري أن يتحدث عن حرب لم تنته بعد، بقيت سبّابته المبتورة المحفوظة في ثلاجة بطلب منه شاهدة على الحادثة، سيأخذها معه غداً عندما يخرج من المستشفى.

في صباح اليوم التالي كان عليّ قد جهّز الذبائح، وكان بعض النسوة قد اجتمعن في دار الحاج ميلود منتظرات عودة المبروك الذي ما إن وصل حتى أطلقن زخّات من الزغاريد، رجال القرية حضروا أيضاً لتهنئة الحاج ميلود بعودة ابنه، إنّه أشبه بعرس، فرح وازدحام وطعام، لا ينقص إلاّ الزُّكرة، جلس المبروك على جمر اشتياقه لمحجوبة يجامل الرجال الذين أكملوا للتوّ غداءهم، وراحوا يحتسون الشاي، وبينما كان الفقيّ الزروق مهيمناً على الحديث كعادته بادره الحاج ميلود قائلاً:

ــ كيف يصير في صبع المبروك ندفنوه؟

وضع الفقيّ كوب الشاي على الأرض، أمال قبعته إلى الناحية اليسرى وحكّ رأسه بشدّة، أحسّ بألم في بطنه، شعر وكأنه سيتقيّأ كل البازين الذي التهمه، كان متّكئاً فجلس، احتسى آخر رشفة في كوب الشاي وقال مبتسماً:

ــ قددوه.

وعندما لاحظ أنّ المزحة لم ترق لبعضهم عبس قليلاً وأتبع:

ــ ليدفنه وحده وليحرص على ألا يراه أحد.

في دار المبروك كانت محجوبة تجلس إلى جانب جدّتها التي ألحّت عليها أن تساعدها في الحصول على سبّابة المبروك المقطوعة، ذكّرتها بكل معروف أسدته إليها، وقالت إنه آن الأوان كي تردّ الجميل إلى جدّتها، إنه ليس مجرد أصبع، إنه بالنسبة إليها الأصبع الذي سيغيّر خارطة القرية كلها، متى تحصلت عليه لن يكون في مقدور أحدهم أن يقف في وجهها بمن فيهم الفقيّ الزروق نفسه، وقالت أيضاً سيٌضحي المبروك مثل خاتم في إصبع محجوبة، ومن في وسعه أن يجابه سحراً مخلوطاً بعضو بشريّ، غادرت الجدّة بعد أن قبّلت بعمق خدّي محجوبة:

ــ زي ما وصيتك يا بنيّتي.

قضى المبروك ليلته محاولاً تعويض ما فاته من شهوة مؤجّلة على امتداد الأشهر الماضية، بات ليلته مثل هرٍّ أسطوري، لم ينم ولم يترك محجوبة تنام أيضاً، صعد جبل النشوة مرات كثيرة، أنهك جسده حتى كاد ينبوعه أن يجفّ، وعندما اندلع الصبح وقبل أن تغادر الشمس بيوضها، خرج المبروك، اتجه إلى زيتونة غير بعيدة من الدار، حفر حفرة صغيرة تحتها، وردم فيها سبّابته، أهال التراب عليها وعيناه تفيض من الدمع، تذكّر زملاءه الذين ماتوا في الحادثة نفسها، كل شيء حدث بسرعة وفجأة، لم يكن هناك وقت للانبطاح كما علموهم في الخدمة العسكرية كي يحموا أجسادهم، أمسك المبروك روحه بيده اليمنى وتكوّر مثل قنفوذ، أصابت بعض الشظايا فخذيه، وأصابت شظية صغيرة سبابة يده اليمنى فقطعتها، ظلّت تتدلّى، إذ بقى خيط رفيع من جلده يصلها بيده، عندما أفاق في المستشفى أخبروه أنّه لم يكن هناك بدّ من قطعها، حمد الله كثيراً أن المقطوع لم يكن أصبعاً آخر ليس في يديه ولا قدميه، وقف المبروك للحظات قبل أن يغادر ليتفقد الحقل بالقرب من (وازينا)، عندئذٍ خرجت محجوبة التي راقبت كل شيء، اغترفت التراب بيديها، أمسكت بأصبع المبروك، كادت أن تحرقه أو تهرسه بحجر لولا وصيّة جدّتها بأن تبقيه سالماً، تذكرت ليلة دخلتها، أحسّت بألم وكأن أحدهم يعيد افتضاضها من جديد.

مرّت أيام مُذ عاد المبروك سالماً إلى القرية ، كان هناك سؤال ينقر في ذهنه ناشداً الإجابة، فمنذ حادثة البتر تلك كان كلّما صلّى وجلس للتشهد استخدم إصبعه الوسطى بعد أن بُترت سبّابته، لكنّه لم يرتح للأمر، فالأصبع الوسطى المحمّلة بكل تلك الدلالات السلبية كيف لها أن تنهض بدور كهذا في العبادة، الوسطى التي تشير إشارة واضحة إلى القضيب نفسه في ثقافات كثيرة كيف لها أن تسبّح بحمد الله، ولكن من أين اكتسبت الوسطى كل تلك الطاقة السلبية وهي مجاورة للسبّابة، أليس من الخطأ تحميلها ذنباً لم تذنبه لكونها الأطول، تمنّى المبروك لو كانت الوسطى هي أصبعه المقطوعة وبقيت سبّابته، فكّر في إمكانية استخدام يده اليسرى، لكن اليسرى لا تجيد التسبيح، ولا تعرف غير الحلب والجلب، لطالما كانت فرجاً آخر كلّما عزّ الفرج.

انطلق المبروك نحو دار الفقيّ الزروق، عندما وصل وجده جالساً على حجر صغير أمام الدار يحلق ذقنه، كان يميل رأسه يميناً ويساراً أمام مرآة صغيرة يحملها في يده اليسرى، يلاحق ما تبقى من شيب مشتعل، أخبره المبروك أنه على عجل، وأنّ له حاجة.

ــ حاجتك مقضية يا ولدي.

روى المبروك له المسألة كاملة فسكت، أحسّ بصداع في منتصف رأسه، تدحرجت حبات عرق من جبينه، لعن اليوم الذي بتر فيه إصبع المبروك، ارتعشت يده اليمنى فانغرست شفرة الحلاقة في وجهه المجعّد، بادر إلى غسل قطرات الدم المسفوح وهو يقول:

ــ غدوة تجيني، تلقى جواب ونعطيك حجاب.

أخبر الفقي الزروق المبروك أن عيناً أصابته فاقتطعت سبّابته، ذكّره بأن الناس لطالما أعجبوا بأصابعه الطويلة المفلطحة المعروفة بقوّتها حتى إنهم لقبوه بـ (الكُلّاب)، أقنعه بذلك فغادر المبروك وهو يحاول أن يخمّن أي عين قد تكون حصدت سبّابته.

 

الحَصيدة

(1)

الصيف زمن تتمدّد فيه الأجساد والأرواح فتشي بكثير من أسرارها، وتغادر العصافير أعشاشها مجابهة حرارة هذا العالم واتساعه، وتشتعل خدود فاكهة توشك أن يموت انتظارها الذي استمرّ أشهراً لكي تحظى بقضمة، إنه زمن الحصاد، يجمع الفلاحون محاصيلهم من الشعير والقمح، ويجني التلاميذ نتائج أعمالهم على امتداد عام دراسي، إنه زمن النهايات أو البدايات ربّما، إنه موسم التزاوج البشري، كم من أجساد موعودة بالارتواء، ونهود منذورة لاشتهاء السكاكين، كم من حصون ستُدكّ ودماء ستُسفح، في ذلك الوقت من السنة يصبح (وازينا) أكثر من واد، إنه بمائه العذب وظلاله الممدودة، وحقوله المخضرّة يُضحي مكاناً آخر خارج المكان يقصده الصبية، يسبحون في بركه، ويتربّصون بإبراهيم الأَبنة، ويتلصّصون على الفتيات العاملات في الحقول، الثعابين أيضاً تقصد (وازينا) هروباً من حرّ الشمس، وبحثاً عن الضفادع التي تشكّل غذاء لها، في ذلك الوقت تظلّ ديار الحفر الباردة صيفاً كما هي كتومة ورحيمة بساكنيها.

(2)

خرج أغلب رجال القرية إلى (الخُشّة) تلك الأرض التي تبعد مسير نحو ساعتين كي يجنوا محاصيل الشعير والقمح، المبروك عاد إلى بنغازي بعد انقضاء إجازته المرضيّة، سيعرض على لجنة طبية، قيل إنه قد يُسرّح من الخدمة العسكرية بسبب حادثة البتر تلك، فما جدوى جندي مشاة من غير سبّابة، فالسبّابة التي تسبّح بحمد الله تقتل أيضاً، عمّار الأقطع عاد أكثر قوة ونزقاً من قبل، مازال يمارس عادته في العودة من (الخُشّة) كلّما اشتعل اشتهاؤه، مازال أيضاً يعشق اللاقبي الطازج والمخمّر، كل نخيل (وازينا) لا يروّي عطشه.

في ذلك الصباح الصيفيّ كانت الشمس محمرّة مثل كرة من اللهب وهو ما يشي بنهار قائض، عبقت في المكان رائحة خبز محليّ معجون من الشعير والقمح على غير العادة إذ اعتادتِ النسوة تحضيرها عند الغروب، لا شيء يضاهي رائحة خبز الفرن (التّنور) ومذاقها، كانت سِعْدة تحضّر الخبز لعمّار الأقطع الذي سيغادر إلى (الخُشّة)، وكانت في تلك الأثناء تراقب عمّاراً وهو يجهّز حماره، أخرج محراثاً مصنوعاً من الخشب، استغربت، تساءلت لم يخرج المحراث في عزّ الصيف، لكنها لم تسأله، زوّدته ببعض الخبز فركب حماره وانطلق، في الطريق صادفه الحاج ساسي في سيارته الداتسون البيضاء، سأله:

ــ إلى أين أنت ذاهب؟

ــ إلى الخُشّة.

ــ ولم المحراث؟

ــ سأزرع بعض الشعير.

ــ ها ها، اترك الحمار وسأوصلك بالسيّارة.

ــ لا، لا.

تحايل الحاج ساسي على عمّار كي يقنعه بذلك فلم يستجب، علم الحاج ساسي أنّ عمّار قد أكثر من شرب اللاقبي المخمّر في الليلة الماضية فما عاد يدري في أيّ فصل هو، المهم أنّ وجهته كانت صحيحة (الخُشّة)، أكمل عمّار طريقه، واتجه الحاج ساسي إلى جمعة الوصيف ليتفقّد الأغنام قبل أن يغادر هو أيضاً إلى (الخُشّة)، كان قد لاحظ أن جمعة الوصيف مازال متكاسلاً في عمله حتى بعد أن اشترى له حماراً، ينام حتى شروق الشمس أحياناً، ولولا أنّ والد جمعة أفنى حياته في خدمة العائلة لا ستغنى عنه.

(3)

كانت القائلة تزفر ريحاً قبليّة حارة تلفح وجه (تغنّيت) وكأنّها قادمة من جهنّم، الجميع يحتمون بديار الحفر الباردة فيغلقون أبوابها وينامون حتى العصر، إنّها جنّتهم في هذه الحياة، حتى أولئك الذين بنوا بيوتاً من البلاط يعودون إلى ديار الحفر في الصيف، فقط الصبية يتسللون إلى (وازينا)، يقضون القائلة تحت أشجار النخيل المتداخلة، يسبحون ويدخّنون التبغ المحليّ، ويسرقون ثمار الخوخ والعنب والمشمش إذا سنحت لهم الفرصة، لكن عليهم أن يحذروا الحاج مسعود الذي كثيراً ما يقضي القائلة في مخدعه تحت زيتونة في الحقل يعسّ، يرقد تحتها مثل ذئب ينتظر فريسته، حتى وإن لم يكن هناك ففي وسعه أن يتتبع آثار أقدامهم حتى يعرف من هم، فهو ماهر في هذا الأمر، عندها سيخبر آباءهم بالأمر وتكون العقوبة مضاعفة.

على الصبية أن يحذروا الصلّ أيضاً، ذلك الثعبان الأسود الذي قد يصل طوله إلى مترين، إنه أيضاً يجد في (وازينا) ملاذاً له إنّه أشبه بثعبان أسطوري، قويّ ليس من السهل أن تهزمه، سريع لا يمكنك أن تهرب منه، قيل إنه يجيد تقليد صوت الضفادع، إنها حيلته كي يأنسوا إليه فيلتهمهم، يشاع أنّ الفقي الزروق يستطيع أن يروّض أكبر صلٍّ بتعويذة واحدة، ويروي أهل القرية أنّ الفقي يربّي صلّاً كبيراً في داره، يضعه في قُفّة كبيرة، لم يره أحد، لكنّ أكثر أهل القرية يصدّقون هذه الرواية، يُشاع أيضاً أن البوكشّاش يستطيع أن يقتل أكبر صلٍّ بقطرة واحدة من لعابه.

بينما كان الصبية يسبحون تعالى صراخ كسر سكون القائلة، احتدّ العراك أكثر فانطلق الصبية نحو مصدر الصوت، كان هناك أحمد وإبراهيم الأَبنة الذي ما من صبيّ بالغ إلا وقد وطئه أو كاد، أحمد الذي أظهر زهداً غير معتاد في إبراهيم في المدة الأخيرة كان مشتعلاً غضباً، كان يطلق وابل الشتائم من فمه، لم يدرك أنه ورّط نفسه في سباب خاسر مع إبراهيم الذي ليس لديه ما يخسر، ليس عنده أسرار يخشى أن تنكشف لهم، وليس هناك ما يمكن أن يُعيّر به، فكل صبية القرية يعرفون بأمره، ربّما لم يكن خياره أن يكون أَبَنة عندما عاد والده من (تغسّات) ليسكن في القرية فتكالب الصبية عليه وهو الصبي الممتلئ الذي لا سند له، تحايلوا عليه أحياناً وأجبروه أحياناً إلى أن اعتاد الأمر حتى صار معروفاً للجميع بإبراهيم الأَبنة، اشتدّ السباب الذي بدا أنّ أحمد يخسره في حضور بعض الصبية فأحسّ بحرج شديد، غاضه أن إبراهيم لم يسكت، بل كان يبادله الشتائم، فكّر في أنّه سيكون محلّ سخرية الصبية الحاضرين والغائبين متى ما علموا بالأمر، دفع أحمد إبراهيم بشدّة فأسقطه أرضاً وراح يلكمه على وجهه، حاول إبراهيم أن يتّقي اللكمات بيديه، لكنّ أحمد الذي كان مثل مجنون لم يتوقف، خاف إبراهيم كما لم يخف من قبل، دبّ نمل الخوف في جسده كلّه، عندها انقضّ إبراهيم بيده على خصْيتي أحمد وما حولهما، جعلهم في قبضته وضغط بشدّة، أدار يده نصف دورة فصرخ أحمد مثل طفل لحظة ولادته، أدار إبراهيم يده دورة كاملة فخرّ أحمد شبه مغشيّ عليه، عندها تدخل الصبية لفضّ الاشتباك فغادر إبراهيم وهو يتحسّس كدمة أعلى عينه اليمنى، أما أحمد فاستجمع قواه كي ينهض، جرّ قدميه ببطء وهو يشتم:

ــ ابن الـ ـقـ...

(4)

اعتادت سليمة أن تنام وحيدة في دار الحفر منذ أن تزوّج الحاج ساسي من لطفية وبنى لها بيتاً من بلاط، قلّما بات الحاج معها، لقد عاشت منذ زواجه الثاني مثل خادمة تساعد جمعة الوصيف في الحلْب، وتعمل في الحقل.

في تلك الليلة لم يكن ثمة شيء يبدّد كثافة العتمة غير جسد سليمة الأبيض، لقد نزعت ملابسها كلّها وسحبت رداء رقيقاً على جسدها وانتظرته، لقد تركت الباب مفتوحاً على غير ما اعتادت، كانت تدرك أنّه خارج الدار يحوم حولها، فرياح القبليّ كانت تدفع برائحة جسده الأسود إلى داخل الدار، لقد لمّحت له، وأرته من جسدها أكثر مما يجب أن يرى ففهم تلميحها، ليس بينه وبينها غير عتبة الدار، ليس هناك ما يخشى، فالحاج ساسي في (الخُشّة) مع الرجال، عليه فقط أن يقهر خوفه فيتجاوز العتبة، وعندما ملّت سليمة الانتظار تنهّدت مثل هرّة تدعو ذكرها في موسم الإخصاب، عندئذٍ دلف إلى الدار مثل صلٍّ، غزا ليله بياض صباحاتها، اندلق مثل كوب شاي على قطعة جبنة، حوّطت بيديها المزدانتين بأساور من فضة خصره، وباتت ليلتها وكأنّها تحمل سقف الكون بقدميها، عندما أشرقت الشمس كان ينام قرب الزّريبة فاتحاً فمه الذي يغزوه الذباب، كان نصف ميّت.

(5)

جمع من الطلاب كان محتشداً أمام جدار في كلية التربية عُلّقت عليه نتائج امتحانات الدور الأول، كان سعيد يمشي مسرعاً نحوهم عندما صادفته نورية:

ــ صباح الخير.

ــ صباح الـ النور.

ــ مبروك النجاح.

ــ يبارك فِـ يك.

ياله من صباح نورية، بشّرت سعيداً بنجاحه، لقد اجتاز سنته الأولى بتقدير جيد، كان في وسعه أن يحرز نتيجة أفضل، لكنه قضى نهاراته بين عشق خفيّ لنورية، واشتهاء مؤجّل لجارة خالته حليمة إذ لم تفلح كل تلميحاتها في أن تسلبه خجله فينطق لسانه، وبين فؤاد شيّق وقضيب منتصب تاه سعيد، زوج خالته موسى الذي يعشق البحر حتى وكأنه وُلد من رحمه ألحّ عليه أن يقضيا النهار معاً عند الشاطئ احتفاء بنجاحه، لم يستطع سعيد رفض دعوته، فهو رغم كرهه البحر كان يرى أنّها فرصة كي يحظى برؤية الفتيات الحاسرات عن سيقانهنّ وقد بلّل الماء ثيابهنّ فوشت بكثير من تفاصيل أجسادهن، نهود صغيرة تمدّ أعناقها، نهود أكبر مرتخية، أعجاز شتّى، وجوه حافية سلبها الملح أقنعتها المصطنعة، عندما وصلا شقّ موسى بجسده النحيف موج البحر مثل سمكة سردين، أما سعيد الذي ليس عنده ثياب للسباحة ولا يجيد العوم، فقد ربط سرواله المبتلّ ذا الحجر الواسع عند ساقيه ونفخ الهواء بفمه إلى داخل السروال ثم ربط الحزام بشدة واستلقى على ظهره فطفا مثل قشّة، إنّها حيلة تعلّمها في القرية عندما كان يسبح في البركة الكبيرة المعروفة بقلْتة فرس، ظلّ يراقب الفتيات على الشاطئ، يلاحق السابحات بثيابهنّ التي تشفّ عن ملابسهنّ الداخلية ذات الألوان الزاهية، ظلّ ممدّداً على ظهره لساعات مثل قطعة من الخشب، وظلّ هو أيضاً ممتداً إلى أعلى عند منتصفه مثل شراع يحفظ توازنه كي لا يغرق.

ــ خيرك تفنِّص*؟

قبل أن يجيب سعيد سدّد أحدهم لكمة إلى وجهه، كانوا ثلاثة شبّان يسدلون شعورهم الطويلة، وتبرق في أعناقهم سلاسل من نحاس، اجتمعوا عليه، أسقطوه أرضاً، عندئذٍ تدخّل بعضهم فأوقفوا العراك، سال أنف سعيد دماً، بدا في سرواله المنتفخ الملطخ بالدماء مثل مهرّج، انتظر طويلاً قبل أن يقذف اليمُّ موسى إلى الشاطئ، سأله:

ــ يا ساتر، ما بك؟

ــ ثلاثة شبّان لا أعرفهم ضربوني.

ــ ولماذا؟

لا أدري، قالوا إني أُفنّس

ــ أوه، الأوغاد، كل الناس تفنّس في هذه البلاد، لقد أغرتهم ملابسك الريفية بك فاستقوى عليك، الأوغاد...

عندما وصلا البيت وجدا بُرْنيّة مستلقية فنهضت، سارعت إلى سعيد، تفحّصته، التفتت إلى موسى، لامته بشدّة، فنّصت في وجهه حتى كادت جمرة سيجارته أن تنطفئ.

(6)

بقى الفقي الزروق في القرية ولم يذهب إلى (الخُشّة)، فهو إمام الجامع العتيق، وخادم روضة سيدي البهلول التي يقصدها الناس، فكان هو من يستقبلهم ويباركهم بتعاويذه وتمائمه، الفقي يعيش مع أمّه، له أربع أخوات متزوّجات، لقد بلغ الأربعين ولم يتزوّج، لم تفلح محاولات أمّه في إقناعه بالزواج، تداول أهل القرية قصصاً كثيرة عن سبب عدم زواجه، قيل إنّه عندما كان شاباً أحبّ ابنة خاله بُرْنيّة حدّ الجنون، لكنّها آثرت موسى والعيش في طرابلس عليه فاعتزل النساء جميعاً، ويروي بعضهم أن الفقي متزوّج من جنّية تلازمه كل وقته وهي من تهبه كل تلك القدرة على شفاء الناس ودفع السحر عنهم، وهي أيضاً من تمنعه الزواج، ويعتقد أغلب أهل القرية أنّ الفقي نذر حياته للناس وعلاجهم وخدمة سيدي البهلول لذلك فهو لا يجد وقتاً للزوجة والأولاد، لقد كان والد الزروق رجلاً قوياً، قسا عليه كما لم يفعل أب غيره، أراد له أن يخلفه في خدمة سيدي البهلول وإمامة الناس ففعل، لكنّ والده تُوفّي مُذ كان الزروق شاباً، لقد مرّت سنوات كثيرة على وفاته وظلّ الزروق وحيداً لم يتزوّج ولم يورّث كل ذلك لأحد.

كان الوقت ضحى، كان الفقي ممدّداً على فراشه في داره التي اعتاد أن يستقبل فيها زائريه ممن يطلبون عونه في دفع سحر أو تحصين بيت أو يستفتونه في مسألة، إنّها غير بعيدة من الدار التي يسكن فيها مع أمّه، كان وحده فأمه خرجت لزيارة أخيها، كان على فراشه يعبث بأنفه، فسبّابة يده اليسرى لم تبرح فتحتي أنفه، كان يغرزها في إحداهما ثم يدير إصبعه قبل أن يخرجه محمّلاً، إنّها عادة عرف بها الفقي منذ صغره، كان ينصت لراديو قديم بجانبه عندما سمع أحدهم يناديه، بدا له صوت امرأة، خرج فوجد عيشة الهجّالة وهي مزّملة في ردائها المخطّط، أخبرها أنّ أمّه غير موجودة فقالت وهي ترمقه بعين واحدة سافرة إنّها لا تريد أمّه وإنما جاءت لتراه هو، سألها عن حاجتها فأخبرته أنّها تشكو من آلام شديدة في أسفل ظهرها، وأنّ كلاباً تطاردها في منامها، قالت أيضاً إنّها رأت حلماً أفزعها، لقد رأت البئر التي أمام دارها وقد انهارت الحجارة فيها فجفّت، أخبرها الفقي أنّ عليها أن تعود في وقت آخر عندما تكون أمّه في الدار خوفاً من كلام الناس، توسّلت إليه أن يعطيها شيئاً من تمائمه أو يتلو عليها بعض تعاويذه فهي ما عادت تحتمل، طلب منها أن تشبك أصابع يدها وشرع يتمتم وينفث من حين إلى آخر، وبعد لحظات بدأت عيشة ترتعد وكأنّها وُصّلت بسلك كهربائي، استمر الفقي في تلاوة تعاويذه فظلّت عيشة ترتعش، أفلتت طرف ردائها الذي كانت تعضّ عليه بأسنانها فلاح شعرها الفاحم، تمايلت وكأنّها تصارع جنّياً، حاولت أن تفكّ أصابع يدها فلم تستطع، نفث عليهما الفقي مرّات، وعندما تمكّنت من فكّ أصابعها أمسكت بأعلى فستانها وجذبته بقوّة فتدحرج زرّ لمع على الأرض مثل عين ذئب جائع، بدت مثل عاصفة، مثل ريح عاتية تنثني، دخلت إلى الدار فلحقها الفقي، أخذ الماء المعزّم ورشّها به، توسّل بكل أسياده أن يعينوه في لجم هذه المرأة، لكنّها لم تكف عن لطم خدّها وشقّ جيبها، لمع مابين نهديها، وعندما لم تفلح كل محاولات الفقي أمسك يديها محاولاً منعها من إيذاء نفسها، لكنّها تعلّقت بقميصه وسحبته بقوّة، دنت منه أكثر، أطبقت بيديها على خاصرته وضغطت بشدّة، التصق نهداها الكبيران به، نسي الفقي تعاويذه للحظات ثم صرخ:

ــ يا سيدي عبد السلام

بعد ذلك عاد لينفث في وجهها ثم صرخ صراخاً ممزوجاً ببكاء، عندئذٍ ارتخت عيشة الهجّالة وأفلتته، تتابعت أنفاسها بسرعة، طلبت من الفقي بعض الماء فأعطاها كوباً من الماء المعزّم، شربت، استجمعت قواها، سحبت رداءها، وضعته على رأسها وهمّت بالمغادرة فقال الفقي:

ــ أنت ملبوسة

ــ ملبوسة!

ــ نعم، تسكنك جنيّة

ــ الله يبعد عنا الجنون

ــ خذي هذا الماء اغتسلي منه واشربيه

ــ إن شاء الله يا شيخ

ــ احضري ديكاً أسود وتعالي بعد أسبوع كي أعطيك حجاباتك.

خرجت عيشة الهجّالة وعندما ابتعدت عن الدار لعنت اللحظة التي فكّرت فيها أن تأتي إلى الفقي "قليل الحظ يلقى العظم في الريّة*، الفقي بلا روح، الفقي بإصبع مكسورة غير مجبورة، الفقي بلا روح، الفقي يبّي فقي، صدق من قال طبّال* وقصعته مشروكة*".

(7)

في (الخُشّة) كانت أكداس الشعير والقمح تنتشر في فضاءٍ أعلى ربوةٍ مثل قبور قديمة، إنه زمن الدِّرَاس، الحاج ساسي الذي اعتاد أن يعطي زرعه كل عام إلى الحاج ميلود بحصّة سبق الجميع إلى درس الشعير، كانت كومة الشعير تبرق تحت أشعة الشمس مثل كثيب من الذهب، كان الحاجّان ساسي ومسعود يكيلان الشعير ويضعانه في أكياس تحت أشعة شمس القائلة، كانا حافيين كما ينبغي لهما أن يكونا في حضرة تلك الأجنة الصفراء، كانا على وشك أن يكملا كيلهما عندما أقبل عمّار الأقطع راكباً حماراً أسود ضخماً، نزل عن حماره، حيّاهما، ثم قرّب الحمار من كدس الشعير غير بعيد منها، استغربا الأمر فسأله الحاج ساسي:

ــ ماذا تفعل؟

ــ سأدرس

ــ بحمار واحد!

ــ نعم، نعم

ــ ها ها، لا بد من ثلاثة أو أربعة حمير.

لم يعر عمّار الأقطع اهتماماً لما قاله الحاج ساسي، كان الحمار مربوطاً بحبل طويل في عنقه أمسك عمّار الأقطع بطرفه وبدأ رحلة الدِّراس تلك، لكنّ الحمار الذي أتى به ليدرس غرز رأسه في كومة الشعير وبدا يأكل، لم ينجح عمّار في جعله يسير بانتظام في حركة دائرية كما هو مطلوب منه، كانت كومة الشعير تلك أشبه بحلبة يتصارع فيها عمّار الأقطع وحماره الذي ما انفكّ يأكل ذلك الزرع المحصود كلّما سنحت له فرصة وهو ما دفع عمّاراً إلى ضربه بشدّة فاندفع الحمار بقوّة، حاول إيقافه، لكنّ الحمار كان أقوى منه، تشبّث عمّار بالحبل، زاد الحمار في سرعته فانكفأ عمّار على وجهه، جرّه الحمار عدّة أمتار وهو متمسك بطرف الحبل لم يفلته، وعندما يئس من إيقافه ترك الحبل فانطلق الحمار، أسرع الحاجّان إليه، ساعداه على القيام، نهض عمّار، نفض ثيابه من التراب، قلع بعض الأشواك التي انغرزت في جسده وهو متذمّر:

ــ حمار، حمار

قال الحاج ساسي وهو يساعده على اقتلاع الأشواك:

ــ أكثرت من اللاقبي المخمّر كعادتك.

سكت عمّار فأتبع الحاج:

ــ تدرس بحمار واحد!، لم يفعل ذلك أحد قبلك، لا بد من عقد من الحمير حتى تسهل سياستها واقتيادها.

لقد خالف عمّار كل مألوف، فالدِّرَاس يحتاج إلى مجموعة من الحمير تُربط بحبل واحد من أعناقها مما يجعلها متلاصقة، توضع الإناث من جهة الخارج والذكور من الداخل حتى تكون أقلّ حرية في الحركة، فأعناقها المشدودة بحبل واحد تجعلها غير قادرة على خفض رؤوسها وأكل الشعير إلاّ إذا توافقت على ذلك، كما أنّ تقييد الحمار الذي من جهة الداخل يحدّ من حركته ومن حركة بقيّة الحمير التي تحاكي حركته الدائرية فتبدو أشبه بآلة، أمّا الحمار الواحد فهو منفلت، لم يكن ما قام به عمّار الأقطع بسبب جهله الدِّرَاس، ولكن كان بسبب إفراطه في شرب اللاقبي المخمّر.

قبيل الغروب كانت سيارة الحاج ساسي الداتسون البيضاء مملوءة بأكياس الشعير، سيوصلها إلى القرية كأول دفعة ومن ثم سيعود في الغد لإيصال ماتبقّى من الأكياس.

في صباح اليوم التالي عندما كانت الشمس ترقب المشهد بنصف عين مفتوحة حضر الحاج ساسي إلى داره حيث تسكن زوجته الأولى سليمة، قضى ليلته في بيته في حضن زوجته الثانية لطفية، لكنه جاء في الصباح، طلب من جمعة الوصيف أن ينزل أكياس الشعير من السيارة ويضعها في مكانها، جلس في صدر الدار بينما عملت سليمة على تحضير الشاي له، ظلّ يرمقها بنظرات تشي بكثير من الاشتهاء، في الوقت ذاته كان يشتمّ رائحة غريبة، لكنها بدت وكأنّه قد عرفها من قبل، لم يكن قادراً على تحديدها، أنزلت سليمة إبريق الشاي وملأت كوباً فراح الحاج يرتشف الشاي على مهل ويلاحقها بعينيه، وضعت بعض البخور على النار واقتربت منها، رفعت رداءها قليلاً فتصاعد البخور، تسرّب من بين ساقيها، طلب منها الحاج أن تحضر بعض الخبز فدخلت داخل الستارة التي تفصل الدار إلى جزءين، لحق بها، انقضّ عليها، غرس رأسه في صدرها، كانت تلك الرائحة قوية وكأنّها تنبعث من نهديها، مرّت لحظات بعدها خرج الحاج، شرب ما تبقىّ من الشاي وغادر، أسرّ شيئاً في نفسه ولم يبده لسليمة التي ظلّت في الفراش تفكّر "هل شكّ في شيء، لا لا، المسكين الآن تذكّر أنّ له زوجة، يبدو أنه لم ينل مراده من لطفية البارحة، المسكين لا يعلم أنّ راعي أغنامه أكل من زرعه في غيابه وشرب من بئره، المسكين يظنّني سأعيش خادمته كل حياتي".

انحدرت دمعتان من خدّي سليمة فسارعت إلى مسحهما بردائها، بقيت على الفراش تقاوم رغبة ملحاحة في ألا تنهض وأن تنام بقيّة نهارها.

(8)

عبر المبروك الطريق من (تغسّات) إلى القرية على قدميه تحت أشعة الشمس الحارقة، لم يجد سيارة توصله، كان جبينه يمطر عرقاً، لكنّ سعادته بعودته أنسته حرارة الشمس، إنّها ليست ككل مرّة، إنّها عودة نهائية، لقد وقّع له آمره في معسكر (بوعطني) ـ الذي تعاطف معه ـ طلباً يتيح له الانتقال للعمل الإداري في معسكر الثامنة في تغسّات، لم يُسرّح من الخدمة العسكرية، لكنّه سرّح من القوات الخاصة وعاد إلى القرية حيث لن يكون مجبراً على المبيت بعيداً عن محجوبة بسبب عمله، وصل المبروك إلى دارهم فوجد أمّه تدير مغزلها، نهضت فعانقته، أخبرها بأمر عودته فأطلقت زغرودة، جلس فأحضرت له ماء بارداً، شرب وغادر مسرعاً إلى داره، قال إنّه سيخبر محجوبة بالأمر، لكنه عاد بعد لحظات وسأل:

ــ أين محجوبة؟

ــ قد تكون في الحقل، أين تراها ستذهب.

خرج المبروك يبحث عن محجوبة في الجوار، وفي الطريق صادفه شعبان:

ــ كيف حالك عمّي المبروك؟

ــ بخير.

تابع المبروك طريقه فهو يكره شعبان لأنه شبيه أبيه بلقاسم ورؤيته تذكّره به، لا أحد يعرف سبب كره المبروك لبلقاسم وابنه، لقد احتفظ بالسرّ لنفسه، وقعت الحادثة عندما كان عمر المبروك ست سنوات، اختلى به بلقاسم الذي كان في العشرين من عمره، وغرس محراثه في تربته الطاهرة، ودنّس بسواد نطفه بياض طفولته، مشى المبروك خطوات فناداه شعبان:

ــ عمّي المبروك

ــ نعم

ــ هل تبحث عن محجوبة؟

ــ هل رأيتها؟

ــ لا، لكنّها قد تكون في دار الخزين.

غادر المبروك وهو يفكّر فيما قد يجعل محجوبة تذهب إلى دار الخزين في القائلة، سلك الطريق إلى دار الخزين وهو الطريق نفسه الذي يوصل إلى الحقل، مرّ بشجرة تين كبيرة فاستظلّ بها قليلاً، واقتطف ثمرتين، وبينما كان يأكلهما ظهرت محجوبة من جهة سقيفة دار الخزين وعندما رأت المبروك تفاجأت وتلعثم لسانها، حمدت الله على سلامته، سألها:

ــ ماذا كنت تفعلين في الدار؟

قالت محجوبة وقد بدا أحمد وهو آت من جهة دار الخزين أيضاً إذ لم يعلم بقدوم المبروك:

ــ كنت أنظّفها حتى نضع فيها شعير هذه السنة.

وحين اقترب أحمد وسلّم على المبروك تابعت:

ــ ابن خالك أحمد ألحّ على أن يرفع الأكياس القديمة بنفسه.

سار المبروك إلى الدار وسارت محجوبة خلفه، قطعت الطريق التي بدت أطول من المعتاد، تاهت في أفكارها المتناحرة "هل أحسّ المبروك بشيء، أتراه يطلّقني إن علم بأمري وأحمد، يا للفضيحة بين الناس، لا لا، إن فضحني فضحته وأخبرت الناس بحقيقة ليلة الدخلة، لكنّه لن يشك في ابن خاله، نسيت جدّتي، لقد وعدتني بأن يكون كالخاتم في إصبعي، عليّ الذهاب إليها، لن يقدر على سحرها".

عندما سال الليل وامتلأت به الوديان والشعاب كانت محجوبة تعيش قدرها في أنْ تتمثّل دور القطة كلّما طلب المبروك منها ذلك، لكنّ الأمر مختلف هذه المرّة مادام ذلك سيسكت المبروك، المبروك الذي عشقها فما عاد يرى امرأة غيرها.

(9)

انقضت أيام الصيف وحلّ الخريف، تهيّأ الناس للاحتفاء بدورة جديدة للحياة، عيشة الهجّالة التي قعدت لسعيد كل مرصد ملّت خوفه وتردّده فما عادت تهتم لأمره، لقد قرّبت أخاه أحمد إليها فصار يساعدها في كل شيء، أحمد الذي منذ عاد المبروك إلى القرية أضحى أكثر اهتماماً بعيشة، إنه شاب صغير عمره ستة عشر عاماً، لكنّه جريء ومخاتل، لقد فاجأ عيشة الهجّالة نفسها عندما طلبت منه أن يساعدها في حمل كيس الطحين إلى داخل الدار، منذ ذلك اليوم صار ساعدها الأوسط الذي تعتمد عليه في كل شيء، فأحمد صغير جداً قياساً إليها وهو ما يجعله فوق الشبهات يدخل ويخرج متى شاءت أو شاء.

سعيد وصل لتوّه إلى طرابلس بعد انقضاء العطلة الصيفية، لقد اشتاق إلى الدراسة وإلى رؤية نورية المرأة الوحيدة التي يتسامى كلّما فكّر فيها، في طرابلس لن يكون سعيد مضطراً للخروج في عتمة الفجر لجمع الرطب المتساقط من النخل، في كل فجر يتسابق أهل القرية إلى (وازينا) كي يجمعوا الثمار المتساقطة، كان سعيد يحرص على أن يرافق أحمد إلى (وازينا) فهو يخاف الظلام ويخشى غولة (وازينا)، قيل إنّها روح رجل غريب قُتل قبل نحو ثلاثين سنة في سنيّ القحط ودفن تحت نخلة في الوادي، تلك النّخلة لم تقربها يد من زمن، لذا يتشابك سعفها وتتداخل عراجينها القديمة والجديدة، لقد سمع سعيد قصصاً كثيرة عن أناس رأوا تلك الغولة، كانت تتمثل في صورة رجل يرتدي ثوباً ناصع البياض، كان قبيح الوجه وكأنه جنيّ، قبل أيام أفاق سعيد من نومه، كانت الرياح شديدة، بحث عن أحمد الذي كان نائماً بجواره فلم يجده، خمّن أنّه قد سبقه إلى الوادي، فكّر قليلاً ثمّ قرّر أن يلحق به فماذا سيقول لوالده إن سأله لماذا لم يذهب خرج يمشي بحذر يلتفت يميناً وشمالاً وأحياناً خلفه في حلكة الليل، نزل من على الربوة التي تحوي بضع قبور قديمة، وعندما وصل أمام ديار الحفر التي تسكنها سليمة زوجة الحاج ساسي سمع صوتاً كأنه وقع خطى فالتفت وراءه، لكنه لم ير شيئاً، وحين عاد ببصره إلى الأمام رأى خيالاً على بعد نحو ثلاثة أمتار، ثوب أبيض طويل عبَر أمامه بسرعة وغاب في الجرف، ثوب فقط من غير رأس، عندئذٍ ركض سعيد بشدّة، سقط حذاؤه الأيمن لكنّه أكمل عدوه برجل حافية وأخرى مكسوّة إلى أن وصل إلى (وازينا)، هناك انتظر حتى قطع الضوء خيوط الفجر، حينئذٍ بحث عن أحمد وعادا معاً.

كان سعيد جالساً يشاهد التلفاز في بيت خالته بُرْنيّة، كانت الجموع تهتف ضدّ الإمبريالية وتنادي بالموت لأمريكا، صدحت الحناجر:

ــ ريغان يا راعي البقر الشعب الليبي كلّه حُرّ.

بدا واضحاً أنّ ليبيا ستدخل في مواجهة غير متكافئة مع الولايات المتحدة، إذ كانت المظاهرات تُسيّر كل يوم، موظّفون وطلّاب وفلّاحون يتمّ إخراجهم إلى الساحات والشوارع كي يندّدوا بأمريكا، لقد تمّت تعبئتهم كما يجب فصاروا جاهزين لخوض تلك المعركة، كما كان من الواضح أنه ما من نهاية قريبة لحالة الانتصاب السياسي التي كان يعيشها القذافي.

(10)

عمل المبروك في الحقل، حفر الأرض بفأسه، بدا سعيداً بعودته إلى القرية، أصبح يُلقّب بالأقيطع تمييزاً له عن عمّار الأقطع، حلق شنبه من جانبيه ومن أسفله، ترك ّقليلاً من الشعر أسفل أنفه وهو ما دفع بعضهم إلى القول إنه ما من علاوة إضافية يتقاضاه على شنبه منذ سُرّح من القوات الخاصة، لذلك حلقه، الحقيقة أن محجوبة طلبت منه أن يحلقه فلم يستطع أن يرفض طلبها، كما أنه ما عادت هناك حاجة لشنب طويل، الشنب الطويل يحمي العسكريّ ويقيه شرّ الضباط وضباط الصف وحتى العسكريين الذين سبقوه إلى الخدمة العسكرية، عندما التحق المبروك بالقوات الخاصة حمد الله أنْ خلقه قبيحاً، فالوجه الجميل قد يتسبّب في متاعب كثيرة وخاصة لأولئك المستجدين اليافعين الذين يتمّ إخضاع بعضهم تحت التهديد والوعيد، ومن ثمّ يتمّ استجلابهم للعمل في بَهْو الضباط، لقد كانت خدمة الضباط تهمة، لأجل كل ذلك كان المبروك يُعفي شاربه.

(11)

اختبأت الشمس خلف (قصرسليقين)، وظلّ فقط ذيلها المشعّ على الأفق، كانت سليمة واقفة أمام الدار، كان جمعة الوصيف في الزريبة غير بعيد عنها يعلف المواشي، تبادلا النظرات طويلاً قبل أن تشير له فيما يشبه الشفرة ثم دخلت، أكمل علف الحيوانات ومن ثمّ ذهب إلى داره.

في الليل عصفت الريح قوية اقتلعت بعض أشجار النخيل، أضاء البرق ليل تغنّيت النائمة، أرعدت السماء الغضْبى، صرخت في وجه الأرض قبل أن تبول بغزارة، جرى الماء أيقظت رائحته أنوف عشب حالم، أخافت العاصفة الأطفال وروّت نفوس آبائهم الذين انتظروا أن يفلق الصبح قشرة الليل كي يتفقّدوا حقولهم، في الصباح ارتفع صوت:

ــ الحاج ساسي مات.

دوّى العويل في أنحاء (تغنّيت) كلّها، أسرعت النسوة نحو بيت الحاج ساسي، أصيب كثير من الرجال بصدمة، ظلّوا واجمين حتى سمعوا أحدهم يقول:

ــ الحاج ساسي قُتل.

دبّ الفزع في القرية كلّها، خاف الصبية، قصد بعض الرجال مستوصف القرية هناك إلى حيث نُقل الحاج فلم يجدوه، أخبرهم الطبيب المصري أنّه كان ما يزال حيّاً عندما أحضره شقيقه المهدي، أعطاه بعض الإسعافات الأولية ومن ثمّ نقل إلى مستشفى (تغسّات)، قال الطبيب أيضاً أن الحاج نطق ببعض الكلمات وقال إنّ جمعة الوصيف هو من طعنه، قسّم الرجال أنفسهم إلى مجموعتين، مجموعة ركبت سيارة البيجو الزرقاء التي كان يقودها المبروك للحاق بالحاج في المستشفى، ومجموعة ستبقى في القرية حيث امتزج الحزن بالخوف، فالقاتل مازال طليقاً، قد يكون مختبئاً في مكان ما، توالت الأخبار وانتشرت مثل نار في كومة قشّ، قيل إنّ جمعة الوصيف طعن الحاج بمنجل في خاصرته، وقال آخرون لا بل طعنه بسكين في ظهره.

ــ صدق الأولون، لا تأمن العبد أبداً.

ــ نعم، من كان يتوقع منه ذلك بعد كل هذه السنين.

انتظر الرجال طويلاً في القرية، تجادلوا، حاول كل منهم أنْ يعرف الأسباب التي دفعت جمعة إلى فعل ما فعله.

ــ الكره، لا بد أنّه يكره الحاج.

ــ نعم، ويحسده أيضاً.

ــ لكن لم يبد عليه ذلك.

ــ أوه، كان يضمر كرهه كجمل.

مرّ الوقت بطيئاً على الرجال وهم جالسون على جمر انتظارهم قرب بيت الحاج ساسي، سدّدت الشمس التي علت كبد السماء أشعتها نحو أجسادهم فاستظلوا بزيتونة كبيرة، ظلّوا يراقبون الطريق الترابي الذي ينحدر من جهة الشمال الغربي، إنه الطريق الرابط بين القرية ومدينة (تغسّات)، تحدّثوا حيناً وسكتوا حيناً آخر إلى أنْ لمعت سيارة تحت أشعة الشمس، لم يتأكدوا في أول الأمر إذا ما كانت هي، وعندما استدارت قليلاً عرفوها، نزلت المنحدر ببطء وعندما استقرّت في الأسفل أسرعت، وصلت، ترجّل منها المبروك وصهره الحاج مسعود:

ــ الحاج ساسي حيّ.

هلّل الحاضرون وحمدوا الله.

ــ كيف حاله؟

ــ ربّي يشفيه، في غرفة العناية.

طمأن المبروك وصهره الحاضرين، قالا إنّ حالته مستقرّة، سردا لهم القصة، ذكرا أنّ الحاج ساسي ضُرب بمذرى فانغرست أسنانها في كتفه وصدره الأيمن، إحدى أسنانها كادت أن تصيب رئته، قالا أيضاً إنّ الحاج أخبر الشرطة بصعوبة أنّ جمعة طعنه بعد أنْ شبّ خلاف بينهما بسبب شاة.

ــ بسبب شاة!

ــ لقد كاد أن يقتل الرجل.

وصل الخبر إلى النسوة فجفّفن دموعهنّ وتبادلن التهاني، انسكبت ضحكاتهنّ، علت الزغاريد، تدافعت، غصّت بها حناجرهنّ، فقط سليمة بقيت ممطرة كغيمة.

في عشيّة ذلك اليوم أتت سيارة الشرطة، نزل منها ثلاثة رجال وكلب ضخم، اصطحبوه إلى دار جمعة الوصيف، قرّبوا ملابسه من أنف الكلب، وشرعوا في رحلة البحث عنه، قال أحدهم إنّ الكلب قادر على تمييز الرائحة على بعد خمس كيلومترات فكيف برائحة جسد أسود.

ــ لا مفرّ له.

في تلك الليلة سهرت القرية، البيوت والديار كلّها كانت خائفة، وساكنوها لم يملّوا من تكرار الحادثة، الصبية والأطفال رأوا جمعة الوصيف في خيالهم وهو يتسرّب بجسده الأسود عبر العتمة.

 

*  ادّسه: تَدُسّه.

*  اللاقبي: عصير يستخرج من لب النخلة.

*  حدايدها: أساورها. مسلاني: ظهري.

*  السكين غير حادّ.

*  الهجّالة: الأرملة.

*  الشلايك: الأحذية.

*  جلبيير دوران – الأنثروبولوجيا.

*  الترفاس: الكمأ.

*  شقائق النعمان.

*  الروح: عضو الرجل في اللهجة الليبية.

* تفنّص: تحملق.

*  الريّة: الرئة.

*  الطبال: صانع الطبول والقصاع.

*  مشروكة: مثقوبة.